02/02/2024

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024

يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال: هل ساهمت الثقافة السائدة في مجتمعاتنا في إبطاء او اعاقة مشروعات التنمية؟.

مبرر السؤال هو الاعتقاد بأن معظم الأدوات اللازمة لنجاح تلك المشروعات ، توفرت فعليا ، من رؤوس الأموال الى القوى العاملة المدربة والوضع السياسي المستقر نسبيا ، فضلا عن الانفتاح على مصادر المعرفة والتقنية والأسواق في العالم. لكننا مع ذلك لا نشعر ان تلك المشروعات قد حققت نجاحا كالذي عرفته دول اخرى مثل مجموعة النمور الاسيوية.

الثقافة التي نناقشها

في كتابه "النظام الاجتماعي" عرف روبرت بيرستد الثقافة بانها "الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه كأعضاء في مجتمع"[1]. ونقل عن إدوارد تايلور ، تعريفه للثقافة بانها "الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف ،  اضافة للعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع. الثقافة البدائية -1871". كما نقل عن اثنين من الانثروبولوجيين المعروفين هما ويليام كيلي وكلايد كلوخون (1944) تعريفا يركز على الجانب التأريخي في توليف الثقافة ، فهي بالنسبة لهما "مجموعة القواعد التي تم انتقاؤها عبر الزمن كي توجه أفعال الانسان وردود فعله تجاه المحفزات التي تنبع من داخله او من محيطه الخارجي".[2]

تقديم الورقة في المنتدى. بين د. سعد الزهراني (يمين) ود. عبد الله القويز (يسار)

وبهذا المعنى فان الثقافة توليف للخصائص التي يشترك فيها افراد مجتمع معين. انها لا تنصرف للمواقف او المعارف الفردية ، بل الى التوافقات الجمعية التي تشكل ذهنية كل فرد ، وتنعكس بشكل عفوي على سلوكه اليومي ومواقفه تجاه البشر والاشياء من حوله.

العنصر الجوهري في الثقافة هو صلتها بتوليد معنى الفعل ، الفردي والجمعي ، اي ما يعتبر مقبولا او مرفوضا على مستوى الجماعة ، فيكون مصدرا للتحفيز (الوعد بالثواب) أو التثبيط (التحذير من العقاب).

الثقافة والاقتصاد.. من يؤثر على الآخر؟

تأثير الاقتصاد في الثقافة أمر مسلم في الدراسات الاجتماعية وفي دراسات التنمية والتحديث. بل لا يبعد اعتبار هذا المبدأ واحدا من اعمدة نظرية التحديث.[3] ولدينا تجارب متكررة ، تؤكد ان التحولات الكبرى في مصادر المعيشة ووسائل الانتاج ، اثمرت عن تحولات موازية في ثقافة المجتمع ، لاسيما بين الشرائح التي جنت ثمار الاقتصاد الجديد. قد لا نستطيع الجزم بعلاقة سببية بين الاثنين. لكن اقترانهما لا يدع مجالا للشك ، بأن ما سيأتي لاحقا هو  ذهنية جديدة و تطلعات جديدة ، ونمط مختلف من العلاقات الاجتماعية.

خلافا لما ذكر أعلاه ، فان الاتجاه العكسي ، اي تأثير الثقافة على الحراك الاقتصادي ، ليس موضع اتفاق. وهذا النقاش حديث العهد نسبيا. اما قبل ذلك ، فقد هيمنت نظرية التنمية التقليدية التي تدعي أنه لا يمكن لأي ثقافة أو منظومة قيم ، ان تصمد في مواجهة تيار التحديث الآتي في ركاب التحول الاقتصادي[4].

موضع الجدل في هذه المسألة على النحو الآتي:

-    ثمة ادعاء بان ثقافات بعينها ، او عناصر معينة في تلك الثقافات ، تبرر استغراق المجتمع في التخلف ، وتعطل المحاولات التي ربما يبذلها بعض الأفراد ، للنهوض بالاقتصاد الوطني أو المحلي.

-    ثمة ادعاء بأن المحاولات التي بذلتها حكومات او منظمات تمويل دولية للنهوض باقتصاد البلد ، لم تنجح أحيانا ، لأن الثقافة المحلية كانت قادرة على صرف الزخم المتولد عن الدعم الاقتصادي الى نهايات غير مفيدة او غير منتجة. وبالتالي فالمال ليس مفيدا او فعالا طالما بقيت تلك الثقافة نشطة.

واميل للاعتقاد بان تعثر محاولات التحديث في دول مثل مصر ، ايران ، اندونيسيا ، والبرازيل مثلا ، قد اثار الشك في صلابة المبدأ القائل بالتاثير الحتمي للاقتصاد على الثقافة[5]. هذا يستدعي بطبيعة الحال مراجعة نسخة الحداثة المعروضة علينا ، فضلا عن مراجعة العناصر المعيقة في ثقافتنا ، والتحقق مما اذا كانت تستحق الحماية ، ام هي مجرد تعبير عن التعصب للهوية. علينا ان نستذكر ما قاله يوهانس هيرشماير: الهوية حصان جموح ، ان وضع خلف عربة النمو ، فقد يقلبها بدل ان يدفعها الى الأمام ، وان وضع في المكان الصحيح فقد يجرها بقوة الى اعلى الجبل[6].

التنمية الاقتصادية/الحراك الاقتصادي:

الغرض من تحديد هذا المعنى هو التمييز بين الحراك الاقتصادي العام ، الذي يمكن أن ينشأ لأي سبب من الأسباب ، وبين التنمية الاقتصادية المخططة التي تستهدف الوصول إلى غايات محددة على المستوى الوطني ، في مدى زمني محدد ، أي ما جرى التعارف على تسميته "خطط التنمية الاقتصادية". يمكن للحراك الاقتصادي ان يولد من ظروف عديدة ، بما فيها الحروب والازمات الاقليمية . لكن ماهو مهم هو تحويل هذا الحراك الى دورة مستديمة متنامية ، اي تحويله الى مشروع تنموي ، وذلك باستثمار العناصر المتوفرة ، كرؤوس الأموال في توسيع قاعدة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل ، وتطوير القوة العاملة. ان الخيارات الأكثر شيوعا في هذا السياق هي التوسع في الصناعة والزراعة التجارية اذا كانت الظروف الجغرافية مواتية ، إضافة لتوجيه قطاع الخدمات للإنتاج الاقتصادي ، مثل تطوير صناعة السياحة بأنواعها.

لدينا اذن تصور واضح نسبيا عن الحراك الاقتصادي ، وامكانية تحويله الى نمو مستدام ومنظم. لكن لا بد ايضا من ملاحظة الاحتمال المعاكس ، اي إغفال المجتمع لمتطلبات المشروع التنموي وتحويله الى حراك اقتصادي عادي ، يتمحور حول انفاق المتوفر من المال للاستمتاع بالتملك والاستهلاك. ان تجارب العالم ، تخبرنا بان كلا الاحتمالين قائم وان كلا منهما قد حدث فعلا في مكان ما.

حسنا.. ثمة باحثون يجادلون بان الثقافة العامة السائدة في المجتمع هي التي ترجح احد الخيارين: خيار الانصراف الى الاستملاك والاستهلاك ، او استثمار المؤقت بتحويله الى دائم ، كتحويل راس المال الى مصنع ، او تحويل القوة البشرية الى قوة مبدعة وخلاقة. بل حتى تحويل الفقر الى محرك لاعادة هيكلة علاقات الانتاج ومفاهيمه ، وعلاقة البشر بالطبيعة وثرواتها ، أو تحويل الهزيمة المادية والنفسية الى دافع لاعادة البناء واستجماع القوة[7].

الثقافة المساعدة للنمو الاقتصادي

في تقديمه لكتاب " الثقافات وقيم التقدم" أشار صمويل هنتينجتون ، الى تفاوت الأحوال بين كوريا الجنوبية وغانا ، اللتين كانتا في نفس المستوى الاقتصادي خلال ستينات القرن العشرين. فبعد 30 عاما ، اي في مطلع القرن 21 ، أمست كوريا تملأ أسواق العالم بمصنوعاتها ، بينما بقيت غانا في وهدة الفقر ، حيث لا يقوم أودها بغير المساعدات الدولية. وارتفع دخل المواطن الكوري لما يعادل خمسة اضعاف نظيره الغاني[8]. أراد الكاتب التذكير بما يراه عاملا مؤثرا ، توفر في كوريا وليس في غانا ، أعني به الذهنية/الثقافة المساعدة للتقدم. تميل الثقافة الكورية – وفقا لهنتينجتون – الى اعلاء قيم العمل والانضباط ، وتعلي من شأن التوفير والتعليم ، بينما لا تتمتع هذه القيم بنفس الدرجة من الاهمية في ثقافة المجتمع الغاني.

يمكن أيضا الاشارة الى مصر التي شهدت نهضة صناعية في عهد محمد علي باشا (1805-1848) ثم تراجعت بعد وفاته. ولو قيض لها ان تواصل حركتها ، لباتت اليوم منافسا للدول الصناعية التي كانت في بداياتها يومذاك[9].

لا نقصد هنا التهوين من شأن العوامل الأخرى ، التي تثبط التقدم او ترفع كلفته. بل ابراز اهمية العامل الثقافي ، الذي لم يحظ بالاهتمام المناسب ، رغم عمق تأثيره ووضوح انعكاساته.[10] من ناحية ثانية فان فشل المشروع التنموي يثير التساؤل عن دور النخب الوطنية ، التي في السلطة او في خارجها ، في حماية او افشال المشروع او اعادة اطلاقه بعدما توقف ، ولماذا يصعب عليها تكوين رؤية عن المستقبل الذي تريده ، ولماذا يصعب عليها اثارة نقاش موضوعي حول المشكلات القائمة؟. ذلك السؤال وتفرعاته يشير لحالة ثقافية ، اسماها غابرييل الموند وسيدني فيربا "الثقافة الرعوية/الانفعالية"[11] اي ذهنية مجتمع يدرك ما يجري ، لكنه يعتبر نفسه مجرد رعية للحكومة ، لا دور له غير الطاعة او التغافل ، أو ربما لايرى لدوره قيمة او تأثيرا في مجريات الحياة العامة.

فكرة التقدم

نتحدث هنا عن دور الثقافة في تحفيز أو إعاقة الحراك الاجتماعي ، الذي يستهدف تطوير مصادر الانتاج ووسائله ، الارتقاء بمستوى المعيشة وجودة الحياة لمجموع السكان ، والتوزيع العادل لثمرات النشاط الاقتصادي القومي على افراد المجتمع.

يرجع الفضل في اثارة الاهتمام بهذا المبحث ، الى عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر ، فهو – على الارجح - اول من قدم مقاربة تحليلية موسعة عن دور الثقافة ، وعلى الخصوص الثقافة الدينية ، في تقدم الاقتصاد ، وذلك في كتابه الشهير "الاخلاق البروتستنتية". انصب اهتمام فيبر على مسألتين:[12]

1-ان سلوك الفرد ، لا يفهم بعيدا عن تصوره لمعنى وجوده واغراض هذا الوجود. بالنسبة لمعظم المجتمعات فان الدين يساهم بعمق في توليف هذا التصور.

2- ملاحظته لحقيقة ان التعاليم الدينية تؤثر بشكل مباشر في السلوك الاقتصادي للفرد ، اي تعامله مع مسائل المال والعمل وتكوين الثروة ، والمعايير المادية للنجاح الدنيوي والاخروي ، وأمثالها.

أما الرؤية الرائجة اليوم ، فهي ترجع الى ستينات القرن العشرين. طبقا لعالم الاقتصاد النمساوي غونر ميردال ، فقد توجه اهتمام الباحثين لتصميم اقتصاد سياسي يركز على البشر وليس الثروة. وتبعا لهذا تركز التفكير التنموي على سؤال: هل يمكن صياغة نظرية للراسمال البشري تفسر النمو الاقتصادي في اطار التحسن النوعي للحياة الانسانية؟[13].  

كيف تؤثر الثقافة على السلوك الاقتصادي

سوف اعرض في الصفحات التالية الجوانب التي يتضح فيها بشكل مركز تأثير الثقافة على السلوك الاقتصادي ، وأريد التركيز خصوصا على ما لاحظته ولاحظه باحثون آخرون في المجتمع العربي. وسوف يكون حاضرا على الدوام تأثير الثقافة الموروثة ، والتي يشكل الدين جانبا مهما منها ، سواء كانت القيمة الدينية بذاتها حاضرة ، او كان تفسيرها او تطبيقها الاجتماعي هو الحاضر. واشير في هذا السياق الى رؤية المرحوم محمد عابد الجابري ، الذي يقول انه ما من قضية في الفكر العربي المعاصر ، إلا والماضي حاضر فيها ، حتى ليبدو مستحيلا على العرب المعاصرين ، أن يجدوا طريق المستقبل قبل ان يجدوا طريق الماضي. ومن هنا يؤكد على لزوم مراجعة التراث كتجربة تخضع لأدوات النقد والتقييم التي نعرفها اليوم ، وصولا الى التحكم في نطاق تأثيره على وعينا ، بدل الانخراط فيه من دون وعي[14].

نتحدث فيما يلي عن اثنين من الموارد التي يتجلى فيها تأثير الخلفية الثقافية للجماعة على السلوك الاقتصادي لأفرادها ، هما الفهم المتشائم لطبيعة البشر وهيمنة التفسير الاسطوري للعالم:

اولا ) صورة الانسان:

في محاضرة القاها سنة 1988 قدم المفكر البريطاني ايزايا برلين ، رؤية ، قال انها خلاصة لتأملاته على مدى ستة عقود.  تتعلق هذه الرؤية بالدوافع الكامنة في اعماق النفس الانسانية ، والتي تجعل البشر يرتكبون أعظم الآثام ، ثم يكررونها مرات عديدة. لكنهم في نهاية المطاف يتمردون على ميلهم الغريزي للاثم والعدوان ، كما يتمردون على نوازع اليأس والاحباط والسخط ، ليتجهوا - من ثم – الى طريق الصلاح والاصلاح[15]. تشكل هذه الفكرة قاعدة للقول بان الانسان كائن عقلاني واخلاقي. وهي مبدأ اساس في العلوم السلوكية الحديثة ونقطة فصل بين العلم/العالم القديم والحديث.

يرجع هذا المبدأ الى أواخر القرن السابع عشر فحسب. اما قبل ذلك ، فان معظم الثقافات القديمة مال الى اعتبار الفساد نزعة طبيعية أولى في البشر. وقال بعضهم ان اجتماع البشر يعزز هذا الميل ، نظرا لدخول عامل الندرة الذي يحكم العلاقة بين الحاجات والموارد فيحرك نزعة الاستئثار[16].

صورة الانسان العاقل الخيّر الحصيف ، تحجبها الصورة الذهنية التي توحي بها صفات مثل: "نسي ، يطغى ، جهول ، قنوط ، يؤوس ، جزوعا ، منوعا ، قتورا ، كفور ، عجول" ، وهذه كلها مفردات وردت في القرآن الكريم في وصف الانسان ، وورد اكثر منها في السنة وفي اخبار الأولين. وتحولت من ثم الى مصدر للثقافة العامة العربية والاسلامية. وسوف اعرض انعكاساتها على السلوك الاقتصادي ، في مثالين اولها يتعلق بقيمة المال والثروة ، والثاني بفكرة المشاركة.

أ‌-         وسخ الدنيا

على قاعدة المبدأ القائل بان الفساد هو الطبع الاولي للانسان اذا ترك وشأنه ، فان التفكير في التربية والتعليم ، والاحكام الشرعية والقانون ، ركز على تقبيح الأدوات التي ربما تعزز قدرة الافساد في الانسان ، وأبرزها المال والسلطة[17] ، التي بات ينظر اليها كوسخ دنيا ، بدل ان تفهم كضرورات للعمران. وورد هذا في اشكال عديدة ، من بينها التأكيد على كونها من اعراض الدنيا ، النقيض الطبيعي للآخرة ، والربط بين امتلاك الثروة ، وبين الاستئثار والتكبر ، والتمرد على أمر الله.

اثمرت النظرة السلبية للمال والدنيا ، عن تبلور نوع من الازدواجية في تقييم صاحب المال والساعي اليه. حيث نلاحظ رغبة عامة الناس في الاقتراب من اصحاب الاموال وكسب رضاهم ، وفي الوقت نفسه كراهيتهم والارتياب في مصادر اموالهم ، بل النزوع الى اعتبارهم سارقين ، ما لم يتأكد العكس. وتشيع روايات تدعم هذا الاتجاه مثل القول المنسوب لعلي بن ابي طالب "ماجاع فقير الا بما متع به غني"[18].

 الموقف التراثي من المال واصحابه يكشف احد الالتباسات المؤثرة في الثقافة العربية ، والتي موضوعها هنا التفسير الايديولوجي للصلاح والفساد ، من جهة ، والميول الغريزية عند البشر ، من جهة ثانية.

ومما يثير العجب ان كثيرا مما ورد في القرآن في ذم المال ، مربوط بالدنيا عموما وبالبنين خصوصا ، نظير قوله "إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ - التغابن: 15" ، لكن لسبب ما ركزت الثقافة الموروثة على سلب قيمة المال ، بينما اتخذت اتجاها معاكسا حين يتعلق الامر بالابناء ، الذين اصبحوا مصدر اعتزاز وتفاخر. وتبعا لهذا جرى ابراز الروايات التي تدعو لاكثار النسل[19].

هذا في ظني احد العوامل الكامنة في الذهنية العميقة للجمهور العربي والمسلم ، والتي تجعله ينظر بارتياب الى الاثرياء ، بل أي رمز للمال. ولعلي لا أبالغ لو قلت ان حوادث مصادرة الاموال التي تكررت في تاريخ العرب الحديث ، ربما تشير الى التأثير القوي لتلك الذهنية ، وان تلبست مبررات وصورا مختلفة.

ب‌-   غياب ثقافة المشاركة

تتسم الاقتصادات الحديثة بالميل الشديد الى التشاركية في الأموال والاعمال ، خلافا للاقتصادات القديمة التي كانت في الغالب فردية او عائلية. ان رسوخ قيم المجتمع السياسي الحديث ، ولا سيما احترام الملكية الخاصة وسيادة القانون ، مهد الاساس الضروري لتبلور اعراف عامة تدعم الثقة في النظام والايمان بالضمان القانوني للتعاقدات. يطلق على هذه الاعراف اسم "راس المال الاجتماعي = social capital".

وفقا لفوكوياما فان الغرض المحوري لتلك الاعراف ، هو اقامة ما يوصف بدائرة الثقة Radius of Trust. ومن هنا فان الفضائل التي تسهم في تكوين راس المال الاجتماعي ، هي – على وجه التحديد – تلك التي تمهد لتشكيل عرف عام ، يعيد احياء الفضائل التقليدية كالأمانة ، والوفاء بالالتزامات ، والأداء الموثوق به للواجبات ، والمعاملة بالمثل ، وأمثالها[20]. ثمة علاقة قوية بين هذا العرف وانماط التشارك والتمويل المعاصرة ، مثل الشركات المساهمة وسندات التمويل والتمويل الجماعي والتمويل السابق للانتاج والعرض Future  Market وأمثالها. ان ضعف هذه الانماط يرجع في جانب مهم منه الى ضعف الاعراف المساندة التي ذكرناها.

البروفسور فرانسيس فوكوياما

غياب الميل للتشارك امر مشهود في المجتمعات العربية ، حيث تشكل الاعمال والمؤسسات الفردية والعائلية النسبة العليا من السوق العربية. ويظهر هذا الميل ايضا في الاعمال الخيرية. ففي مصر التي تعتبر مثالا جيدا على المستوى العربي ، هناك جمعية واحدة غير ربحية لكل 2000 مواطن[21] ، مقارنة بجمعية واحدة لكل 216 من سكان الولايات المتحدة الامريكية[22]. بديهي ان الرغبة في التكافل الاجتماعي ومساعدة الضعفاء ، فضيلة رائجة بين العرب. لكن يبدو ان غالبيتهم يفضلون القيام بها بشكل فردي ، وليس عبر مشروعات مشتركة مع الآخرين[23].

يتسم المجتمع العربي بالتماسك وشيوع الثقة المتبادلة على مستوى الوحدات الصغيرة ، اي العائلة والقبيلة والطائفة والقرية. وهذه مفيد في المشروعات التي تقام على مستوى الجماعة الصغيرة او داخلها. لكن دورها معاكس حين يتعلق بمشروع قائم على التفاهم بين الافراد وتقارب المصالح ، ويذكر في هذا السياق دراسة روبرت بوتنام لجنوب ايطاليا ، حيث ان الروابط الداخلية القوية جدا ، انعكست على شكل ثقة ضعيفة بين الاشخاص المنتمين لجماعات مختلفة ، الامر الذي ساهم في ابطاء التقدم الاقتصادي للمنطقة ككل[24].

ثانيا) هيمنة التفسير الاسطوري / السحري لحركة الناس والعالم

عرفت مصر الظاهرة المعروفة باسم "شركات توظيف الاموال" في منتصف ثمانينات القرن العشرين ، حين بدأ بعض التجار يعرضون على الناس استثمار اموالهم بارباح توزع شهريا ، وتتراوح بين 15 الى 20 بالمئة من راس المال ، على اساس سنوي. ومنذ البداية حذر خبراء المالية من خطورة التعويل على وعود من هذا النوع ، اذ يستحيل في الواقع ضمان ارباح بهذا القدر وبصورة مستمرة. لكن رنين الذهب - كما يقال - اقوى اثرا من اي استدلال ، خاصة وان اصحاب تلك الشركات استعانوا بعدد من الوعاظ والصحفيين ، وحتى رجال السياسة ، لاقناع الناس بان ما يفعلونه هو "البديل الاسلامي" عن البنوك الربوية وشركات القطاع العام الفاشلة. وتقول بيانات رسمية ان أحمد الريان الذي اطلق هذه الظاهرة قد حول 550 مليون دولار الى بنوك سويسرية[25]. هذا يعني ان عشرات الالاف من الناس قد استأمنوه على أموالهم. وتقول احصاءات اصدرتها وزارة الداخلية المصرية ان حصيلة ما جمعه 25 من اصحاب تلك الشركات ، خلال بضعة اعوام يصل الى 5 مليارات جنيه مصري[26].

تكررت هذه الظاهرة بتفاصيل مماثلة تقريبا في المملكة العربية السعودية ، في وقت مقارب. وكما حصل في مصر ، جرى التركيز هنا ايضا على حرمة التعامل مع البنوك ، وامكانية ان يحقق الانسان ارباحا طائلة من دون جهد ، حينما يضع ماله بيد "الاشخاص الموثوقين". وفي كل الحالات ، في مصر والسعودية على الاقل بحسب ما أعلم ، خسر المودعون ما لا يقل عن نصف اموالهم ، وبعضهم خرج خالي الوفاض ، بعدما اهلك "تحويشة العمر" كما يقال[27].

ثمة ظاهرة مماثلة في جذورها ، وفي الانتماءات الاجتماعية للأشخاص الذين يشاركون فيها ، وهي الاستشفاء من الامراض بكل انواعها على يد قراء القرآن والسحرة ، وامثالهم ممن يدعون الاتصال بقوى وراء مادية. هذه الظاهرة شائعة جدا ، وقد شهدتها في السعودية وسوريا والعراق وايران وسمعت عنها من مصادر جيدة الاطلاع في مصر والسودان واليمن وعمان. ويبدو انها تراجعت في السنوات الاخيرة ، في السعودية بقدر ما أعلم ، لكنها لازالت قائمة في بلدان اخرى. وتوجد 20 قناة فضائية على الاقل باللغة العربية ، مكرسة لهذا النوع من الاعمال او تخصص لها مساحة واسعة من البث اليومي[28].

انتشار اللجوء للسحر والرقية لعلاج الامراض وحل المشكلات ، مثل ظاهرة توظيف الأموال ، مرجعها نفوذ الفهم الاسطوري / السحري لحركة العالم ، حيث يشعر الافراد باليأس من الحلول العلمية والعقلائية ، فيلجأون الى ما لا يعقلونه ولا يمكن تفسيره. ولا اشك ان "التلبيس بالدين" عامل مؤثر في دفع الناس الى هذا الطريق وطرد الشكوك المحتملة في لا عقلانيته ، بسرد قصص قصص العلماء والاسلاف التي تؤكد ان ما يقال لهم حقيقة تتجاوز قدرة العقل البشري ، لماذا؟.. لانه من عند الله وليس من عند البشر!!.

غني عن القول ان هذه الظواهر منتشرة بين الفقراء وغير المتعلمين ، كما بين المتعلمين والاثرياء ، لأنهم في الاساس يحملون ذات الفهم الاسطوري.

الثقافة كمتغير تابع

لا بد من الاشارة الى اننا نتعامل مع الثقافة في مرحلتين متمايزتين ، وقد تحدثنا حتى الآن عنها كمتغير مستقل او تفسيري. وفقا لهذا المعنى ، فاننا ندعي ان العوامل الثقافية تؤثر فعليا في التقدم البشري او تعيقه في اوقات معينة ، وربما تلعب الدور المعاكس ، اي تحفيزه واعادة اطلاقه. انها تؤسس سلوكا من ذلك النوع او من هذا.

لكننا ايضا معنيون بالثقافة كمتغير تابع dependent variable ، بمعنى كونها انعكاسا لتحولات ذات طبيعة مختلفة ، تحدث في المحيط الاجتماعي أو حوله. إن اعتبارها متغيرا تابعا هو الذي يسمح بالحديث عن إمكانية تغييرها او تعديلها. ولولا هذه الامكانية لكان الكلام عن العلاقة بين الثقافة والاقتصاد ، نوعا من الدوران في حلقة مفرغة.

وقد رأينا هذا المسار في أعقاب الكوارث الطبيعية والحروب والتحولات الاقتصادية الواسعة النطاق. ورأينا تحولات ثقافية ناتجة عن خطط سياسية. وليس بعيدا عنا انعكاس القرارات التي اتخذتها الحكومة السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة ، لإلغاء القيود المفروضة على عمل النساء ومشاركتهن في الحياة العامة ، والتي أدت الى تحول واسع النطاق في سوق العمل ، وفي موقع المرأة ومكانتها في نظام العلاقات الاجتماعية ، الامر الذي يشير الى تغيير جوهري في منظومات القيم الداخلية ، بما فيها تلك القيم التي تنسب للدين او تبرر على أساس ديني. واعتقد ان المجتمع السعودي شهد اهم التحولات على مستوى الثقافة والقيم في مرحلتين على وجه التحديد: في مطلع سبعينات القرن العشرين ، مع اعلان خطط التنمية الاقتصادية ، ثم منذ الغاء الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات ، في سبتمبر 2017.

يمكن أيضا الإشارة الى تجارب الأمم التي شهدت تحولات عميقة في ثقافتها بعد هزائم عسكرية ، ولدينا امثلة موثقة عن الارجنتين وألمانيا واليابان[29]. ويشار أيضا الى تجربة سنغافورة التي تكشف عن تأثير سياسة الدولة في تغيير ثقافة المجتمع ومن ثم أدائه الاقتصادي[30].

زبدة القول اذن ان الثقافة المعاكسة للتقدم الاقتصادي قابلة للتغيير والتعديل ، اما بطرق غير مقصودة كالحروب والكوارث والتحولات العميقة في العالم اوفي المحيط الاقليمي ، او بطريقة مقصودة ومخططة نظير السياسات الحكومية.

قضايا للعلاج

أبرز القضايا التي لها أساس ثقافي ويجب علاجها ، هي:

1- الرؤية التشاؤمية لطبيعة الانسان ،  المبنية على ان الفساد هو طبعه الأولي. هذه الرؤية سبب جوهري – في اعتقادي - لسوء الظن في الآخرين ، وتبعا ، الاعراض عن التشارك في الأموال والاعمال. كما انها عامل مؤثر في توجيه القانون نحو الردع وليس المساعدة ، وتسميم العلاقة بين النخب السياسية وعامة الجمهور. ان جانبا هاما من التنوير الاوروبي يرتبط بهجر ذلك المنظور العتيق ، وتبني مبدأ ان الانسان فاعل عاقل واخلاقي.

2- التفسير الغيبي (بل والسحري والخرافي) لحركة العالم والناس ، لصالح التفسير العلمي والعقلاني. العالم الحديث واقتصاده قائم على أرضية فلسفية تعلي من قيمة العلم والخيارات العقلائية. والتحاقنا بالعالم رهن بتفهمنا لهذه الحقيقة. ومن هنا فاننا بحاجة لتأكيد الثقة في نتاج العقل الانساني وانه حجة الله على الانسان ومصدر الخير في الدنيا والآخرة. وان الكون يتحرك بنظام ثابت ، وليس في وسع أحد ان يخرق النظام الطبيعي باسم السحر واستدعاء الجن وامثال هذه من الأوهام.

3-ويرتبط بالبند السابق ، ضرورة الانتقال من العقل المنفعل الى العقل المتسائل المتفاعل ، العقل الذي ينطلق من اعتبار الكون نظاما عقلائيا مفتوحا للانسان ، ويبني أحكامه على ان ما يفعله الانسان هو الذي يقرر احتمال الفشل والنجاح في السوق ، وأن الاقتصاد فعل البشر وليس حراكا تقوده كائنات مجهولة تسيطر على مصائر البشر ومآلات افعالهم.

4-كما يرتبط بالبند السابق (رقم 2) ايضا ضرورة تصحيح الفهم الديني للحياة الدنيوية ، وأهم تمثيلات هذه الفكرة ، هو التحول من الانشغال بما بعد الموت ، الى الانشغال بالعالم والطبيعة وكشفها واستثمارها. ان حقيقة الدين لا تتجسد في المجتمع الخائب التعيس الجاهل الضعيف ، بل في الدنيا المزدهرة والمجتمع الرفيع المعرفة والاخلاق والقوة.

5- التخلص من سيكولوجية الضحية. أرى ان المجتمع العربي يميل للاعتقاد بأنه يقع على الدوام في الجانب الضعيف والمظلوم من اي معادلة سياسية او اقتصادية. حتى لو تعلق الأمر بأشخاص أضعف منا ، مثل العمال الوافدين ، الذين نعتمد عليهم في تنظيم مختلف جوانب الحياة في بلادنا ، لكننا – بدلا من الشعور بالامتنان لهم – نصنفهم كمذنبين في شح الوظائف او اخفاق ابنائنا في الحصول على الوظيفة التي يحلمون بها.

ويؤسفني القول ان التيار الديني – بشقيه التقليدي والحركي – لعب دورا مؤثرا في تعزيز "سيكولوجية الضحية" من خلال التركيز الشديد على ما يعتبره مؤامرة غربية. ادبيات التيار تتضمن توجيها شبه ثابت ، فحواه اننا نتعرض لغزو ثقافي ، وان كل ما نفعله كي نتقدم هو تأكيد على نجاح الغرب في تمرير اجنداته.

سيكولوجية الضحية تسببت في قدر من العزلة عن التجربة العلمية والاقتصادية الكاملة ، حتى بالنسبة للذين درسوا في الدول الغربية او اقاموا فيها او تعاملوا مع شركاتها ، فقد بقيت علاقة هؤلاء بالمجتمع الذي اقاموا فيه او تعاملوا معه ، سلبية وخالية من التفاعل الانساني ، مقصورة على الشراء والبيع او نيل الشهادة الجامعية ، دون الانخراط في المجتمع العلمي او الاقتصادي كي يستوعب تجربته. هذا الانكفاء ، حول العلاقة بالغرب الى علاقة زبون - بائع ، بدل علاقة متعلم - معلم ، على النحو الذي شرحه المرحوم مالك بن نبي[31]. ان اقتصاد العالم اليوم محكوم بالعلم والنظام الذي تطور في الاطار المعرفي الغربي. ولا يمكن ان نتعلم تجربته طالما بقينا منعزلين عنه.

6 – تصحيح نظرتنا للمال: للمال موقع غريب في الذهنية العربية. فهو عزيز على الفرد العربي ، لكنه - من جهة أخرى - عبء او عيب. حين تسأل عربيا من عامة الناس عن املاكه ، فلن يتحدث عنها كعلامة على نجاحه. بل سيميل للتستر بكلمات مثل "مستورة" "الحمد لله رب العالمين" الخ. بعض الناس يبرر هذا الموقف بالخوف من العين والحسد. وهذا يظهر حضور الخرافة في تفكير الانسان. لكني اميل للاعتقاد بأن الثقافة العامة الموروثة تنظر للمال كسبب للفساد او كناتج للفساد ، فالأصل ان عامة الناس لا يملكون الا القليل. ويذكرنا هذا بالتعاليم المشابهة في الكاثوليكية ، وفق ما ذكر ماكس فيبر ، وهي تطابق هذا المعنى الى حد كبير[32].

طريق العلاج المتفق عليه: التعليم

يتفق دارسو التنمية مع السياسيين في الدول الفقيرة ، على محورية التعليم في سياسات التنمية[33]. الحاجة للتعليم من الامور البديهية ، ويمكن تلمس آثاره في أي بلد[34]. لكن القناعة الراسخة بمحورية التعليم الحديث ، تثير سؤالا محرجا للسياسيين والباحثين في الدول النامية ، حول الفجوة الواسعة بين الدور المفترض للتعليم من جانب ، وناتجه الفعلي في الجانب الاخر. بدأ التعليم في مصر مثلا في اوائل القرن التاسع عشر. وتأسست نواة كلية الهندسة في 1866. وفي العراق كان عدد المدارس الابتدائية والمتوسطة قبيل نهاية القرن التاسع عشر نحو 100 مدرسة.[35]. وفي السعودية انشئت اول ادارة للمعارف في مكة المكرمة ، عام 1927 وتخرج اول فوج من الطلبة المبتعثين الى الجامعات المصرية في 1935.

نتحدث اذن عن تعليم يتراوح عمره بين قرن وقرنين ، هذا اذا غضضنا النظر عن نظم التعليم التقليدي التي عرفتها بعض المجتمعات العربية ، قبل التواريخ السابقة بكثير. فلماذا لم تتقدم المجتمعات العربية ، في مجال العلوم والتقنية والاختراع؟. ولماذا ما تزال متكلة على التقنيات المستوردة ، حتى في مجال الزراعة وتربية الحيوان وبناء المساكن والسدود والطرق ، وهي من المهن التي عرفتها هذه البلدان منذ مئات السنين. بل لماذا أخفقنا في مواصلة الطريق الذي بدأه علماء العرب والمسلمين في القرون الماضية ، والذي أثمر عن العديد من الكشوف العلمية والاختراعات والمعارف؟.

هل فشل النظام التعليمي العربي بكامله؟

في دراسته عن الاقتصاد والمجتمع في جنوب آسيا ، في منتصف القرن العشرين ، لاحظ غونر ميردال ، وهو عالم سويدي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ، ان جميع السياسيين كانوا مهتمين بالتعليم الاساسي للشباب ، من اجل تحسين أدائهم في السوق والاعمال المختلفة الضرورية لتنمية الاقتصاد. لكن التلاميذ وعائلاتهم نظروا اليه كوسيلة للحصول على عمل مكتبي ، بدل الاعمال اليدوية المرهقة. هذا التهرب من العمل اليدوي يعاكس تماما الفرضيات التنموية[36].

البروفسور غونر ميردال (1987-1898)

اعتقد ان الوصف السابق ينطبق أيضا على معظم المجتمعات العربية. كان الحصول على شهادة مدرسية ، يعني الحصول على وظيفة قليلة الجهد عالية المردود. ولا استبعد ان مختلف المجتمعات في كل بلاد العالم ، كانت تنظر للتعليم بنفس الطريقة. اي ان التعليم طريق للوظيفة وليس بابا للانضمام الى دائرة العلماء والباحثين.

المهم في المسألة ان التعليم في الوطن العربي ، لم يحقق أعلى غاياته ، أي الارتقاء بالمستوى العلمي للبلد والاستغناء عن الخبرات الاجنبية في اي مجال. أعطانا هذا التعليم جيوشا من المستهلكين الجيدين لمنتجات الخارج ، معرفة او تجهيزات ، وليس منتجين مستقلين او مبدعين.

أين تكمن المشكلة اذن؟

حين نتحدث عن تاثير عميق للثقافة على سلوك الافراد الاقتصادي ، فاننا نقول – ضمنيا – ان الاقتصاد لا يتحرك في فراغ ، بل في إطار اجتماعي له محركات ومحددات. دور الثقافة هو تشكيل ذهنية البشر الذين يلعبون دور الفاعل في مجال الاقتصاد ، كمنتج او كمستهلك او كوسيط بين الطرفين. وفي هذه النقطة بالذات ، يقوم النظام التعليمي بتوفير الثقافة لكل فرد على نحو منظم ومتواصل ، حتى تتشكل ذهنيته وتتقوم شخصيته.

دور التعليم كان محل اهتمام العديد من المفكرين. ولا أجد حاجة لتكرار القول فيه. لكني اشير فقط للمقترحات التي ذكرها د. عبد العزيز الجلال كاستراتيجية لتطوير التعليم في منطقة الخليج العربي. كما لا أنسى الاشارة الى المقترحات الهامة التي تبنتها "لجنة الجنوب" ، التي تضم مجموعة بارزة من السياسيين والمفكرين ، سعت لوضع مباديء استراتيجية لتنمية العالم الثالث[37]. كل مانحتاجه في حقيقة الامر هو التطبيق الأمين لما جرى تبنيه فعليا من جانب الحكومات والنخب السياسية ، بدل إنفاق الوقت في ابداع أفكار جديدة ، ثم وضعها على الرف ، والاستمرار في الطرق القديمة.

مما يؤسف له أن التعليم العام تحول من أداة لدعم التنمية في العالم الثالث ، الى أداة لتعطيلها ، وذلك بتحويل الملايين من الشباب المتعلم الى مستهلكين يبحثون عن حياة مريحة ، بدل ان يكونوا منتجين يشعرون بالمسؤولية عن مستقبل اوطانهم.

خلال السنوات العشرين الاخيرة ، بدأنا نسمع عن ظاهرة رواد الأعمال entrepreneurs في البلدان الصناعية وشبه الصناعية ، ويقصد بها في الغالب الشباب الذين حولوا افكارهم المبدعة الى مصادر للثروة. ان جانبا عظيما من تجارة المعلوماتية التي تمثل سمة العصر الحاضر ، تأتي من هذا النوع من المشروعات. وهنا يأتي السؤال: لماذا افلحت الجامعات في اوروبا وامريكا والصين وكوريا وامثالها في تخريج عشرات الآلاف من رواد الاعمال الذين اضافوا قيمة الى انتاج بلدانهم ، بينما تعج البلدان العربية بملايين الخريجين الذين لا يجدون وظائف ، ولا يستطيعون انشاء اعمالهم الخاصة. لماذا نجحت تلك الجامعات واخفقت هذه؟.

الاقتصاد وسيلة والانسان غاية

اظن ان الجواب يكمن في المقاربة التي اقترحها أمارتيا سن ، المفكر الهندي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ، وهي تركز على الحرية كغاية نهائية للتنمية الاقتصادية. كما يعرف الحرية في معنى تعدد الخيارات الحياتية ، اي قدرة الانسان على العيش بالطريقة التي تجسد مفهومه الخاص للحياة والسعادة. ويطلق على هذه اسم "نظرية القدرة Capability Approach"[38].

لكن الفرد لا يعيش في عزلة عن محيطه ، بل هو - بشكل أو بآخر - محكوم بالمنظومات الاجتماعية institutions التي يتشكل منها محيطه الحيوي: الدولة ، السوق ، الدين ، الوحدات الاجتماعية ، التقاليد والاعراف.. الخ. ان نوعية هذه المنظومات وكيفية عملها ، تؤثر بشكل عميق على رؤية الانسان لنفسه وقابلياته وقدرته على تطوير تلك القابليات واستثمارها في تحسين معيشته ، وكذلك استثمار الفرص المتاحة في المجال العام[39]. تشكل الثقافة العامة الحبل الذي يربط جميع هذه المنظومات الى بعضها ويوحدها ويجعلها تعمل في تناسق وانسجام. تمظهرات هذه الثقافة في مختلف جوانب المجتمع وعند مختلف اعضائه هو الذي يشير لما ندعوه "العقل الجمعي".

وكما اشرنا في صفحة سابقة ، فان التعليم هو الوسيلة الاكثر فاعلية في تصحيح الثقافة العامة واعادة توجيهها على النحو الذي يخدم الاهداف الكبرى للمجتمع. ويمكن ان نجد اهمية التعليم في موقعين:

أ- التعليم يساعد الفرد على التحرر من الاحادية الثقافية ، اي اكتشاف ان قناعاته التي تشكلت بتاثير التربية والاحتكاك ضمن المحيط العائلي والاجتماعي الضيق ، لا تمثل حقيقة وحيدة. يساعد التعليم الحديث على توسيع أفق الفرد ، وربطه بالمحيط الواسع للثقافة والآراء في العالم. ان تحرر الفرد ثقافيا/ ذهنيا يجعله اكثر فهما لذاته ومحيطه والحقوق المتبادلة بينهما ، وصولا الى التخلص من القيود النفسية او الثقافية التي تثبط عزيمته ، او تحدد له موقعه او دوره الاجتماعي والاقتصادي. الفرد المتحرر اكثر استعدادا للمغامرة والمشاركة ، وبالتالي فهو اكثر استعدادا للاسهام في التغيير.

ب-التعليم يساعد الفرد على اكتشاف الفرص المتاحة في المجال العام وفي الطبيعة. في أبسط التجليات يمكن للتعليم ان يساعد الفرد على معرفة ما له من حقوق وما عليه من واجبات ، وعلى الفرص المادية والوظائف والامكانات التي تتيحها الدولة او يتيحها الاقتصاد ، والتنافس عليها مع  الآخرين. ان جانبا مهما من مهمة الارتقاء بمستوى  المعيشة تقع على الافراد انفسهم ، شرط ان يفتح لهم الطريق للسعي وراء ما يرغبون فيه وما يحقق سعادتهم.

ملاحظة ختامية

لا بد من القول ان برامج تطوير التعليم التي تم تبنيها في معظم الدول العربية خلال نصف القرن المنصرم ، لم تقم على ارضية فلسفية حداثية (قيم الحداثة) بل ربما اتبعت ايديولوجيا مضادة للحداثة في بعض الاحيان. وكان مقصودا ان يكون التعليم العام قناة لتلقين الايديولوجيا الرسمية وغرسها في ذهن الاجيال الجديدة ، باعتبارها صور العالم الصحيحة. وفي هذا المجال لم تختلف المجتمعات التقليدية عن نظيرتها التي تدعي التمرد على التقاليد.

فيما يخص العلاقة بين التعليم وسوق العمل ، فقد كانت الفكرة السائدة حتى منتصف سبعينات القرن العشرين ، هي ان التعليم أداة لتحسين كفاءة العاملين من اجل زيادة الانتاج ( الثروة ). لكن مع تطور فكرة التنمية ذاتها ولا سيما دخول مفهوم التنمية البشرية ، فقد بات مفهوم الثروة يتركز حول الانسان نفسه ، وبدأنا نسمع تعبيرات نظير ان المواطن هو ثروة البلد الحقيقية ، وأمثال هذه العبارة.  وبالتالي فان التعليم بات مرتبطا بقيمة مستقلة ، هي المساعدة في تكوين الانسان الافضل. من المهم في هذا السياق ان نخفف من تركيزنا على مبدأ "التعليم لخدمة حاجات السوق" الى الاتجاه العكسي "تطوير دور التعليم كي يعيد انتاج السوق".

هذه تعتبر خطوة مهمة الى الأمام. لكن لازلنا بحاجة للتأكيد على نفس أهداف التعليم التي أكد عليها "تقرير الجنوب" الذي ذكرناه في الصفحات السابقة ، وهي نفس الأهداف التي أكد عليها معظم دارسي التنمية المعاصرين في العالم الثالث وخارجه ، وأبرزها ان يكون التعليم وسيلة لانشاء مجتمع المعرفة ، المجتمع الذي اعتاد التفكير العقلاني الناقد ورفض الخرافة ، المجتمع الذي يؤمن بالحريات الفردية ويحمي حريات الأفراد ، ويحترم العلم ويتداوله كجزء من حياته اليومية العادية.

اذا استطعنا الوصول الى هذه المرحلة او حتى اقتربنا منها ، فسوف نجد ان سياسات التنمية الاقتصادية تنتقل بيسر وليونة من مرحلة الى المراحل الأعلى ، وسوف نجد قنوات سالكة من الفهم والتفاهم بين مجتمعاتنا والمجتمعات التي سبقتنا في دروب العلم والاقتصاد.



[1] Robert Bierstedt, The Social Order, Tata McGraw Hill, (New Delhi 1970), p. 106  

[2] Bierstedt, ibid, p. 105

[3] See in this regard Gunnar Myrdal, Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations, V.3, New York, Pantheon Books; 1972, v. 3, p. 1544.

For a discussion on the topic, see Eric L. Jones, ‘Culture and its Relationship to Economic Change’ Journal of Institutional and Theoretical Economics (JITE) 151/2 (1995). PP.269-285

 www.jstor.org/stable/40751800

[4] Leonard Binder, Islamic Liberalism, (University of Chicago press 1988), p. 78

[5] See for example: James A. Bill, “Modernization and Reform from Above: The Case of Iran”, The Journal of politics vol 32, issue 1 (Feb. 1970) pp19- 40, P. 19 https://www.jstor.org/stable/2128863

[6] Johannes Hirschmeier, The Origins of Entrepreneurship in Meiji Japan, Harvard University Press 2nd ed. 1968, p. 207

[7] ميشيل تومبسون ، ريتشارد اليس ، وارون فيلدافسكي: نظرية الثقافة ، ترجمة علي الصاوي. عالم المعرفة 223  (الكويت 1997) ص 326

[8] لورانس هاريزون وصمويل هنتيغتون (محرران): الثقافات وقيم التقدم ، ترجمة شوقي جلال ، المركز القومي للترجمة ط2 (القاهرة 2009) ص 19

[9] للمزيد انظر نبراس خليل ابراهيم: النهضة الصناعية في عهد محمد علي باشا ، مجلة دراسات في التاريخ والآثار ، العدد 73 ، يناير 2020 ، صص 122-150 https://search.emarefa.net/ar/detail/BIM-1237261

[10] انظر بهذا الصدد إشارة مترجم الكتاب ، المرحوم شوقي جلال ، حين ورد المثال الكوري ، الى تأثير العامل الخارجي الذي لعب دورا مساعدا للجنوب ومعيقا للشمال. لورانس هاريزون وصمويل هنتيغتون ، المصدر السابق.

[11] Gabriel Almond & Sidney Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, 1972, Princeton University Press, p. 19

[12] إبراهيم أيت إزي: قراءة في كتاب الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، الحوار المتمدن ، العدد 3143 ، )3 أكتوبر 2010(. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=230855

[13] Gunnar Myrdal, v3, p. 1543

[14] محمد عابد الجابري : وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر  ، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت 1992) صص 172-174

[15] جوشوا شيرنيس و هنري هاردي: ايزايا برلين ... حياته وفكره ،  ترجمة توفيق السيف ، (مدونة قلم 2020) https://talsaif.blogspot.com/2020/10/blog-post.html

[16] انظر مثلا تفسير الطباطبائي لآية الاستخلاف في محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الاعلمي ، بيروت ،  1/116

[17] نظير قوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك - الكهف 46" وقوله "واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل – البقرة 205"

[18] نهج البلاغة – تحقيق الشيخ محمد عبده ، خطب الإمام علي (ع) 4/78  https://bit.ly/45YVoPJ

[19] انظر مثلا: شهاب الدين الحسيني: التلقيح الصناعي بين العلم والشريعة ، فقه أهل البيت ،  العدد 22-23 السنة 6 (2001) صص 139-174 ، ص 142. https://library-alnajaf.com/book/download/1136

[20]  Francis Fukuyama, Social Capital and Civil Society, (International Monetary Fund 2000) https://www.imf.org/external/pubs/ft/seminar/1999/reforms/fukuyama.htm

[21] طبقا لبيانات رسمية، بلغ عدد الجمعيات المسجلة في 2020 نحو 52,500 ، مقارنة بعدد سكان مصر البالغ 109 مليون. اليوم السابع (25 ابريل 2020). http://www.youm7.com/4743273

[22] Number of non-profit organizations in the U.S. from 1998 to 2016’, Statista (2023) https://bit.ly/40H6asQ

[23] يهمني لفت نظر القاريء الى ما سبق الاشارة اليه من اعتبارنا العامل الثقافي عاملا مؤثرا ، وليس وحيدا. لمعلومات اضافية انظر:

Sarah Ben Nefissa: NGOs, Governance and Development in the Arab World, MOST Programme, Unesco 2000.

[24]  Guido de Blasio & Giorgio Nuzzo, ‘Putnam's Social Capital and the Italian Regions: An Empirical Investigation, Research Gate, (December 2013) https://bit.ly/3QZGaFV

[25] القصة الكاملة لأحمد الريان.. الرجل الذى تحكم فى المليارات وعندما دارت الأيام لم يجد 700 ألف جنيه ثمناً لحريته –  اليوم السابع  17 اغسطس 2010  -  http://www.youm7.com/267215

[26] عطية نبيل: ما هي ظاهرة "المستريح" ولماذا تنتشر في مصر؟ بي بي سي نيوز عربي- (18 مايو 2022)  https://www.bbc.com/arabic/middleeast-61487103

[27] طبقا لتقارير صحفية فان عدد شركات توظيف الاموال التي صنفت متعثرة (يطلق عليها في السعودية اسم المساهمات) بلغ 656 في مطلع 2019. تم تصفية 275 منها حتى تاريخه. وتخص هذه البيانات المساهمات العقارية فقط. أرقام (8 يناير 2019) https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/588688

للاطلاع على قصة "مساهمة سوا" وهي شركة توظيف اموال في غير العقارات ، انظر محمد حضاض: الجهني.. أعترف بالنصب والاحتيال، عكاظ (11 فبراير 2009) https://www.okaz.com.sa/article/244269

[28] للمزيد حول الموضوع ، انظر عادل قنيبو: "ظاهرة الرقية الشرعية بين مطلب العلاج والجدل الاجتماعي والديني" ، مؤمنون بلا حدود (12 سبتمبر 2022)    ww.mominoun.com/pdf1/2022-09/631fa1734c4dd1346721095.pdf

وحول انتشار قنوات الرقية والسحر في مصر وغيرها ، انظر ايناس الشيخ ورضوى الشاذلي: النصب باسم القرآن الكريم ، اليوم السابع (17 ابريل 2015) http://www.youm7.com/2144499

[29]  لورانس هاريزون وصمويل هنتيغتون ، المصدر السابق ، ص 22

[30] انظر ساره كيتينج: تجربة سنغافورة في "تغيير سلوك الشعب" بي بي سي (27-فبراير-2018) https://www.bbc.com/arabic/vert-fut-43204892

[31] مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه ، دار الفكر (دمشق 2002) ص 121

[32] ماكس فيبر: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، ترجمة محمد علي مقلد ، مركز الانماء القومي (بيروت د. ت.) ص 145

[33]  عبد العزيز الجلال: تربية اليسر وتخلف التنمية ،  عالم المعرفة (الكويت 1985) ص 14. انظر ايضا:

Najamul Saqib Khan, ‘Non-economic Factors in Development’, The Pakistan Development Review, 39: 4 Part II (Winter 2000) pp. 715–725, p. 720.  http://www.pide.org.pk/pdf/PDR/2000/Volume4/715-725.pdf

[34]  حول تاثير التعليم في النمو الاقتصادي ، انظر على سبيل المثال تجربة كوريا الجنوبية:

Jae Won Kim, ‘The Role of Education in Economic Development—The Korean Experience’. In: Klenner, W. (eds) Trends of Economic Development in East Asia. Springer, Berlin, (Heidelberg 1989). https://doi.org/10.1007/978-3-642-73907-1_37

[35]  سالم هاشم ابو دله: التعليم والمعارف في العراق خلال الحقبة الزمنية (1534-1933م) ، مجلة اهل البيت ، ع 22 (مارس 2018) ص 277.  https://abu.edu.iq/research/articles/13867

[36] Gunnar Myrdal, Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations, V.3, New York, Pantheon Books; 1972, p. 1538

[37] للاطلاع على بعض المباديء الهامة التي جرى تبنيها في "ندوة التنمية لأقطار الجزيرة العربية المنتجة لـلـنـفـط" عام 1980 ، انظر عبد العزيز الجلال ، المصدر السابق ، ص 109.

انظر أيضا مقترحات لجنة الجنوب في يوليوس نيريري (محرر): التحدي امام الجنوب ، تقرير لجنة الجنوب ، ترجمة عطا عبد الوهاب ، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت 1990) ص 160

[38]  امارتيا سن: التنمية حرية ، ترجمة شوقي جلال. المركز القومي للترجمة (القاهرة 2010) ص 17

[39] امارتيا سن: المصدر نفسه ، ص 211

01/02/2024

اي الامم اذكى ، نحن ام الاميركان؟

النقاش حول تفاوت العقول والثقافات بين الأمم والمجتمعات ، يفتح  الباب على قضايا كثيرة ، ربما نود تناسيها. لكنه أيضا يكشف عن مفاهيم جديرة بالتأمل. خذ مثلا معنى العقل: هل يساوي الذكاء ، ام الثقافة ، ام الاتزان ، ام القدرة على التفكر ، اي الفك والربط؟. هذه - كما نعرف - معان ذكرها باحثون في مختلف الازمنة. لكن لو سألنا انفسنا: هل توجد حقا أمة بكاملها أذكى من الأمم الأخرى ، او اكثر ثقافة ، او اتزانا؟.

لو سألت شخصا من الصين مثلا ، فسوف يبادر بالقول ان الصينيين اكثر ذكاء. وسيدلل على قوله بعشرات الشواهد عن التاريخ الحضاري القديم ، والتقدم التقني الراهن ، وتفوق التلاميذ الصينيين في الرياضيات.. الخ. ولو سألت عربيا لضرب لك امثلة أخرى ، ولو سألت اسرائيليا لفعل الشيء نفسه ، وهكذا.

تلك شواهد صحيحة بالتأكيد. وكل منها يدل على ان هذه الأمة أو تلك ، تتمتع بذكاء او ثقافة او اتزان او قدرة على التفكيك والربط. لكن المقارنة لا تثبت أبدا ان هذه الامة اذكى من تلك ، بمعنى ان صفات الذكاء أعلى من نظيرتها في الأمم الاخرى ، وانها جارية في أنسابهم وجيناتهم. الامريكان في مقدمة أمم العالم اليوم. لكنهم لم يوجدوا قبل العام 1600 حين بدأت اولى الهجرات من اوربا. الصينيون متقدمون في جوانب كثيرة في الماضي والحاضر ، لكن هذا ليس حالهم على الدوام ، فقد مروا بأزمان مات فيها آلاف منهم ، بسبب المجاعة. والمجاعة لا تأتي الا من التخلف والبؤس. وكان العرب اقوى الامم في أزمان سابقة ، وليسوا اليوم كذلك. وكان البرتغاليون سادة البحار في يوم من الأيام ، بينما لا تكاد تسمع بهم اليوم.   

نفترض ان هذا يكفي لنفي الصلة بين العقل والنسب. كما يوضح أن اختلاف العقول هو اختلاف ثقافات ، أي تنوع يسير افقيا نحو اليمين او نحو الشمال. فلكل امة ميزات تخالف غيرها في جانب أو اكثر. لكننا لا نستطيع اخذ صفات امة بعينها كمعيار لتحديد قيمة الاخرين على سلم عمودي.

-         ما هي اهمية هذا الكلام؟

لقد وجدت الاكثرية الساحقة من الناس ، عربا وغير عرب ، يتقبلون الفكرة السابقة ، وينفون بشدة انهم اقل ذكاء من غيرهم ، او أن أمتهم اقل معرفة من سائر الأمم. ويصرون على ان تفوق احدى الأمم في وقت بعينه ، ناتج  عن ظروف وامكانات لم تتوفر لغيرها. ولو توفرت لحصل هنا ما حصل هناك بلا فرق.

الامر المثير للدهشة ، أن هؤلاء أنفسهم ، او كثيرا منهم ، يتقبلون فكرة ان الله فضل جنسا على جنس ، او أن قبيلة ارفع نسبا من غيرها. وأقرأ بين حين وآخر تعليقات لأشخاص متعلمين ، يتحدّون غيرهم أن يذكروا نسبهم ، ونعلم ان المقصود بهذا هو الاشارة الى ان اصولهم غير عربية او غير قبلية. ولعل بعضنا يذكر قضايا "عدم التكافؤ في النسب" التي أدت في سنوات ماضية الى هدم أسر والتفريق بين أزواج ، بعدما اكتشف اقارب الزوجة ان قبيلة الزوج أدنى كعبا من قبيلتهم.

على المستوى النظري نتباهى بان الاسلام ساوى بين الناس ، وعاب التفاخر بالانساب والانتماءات القومية والعرقية. لكننا في الوقت نفسه نتقبل فكرة اننا كأمة افضل من سائر الأمم ، أو ان جنس الرجال افضل من جنس النساء ، او ان الاسلام أجاز هدم العائلات ، اذا ظهر ان الزوج ينتمي لعرق أو قبيلة أدنى من زوجته. فهل هذه وتلك من نوع السقطات العفوية ، ام اننا نفكر بعقلين متوازيين: عقل واع يزن الأمور ، وآخر انفعالي يقوم مرة ويتخبط أخرى؟.

هذا تأمل في قصة العقول واختلافها ، وددت مشاركة القراء الاعزاء فيه ، ولعله يثير في انفسهم حاجة للتفكير في بعض الجوانب التي ربما نرتاح لتناسيها.

الشرق الاوسط الخميس - 21 رَجب 1445 هـ - 1 فبراير 2024 م

https://aawsat.com/node/4826186

25/01/2024

عقل العرب ، عقل العجم

"تكوين العقل العربي" هو الكتاب الاول في مشروع د. محمد عابد الجابري الخاص بنقد العقل العربي. وقد حظي بشهرة قل نظيرها ، فطبع 16 مرة ، أولها في 1984.

في تقديمه للكتاب ، تساءل الجابري: هل ثمة فرق جوهري بين العقل العربي ونظيره الاوروبي والافريقي وغيره.

سؤال الجابري هذا يعيدنا لسؤال اسبق ، حول ماهية العقل وجوهره. الجواب على سؤال: ما هو العقل ، مقدمة لازمة لفهم سبب الاختلاف بين ما زعمنا انه عقل عربي وغير عربي ، على فرض ان هذا الاختلاف حقيقي وقابل للملاحظة.

د. محمد عابد الجابري

حسنا.. هل فكرت في حقيقة عقلك ، ما هو ولماذا يختلف بين شخص وآخر ، وبماذا يتمايز بين جماعة/امة واخرى؟.

الواضح ان اختلاف العقول منشؤه اختلاف محتواها ، اختلاف الذاكرة ، وطريقة التفكير والفهم. العقل الذي نتحدث عنه هو مجموعة الأدوات الذهنية التي نستعملها في معرفة الأشياء وتحديد قيمتها. فهل لهذا أهمية في تعريف العقل؟.

في ماضي الزمان اعتقد بعضهم بوجود صلة بين العقل والجغرافيا او العرق. فقالوا ان عقول الساميين تنبذ التعقيد ، بينما يعمل العقل الآري بطريقة مركبة او رياضية ، ولهذا فهو اعمق استيعابا لعناصر الطبيعة وما يربط بينها من خيوط.

نعلم الآن ان تلك الأوصاف لا تتصل بالتكوين البيولوجي للانسان.  كما نعلم أن العقل ليس شيئا ماديا ، بل وصف لعمليات لا مادية معقدة ، تجري في مختلف اعضاء الجسد الانساني بصورة متزامنة ، ولذا لا يمكن القبض على جزء منها وايقاف العمليات العقلية برمتها ، الا اذا توفي الانسان تماما وتوقفت جميع اعضائه عن الحياة.

وقد ذكرت في كتابات سابقة بعض من زعم وجود صلة بيولوجية لعمل العقل ، مثل البروفسور ادوارد ويلسون ، الذي عرض نظريته في كتاب "البيولوجيا الاجتماعية ، التوليفة الجديدة"  وأثار جدلا واسعا جدا ، مع انه قصر مدعياته على جانب ضيق من السلوك الحيواني ، وهو وجود امكانية لوراثة عوامل جينية ، وظيفتها مقاومة فناء الجنس. وهذا من الامور التي سبق طرحها ونقاشها ، لكن التيار العام في علم الاحياء لم يتقبلها.

اقول ان الفوارق بين العقول المختلفة ، ناتج عن اختلاف محتواها ، اي المواد التي يختزنها عقلك وعقلي وعقول الآخرين ، وليس الفارق في حجمه او شبكته الدموية والعصبية وجيناته ، كما زعم مدعو الصلة البيولوجية. ومن هنا فان الفارق بين ما نسميه عقلا عربيا وبين غيره ، هو فارق في محتواه ومخزونه.

اذا صدق هذا الوصف ، فسنذهب للخطوة التالية ، اي: من أين جاء هذا المخزون ، وكيف تكون على هذا النحو الخاص الذي اعطاني هذه الصفات الثقافية والسلوكية ، اي ما نسميه "الشخصية" ، بينما اعطى الآخر القادم من اليابان او أوربا مثلا  "شخصية" مختلفة ، أي صفات ثقافية وسلوكية مغايرة.

يعمل العقل كمرسل ومستقبل بصورة متوازية. يستقبل المعلومات والمؤثرات والمشاعر ويختزنها ثم يعيد انتاجها في صورة افكار ومواقف وسلوكيات. ومن هنا فانه لا يوجد عقل مستقل عن محيطه. ان الجانب الاعظم من تكوين العقل يأتي على شكل انفعال بالاشياء ، اي شعور بالرغبة او الخوف او السعادة او الالم او الحب او البغض او الدهشة او الاستغراب ، وكل من هذه الانفعالات يحمل معلومة عن العالم المحيط ، قد لا تكون منظمة ، لكنها تتحول حين يستقبلها عقل الانسان الى مخزون منظم ، يستعمله حين يتأمل في عالمه. كل شيء تلقيته بالامس يخدم تفكيري في الشيء الذي اتلقاه اليوم ، وهذا يخدم تفكيري غدا وهكذا.

من هنا فان البيئة المحيطة وما فيها من بشر واشياء وجغرافيا وتجارب ، تتدخل بصورة عميقة في صناعة عقل الانسان ، الذي يعيش فيها ويتفاعل معها. قد يشعر بهذا او لا يشعر ، لكنه على اي حال جزء من هذه الثقافة العامة التي نسميها "العقل الجمعي".

الشرق الاوسط الخميس - 14 رَجب 1445 هـ - 25 يناير 2024م  https://aawsat.com/node/4811716

مقالات ذات صلة

18/01/2024

وراء التشاؤم والتفاؤل: هل نرى الواقع كما هو؟

 يبدو ان مسألة التشاؤم التي عالجها مقال الاسبوع الماضي ، تشكل موضوعا جديا عند الاشقاء العراقيين. وصلتني خلال الاسبوع ردود فعل كثيرة جدا ، بعضها يبرر المزاج التشاؤمي ، لكن الكثير منها يقول صراحة او ضمنيا "حجم المشكلات التي نعانيها فوق ما تعرف ، فلا تعلمنا ما يصح وما لا يصح". الزميل حمزة مصطفى ختم مقاله التعقيبي في صحيفة "الصباح" البغدادية بتفسير ظريف فحواه ان التشاؤم سمة للاحاديث الموجهة للجمهور ، وليس نقاشات النخب ، لأن الجمهور يعتبر الكتابات المتفائلة تملقا لذوي السلطان. اما الزميل علي حسين فقد رأى أن الواقع السياسي لا يترك فرصة للتفاؤل: "ماذا نفعل ياسيدي ونحن نعيش مع ساسة ومسؤولين حولوا مؤسسات الدولة إلى سيرك كبير يستعرضون فيه مهاراتهم في الضحك على عقول الناس".

هواية المتشائم هي البحث عن نقاط سوداء على خريطة العالم

الواضح ان معظم الذين ناقشوا ذلك المقال متفقون على ان المنحى التشاؤمي ليس مفيدا. لكنه مبرر بما يعانيه البلد من مشكلات او بالمزاج الشعبي او بالتجربة التاريخية التي تغذي ذهنية تميل للأسى وليس الفرح.

الجدل في الموضوع أثار في ذهني أسئلة تتعلق بدور الكاتب ، مع استذكار موقف قديم أتبناه ، رغم أنه لم يرض أحدا ، وفحواه ان مسؤولية الكاتب او العالم مثل مسؤولية الفلاح والبقال وسائق التكسي والطبيب والمهندس وغيرهم ، تتلخص في إتقان عمله. اي انه لايحمل رسالة ولايتوجب عليه ان يتبنى موقفا غير ما يجب على كل شخص آخر. واعتقد جازما ان تبني كافة الناس لهذا الموقف ، اي الاجتهاد في اتقان العمل ، محرك قوي للنهضة ، لو كانت هدفا.

الداعي لاثارة السؤال هو ما يبدو من تناقض بين هذا الموقف ، اي عدم التزام الكاتب بموقف محدد من قضايا المجتمع ، وبين مطالبتي للنخبة العراقية وغيرها من النخب بترك التشاؤم الذي قلت انه يهدد بتفتيت "رأس المال الاجتماعي". فكيف انكر المسؤولية تجاه المجتمع ، ثم اطالب الاخرين بالتزامها؟.

الواقع ان تلك المناقشات أشارت لاحتمال ثالث ، غير المسؤولية تجاه المجتمع او انكارها ، فبعضها يقول – ضمنيا – ان دور الكاتب هو وصف وتوثيق الواقع الاجتماعي ، اي تحويله من سلسلة مشاهد مفككة في ساحة المجتمع ، الى مشهد واحد مترابط. في هذه الحالة لا يتعلق الامر بتشاؤم او تفاؤل ، بل هو أقرب الى ما يسمى "تلفزيون الواقع" ، من دون تمثيل طبعا.

يعرف طلاب العلوم الاجتماعية ان وسائل التواصل الجمعي كالصحافة ، التلفزيون ، الخطابة العامة ، ومنصات التواصل الاجتماعي ، هي الوسيلة الاقوى لتوصيل ، ومن ثم تعميم المشاعر والافكار والمواقف. وهذه هي الطريقة المعتادة لصناعة القضايا العامة ، اي تلك القضايا التي يهتم بها جمهور كبير من الناس. ومن هنا اكتسبت الصحافة اهميتها عند قادة المجتمع ورجال السياسة والاقتصاد وكل الفاعلين في المجال العام.

حسنا ، اذا رأى الكاتب مشهدا سيئا مثيرا للتشاؤم ، فهل يغض الطرف عنه ام يعيد تلوينه ، او يقتضي الصدق ان ينقله للجمهور كما رآه.

كان هذا واحدا من الاسئلة الهامة التي عالجها توماس كون في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" وقد رأى ان نظرة الكاتب ، بل اي ناظر الى الواقع لا يمكن ان تكون محايدة او خالية من التوجيه المسبق: انت ترى ما يتوقعه عقلك ، وتفهمه وفقا للاطارات التي صنفها عقلك. ومن هنا فان مراقبتك للشيء ، ثم شرحه ، هو تفسير مستند الى خلفيتك الذهنية ، اي انه حكم على ذلك الشيء وليس مجرد وصف محايد.

هذه الرؤية جلبت على توماس كون نقدا كثيرا جدا ، لكن لو تأملتها جيدا فسوف تراها قريبة من منطق الامور: هل يمكن ان نفهم شيئا دون الاستناد الى قواعد مسبقة ، اليست هذه القواعد قيودا على الفهم الجديد؟ ، اي هل ننقل صورة الواقع كما هو ، ام ننقل تصورنا الخاص لذلك الواقع؟.

الخميس - 06 رَجب 1445 هـ - 18 يناير 2024 م 

https://aawsat.com/node/4796756/

مقالات ذات صلة

"اخبرني من اثق به..."

صناعة الكآبة

الفكــرة وزمن الفكـرة

التجديد المستحيل

 

 

11/01/2024

صناعة الكآبة

 

خصص الصديق الدكتور اياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي ، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة ، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية ،  فوق انه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعا ان دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكني أسأل نفسي دائما: متى كان وضع العرب مثاليا أو خاليا من دواعي التشاؤم؟. فهل نحول صحافتنا الى مجالس عزاء ، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم او بكينا موتاهم ، ما هي  القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي الى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟.

د. اياد العنبر

لكن ثمة جانب لا يتعلق بالعاطفة او الموقف الشخصي من الحوادث ، اعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الامر اكثر وضوحا في حال المجتمع العراقي ، الذي يخاطبه الدكتور اياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه اكثر ، على جمهوره العام والعديد من اهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع ، فقد وجدت التشاؤم قاسما مشتركا فيما بينهم ، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

اعرف مبررات كثيرة ، تاريخية وسياسية ، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي اليها هذا التوجه؟.

في سبتمبر الماضي كتبت عن "راس المال الاجتماعي" واعيد التذكير بانه يشير الى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين ، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم ، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائما ، هل يتعزز "راس المال الاجتماعي" ام يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة ، ام يحصل العكس ، أي انصراف كل فرد الى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته ، بل وحتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟.

انظروا الى واقع العراق ، اليس هذا ما ترونه.. كل الناس يشكون من كل شي ، كلهم يتهمون قادتهم ونخبهم واهل الرأي فيهم ، يتهمونهم بالتسبب في كل ما حل بالعراق ، والنخب تتهم السياسيين ، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون او الصبر او المشاركة في الحلول الخ.

أزعم ان صناع الثقافة في العراق ، في الماضي والحاضر ، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت "راس المال الاجتماعي" أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس ، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئا مفيدا لهم كأمة واحدة ، لا كأفراد او طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة ، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص ، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصبا ، او يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعا أي تفكير جاد في التغيير او محاولة للتغيير ، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي او يرهق نفسه وحياته ، اذا كان جزاؤه – أيا كان الحال – هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بانه فاشل وعاجز ، او مجرد حرامي او متسلق او متسلط او ذيل للأجنبي؟. وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

ان جوا كئيبا كهذا ، سيفضي – دون شك - الى افساد السياسة ، ثم القضاء على حرية التعبير ، وأخيرا تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين ، الذين كفاءتهم الوحيدة هي اثارة العواطف والانفعالات ، أو اثارة الخوف من الآخر المختلف ، أي باختصار ، الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟.

ان كانوا يرغبون في غير هذا ، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماما ، المثل الصيني: بدل ان تلعن الظلام اضيء شمعة.

الشرق الاوسط الخميس - 28 جمادي الآخر 1445 هـ - 11 يناير 2024 م

https://aawsat.com/node/4782126/

مقالات ذات صلة

رأس المال الاجتماعي

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

السيف لـ عكاظ: أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان

متشائمون في غمرة الوباء ، لكنني متفائل

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة 

21/12/2023

هل ترسمون الخرائط؟

روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة "أكتون" ، غرب العاصمة البريطانية لندن.  وخلاصتها ان المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الاسبوع ، فأخبرتها الطفلة بانها ذهبت مع امها الى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها ان تعمل خلال الاسبوع الجاري على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها الى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الاسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الاب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟. فقال انه شعر بالحاجة لمساعدتها ، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة "انك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها ، وهذا امر سيء". المراد – على اي حال – ليس الخريطة المتقنة او  المعيبة ، بل تدريب الاطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها ، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها ، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر ، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق اذا ساعدها احد على ذلك. واردفت ان واجبهم في المدرسة هو تعليم الاطفال فن التفكير.

يقول زميلي ان هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟. هل نستطيع القول انها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟.

بيان ذلك: جرت العادة على القول ان الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.

اذا قبلنا بهذا التوصيف ، فسيأتينا سؤال ضروري:

ماهي المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟.

هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب – بالضرورة – الى التعريف النسبي ، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم الى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني ان جواب اليوم قد يخالف جواب الامس ، مع ان كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على اساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية ، ولاسيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.

تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الابناء. ولهذا يلتزم الابوان بمساعدة اطفالهم في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولان هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم ، فقد اعتاد المعلمون تكليف الاطفال بكم كبير من الواجبات المنزلية ، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو انتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء ، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة ، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية ، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.

الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية ، بتحويلها الى امه ، او تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق ، وليس الاجتهاد في انجازها بنفسه.

اما الذي يحدث في المكان الاخر ، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف ، فهو التركيز على قيام التلميذ بانجاز الواجب حتى لو اخطأ فيه. لأنه - في الاساس - وسيلة لغاية اخرى ، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل ان يصيبوا أول غاياتهم.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فلعلنا نستذكر ان واحدا من التعريفات الهامة للحداثة هو انها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم ، يتحدثون اذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر ، لأننا ننتمي اليه وننطلق منه. اذا فكرنا بعمق في الذي حولنا ، فسوف نصل الى ما وراءه ، اي الى الغيب الذي تخفيه جدران المكان او الزمان او قلة المعرفة.

حسنا ، ما الذي ستفعلون الان ، هل سترسمون الخريطة ، ام تدعون ابناءكم يتأملون في عالمهم؟.

الشرق الاوسط الخميس - 07 جمادي الآخر 1445 هـ - 21 ديسمبر 2023

https://aawsat.com/node/4741381

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟



14/12/2023

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟


قدمت في الاسبوع الماضي لمحة عن رؤية البروفسور غونار ميردال ، المتعلقة باقتصاديات البلدان النامية. والتي يدعو فيها للنظر الى العدالة الاجتماعية كمحفز للاقتصاد ، لا كغاية اخلاقية او ايديولوجية فحسب.

أهمية هذه الرؤية تكمن في عنصرين ، أولهما ان الرأي الغالب بين السياسيين يعتبر برامج العدالة الاجتماعية ، كلفة كبيرة على الخزينة العامة. ويدعو للتخفف منها بقدر ما نستطيع. من هذا المنطلق فان معظم الحكومات التي تتبنى هذا النوع من السياسات المكلفة ، تقيمها على اعتبارات ايديولوجية أو أخلاقية. كما ان بعضها يسعى لتضييق قنوات الانفاق ، وتحميل جانب منها على المواطنين بشكل مباشر ، مثل فرض رسوم على التعليم الجامعي او الادوية او المستشفيات  العالية التخصص .. الخ.

النظام التعليمي الفاشل يفرغ الريف ليزيد البطالة في المدن 

اما العنصر الثاني الذي يبرز أهمية تلك الرؤية ، فهو يكمن في حقيقة انها تصدر عن خبير اقتصادي معروف في الاوساط العلمية شرقا وغربا. من المعروف اجمالا ان خبراء الاقتصاد العاملين في الادارات الحكومية ، يصنفون ضمن طبقة التكنوقراط ، ويلحق بهم – تجاوزا – زملاؤهم اعضاء الاكاديميات. ونعلم ان البروفسور ميردال عمل استاذا في الجامعة ، وباحثا في مراكز ابحاث ، وناشطا حزبيا ونائبا ووزيرا ، اي انه جميع المجد من طرفيه كما يقال. لكنه مع ذلك حافظ على رؤيته القائلة بان سياسات العدالة الاجتماعية ليست مسألة ايديولوجية او اخلاقية ، بل هي في المقام الأول ضرورة لتنشيط الاقتصاد وحفز الطاقات الكامنة والمعطلة فيه ، أي انه لم ينظر الى جانب الكلف المباشرة ، كما فعل نظراؤه التكنوقراط ، بل نظر اليها على ضوء تقديره الخاص لمكانة الانسان في العملية الاقتصادية.

يعاتب ميردال خبراء الاقتصاد لكثرة كلامهم عن تحسين نظم التعليم كي تتحسن الكفاءة الانتاجية للخريجين. كما يلاحظ ان قادة النظام التعليمي ربما انزلقوا أحيانا الى نفس هذا التقدير ، فبات الامر المهم عندهم هو ان يكون الشباب الذين تخرجوا من المدارس والجامعات ، موظفين جيدين ، الامر الذي يساعد على زيادة الانتاج وكفاءة المشروع الاقتصادي بشكل عام.

هذا التفكير يشبه ذلك الوزير الذي سئل يوما عن برنامجه لمعالجة البطالة في الأرياف ، فاقترح على الباحثين عن وظائف ، الانتقال الى المدن الكبرى ، التي تعج بالفرص الوظيفية من مختلف الانواع والمستويات. هذا النوع من التفكير ، سواء تم التعبير عنه صراحة او القيت الحبل على الغارب ، حتى يتوصل اليه الناس بأنفسهم ، هو الذي أدى الى تفريغ الارياف من قوة العمل ، ونشوء المناطق العشوائية حول المدن الكبرى.

كان ميردال قد لاحظ ان العائلات التي ارسلت اطفالها الى المدارس في الريف الهندي ، وضعت في اعتبارها ان المدرسة ستكون طريقهم للخلاص من العمل اليدوي في المزرعة ، والالتحاق بوظيفة مكتبية في المدينة. ومن هنا فان التعليم لم يخدم المجتمعات الريفية ، بل ساعد في تفريغها من قوة العمل وابقاها فقيرة ، أو ربما جعلها أكثر فقرا. اي ان التعليم قد عمل ضد اغراض التنمية الاقتصادية.

نعلم ان هذا المثال تكرر في العديد من المجتمعات ، وكان سببه دائما هو ان تلاميذ المدارس يوجهون كي يكونوا موظفين في دائرة ما او شركة ما ، ولا يدربون كي يصبحوا رواد اعمال ، ينشئون اعمالهم الخاصة ، التي تفتح الباب لتوظيف آخرين وزيادة حجم المال الذي يدور في السوق المحلي.

يعتقد ميردال ان دور التعليم هو خلق القابلية للابداع الفكري والعملي ، والاستعداد للمغامرة الفردية ، وان يكون هدف التلميذ هو صناعة عمله الخاص ، وليس تأجير يديه ووقته.

بديهي ان غالبية خريجي المدارس ستفضل الوظيفة المريحة. لكن الفارق كبير بين ان نحصل على 10 رواد اعمال ومبدعين في كل 100 خريج ، او نحصل على 100 باحث عن وظيفة بين كل 100 خريج.

الشرق الاوسط الخميس - 30 جمادي الأول 1445 هـ - 14 ديسمبر 2023 م

https://aawsat.news/2vmq7

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

  

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...