28/02/1999

فرصة لانطلاق عقد ثقافي عربي


رغم المناوشات الصغيرة هنا وهناك ، فان مسار العالم العربي متجه إلى حالة استرخاء أمني وسياسي ، وهذا ليس من نوع الرجم بالغيب ، لكن تتبع مسار احداث السنوات الأخيرة ، وتحليل معاني وانعكاسات الاحداث الكبيرة خاصة ، قد يساعد على الظن بأن السلام الاجتماعي سيكون سمة غالبة في العقد القادم ، نشير مثلا إلى ان البلدان العربية التي كانت مراكز أزمة ـ السودان ، الجزائر ، العراق مثلا ـ  تبدو اليوم اقرب ما تكون إلى مغادرة دائرة الأزمة . ولا يضعف هذا التحليل ما يخبئه الانكماش الاقتصادي الراهن من انعكاسات اجتماعية وسياسية محتملة ، أخذا بعين الاعتبار نجاح بعض العرب ـ الاردن ، لبنان ، اليمن على سبيل المثال ـ في احتواء الانعكاسات الاجتماعية / الامنية للتأزم الاقتصادي .
شارع المتنبي في بغداد

في ظرف الأزمة ، يستأثر الأمن الوطني بمعظم الاهتمام الرسمي ، وعلى العادة العربية المشهورة ، فان تصاعد الهم الامني يقترن دائما بزيادة القيود وتوسيع نطاق الممنوعات ، لهذا نتوقع ان يكون الارتخاء السياسي سبيلا إلى تخفيف القيود .
العالم العربي في أمس الحاجة إلى توسيع مساحة (المباح) في الحياة العامة  ، في المجتمع والثقافة والسياسة ، ورفع القيود تماما على مستوى الحياة الشخصية ،  أي الفصل بين الالتزامات العامة المطلوبة من الفرد بما هو جزء من المجتمع ، وممارساته الخاصة المتعلقة بحياته الخاصة أو الاسرية ، لكن هذا حديث يطول وقد يؤذي ، وما أردنا الاهتمام به في هذه المقالة هو الجانب الثقافي من الحياة العامة ، أملا في ان يكون العقد القادم ، مكرسا للنهوض العلمي والثقافي ، الذي لا بديل عنه للتقدم ومواجهة تحديات القرن الجديد .
لا أريد الحديث عن فضل العلم أو الحث على طلبه ، فلا أحد يجادل فيه ، في كلياته على الأقل ، لكن المهم هو الربط بين العلم والتقدم ، فقد يحصل ، بل وهذا ما حصل فعلا في التجربة العربية ، ان يتوفر العلم ويبقى المجتمع أسيرا للتخلف ، لقد طوى التعليم الحديث في الوطن العربي ما يزيد على قرن من العمر ، وخرجت المدارس ملايين المتعلمين ، ورغم هذا فلا زلنا نتطلع إلى أفق التقدم باعتباره بعيدا عنا ، خلافا للعقيدة الاولية التي يحملها كل متعلم والتي مضمونها ان التقدم يأتي بعد العلم ، وان العلم طريق حتمي إلى التقدم .
ويمكن إرجاع هذه المفارقة (حصول العلم دون حصول التقدم رغم التلازم المنطقي بينهما) إلى علل كثيرة ، من بينها مثلا ان العلم المدرسي لم يتفاعل مع النسيج الثقافي العام ، حيث لا يزال بالوسع التمييز بين مسارين منفصلين في الذهنية الاجتماعية ، وهي التكثيف الأولي لمجموع الذهنيات الخاصة للأفراد ، وتظهر هذه الازدواجية بوضوح في مثال المتعلم الذي يتبع أدق المعادلات المنطقية في مهنته ، ثم يتخلى عن التجربة العقلية تماما في قراءة تراثه أو في تربيته لأولاده أو علاقاته الاجتماعية .

ومن بين تلك العلل خضوع الثقافة للسياسة ، ونجاح أهل السياسة في وضع مسارات محددة للبحث والتعبير العلمي ، لكي تصل إلى نتائج مقررة سلفا ، مما يلغي فرص الحوار الضروري لانضاج الفكرة العلمية ، وتحويلها من كائن نظري يحلق في الفضاء ، إلى كائن متفاعل مع المادي والمعنوي المتحرك على مسرح الحياة اليومية ، ومن العلل أيضا العلاقة الحرجة بين العقيدة والمعرفة ، والتي هي في الأصل علاقة مفتعلة ، لم توجد إلا حين أراد بعض المقتدرين فرض وجودها ، وتنعكس في صورة حدود لمجال التفكير وقيود على فرص التعبير .
وفي ظني ان العرب جميعا ، عامتهم ونخبتهم ، حكامهم ومحكوميهم ، يشعرون بالحاجة إلى العلم ونشره ، والبناء عليه واستثمار نتاجه ، لكنهم ـ مع هذه الرغبة ـ قد يضحون بما يتمنون ، خشية ان يفتح عليهم أبوابا صعبة الغلق ، ويجسد المثل الشعبي السائر (الباب اللي يجيب الريح .. سده واستريح ) رد الفعل الاولي على اختلاف الاجواء .
يزداد الميل إلى التشدد وإغلاق الأبواب في ظروف التأزم ، بينما يتراجع هذا الميل في ظروف الارتخاء ، لكن التحول الطبيعي يأتي بطيئا جدا ، وإذا كان تحليلنا صحيحا عن اتجاه الوضع العربي إلى الاسترخاء ، فقد نحتاج إلى التنبيه بانه قد حان الوقت لتعويض ما خسرناه في ظرف الأزمة ، فالقيد الذي وضع تحت مبرر الازمة ، لا محل له بعد ان تنجلي أو توشك .
28-2-99

14/02/1999

متفائلون على أعتاب الالفية الثالثة : هل يتقدم العرب



أظن أن كل عربي حصل على نصيب من الثقافة ، قليلا أو كثيرا ، قد توقف ساعة أو ساعات امام العتبة الزمنية التي يوشك ان يجتازها العالم بعد أشهر ، أعني نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة .

ويبدو ان العالم العربي قد تجاوز موقف الغفلة ، فمعظم العرب ، المتعلمين منهم على وجه الخصوص ، على وعي بأن الحديث عن الألفية الثالثة لا يتعلق بعبور زمني خال من المعنى .
قبل عشرين عاما ، حين كان القرن الرابع عشر الهجري في نهاياته ، وجه السيد ابراهيم الوزير دعوة إلى المسلمين ، كي يقدموا لأنفسهم جردة حساب عما اكتسبوه أو خسروه خلال القرن الرابع عشر ، وان يضعوا نصب اعينهم مسارات محددة في القرن الهجري الجديد ، وعرض العلامة الوزير في كتابه (على مشارف القرن الخامس عشر) أبرز التحديات التي تواجهنا في هذا القرن ، وكرر مفكرون آخرون هذه الدعوة ، لكن اوضاع العالم الإسلامي كانت يومئذ شديدة الالتباس ، فضاعت تلك الدعوات في زحمة الأحداث ، لكني أظن اليوم ان العشرين عاما الماضية لم تضع هباء ، فالاحداث المتزاحمة اوجدت قدرا من الوعي عند العرب والمسلمين ، يؤهلهم اليوم أو غدا لاختيار طريقهم .

القضية الكبرى الدائمة هي التجدد الاجتماعي والتجديد الثقافي . التجديد الثقافي ، يعني بصورة محددة تطوير المنتجات الثقافية لتكون قادرة على تحليل حياتنا ونقدها واقتراح البدائل ، وبالنظر إلى ان النتاج الثقافي الفعال بحاجة إلى حياة ثقافية نشطة وسليمة ، فان التجديد مرهون بطبيعة الاطارات التي تحتوي النشاط الثقافي من حيث الضيق والسعة ، ومن حيث الحرية أو التقييد ، ونعلم ان القيود الاجتماعية المفروضة على التعبير ، هي المسؤول الاول عن تحجيم الحياة الثقافية من ناحية الكم وتفريغها من ناحية الكيف ، بديهي ان الحياة الثقافية المتحررة من القيود ، والمتروكة للمبادرات الفردية ، وغير المقيدة باطارات محددة ، هي الدليل الأقوى على رغبة المجتمع في تجديد ثقافته ، وتعزيز دورها في  البناء وتحديد صورة المستقبل .

أما التجدد الاجتماعي ، فيتحدد في وعي المجتمع بحاجاته الحقيقية وقدرته على تلبيتها أو سعيه في هذا الاتجاه ، والواضح ان العرب يعون اليوم أكثر من  أي وقت مضى ، انهم قد تأخروا كثيرا عن ركب المدنية الانسانية ، وهذا ما ينكشف عند أي مقارنة بينهم وبين المجتمعات المناظرة .

على الجانب الآخر من العالم ، فان المجتمعات الصناعية تستعد للقرن الجديد بزخم هائل من الأفكار ومناهج العمل والمبتكرات ، وهو ما دعا بعض كتابنا إلى استدعاء القضايا المطروحة هناك باعتبارها قضايا كونية ، والحق انها ليست كذلك ، فما يواجه المجتمعات الصناعية من تحديات ، يتناسب ومستوى تطورها ، ولاننا في مستوى آخر ، فان القضايا التي تواجهنا مختلفة كليا ، وان تشابهت مع تلك في عناوينها.

 وأذكر هنا المفارقة التي عرضها د. حازم الببلاوي حين تحدث عن العلاقة بين الانتاج والاستهلاك ، فهو يشير إلى ان صناعة الاعلان حيوية للمجتمع الصناعي ، لانها الوسيلة الرئيسية لتضخيم الاستهلاك وبالتالي تسهيل الطريق امام الابتكارات الجديدة ، أما في المجتمعات القليلة الانتاج ، فان الاعلان ثم الاستهلاك يلعب دور المضخة التي تسحب الثروة الوطنية إلى الخارج ، وتقلل فرص الادخار الضروري للاستثمار فالانتاج ، لان ما يعرضه الاعلان من سلع وخدمات ، مستورد غالبا من الخارج ، ويمكن تطبيق هذا القياس على المصارف والاسواق المالية وصناعة الاعلام ، بل وحتى التعليم في بعض  الحالات .

من مصاديق التجدد الاجتماعي ، العودة إلى الثقة بالذات ، واكتشاف القدرات الذاتية ، ولدينا على المستوى العربي فرص هائلة إذا حسنت ادارتها ، لكن هذا بحاجة إلى تخفيف الموجة الاقليمية والقطرية التي سادت عالم العرب منذ اواخر الثمانينات ، والتي لم يكن وراءها من ثمرة سوى ان العرب اغلقوا أبوابهم دون أشقائهم وشرعوها أمام الغرباء ، لكن لحسن الحظ فان العرب اقتنعوا اخيرا بجدوى فتح أسواقهم على بعضها ، وبدأ بشكل جدي ـ كما تشير الانباء ـ تطبيق اتفاق الوحدة الجمركية ، وهي عودة بعنوان مختلف إلى فكرة الوحدة التي نعاها كثيرون في اوخر الثمانينات ، مع انها طريق العرب الوحيد على الارجح ، إلى مواجهة التحديات الاقتصادية التي لا يستطيع كل قطر بمفرده احتمال اعبائها .

على ابواب الالفية الثالثة ، سوف نحتاج إلى التفاؤل ، وسوف نحتاج بالطبع إلى العمل الجاد لاكتشاف الذات وصياغتها من جديد .
في 14-2-99

01/02/1999

مسائل تمهيدية للبحث في المكان الاجتماعي للنساء (1-3)

ربما ترغب ايضا في قراءة 

( 1 )

في قضية المرأة المسلمة ودعوتها إلى ميدان العمل على نطاق واسع ، وفي دورها الاجتماعي ، والاشكالات التي تحيط بهذه القضية ، كلام كثير ، يحسن بنا خوض غماره ، طمعا في تحديد دقيق لأجزاء الموضوع ، وبحثا عن الحدود الفاصلة بين ما تقرره الشريعة وما يقرره المجتمع ، وثمة مسائل تمهيدية لا بد من البدء بها كاشارات إلى السياق العام للبحث ، لكني أعد القاريء بأن اكتفي بهذه الاشارات في الوقت الحاضر ، وأتمنى ان أجد من يشارك في هذا البحث ، إصلاحا أو تفنيدا أو تكميلا .
 هذه المسائل لا علاقة لها بموضوع المرأة على وجه الخصوص ، فهي ترتبط أساسا بالطريقة التي تجري بها معالجة هذا الموضوع وسواه على المستوى النظري ، لكن كون قضية المرأة موضوعا مطروحا للنقاش ، يستدعي مناقشة ما يعتبر تمهيدا ضروريا للبحث والمعالجة ، سيما وقد جرت العادة على تجاوز المقدمات ، رغم ضرورتها لتحديد مادة النقاش .
المسألة الاولى :
بعض القضايا تثير جدلا من نوع خاص ، بحيث يعتبرها البعض حساسة ، ويفضلون غض الطرف عنها أو التكتم عليها ، خشية ان يمتد الجدل فيها إلى نقاط ساخنة ، لا يرغب الكثيرون في طرقها ، ولدينا في المجتمع والثقافة عشرات من المسائل ، تعارف الجميع على السكوت عنها ، توقيا لعواقب ابداء الرأي ، أو انتظارا للوقت المناسب ، لكن لسوء الحظ ، فان الوقت المناسب قد يأتي متأخرا وقد لا يأتي على الاطلاق .
ثمة قضايا تعتبر قليلة الاهمية بذاتها ، أو قليلة الفوائد بالنظر لما ينتج عن تبادل الرأي فيها ، ولهذا فان تأخيرها أو السكوت عنها ، لا يترتب عليه سوى اشكالات نظرية ، وطبقا لأبي اسحاق الشاطبي فكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها مرجوح . لكن إلى جانب هذه ، ثمة قضايا ينتج عن تهميشها أو السكوت عنها ، إشكالات نظرية وعملية ، وقد يؤدي منع الجدل  فيها ، إلى تثبيت رأي واحد باعتباره معياريا لأمد طويل ،  أي تجميد الاجتهاد وغلق ابوابه ، واحالة الناس إلى نوع من التقليد الجبري ، وهو ما خالفه معظم العلماء وأهل الفكر المسلمين ، لا سيما المعاصرين منهم .
وتعتبر قضية المرأة ودورها في مجتمع المسلمين المعاصر ، واحدة من القضايا التي تصنف ضمن المجموعة الثانية ، فهي كبيرة الاهمية ، لتعلقها بنصف المسلمين على وجه التقريب ، وتؤثر ـ بشكل مباشر وغير مباشر ـ على النصف الباقي ، وهي مهمة أيضا لأنها موضع اشتباك رئيسي في الصراع بين الثقافتين الاسلامية والغربية ، وهي مهمة ثالثا لانها تعبير بارز عن مخرجات الظرف الاجتماعي المتخلف للعالم الإسلامي في العصر الحاضر ، ولا أظن أحدا يلم بأوليات المعرفة والمجتمع ، ينكر ما لتخلف المجتع من انعكاسات على ثقافته وقيمه ونظام التراتب السائد فيه ، لكن القضية ـ رغم تلك الاهمية ـ مسكوت عنها ، أو مختزلة في قوالب ضيقة من التطبيقات او الآراء .
أقول انها مسكوت عنها ، رغم كثرة ما يكتب وما يقال في هذا الامر ، فكثرة الكلام قد لا تكون سوى تكرار لقليله ، فالكثير مما يكتب ويقال اليوم في قضية المرأة المسلمة ، لا يخرج عن واحد من صنفين من الكلام ، صنف يدعوها إلى التحرر أخذا بعين الاعتبار النموذج الاجتماعي الغربي ، وصنف يعارض هذا المنحى ، ويدعوها إلى التزام النموذج التقليدي للمجتمعات الشرقية ، ويبرهن الاول على كلامه بنتائج التجربة الغربية ، ويبرهن الثاني على رده بشواهد من النص والسيرة ، أو بتصورات انتقائية عن النتائج السلبية التي آلت اليها تلك التجربة ، لكن في كل الاحوال فان المساجلة في الموضوع ، لم تسمح للطرفين بالتوصل إلى اتفاق على تعريف كل جزء من تفاصيل القضية ، ولا استبيان المسار التاريخي الذي سلكه كل رأي من الآراء المطروحة للنقاش ، حتى وصل إلى صورته الراهنة ، كما لم يدر أي نقاش جدي ، حول بدائل تعالج الاشكالات التي يطرحها كل منهما ، فكأن كلا من الطرفين قرر منذ البدء ، ان رأي الآخر باطل ، وان جوابه يجب ان يؤدي إلى نقضه ، كائنا ما كانت طبيعة ذلك الرأي أو غرض صاحبه ، بكلمة أخرى فان الجدل استهدف دائما النقض لا العرض .

لهذا السبب فمن الضروري الخروج بالنقاش حول قضية المرأة المسلمة ، من إطار السجال النقضي بين الخصوم ، ويجب غض النظر ـ ولو مؤقتا ـ عن العامل الغربي في المسألة ، لكي يتاح لنا إجراء مناقشة هادئة حول وضع المرأة المسلمة ضمن الاطار الإسلامي في مجتمع مسلم ، انطلاقا من القواعد الانسانية التي قامت عليها الشريعة الغراء ، واستقر عليها عمران العالم .
بعضنا قد يرى ان الرد على الخصوم هو الجزء الاهم في الموضوع ، لأنه موضع الابتلاء ، ولأن الخشية من تأثيرهم ليست بلا أساس ، لكن من جهة أخرى فان عدم وجود تصور متكامل حول ما نريد ، يجعلنا ندور في إطار الجدل الذي يقرره اولئك ، بدل ان نبتكر الاطار الذي نريده ونحتاج اليه ، فلنقل ان البحث في قضية المرأة له بعدان ، البعد المتعلق بمكانها في المجتمع المسلم ، بغض النظر عما يقوله الغير ، والبعد المتعلق بمعالجة الأجانب لهذ القضية ،  أيا كانت أغراضهم ، وإذا كانت حماستنا قد انصرفت حتى الآن إلى البعد الثاني ، فان العواقب السلبية لاهمال الاول لا تقل أثرا عن عواقب اهمال الثاني ، ويبدو اننا بحاجة إلى الاهتمام بما لدينا وما نحن فيه بدرجة أكبر من اهتمامنا بما عند الغير وما يقوله الغير .
( 2 )

تحدثنا في الصفحات السابقة عن الحاجة إلى طرق القضايا التي هي موضع حاجة عامة للمجتمع ، ومناقشتها انطلاقا من حاجتنا إلى استنباط معالجات معاصرة ومتوافقة مع متطلبات الشريعة ، بغض النظر عما يثيره الآخرون من إشكالات ، والمقال بحلقاته الثلاث يعالج اشكالات منهجية في الجدل حول الموضوعات التي تتسم بحساسية من نوع ما ، ومثالنا الرئيسي في هذا المقال هو مكان المرأة ودورها في المجتمع المسلم والاشكالات المحيطة بدخولها ميدان العمل على نطاق واسع ، ونواصل هنا بعرض مسالتين أخريين.

المسألة الثانية :

استنباط المفاهيم القاعدية والمعايير ، يجري عبر طريقين  مختلفين ، أحدهما يبدأ باستقراء التفاصيل والتطبيقات الجزئية ، لاكتشاف متغير محدد ، يمكن اعتباره صورة أولى عن قاعدة نظرية تحكم الجميع ، ويبدأ الثاني بتحليل متغيرات تتعلق بقاعدة محددة موجودة سلفا ، لكشف نطاق التغير في تطبيقات القاعدة على موضوعات عملها ، ومعظم حالات استنباط الاحكام الشرعية تندرج ضمن هذا السياق ، لكن تكييف الموضوعات وهي عملية سابقة للبحث عن الحكم ، تندرج في السياق الاول ، فنحن نعرف ابتداء ان لله في كل واقعة حكما ـ وهو رأي أكثر الاصوليين ـ لكن إدراك المراد الرباني يحتاج إلى اجتهاد في الجانبين ، في تكييف الموضوع وتحديد عناصره وأبعاده ، واجتهاد في استنباط الحكم المناسب له ، ومع اختلاف المجتهدين واختلاف ازمانهم ومؤثرات بيئتهم ، تختلف نتيجة الاجتهاد التطبيقي في موضوعات اشتغال القاعدة الواحدة ، فيجد الفقيه أو صاحب الرأي نفسه إزاء آراء متعددة مختلفة ، ومع ان أيا من هذه الاراء لا تلزمه ـ بالمعني الشرعي ـ إلا ان وجودها يحمله عبئا أدبيا يصعب تجاوزه ، خاصة تلك التي صدرت من أسلاف فكريين أو مدرسيين للفقيه المعني ، أو تلك التي تلقاها جمهور الامة بالقبول وتحولت من ثم إلى عرف سائر في مجتمع المسلمين .
وفي ظني ان الجدل الفقهي والاجتماعي في قضية المرأة ، قد تأثر بمجريات هذا السياق ، فالكثير مما يقال اليوم عن التكييف الشرعي للمسائل المتعلقة بوضع المرأة في المجتمع المسلم ، ليس اجتهادا مستقلا في المسألة التفصيلية ، كما انه لا يبدأ بتحليل المتغيرات الفرعية المرتبطة بالقاعدة ، بل هو بصورة أو بأخرى إعادة انتاج لآراء السالفين ، وهو يتأثر بقوة بالانطباعات الشخصية عن أوضاع محددة أو حوادث ، وتستمد الاستنتاجات المتأثرة بهذا العامل قوتها ، من وضع سائد تعارف عليه المجتمع وتلقاه بالقبول ، فأصبح بديهيا أو شبه بديهي ، يستنكر غيره ، أيا كانت طبيعة هذا الغير أو دليله ، ان تحقيق القواعد والمعايير الشرعية الاصلية والنظر في تطبيقاتها المعاصرة ، هو التجسيد الدقيق للاجتهاد المستقل بمعناه الكامل ، وفي هذا فان الفقيه قد يأخذ برأي المشهور أو الاجماعات السابقة ، باعتبارها تجربة علمية لا حكما قطعيا ، وفي كل الاحوال فانه لا ينقض اجتهاد مجتهد معاصر برأي مجتهد سبقه ، كما ان العرف غير ملزم إذا لم يطابق المعايير الشرعية ، حتى لو قال البعض بامكانية تخصيصه لعمومات القواعد الشرعية ، وخلاصة ما يقال في هذا المعنى ان الاجتهاد المعاصر في قضية المرأة ، ينبغي ان يلحظ حقيقة ان الاجتهاد في عصوره السابقة تأثر بمعطيات البيئة الاجتماعية ، وان تغير الاحوال في هذا العصر تقتضي اجتهادا مستأنفا في الموضوع يلحظ معطيات الحاضر وحاجاته ، كما يحتاج تكييف كل جزء من أجزاء الموضوع إلى رأي اهل الخبرة في هذا الجزء .

 المسألة الثالثة :

من مظاهر مرونة الشريعة المحمدية ويسرها ، تقسيم الاحكام إلى اولية وثانوية ، فالاولية تحكم الموضوعات في الحالة الطبيعية ، والثانوية تحكم الموضوعات في الحالات الاستثنائية ، ويطلق عليها الفقهاء اسم (أحكام الضرورات) ويعرف الجميع ان الضرورات ليست صنفا واحدا ، فمنها ما هو آني قصير الأمد ، مثل السماح بأكل الميتة للمنقطع في الصحراء حفظا لحياته ، ومنا ما هو  ممتد لامتداد الظرف الذي ألزم به ، مثل رفع بعض الحدود في ظروف القحط والمجاعة العامة ، وقد جرى تنظير قواعد للاحكام الثانوية من النوع الثاني ، تقربها إلى الصنف الأول ، ومنها على سبيل المثال سد الذرائع ، فيستطيع ولي الأمر أو الفقيه المبسوط اليد ، ان يمنع الناس من مباح ، سدا لذريعة التوسل به إلى الفساد المؤكد ، ويقول الاصوليون ان منع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
لكن في معظم الأحوال فان الأحكام الثانوية ، تعتبر مؤقتة أو شخصية محدودة بزمان الضرورة ومكانها واشخاصها ، بمعنى انها لا تجري مجرى القاعدة الثابتة ، فتكون بديلا عن الحكم الأولي ، فلو سد الفقيه بابا مباحا لأنه ذريعة للفساد ، فان الاطمئنان إلى انقطاع السلسلة ـ ولو في حالات محددة ـ يبريء ذمة المكلف ، إذا أخذ بالحكم الأولي أو برأي  الغير .
في تطبيق هذا المسار على موضوع المرأة المسلمة ، نجد ان بعض الآراء تؤسس على قاعدة سد الذرائع ، لا على الاحكام الأولية في الموضوع ، بديهي ان الفقيه مكلف شرعا ببيان الحكم في ما يعرض عليه من الحوادث ، وهو أقرب إلى معرفة الحكم الشرعي من غيره بسبب التخصص ، لكن من ناحية أخرى فان تطبيق الأحكام الثانوية محدود بظرفه الخاص ، لأن تمديدها إلى خارج حدود الظرف الخاص ، يجعلها بديلا عن الحكم الأولي ، بل يلغي الحكم الأولي ، فاذا وضعت حدود ضيقة لعمل المرأة أو دورها الاجتماعي سدا لذريعة الفساد ، أو سدا لذريعة إهمال ما هو أهم ، فينبغي ان تعالج المسألة من زوايا مختلفة ، فلا يكتفى بالنكير على عمل المرأة ، وكأنه ـ بذاته ـ محرم أو مكروه ، كأن يقال ان الحكم الاولي ـ  أي الجواز ـ جار بهذه الشروط أو ضمن هذه الترتيبات ، أو يقال ان عملها في المكان الفلاني ، أو ضمن الظروف الفلانية ، ممنوع أو مكروه أو مرجوح ، لهذه الأسباب ، وهو جائز في بقية الاماكن . وأظن اننا بحاجة اليوم إلى تحديدات من هذا النوع ، لتلافي الاضطرار إلى الاطارات الضيقة أو نقاط الاشتباك الساخنة ، خاصة وان الاصل هو الاباحة ، وان المنع أو الالزام هو الاستثناء ، فينبغي ان لا تضيق ابواب المباح حتى يتحول المنع إلى اصل والمباح الى استثناء .
                                                                       ( 3 )

عرضنا في المقالين السابقين ثلاث مسائل في منهج الجدل حول المسائل الحساسة ، أخذا بعين الاعتبار مثالنا الرئيسي وهو قضية المرأة المسلمة ومكانها الاجتماعي وعملها على نطاق واسع ، وتعرض المقال الاول للحاجة إلى مناقشة علمية للموضوع بذاته وبغض النظر عن السجال مع الاجانب ، وفي المقال الثاني للحاجة إلى الاجتهاد المستقل والمعاصر في المسألة ، كما ميزنا بين احكام الظرف الطبيعي وأحكام الضرورات والحاجة إلى وضع كل من الصنفين في مكانه حتى لا تتحول احكام الضرورات إلى قواعد لمعالجة الحاجات الشرعية في الظرف الطبيعي ، ونختم المقال هنا بعض مسألة أخيرة .

المسألة الرابعة :

اليسر من الاسس الكبرى التي قامت عليها الشريعة المحمدية ، قال تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وصح في الأثر الشريف (يسروا ولا تعسروا) وتحديد التوازن بين طرفي العسر واليسر مسألة تخصصية ، يقررها أهل الخبرة في كل تطبيق من تطبيقات الشريعة ، ثم ان مفهوم العسر واليسر قد ينصرف إلى حالات شخصية ، وقد ينصرف إلى وضع عام ، يتعلق بالمجتمع المسلم كمجموع ، ولا نريد بسط الحديث في هذا الموضوع بالذات ، فهو معروف عند الجميع ، لكني أريد اقتراح موضوعين محددين يتعلقان بقضية المرأة ، للبحث في تطبيق التوازن بين طرفي العسر واليسر على المستوى العام . الاول في التشغيل الواسع النطاق للنساء ، وأظن ان المسألة تتعلق بنحو مليون وظيفة في القطاعين العام والخاص ، فهذه المسألة تبحث من جانب الاقتصاد الكلي ، أي تأثير اشتغال النساء على ميزان المدفوعات الوطني ، وبالتالي على فرص تنشيط الدورة المحلية لرأس المال والحياة الاقتصادية ، وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي ، أي تأثير اشتغال النساء على مستوى معيشة العائلة السعودية ، وتبحث من الجانب الاجتماعي ، أي تأثيره على فاعلية المجتمع ونمو شخصيته ، مقابل التحديات التي تواجهه والتاثير الثقافي الخارجي عليه ، وتبحث ثالثا من الجانب التربوي ،  أي تأثيره على نمو الشخصية الفردية للمرأة وانعكاسه على قدراتها التربوية ، وضمن الاطار العام ، فاننا نبحث الموضوع من زاوية أثره في الثقافة الاجتماعية السائدة ، لجهة انعكاسه على تقدير الفرد لذاته وللآخر ، وتطوير تصوره للآخر باعتباره انسانا له حقوق انسانية مماثلة . فهذه القضايا جميعها ذات علاقة وثيقة بقضية المرأة ، ومن المهم جدا ان نضعها تحت المجهر ، كي لا نقع أو نوقع مجتمعنا في العسر الذي لا تريده الشريعة ، ان البحث فيها قد يكشف لنا عن مصالح راجحة ، تركناها حفظا لمصالح مرجوحة ، ظنا بانها المقدمة وانها الاهم .

أما الموضوع الثاني فان من مظاهر اليسر في الشريعة المحمدية ، اختلاف الفقهاء في الرأي ، وجواز الأخذ بالرأي الأيسر بين الاراء المختلفة ، وهذا الامر مريح لعامة الناس ، فهو يعينهم على تلافي  البحث عن مخارج أو حيل للتهرب من الاحكام التي يجدونها صعبة التطبيق ، ومريح لولي الأمر فهو يتيح له الأخذ بجانب التيسير على عامة الناس ، إذا احتاج إلى تقرير إجراءات رسمية في موضوع من الموضوعات ، وهو مريح أيضا للفقيه الذي لا يستطيع ترك ما توصل اليه من رأي ، لأن العلم حجة على صاحبه ، لكنه في المقابل لا يجد مسوغا لالزام الناس بما لا يطيقون ، أو بما يكون سببا لتهربهم من طريق الشريعة ، فيحيلهم  على فتوى غيره ، أو يسمح لهم بالرجوع إلى الغير ، وكلا الرأيين ، اليسير والعسير ، صادر عن مجتهد مؤهل لهذا الدور ، واتباعه من جانب ولي الامر أو من جانب عامة المكلفين مبريء للذمة ، ومعذر امام الخالق ، فالفتوى كما يذهب أكثر الاصوليين ليست منجزة بالضرورة للمراد الرباني من الحكم ، لان معرفة الواقع  أي مراد الخالق ، فوق طاقة البشر القاصر ، لكن الاخذ بها ـ مع ذلك ـ مبريء للذمة ومعذر للمكلف يوم الحساب .

أما وقد انتهينا من الموضوع ، فنعود إلى ما بدأنا به ، فنقول اننا بحاجة إلى بحث مستفيض لموضوع المرأة المسلمة ، وما يتعلق بدورها الاجتماعي من أحكام ، بحثا يأخذ بعين الاعتبار الاحكام الشرعية الاولية ، ويضع كل تخصيص لهذا الحكم في حدود ما يوجب التخصيص ، ثم اننا بحاجة إلى الفصل الحاسم بين ما هو حكم شرعي وما هو عرف اجتماعي ، فحتى لو أردنا الاخذ بالعرف ، فاننا نأخذ به باعتباره عرفا ، ولا نلقي عليه عباءة الحكم الشرعي ، خشية ان يختلط الامر على الناس ويضيع الشرع في غمرة الاعراف والتقاليد .

12/01/1999

في الشوق إلى الرضى



يقترب شهر رمضان المبارك من نهايته ، ويزداد شوق المؤمنين للتقرب من خالقهم ، ويزداد خوفهم من أن ينقضي هذا الشهر دون أن يحظوا بالمغفرة والرضوان ، فتراهم يبالغون في الاستغفار والتوسل إلى الرب الرحيم ، كي ينظر اليهم بعين عطفه فيجعلهم في عباده المرحومين ، أتوسل إلى الله بجميل صفاته وعظيم أسمائه ، أن لا تغرب عنا شمس هذا اليوم أو يطلع صبح الغد ولله في أعناقنا تبعة يعذبنا بها أو يؤاخذنا عليها .

رمضان شهر التقرب إلى الله ، شهر الخضوع والتواضع ، وهو الفرصة التي أتاحها الخالق الرحيم لنا ، كي نستثمرها في تطهير أنفسنا من درن الدنيا وعيوبها ، حتى نستقبل قادم أيامنا بيض الثياب ، بيض النفوس .
ولأنه فرصة استثنائية ، فقد يكون من المناسب أن نتأمل قليلا وراء حجب النفس التي طالما زينت لصاحبها عيوبه ، فأقبل عليها مستسيغا أو كارها ثم اعتاد عليها ، فلم يعد يراها عيبا ، إلا إذا أعاد النظر في أعماق نفسه باحثا ومقلبا ، محاكما افكاره وسلوكياته ، وناقدا أهواءه ورغباته .

من بين ما يستحق  النظر العميق ، موقف الانسان تجاه أخيه الانسان ، ففي الأثر الشريف (كلكم لآدم وآدم من تراب) وفيه أيضا (الناس اثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وأجد تكرارا ان هذا الأمر لا يعامل من جانب الناس بالجدية المطلوبة ، فظلم الغير ، أو التعدي على كرامتهم ، أو إذلالهم والاستعلاء عليهم ، هي ممارسات شائعة بين المسلمين ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالضعفاء من خلق الله وما أكثر الضعفاء .

ونجد أمثلة على هذا في البيوت والاسواق وحتى في الصحافة ، ولعل كل قاريء قد رأى أمثلة على ما يتعرض له الأطفال من ظلم آبائهم أو معلميهم ، وكثير منا رأى أو سمع ما يتعرض له النساء من ظلم رجالهن أو آبائهن ، وكل منا شهد أو مارس الظلم أو الاستعلاء على الأجانب ، ولا سيما أهل الفقر والحاجة منهم ، وهي كلها ممارسات يتجلى فيها الظلم بغير الحق ، مع ان لكل ظالم أو متعد ، مبررا يسوقه أمام تجاوزاته وجرأته على من هم دونه ، مبررات يقدمها لارضاء نفسه التي ربما تلومه ، أو لاقناع الغير بسلامة موقفه .

والحق ان معظم الحالات التي تنطوي على تعد أو تجاوز لحقوق أولئك الضعفاء ، ليس لها مبرر سوى عجز الانسان عن ضبط عواطفه ، وكبح نزعات الاستقواء والاستعلاء التي تموج بها نفسه ، هذا العجز هو عيب في حد ذاته ، لكن الاسوأ من هذا العيب هو تطبيعه ،  أي اعتباره سلوكا اعتياديا لا يثير الاستغراب من جانب الآخرين ، بل وتحويله في بعض الأحيان إلى مظهر للحزم ودليل على قوة الشخصية ، يستحق صاحبه التشجيع والتعظيم عندما يمارسه .

 وكنت ـ في إحدى المناسبات قد عبت على أناس وصفوا صاحبا لهم بأنه ذئب ، في معاملته لمكفوليه ، و(كن ذئبا والا أكلتك الذئاب ) كما تمثلوا ، فجادلني بعضهم لاحقا ، بأني لا أعرف الدنيا ، والحق اني أعرف ان تنازل الانسان عن صفات الانسانية وقبوله الاتصاف بصفات الحيوان (كالذئب مثلا) هو من أعظم الرزايا ، وقد رأيت تكرارا من يمتدح زيدا من الناس بأنه جبار ، مع ان صفة التجبر ليست مما يحمد في الانسان ، وسمعت من يصف عبيدا بأنه أسد ، وأعلم انه لم يكن كذلك في الحرب ، بل في معاملة مرؤوسيه أو عياله .

 ورأيت رجالا يسكبون كرامتهم على أعتاب موظف يتلذذ برؤية أمثاله من عباد الله وهم يتوسلون إليه كي ينجز لهم معاملاتهم ، فكلما ازدادوا إظهارا للخضوع والضعف ، ازداد إذلالا لهم وتوبيخا ، فاذا ادركت أحدهم الكرامة فأبى ان يتوسل ، القيت أوراقه في مكان لا يصل اليه إلا بعد شهور من البحث والركض من دائرة إلى أخرى ، وما أظن سليم النفس يفعل مثل هذا ، فالتكبر على الغير مرض ، والتلذذ بتوسلات الناس مرض ، أعاذنا الله والقارئين من الابتلاء به أو الابتلاء بمن هو فيه .
رمضان فرصة ثمينة للابحار في أعماق النفس ، بحثا عن مثل هذه الأمراض ، وقد فتح الله أبواب العلاج ، وفتح معها أبواب المحبة والرضى ، فمن بادر وصل ، وحري بنا ان نغتنم هذه الفرصة لنقوم عن مائدة الرحمن ، وقد بلغنا المراد بتصفية الروح وتطهير النفس ، لكي يكون عيدنا ، يوم فرح ، ليس بلبس الجديد ، بل بالأمن من وعيد القوي  الشديد .
عكاظ 12 يناير 1999

22/12/1998

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي



الاجتماع الأخير لمجمع الفقه الإسلامي الذي عقد في البحرين ، شهد دعوة شبه عامة ، إلى توسيع نطاق الاجتهاد ومعالجة العقد النظرية ، التي توقف عندها قطار التجديد في الفقه الإسلامي المعاصر .

تطبيق الشريعة الاسلامية هو المبرر الرئيس والأهم لتجديد الفقه ، فلكي تتحول القواعد العامة والنصوص الاجمالية ، إلى أنطمة تفصيلية تستجيب للتحديات والحاجات ، الناتجة عن تغير ظروف الحياة ، فلابد من وجود فقه نشط ومتحرك ، يتفاعل مع عصره ومع المجتمع الذي يريد تطبيقه ، ان مصادر الشريعة محدودة من حيث الحجم ، لكن إذا نظرنا اليها كقواعد ونواظم ، فانها توفر فرصا لا متناهية لاجتهاد نشط ومتواصل مع العصر .

بديهي ان أي علم يتأثر من حيث ضيقه أو سعته ، ومن حيث جموده أو حركته ، بالبيئة الاجتماعية التي يشتغل ضمن إطاراتها ، بكل ما فيها وما يسودها من تيارات فكرية واجتماعية وتطلعات ، ذلك ان حركة العلم ومن ضمنه علم الفقه ، هي وجه من وجوه الحياة الاجتماعية ملتصق بالبيئة وظروفها ، فلا يمكن ان يتطور في معزل عن الزاماتها ، كما لا يمكن ان يتخلف دون حركتها ، ولهذا السبب فان النهوض الذي تبدو تباشيره في افق العالم الاسلامي ، لا بد ان ينعكس ايجابيا على النشاط العلمي ، والفقهي منه خاصة ، في صورة نهوض يتناول تجديد مفاهيمه ووسائل عمله ، وعلاقته بالحياة من حوله .
يشتغل علم الفقه في مربع ذي أربعة زوايا هي :

1-الاصول  أي المصادر الاولية التي يؤخذ منها الحكم الشرعي في موضوع معين .
2-الموضوعات وهي موارد تطبيق الاحكام الشرعية .
3- الاحكام وهي الموقف أو العلاج الشرعي لموضوع معين .
4-الاستنباط وهو عملية البحث الهادفة لاستخراج الحكم الشرعي من المصادر الاولية ، تمهيدا لتطبيقه على المورد المطلوب.

ان دعوة التجديد لا تتناول الاصول لا سيما الكتاب والسنة ، فهي أدلة يحميها اتفاق ، وجزم بقدرتها على توفير حاجات المجتمع المستجدة من الاحكام ، اذا ما وجدت ادوات استنباط ذات كفاءة ، وثمة نقاش في تفصيلات تتعلق بالأدلة العقلية ، لكنه نقاش فرعي ، ومتى تم اصلاح الاستنباط لم يعد لهذا النقاش مكان .

أما الموضوعات فليست محل جدل في موضوع التجديد ، لأنها ليست ضمن دائرة التصرف من جانب أهل الفقه ، فهي توجد نتيجة لتطورات خارج نطاق عمل الفقهاء ، وانما تقوم العلاقة بينها وبين الفقه ، بعد ان توجد وتصبح موضع حاجة للناس .
وعليه فان التجديد المقصود يتركز بالدرجة الاساسية في الاستنباط ، اي عملية البحث عن الادلة ، وفي التكييف الفقهي للموضوعات ، أي تحديد النطاق الذي يندرج الموضوع المعين ضمن دائرته .

ويقوم الاستنباط الصحيح على أربعة أركان :
الاول : المعرفة الدقيقة للموضوع المطروح ، ثم تكييفه ضمن دائرة محددة .
الثاني : المعرفة التفصيلية لمصادر الشريعة .
الثالث : استيعاب مقاصد الشريعة ،  أي روح التشريع .
الرابع : اتقان استعمال الأدوات المنهجية للاستنباط .

وإذا توفرت هذه الاركان الاربعة في طالب العلم ، فقد استكمل عدته العلمية للاجتهاد ، ويبقى عليه حينئذ ان يستكمل ما هو مطلوب من المتقين ، من الفضائل النفسية والروحية ، ان كمال تلك الاركان الاربعة أو نقصها ، يرجع إلى عوامل عديدة ، من بينها نظام التدريس للعلوم المتصلة بالفقه واعداد الفقهاء ، كما يتصل باعادة التقييم التي ندعو اليها للعلوم الحديثة ، باعتبارها ذات مدخلية كبرى في تحديد موضوعات الفقه ، كما يؤثر حاصل خبرتها على نتائج الاستنباط ، فيما لو اخذت بعين الاعتبار .

ويعتبر طالب العلم مجتهدا  أي مالكا لناصية الاستنباط ، اذا ما اثبت من خلال التجربة ان اجتهاداته صحيحة في مسائل ، يراها استاذه أو من يتابع اعماله من الفقهاء ذوي الخبرة ، كافية للتدليل على تمتعه بملكة الاستنباط ، وفيما بعد فان الفقيه يواصل عملية الاجتهاد حتى يكون له رأي في كل مسألة .

لكن بعد هذه المرحلة ، لا توجد حدود لنطاق عمل الفقيه ، فهو ـ في أغلب الحالات ـ لا يركز على مجال معين ، حتى يصبح صاحب اختصاص فيه ، كما لا يقبل ـ حسب العرف الجاري ـ رأي أصحاب الاختصاص في الموضوعات التي هي مجال اختصاصهم ، ماداموا لا ينتمون إلى سلك طلبة العلم الشرعي ، بل ان التقليد السائد في مدارس العلم الشرعي ، يذهب إلى اعتبار المجتهد في الفقه ، قادرا على استنباط الاحكام في كل موضوع ، في أي جانب من جوانب الحياة ، دون تقدير لحدود الاختصاص العلمي في مجالات الحياة المتنوعة .

ومع الاخذ بعين الاعتبار ان الفقه الاسلامي يعالج مختلف جوانب الحياة ، وان العلم التفصيلي بكل جانب ، يتطلب جهدا علميا كبيرا ، قد لا يتسع له العمر الطبيعي للانسان ، فقد نحتاج إلى الاقرار بالحاجة إلى التخصص ، أي ان يتخصص كل فقيه في جانب من جوانب الحياة ، فيتقن العلوم المتصلة بموضوعاته ، حتى يتأهل للفتوى فيها على وجه الخصوص ، ويترك غيرها من الموضوعات لغيره ممن هو مختص بها .
عكاظ 22-12-1998
مقالات ذات علاقة


15/12/1998

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



جاري في هذه الصفحة الأستاذ عبد الله القفاري ، صياد أفكار لا يشق له غبار ، وقد تحدث الثلاثاء المنصرم عن الحاجة إلى طريق ثالث ، بديل عن الاشتراكية التي فقدت صلاحيتها ، والليبرالية التي تتكشف عيوبها ، ولا يبعد ان تواجه مصير أختها في وقت قريب ، وهو طرح اقترحه في صورة سؤال يفيد تقرير الجواب ، على طريقة المتنبي في قوله :
 وكثير من السؤال اشتياق     وكثير من رده تعليل

عبد الحميد الابراهيمي
فكرة الطريق الثالث التي تحدث عنها بعض المفكرين في الغرب ، هي اصلاح لليبرالية بادماج بعض فضائل الاشتراكية ضمن نسيجها ، وهو يقتضي تعديل بعض ما قامت عليه من أسس ، ولا سيما في موضوع العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والعلاقة بين المجتمع والدولة ، وإعادة النظر في دور الدولة وتعريفها الوظيفي ، وهي فكرة خلفيتها اعتبار الليبرالية نهاية حقيقية للتاريخ ، وتقرير لها كأيديولوجيا نهائية للبشرية ، حتى لو اعترض البعض على اعتبارها أيديولوجيا .
لكن الاستاذ القفاري يدعونا إلى طريق ثالث نبدعه أو نشارك في إبداعه ، بغض النظر عما يسعى اليه توني بلير ، الذي يريد ارتداء عباءة المنظرين ، بعد ان  شارك بكفاءة في إبعاد حزبه عن النظرية ، وتحويله إلى حزب سياسي صرف .

والمفهوم من سياق الكلام ، ان القفاري سيتوصل إلى ان الاسلام هو الطريق الثالث المقترح ، وهي فكرة سبقه  اليه كثير من الكتاب في العالم الإسلامي ، بعضهم بطروحات مجردة هي أقرب إلى الدعوة ، منها إلى اثبات المدعى ، وقليل منهم كلف نفسه عناء عرض الأدلة التي تناسب القضية ، ومن المساهمات الحديثة التي لفتت نظري ، دراسة رئيس الوزراء الجزائري السابق ، د. عبد الحميد براهيمي (العدالة الاجتماعيةوالتنمية في الاقتصاد الإسلامي) الصادرة في سبتمبر 1977 عن مركز دراسات الوحدة العربية ، التي حاول فيها تحديد أطراف الموضوع ، الذي سيكون مجالا للبحث في أي دراسة لاحقة حول فرص اشتغال نظرية العدالة الاجتماعية ، وقد أصاب في هذا الاختيار ، لأن العيب الاساسي في أكثر الدراسات والدعوات التي عالجت القضية ، هو عدم تحديد الموضوع ، ومعالجة قضايا في غاية السعة والتشعب ، هي عند التحديد العلمي موضوعات كثيرة ، لا يمكن ان تدرج في بحث واحد ، أو ان يقترح لها ضابط أو نظام واحد للبحث .

عدا عن هذا الاستطراد ، فقد لفت نظري في مقال الاستاذ القفاري مسمى (الطريق الثالث) وكنت اتساءل في نفسي كلما قرأت مساهمة حول الموضوع : هل ينبغي حقا التفكير في طريق ثالث ؟ .

المسلمون الذين سبق لهم الدعوة إلى طريق ثالث ـ معظمهم على الأقل ـ افترضوه شيئا جديدا ، مستقلا ومختلفا عن الطروحات السائدة ، الليبرالية والاشتراكية وما هو تجميع من هذي وتلك ، وهذا الاقتراح يثير إشكالين كبيرين :
الأول : هل لدينا مشروع اسلامي جاهز ليحل مكان أحد الطريقين؟.
الثاني : على افتراض ان الاسلام هو الطريق الثالث ، فما هو حجم الفجوة التي تفصله عن كل من الطريقين السابقين ، وهي فجوة تتضح خصوصا في حال الانتقال ، وليس بعيدا عنا ما حدث في روسيا منذ أن بدات الانتقال من الاشتراكية إلى الليبرالية ، في بداية التسعينات ، وهي فجوة تحولت إلى هوة قاتلة ، ما تزال تحصد الضحايا حتى هذا اليوم .

والمراد من السؤال الأول ، تقرير ان ثمة فرق بين مشروع العمل الذي يقوم على فلسفة الاسلام وفي إطاره ، وبين صورة الاسلام المتداولة عند عامة المسلمين وكثير من الدعاة ، وهي صورة تميل بشدة نحو التبسيط ، ان صورة الاسلام التطبيقي في أذهاننا ، هي تركيب غير تاريخي لبعض مشاهد التاريخ ، وعامل التركيب الذي جمع بين هذه المشاهد ، هو الشوق إلى تصور المثال ، وليس المعرفة أو الدليل ، ولا يخفى اننا بحاجة إلى فقه جديد ، متصل مع العصر وتحدياته ، لا سيما في المجالات التي أهملها الفقه التقليدي .

أما المراد من السؤال الثاني ، فهو تقرير الحاجة إلى طرح المشروع الإسلامي المعاصر ، باعتباره متصلا ومتواصلا مع تجربة الانسان المعاصر ، وليس إقحاما للتاريخ في الحاضر ، ونحتاج هنا إلى إعادة فهم المشروع الإسلامي ، باعتباره حلقة أعلى في مسيرة البشرية ، وليس قفزة خارج هذا المسار ، ويؤول تقرير هذا الفهم إلى احترام ما توصل اليه الانسان من معرفة لذاته وللطبيعة ، وتقرير لمكانته بين مجمل المخلوقات ، وفي مقابل أخيه الانسان ، واعتبار محصلة هذه المعرفة ، أساسا يسهم في حمل المشروع ، ضمن هذا الفهم فقد لا نكون بحاجة إلى طريق ثالث ، بل إلى استكمال ما ينقص منظومة افتراضية ، نتفق على اعتبارها نقطة الاتصال بين ما هو سائد وما هو مطلوب.

مقالات ذات علاقة

عكاظ 15-12-1998

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...