30/05/2024

اصلحوا دنيانا ودعوا لنا الآخرة


في خطاب الى وزراء الاعلام العرب ، حدد الدكتور محمد الرميحي اربع مهمات ، ينبغي انجازها للنهوض بقطاع الاعلام. استطيع اختصار  هذه المهمات في: اعتماد استراتيجية واضحة متناسبة مع الرؤية المستقبلية للبلد ، التدريب العلمي والفني الذي يلبي التحديات الجديدة في قطاع الصحافة ، المحافظة على المصداقية وتجنب المعلومات المشكوكة او الكاذبة ، واخيرا اعتماد مبدأ حرية التعبير وتدفق المعلومات ، التي تجعل الاعلام مرآة للحياة الواقعية ومعبرا عن جميع المشارب والتوجهات الاجتماعية. (جريدة النهار 28 مايو 2024 ).

لا أظن احدا يجادل في اهمية النقاط الاربع ، وهي – بالتأكيد - اكثر اهمية للنشاطات ذات الطبيعة الثقافية ، كقطاعي الاعلام والتعليم. لكن ربما يجادل بعض الناس في تطبيقات الفكرة على واقعنا القائم. قد يرون مثلا ان لدينا سياسة اعلامية تحدد الاهداف الكبرى ، وهي استراتيجية مناسبة لظروف مجتمعنا وحاجاته. او قد يخشون ان توسيع حرية التعبير طريق الى الفوضى. واعتاد القائلون بهذا الرأي على ضرب المثل بما شهده لبنان من حريات صحفية واسعة ، يزعمون انها قادت الى الحرب الاهلية (لانهم لا يعرفون مثالا آخر). اما نقطة المعلومات الكاذبة او المنقوصة ، فالحق معهم ، فما دمت لا تسمح الا بالقليل من المعلومات ، فلابد ان الكذب فيه قليل جدا.

هذه اذن نقاط لا يعارضها احد من حيث المبدأ ، وان جادلوا في تطبيقاتها. والمجادلة الفرعية تؤكد الفكرة اكثر من دلالتها على المعارضة.

حسنا ، ماذا يعني ان تكون لدينا استراتيجية اعلامية؟

كان الرميحي قد أشار الى ممارسات للاعلام تتعارض مع التصور العام للدولة الحديثة. منها مثلا ترويج الثقافة الاسطورية وربما الخرافية ، من خلال اشخاص او برامج ترتدي لباس التوجيه والارشاد ، وهذا يتعارض مع تشديد الحكومة على تعزيز العقلانية واعتماد العلم في الحياة العامة والخاصة. كيف ندعو في مدارسنا للنقاش النقدي والعقل الناقد ، بينما يروج اعلامنا لمن يقول صراحة انه لا يصح الرجوع لاحكام العقل في هذا الحقل الحياتي او ذاك. وفي الوقت نفسه لا يفسح المجال للرد على تلك الاقاويل ، لأننا سلمنا بأن تلك الاشياء اللاعقلانية تنطوي على شيئ من القداسة.

واريد الانطلاق من هذه الفكرة ، اي ضرورة عدم التناقض في الخطاب الرسمي في المضمون وفي الصورة ، لوضع السؤال التالي:

هل ينبغي للدولة ان تتبنى خطابا ثقافيا او ايديولوجيا خاصا ، ثم تستعمل الاملاك العامة (الاعلام وجهاز التعليم مثلا) في الترويج لذلك الخطاب؟.

يبدو لي ان جواب السؤال هو احد نقاط التباين الكبرى بين الشرق والغرب. فالنخب الشرقية عموما تقول انه يحق للدولة ان تتبنى خطابا ايديولوجيا او ثقافيا ، وتدعو الناس الى اتباعه. بينما يذهب الرأي السائد في الغرب الى ان تبني اي خطاب ايديولوجي يؤدي – بالضرورة – الى اقصاء كل رأي مختلف او مخالف للخطاب الرسمي. وهم يقولون – على سبيل التمثيل فحسب – ان الدولة مسؤولة عن دنيا الناس. اما الاخرة فهي مسؤوليتهم الشخصية ، او في ادنى التقادير مسؤولية جهات اخرى لا تملك مصادر القوة الجبرية ، مثل الكنيسة والهيئات الدينية التي يقيمها الاهالي.

انني ممن يذهب الى هذا الرأي فيما يخص الدين ، اذ لا ارى مصلحة للدين او للدولة في فرض دينها على الناس.  لكني – بموازة هذا – اعتقد بعمق ان على الدولة واجبا حيويا ومحوريا ، هو تجديد وتعزيز الاجماع الوطني ، والدفاع عن الهوية الوطنية التي تجمع في ظلها الهويات الصغرى ، في مواجهة الساعين لهيمنة الهويات الصغرى على المشهد العام او المجتمع الوطني. ان اقوى وسيلة لتحقيق هاتين المهمتين هما الاعلام والتعليم. في ظني انه يتوجب على اصحاب المعالي وزراء الاعلام والتعليم العرب ، ان يضعوا امامهم في كل صباح سؤالا يوجهونه الى العاملين في هذين القطاعين: ما الذي فعلتم لتعزيز الاجماع الوطني والوحدة الوطنية الجامعة؟.

الخميس - 23 ذو القِعدة 1445 هـ - 30 مايو 2024 م  https://aawsat.news/bn6yz  

 مقالات ذات علاقة

انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

شراكة التراب وجدل المذاهب

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

وطن الكتب القديمة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

حول الاجماع الوطني

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

 

23/05/2024

جماعة الابراج العاجية

 

كنت في الرابعة عشرة من العمر حين التحقت بحلقة تدرس كتاب "منية المريد في آداب المفيد والمستفيد". وموضوع الكتاب واضح من عنوانه ، فهو يعالج اخلاقيات التعلم والتعامل بين التلميذ واستاذه وعلاقتهم بعامة الناس ، وما يتصل بالعلم من موضوعات. وقد توقفت عن الدرس بعد أشهر ، لكن رسخ في ذهني تأكيد الاستاذ على الربط بين العلم وتطبيقاته في الحياة اليومية. ولطالما كرر عبارة "كل علم لا ينتهي بعمل ، فهو لغو". وأذكر ان زميلا كتب في تحريره اليومي كلمة "فضل" بدل "لغو" ومعناها "زائد عن الحاجة" فتوقف الاستاذ عندها ، وأنفق بقية وقت الدرس في التأكيد على انه لغو وليس فضلا.

تحولت هذه الفكرة في ذهني الى مسلمة لا تقبل الشك ، الى ان زرت عالما حكيما في دمشق ، فوجدته منخرطا في النقاش مع شخص آخر يثير السؤال بعد السؤال. وكلما اجابه الحكيم ، رد عليه مشيرا الى نقطة ضعف في جوابه. وبقيت استمع لهذا الجدل نحو ساعة ، حتى طلب الرجل تأجيل النقاش الى الغد ، فقلت ضاحكا: وما الفائدة من جدل لا نتيجة وراءه ، فالواضح ان الرجل لا يسأل كي يتعلم ، بل لمجرد الجدل. فأشاح الحكيم بوجهه ، وأمرني بالحضور يوم غد أيضا. فقادني الفضول للموافقة. وخرجت وانا اضحك في سري من هذا الجدل العقيم. في المساء جلست استرجع مجريات اليوم ، فوجدت نفسي راغبا في استذكار تفاصيل الجدل والنقاط التي اثيرت فيه. فقررت الذهاب مبكرا يوم غد ، لسؤال الحكيم عن سر هذا الجدل ، فأجابني بكلام فحواه انها طريقة في العلم وليست سرا. وحين حضر الرجل ، وبدأ النقاش ، وجدت نفسي منخرطا فيه ، بالاصغاء حينا وطلب التوضيح حينا آخر. وفي نهاية اليوم ، فهمت ان قناعتي بفكرة "العلم للعمل" قد حولتني لما يشبه جهاز التسجيل ، اقرأ واقول للناس ما قرأت ، ويسألني شخص عن شيء ، فأجيبه بما قرأته او سمعته من استاذي أو ما قلته مرات كثيرة من قبل ، حتى لقد شعرت احيانا ان الاجابة على الاسئلة لا تحتاج الى تفكير اصلا ، لان كل الاسئلة معروفة وكل الاجوبة عنها جاهزة.

النقاش الذي تابعته هذا اليوم ، اظهر ان الكثير من قناعاتي ، بل المسلمات الراسخة في ذهني ، ضعيفة امام النقد ، وبعضها لا يقوم على برهان منطقي. لقد آمنت بها لأني لم أعرف غيرها ، ولأني لم أواجه من يجادلها مثلما حصل اليوم.

التقيت الحكيم بعد ذلك بسنتين او ثلاث ، فسألني عن تلك الجلسة فأخبرته انها كانت حجر زاوية في رؤيتي للأشياء. ثم سألته عن السبب الذي يجعل شخصا مثلي يحشو ذهنه بالثوابت والمسلمات ، فأجابني ان السبب هو الافتقار للبرج العاجي ، وذكرني بقصة العلاقة بين العلم والعمل التي درستها في سنين الصبا. ثم قال ان التركيز على تلك العلاقة ، يؤدي لانفعال النفس بالعلم القليل الذي نتعلمه ، فنتبناه لا كمعرفة عامة ، بل كشيء يخصنا ، ينتمي الينا وننتمي اليه ، فندافع عنه كما ندافع عن حقوقنا الشخصية واملاكنا الخاصة ، ونتعامل معه كمعيار للقرب والبعد والصداقة والعداوة ، بيننا وبين الآخرين.

قال لي ذلك الحكيم ان اكتساب المعرفة العالية ، شرطه الفصل بين العلم والعمل ، والانغماس في العلم لذاته ، والتفكير المتحرر من اي قيد ديني او ايديولوجي ، شخصي او اجتماعي او طبقي او غيره ، اي ان تلتحق بجماعة "الابراج العاجية" الذين لا يهمهم شيء سوى التوصل الى فكرة ، مفيدة او غير مفيدة ، ولا يتركون هذا حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد. هنا سوف تدرك عيوب افكارك وتجادل قناعاتك ، حتى لو لم تتخل عنها. المهم انك امسيت عارفا بما هو فكرة وما هو عاطفة. وذلك جوهر العلم.

الخميس - 16 ذو القعدة 1445 هـ - 23 مايو 2024 م

https://aawsat.com/node/5023471

16/05/2024

الاجوبة السحرية

لعل القراء الاعزاء يلاحظون معي ان غالبية الناس يتعجلون نسبة الحوادث والاسئلة الى تفسير وحيد ، مع اننا جميعا ندرك ان كل قضية ، صغيرة او كبيرة ، نتاج لسلسلة من التحولات والعوامل. وثمة – اضافة لهذا - من يميل أيضا الى ربط تلك الحوادث والظواهر بعوامل خفية ، لا يمكن التحقق منها ولا لمسها والتحكم فيها.

هذا ميل انساني عام. فالبشر بطبعهم ينفرون من الغموض والنهايات المفتوحة ، ويريدون تفسيرا كي يتجاوزوا الحدث واسئلته. وتدرس هذه الظاهرة في علم النفس تحت عنوان "الاغلاق المعرفي “Cognitive closure  وهو مصطلح صاغه عالم النفس الامريكي آري كروجلانسكي ، لوصف موقف الانسان الذي يواجه سؤالا محيرا او ظاهرة غير مفهومة ، او حتى موقفا غير مقبول من جانب شخص آخر، فهو يريد ان يتخلص من الحيرة باضافة وصمة او عنوان يفسر هذا الحدث ، كي ينتهي منه.

د. منقذ داغر

كل الناس اذن يكرهون الغموض ويريدون تفسيرا. لكن ما يلي هذه النقطة محل اختلاف كبير بين المجتمعات. فهناك من يتخذ السؤال او الحدث المحير نقطة انطلاق للتعرف على موضوعه. وهناك من يتعجل بنسبة الحدث الى قوى غيبية او بعيدة عن متناول الانسان ، ماديا أو معرفيا.

خذ مثلا سلوك المجتمع الامريكي ، حين فوجيء بالهجوم على نيويورك عام 2001 ، فقد انصرف الى القراءة حول الاسلام وحول الارهاب. وذكر تقرير اطلعت عليه قبل سنوات ان عدد الكتب حول الاسلام والمسلمين ، التي نشرت في الولايات المتحدة ، خلال السنوات الثلاث التالية لذلك الحادث قد تجاوز 600 فضلا عن مئات المقالات العلمية حول مختلف اوجه الحدث. هذا يعني ان المجتمع الامريكي يميل بقوة لفهم المشكلات التي تواجهه ، فهما علميا. لا اريد القول ان كل امريكي يفعل هذا ، لكني اشير الى وصف عام مقارن.

السلوك المقابل هو اغلاق السؤال بنسبته الى قوى بعيدة عن متناول الانسان. خذ مثلا النقاشات التي دارت بعد السيول الغزيرة التي شهدتها الامارات وعمان وافغانستان وايران في ابريل الماضي. فقد قطع بعضهم بانها نتيجة الاستمطار الصناعي ، وادعى آخرون انها عقوبة للناس على ما ارتكبوه من آثام. وعلى النقيض من هذا ، اعتبرها فريق ثالث تمهيدا للوعد النبوي بتحول الجزيرة العربية الى مروج وانهار.

هذا النوع من التفسيرات يصدر عن قناعة مسبقة ، فحواها ان كل ما جرى وسيجري له تفسير مختزن في الثقافة الموروثة. ولهذا فكل الاجوبة تأتي على النسق المعتاد ، وتنتهي باقرار ان الاشخاص الذين واجهوا الحدث ، لايحتاجون للمزيد من البحث والتفكير فيما وراء ذلك التفسير الجاهز.

اود استعارة وصف "الثقافة المتصلبة" الذي اطلقه د. منقذ داغر على الميل الذي شرحته آنفا ، اي الاعتقاد بان كل الاجابات مختزنة في الثقافة السائدة ، وان ما فيها يكفي لتفسير كل جديد.

حين يتأكد هذا الاعتقاد في نفسك ، فلن تفكر في احتمالات اخرى ربما تختفي وراء الحدث او الظاهرة التي شهدتها. ومن هنا فان هذا الشيء الغريب لن يلعب دور المحفز لعقلك كي يفكر ويتأمل ما حوله. الواقع ان هذا ما حدث تكرارا في المجتمع العربي. فحين تعرفوا على الراديو ، قرروا فورا انه "صندوق فيه جني". ويوم رأوا البوصلة ، قرروا انها عمل سحري (انظر ردا على هذه الرواية).

بعبارة اخرى فان التعجل بنسبة الحدث الجديد الى قوى ماورائية ، بل حتى نسبته الى المؤامرة او ما يسمى بالدولة العميقة ، تلعب كلها دور الحاجب الذي يمنع عقل الانسان من رؤية الامكانات البحثية ، التأملية أو التجريبية ، التي ينطوي عليها ذلك الحدث او السؤال.

اريد الخروج بنتيجة محددة ، هي دعوة القراء الاعزاء الى عدم التعجل بتفسير الاشياء الجديدة او نسبتها الى قوى بعيدة المنال. تحملوا قليلا ودعوها سؤالا مفتوحا ، فقد تجدون الجواب وقد لا تجدون ، لكنكم بالتاكيد ستربحون ثمرة التفكير.

الشرق الاوسط الخميس - 08 ذو القِعدة 1445 هـ - 16 مايو 2024 م

https://aawsat.com/node/5019636

 

09/05/2024

حاضنات الابداع

 الأسبوع الماضي عادت جارتنا مريم من "مخيم الفضاء" الذي أقامته جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ، ضمن مساعيها لاكتشاف المواهب المبكرة في مجالات التقنية العالية. حصلت  مريم وفريقها – وجميعهم طلاب في المرحلة الثانوية – على المركز الأول ، نظير تصميمهم نموذجا لقمر صناعي خاص بالاتصالات. شارك في "المخيم" - حسبما علمت - نحو 300 طالب من مدارس مختلفة في المملكة.

توالي هذا النوع من الاخبار المفرحة خلال العامين الاخيرين ،  يكشف عن زيادة ملحوظة في مسابقات البحث العلمي بين طلاب التعليم العام. واحتمل ان عددها في الشهور الاربعة الماضية ، قد تجاوز العشرين. عناوين الأوراق والأبحاث التي قدمها طلابنا في الفترة المذكورة ، تكشف عن رغبة عميقة في استيعاب تحديات التقنية الحديثة ، ومواجهتها من خلال تجربة فعلية ، قابلة للمقارنة والتقييم.

هذه فرصة غالية أمام المجتمع السعودي ، ينبغي الاهتمام بها ، واستثمارها على نحو يلائم ندرتها واهميتها. تتألف هذه الفرصة من 3 عناصر أساسية: 1- الرغبة الواضحة عند قطاع عريض من الشباب في تفكيك اسرار التقنية ، والانضمام الى قطار المبدعين. 2- رغبة شريحة معتبرة من الكادر الاداري والتعليمي ، في تجاوز المفاهيم القديمة في التعليم العام ، والتي تحصر اغراضه في الاختبار والشهادة. 3- توفر اكثر من جهة رسمية راغبة في دعم هذا النوع من النشاطات ، وأخص بالذكر كلا من مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة" ، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا ، اضافة لشركة ارامكو.

هذه عناصر ما كانت مبسوطة في الماضي ، على النحو الذي نراه اليوم. لكني مع ذلك اود التأكيد على نقطة أراها ضرورية جدا:  

يصل عدد طلبة التعليم العام في المملكة  الى 6 ملايين ، وتضم الكليات الجامعية والمعاهد التقنية نحو 1.3 مليون طالب. هذه أرقام كبيرة جدا بالقياس الى عدد المشاركين في المنافسات العلمية.  بحسب الارقام المنشورة ، فان اكبر رقم اطلعت عليه هو 3,000 متنافس. واحتمل ان هناك ارقاما اكبر ، لكنها لا تتجاوز 10,000 متنافس. وافهم ان اولوية مطلقة قد منحت للمتفوقين في مختلف الصفوف. لكني أخشى ان هذا النوع من الاختيار قد ينقلب لامتياز سلبي. الامتياز السلبي عبارة عن توجه ضمني ، يحصر الاهتمام في هذه الفئة القليلة التي فازت في المسابقات او رشحت لها. ونعلم ان هذا يجعل مهمة انتاج المبدعين محصورة في دائرة لا يزيد عدد افرادها عن واحد في الالف ، أو حتى نصف هذا العدد.

نحتاج لبرنامج وطني يوسع دائرة المستهدفين بالنشاطات سابقة الذكر ، كي تشمل ما لا يقل عن 10% من اجمالي الطلبة ، اي نحو 750 الف طالب في مختلف مستويات التعليم. هذا رقم كبير ، لكنه ممكن أولا وضروري ثانيا. ضرورته تكمن في أنه يوفر البحر الذي يسبح فيه المبدعون. قد يبرز مبدع او مبتكر ، وسط مجتمع خال تماما من محفزات الابداع. لكن هذا من الصدف النادرة التي لا يعول عليها. فاذا أردنا مبدعين بالمئات والالوف ، فعلينا إقامة محيط اجتماعي منتج للعلم ، متفاعل مع الحياة العلمية وتيارات التقنية. عندها سيجد الشخص الموهوب والشخص الذكي والشخص الطموح بيئة تبرز تطلعاتهم وتعززها ، وتحولها من أمنية الى عمل ، ومن علم الى مال.

انضمام 10% من اجمالي الطلبة ، يحتاج بذاته الى جهد رسمي وأهلي واسع جدا ، ويتضمن خصوصا:

 1- تغيير مفهوم الأداء في مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط ، كي يكون معيار النجاح هو نضج التفكير والابتكار ، وليس الحفظ والاختبار النهائي.

2- تدريب الأبوين على تحفيز المواهب عند ابنائهم ، ولا سيما من خلال القراءة والنقاش.

3- تزويد المدارس الابتدائية والمتوسطة بحاضنات الابداع ، اي المكتبة المتجددة ومختبر العلوم واللغات ورحلات البحث وجلسات المناقشة.

هذه في ظني اضافات ضرورية لجعل الابداع والابتكار محورا نشطا في حياة الشباب وعمل النظام التعليمي.

الخميس - 02 ذو القِعدة 1445 هـ - 9 مايو 2024 م  https://aawsat.com/node/5007776

مقالات ذات علاقة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
اول العلم قصة خرافية
بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
التخلي عن التلقين ليس سهلا

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حقوق الانسان في المدرسة

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

صناعة الشخصية الملتبسة

ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟

02/05/2024

لماذا نبدأ بالأطفال

 

ردا على مقالة الاسبوع الماضي ، كتب لي أحد الزملاء قائلا: لو صحت الدعوى ، لتحقق المراد اليوم. ففي العالم العربي عشرات الآلاف من مطوري البرامج الأكفاء ، وثمة آلاف آخرون يتخرجون كل عام ، من الكليات المتخصصة في فروع المعلوماتية. ومع هذا لا نرى التطور الذي تزعمه المقالة. بل لازالت الغالبية الساحقة من البرامج التي نستخدمها على مستوى الأفراد والشركات والحكومات ، اجنبية. وحتى إذا كان للمطورين المحليين دور ، فهو لا يعدو التنسيق والتهيئة ، كي تلائم متطلبات البلد. وهذا عمل لا صلة له بالتطوير او الابتكار.

فاذا كان الآلاف الذين لدينا اليوم لم يصنعوا شيئا مهما ، فهل مضاعفة الرقم ستصنع التغيير... بعبارة اخرى: هل المشكلة في العدد ، وهل نقول انه يجب ان يكون لدينا مليون مطور ومبرمج حتى تتحول المعلوماتية الى صنعة وطنية؟.

رأيي ان هذا السؤال عبثي. لكنه – مع هذا – يلفت أنظارنا لنافذة مهمة ، تكشف العوامل التي أدت الى إخفاقنا في الماضي ، والتي قد تؤدي لتكرار الاخفاق اليوم أو غدا. المسألة قطعا ليست في العدد ، مع انه مفيد ، في الجملة. دعوتنا تدور حول الابداع والابتكار وليس زيادة العدد. ويتضح الفرق بين الكثرة والابداع ، من خلال المقارنة بين اقتصاديات الزراعة في الهند ونظيرتها في هولندا. يصل عدد المزارعين في هولندا الى 660 الف ، يقابلهم 152 مليونا في الهند (230 ضعفا). وتبلغ قيمة الصادرات الزراعية الهولندية 132  مليار دولار ، تقابلها 53 مليارا في الهند (اقل من النصف). هل تعرف السر في هذا الفارق الكبير؟. السر هو ان هولندا واحدة من الدول العشر الاولى في قائمة الابتكارات التقنية الجديدة. وهي الاكثر ابداعا في مجال الزراعة.

مرادنا اذن هو ايجاد البيئة الاجتماعية – الثقافية المعززة للابداع والابتكار ، وليس مجرد الزيادة العددية. نحن لا نستهدف تدريب مستعملين للبرامج والاجهزة المستوردة من الخارج ، بل مبتكرين ومطورين يبدعون برامج واجهزة جديدة.  لهذا السبب دعوت في مقال الاسبوع الماضي الى تعليم البرمجة في المرحلة الابتدائية ، ثم جعلها الزامية في المرحلة المتوسطة. ذلك ان الموضوع الذي يشغل ذهن الانسان عند طفولته ، سوف يتحول الى هواية وشغف وجزء اساسيا من حياته اليومية ، حينما يكبر. كثير من الاطفال سوف يكتشفون برمجة الالعاب في سن مبكرة ، وبعضهم سوف يتجه الى حقول اخرى مثل الزراعة والهندسة والعلوم الانسانية ، لكنه سيحمل معه القابلية لربط اي من هذه الحقول بحقل المعلوماتية ، عندئذ سنرى الدخول السلس للذكاء الصناعي في الزراعة والطب والاتصالات والنقل والهندسة.. الخ. العنصر الرئيس في هذه الفكرة اذن هو تعميق انعكاس المعلوماتية في نفس الانسان وعقله وجعلها جزء نشطا من عالمه.

هذا شيء يختلف عن تعليم الحوسبة في الجامعة ، وفق الطريقة التي اعتدناها في معظم الجامعات العربية حتى الآن. تعليمنا الراهن لا يهتم كثيرا بغرس الابتكار ، بل يركز على اتقان استعمال الأجهزة والبرامج ، ثم الحصول على شهادة جامعية تضمن للطالب وظيفة مريحة في حقل المعلوماتية او في اي مجال آخر. أي ان الحوسبة جاءت في شكل اضافة الى معلوماته ، وليست كانشغال ذهني وشغف وهواية في حياته اليومية.

في الصورة الاولى نتوقع الكثير من الابداع. الاطفال الذين يتعلمون شيئا ، يبدعون فيه مبكرا. بل أدعي ان قابلية الابداع واكتشاف الجديد لدى الشاب المراهق ، أقوى وأكثر احتمالا من نظيره المتقدم في العمر. والسر فيه ان خيال الطفل والشاب المراهق خيال منطلق ، لا يتقيد بحدود العقل وقيوده ، بخلاف الشخص الناضج الذي – تبعا لموقعه الاجتماعي وقدراته المادية – يحصر تفكيره في المتعارف والمألوف ، الا في حالات نادرة. لقد بات مسلما في عالم اليوم ان الخيال الجامح المنطلق ، العابر للمعقولات ، هو ابو الابداع وأمه ، وأضيف اليه ان زرع بذور الابداع والابتكار ، يبدأ في بواكير الحياة ، كي يؤتي ثماره في تواليها.

الشرق الاوسط الخميس - 24 شوّال 1445 هـ - 2 مايو 2024 م

https://aawsat.com/node/4996021/

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

صناعة الشخصية الملتبسة

الطريق السريع الى الثروة

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

 

فكرة حاكمة وافكار محكومة

  "لكن فكرة الاجماع الوطني ، واختها الهوية الوطنية الجامعة ، ليستا منزهتين عن التاسيس الايديولوجي". هذه خلاصة اعتراض على مقالة الا...