12/01/1999

في الشوق إلى الرضى



يقترب شهر رمضان المبارك من نهايته ، ويزداد شوق المؤمنين للتقرب من خالقهم ، ويزداد خوفهم من أن ينقضي هذا الشهر دون أن يحظوا بالمغفرة والرضوان ، فتراهم يبالغون في الاستغفار والتوسل إلى الرب الرحيم ، كي ينظر اليهم بعين عطفه فيجعلهم في عباده المرحومين ، أتوسل إلى الله بجميل صفاته وعظيم أسمائه ، أن لا تغرب عنا شمس هذا اليوم أو يطلع صبح الغد ولله في أعناقنا تبعة يعذبنا بها أو يؤاخذنا عليها .

رمضان شهر التقرب إلى الله ، شهر الخضوع والتواضع ، وهو الفرصة التي أتاحها الخالق الرحيم لنا ، كي نستثمرها في تطهير أنفسنا من درن الدنيا وعيوبها ، حتى نستقبل قادم أيامنا بيض الثياب ، بيض النفوس .
ولأنه فرصة استثنائية ، فقد يكون من المناسب أن نتأمل قليلا وراء حجب النفس التي طالما زينت لصاحبها عيوبه ، فأقبل عليها مستسيغا أو كارها ثم اعتاد عليها ، فلم يعد يراها عيبا ، إلا إذا أعاد النظر في أعماق نفسه باحثا ومقلبا ، محاكما افكاره وسلوكياته ، وناقدا أهواءه ورغباته .

من بين ما يستحق  النظر العميق ، موقف الانسان تجاه أخيه الانسان ، ففي الأثر الشريف (كلكم لآدم وآدم من تراب) وفيه أيضا (الناس اثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وأجد تكرارا ان هذا الأمر لا يعامل من جانب الناس بالجدية المطلوبة ، فظلم الغير ، أو التعدي على كرامتهم ، أو إذلالهم والاستعلاء عليهم ، هي ممارسات شائعة بين المسلمين ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالضعفاء من خلق الله وما أكثر الضعفاء .

ونجد أمثلة على هذا في البيوت والاسواق وحتى في الصحافة ، ولعل كل قاريء قد رأى أمثلة على ما يتعرض له الأطفال من ظلم آبائهم أو معلميهم ، وكثير منا رأى أو سمع ما يتعرض له النساء من ظلم رجالهن أو آبائهن ، وكل منا شهد أو مارس الظلم أو الاستعلاء على الأجانب ، ولا سيما أهل الفقر والحاجة منهم ، وهي كلها ممارسات يتجلى فيها الظلم بغير الحق ، مع ان لكل ظالم أو متعد ، مبررا يسوقه أمام تجاوزاته وجرأته على من هم دونه ، مبررات يقدمها لارضاء نفسه التي ربما تلومه ، أو لاقناع الغير بسلامة موقفه .

والحق ان معظم الحالات التي تنطوي على تعد أو تجاوز لحقوق أولئك الضعفاء ، ليس لها مبرر سوى عجز الانسان عن ضبط عواطفه ، وكبح نزعات الاستقواء والاستعلاء التي تموج بها نفسه ، هذا العجز هو عيب في حد ذاته ، لكن الاسوأ من هذا العيب هو تطبيعه ،  أي اعتباره سلوكا اعتياديا لا يثير الاستغراب من جانب الآخرين ، بل وتحويله في بعض الأحيان إلى مظهر للحزم ودليل على قوة الشخصية ، يستحق صاحبه التشجيع والتعظيم عندما يمارسه .

 وكنت ـ في إحدى المناسبات قد عبت على أناس وصفوا صاحبا لهم بأنه ذئب ، في معاملته لمكفوليه ، و(كن ذئبا والا أكلتك الذئاب ) كما تمثلوا ، فجادلني بعضهم لاحقا ، بأني لا أعرف الدنيا ، والحق اني أعرف ان تنازل الانسان عن صفات الانسانية وقبوله الاتصاف بصفات الحيوان (كالذئب مثلا) هو من أعظم الرزايا ، وقد رأيت تكرارا من يمتدح زيدا من الناس بأنه جبار ، مع ان صفة التجبر ليست مما يحمد في الانسان ، وسمعت من يصف عبيدا بأنه أسد ، وأعلم انه لم يكن كذلك في الحرب ، بل في معاملة مرؤوسيه أو عياله .

 ورأيت رجالا يسكبون كرامتهم على أعتاب موظف يتلذذ برؤية أمثاله من عباد الله وهم يتوسلون إليه كي ينجز لهم معاملاتهم ، فكلما ازدادوا إظهارا للخضوع والضعف ، ازداد إذلالا لهم وتوبيخا ، فاذا ادركت أحدهم الكرامة فأبى ان يتوسل ، القيت أوراقه في مكان لا يصل اليه إلا بعد شهور من البحث والركض من دائرة إلى أخرى ، وما أظن سليم النفس يفعل مثل هذا ، فالتكبر على الغير مرض ، والتلذذ بتوسلات الناس مرض ، أعاذنا الله والقارئين من الابتلاء به أو الابتلاء بمن هو فيه .
رمضان فرصة ثمينة للابحار في أعماق النفس ، بحثا عن مثل هذه الأمراض ، وقد فتح الله أبواب العلاج ، وفتح معها أبواب المحبة والرضى ، فمن بادر وصل ، وحري بنا ان نغتنم هذه الفرصة لنقوم عن مائدة الرحمن ، وقد بلغنا المراد بتصفية الروح وتطهير النفس ، لكي يكون عيدنا ، يوم فرح ، ليس بلبس الجديد ، بل بالأمن من وعيد القوي  الشديد .
عكاظ 12 يناير 1999

22/12/1998

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي



الاجتماع الأخير لمجمع الفقه الإسلامي الذي عقد في البحرين ، شهد دعوة شبه عامة ، إلى توسيع نطاق الاجتهاد ومعالجة العقد النظرية ، التي توقف عندها قطار التجديد في الفقه الإسلامي المعاصر .

تطبيق الشريعة الاسلامية هو المبرر الرئيس والأهم لتجديد الفقه ، فلكي تتحول القواعد العامة والنصوص الاجمالية ، إلى أنطمة تفصيلية تستجيب للتحديات والحاجات ، الناتجة عن تغير ظروف الحياة ، فلابد من وجود فقه نشط ومتحرك ، يتفاعل مع عصره ومع المجتمع الذي يريد تطبيقه ، ان مصادر الشريعة محدودة من حيث الحجم ، لكن إذا نظرنا اليها كقواعد ونواظم ، فانها توفر فرصا لا متناهية لاجتهاد نشط ومتواصل مع العصر .

بديهي ان أي علم يتأثر من حيث ضيقه أو سعته ، ومن حيث جموده أو حركته ، بالبيئة الاجتماعية التي يشتغل ضمن إطاراتها ، بكل ما فيها وما يسودها من تيارات فكرية واجتماعية وتطلعات ، ذلك ان حركة العلم ومن ضمنه علم الفقه ، هي وجه من وجوه الحياة الاجتماعية ملتصق بالبيئة وظروفها ، فلا يمكن ان يتطور في معزل عن الزاماتها ، كما لا يمكن ان يتخلف دون حركتها ، ولهذا السبب فان النهوض الذي تبدو تباشيره في افق العالم الاسلامي ، لا بد ان ينعكس ايجابيا على النشاط العلمي ، والفقهي منه خاصة ، في صورة نهوض يتناول تجديد مفاهيمه ووسائل عمله ، وعلاقته بالحياة من حوله .
يشتغل علم الفقه في مربع ذي أربعة زوايا هي :

1-الاصول  أي المصادر الاولية التي يؤخذ منها الحكم الشرعي في موضوع معين .
2-الموضوعات وهي موارد تطبيق الاحكام الشرعية .
3- الاحكام وهي الموقف أو العلاج الشرعي لموضوع معين .
4-الاستنباط وهو عملية البحث الهادفة لاستخراج الحكم الشرعي من المصادر الاولية ، تمهيدا لتطبيقه على المورد المطلوب.

ان دعوة التجديد لا تتناول الاصول لا سيما الكتاب والسنة ، فهي أدلة يحميها اتفاق ، وجزم بقدرتها على توفير حاجات المجتمع المستجدة من الاحكام ، اذا ما وجدت ادوات استنباط ذات كفاءة ، وثمة نقاش في تفصيلات تتعلق بالأدلة العقلية ، لكنه نقاش فرعي ، ومتى تم اصلاح الاستنباط لم يعد لهذا النقاش مكان .

أما الموضوعات فليست محل جدل في موضوع التجديد ، لأنها ليست ضمن دائرة التصرف من جانب أهل الفقه ، فهي توجد نتيجة لتطورات خارج نطاق عمل الفقهاء ، وانما تقوم العلاقة بينها وبين الفقه ، بعد ان توجد وتصبح موضع حاجة للناس .
وعليه فان التجديد المقصود يتركز بالدرجة الاساسية في الاستنباط ، اي عملية البحث عن الادلة ، وفي التكييف الفقهي للموضوعات ، أي تحديد النطاق الذي يندرج الموضوع المعين ضمن دائرته .

ويقوم الاستنباط الصحيح على أربعة أركان :
الاول : المعرفة الدقيقة للموضوع المطروح ، ثم تكييفه ضمن دائرة محددة .
الثاني : المعرفة التفصيلية لمصادر الشريعة .
الثالث : استيعاب مقاصد الشريعة ،  أي روح التشريع .
الرابع : اتقان استعمال الأدوات المنهجية للاستنباط .

وإذا توفرت هذه الاركان الاربعة في طالب العلم ، فقد استكمل عدته العلمية للاجتهاد ، ويبقى عليه حينئذ ان يستكمل ما هو مطلوب من المتقين ، من الفضائل النفسية والروحية ، ان كمال تلك الاركان الاربعة أو نقصها ، يرجع إلى عوامل عديدة ، من بينها نظام التدريس للعلوم المتصلة بالفقه واعداد الفقهاء ، كما يتصل باعادة التقييم التي ندعو اليها للعلوم الحديثة ، باعتبارها ذات مدخلية كبرى في تحديد موضوعات الفقه ، كما يؤثر حاصل خبرتها على نتائج الاستنباط ، فيما لو اخذت بعين الاعتبار .

ويعتبر طالب العلم مجتهدا  أي مالكا لناصية الاستنباط ، اذا ما اثبت من خلال التجربة ان اجتهاداته صحيحة في مسائل ، يراها استاذه أو من يتابع اعماله من الفقهاء ذوي الخبرة ، كافية للتدليل على تمتعه بملكة الاستنباط ، وفيما بعد فان الفقيه يواصل عملية الاجتهاد حتى يكون له رأي في كل مسألة .

لكن بعد هذه المرحلة ، لا توجد حدود لنطاق عمل الفقيه ، فهو ـ في أغلب الحالات ـ لا يركز على مجال معين ، حتى يصبح صاحب اختصاص فيه ، كما لا يقبل ـ حسب العرف الجاري ـ رأي أصحاب الاختصاص في الموضوعات التي هي مجال اختصاصهم ، ماداموا لا ينتمون إلى سلك طلبة العلم الشرعي ، بل ان التقليد السائد في مدارس العلم الشرعي ، يذهب إلى اعتبار المجتهد في الفقه ، قادرا على استنباط الاحكام في كل موضوع ، في أي جانب من جوانب الحياة ، دون تقدير لحدود الاختصاص العلمي في مجالات الحياة المتنوعة .

ومع الاخذ بعين الاعتبار ان الفقه الاسلامي يعالج مختلف جوانب الحياة ، وان العلم التفصيلي بكل جانب ، يتطلب جهدا علميا كبيرا ، قد لا يتسع له العمر الطبيعي للانسان ، فقد نحتاج إلى الاقرار بالحاجة إلى التخصص ، أي ان يتخصص كل فقيه في جانب من جوانب الحياة ، فيتقن العلوم المتصلة بموضوعاته ، حتى يتأهل للفتوى فيها على وجه الخصوص ، ويترك غيرها من الموضوعات لغيره ممن هو مختص بها .
عكاظ 22-12-1998
مقالات ذات علاقة


15/12/1998

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



جاري في هذه الصفحة الأستاذ عبد الله القفاري ، صياد أفكار لا يشق له غبار ، وقد تحدث الثلاثاء المنصرم عن الحاجة إلى طريق ثالث ، بديل عن الاشتراكية التي فقدت صلاحيتها ، والليبرالية التي تتكشف عيوبها ، ولا يبعد ان تواجه مصير أختها في وقت قريب ، وهو طرح اقترحه في صورة سؤال يفيد تقرير الجواب ، على طريقة المتنبي في قوله :
 وكثير من السؤال اشتياق     وكثير من رده تعليل

عبد الحميد الابراهيمي
فكرة الطريق الثالث التي تحدث عنها بعض المفكرين في الغرب ، هي اصلاح لليبرالية بادماج بعض فضائل الاشتراكية ضمن نسيجها ، وهو يقتضي تعديل بعض ما قامت عليه من أسس ، ولا سيما في موضوع العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والعلاقة بين المجتمع والدولة ، وإعادة النظر في دور الدولة وتعريفها الوظيفي ، وهي فكرة خلفيتها اعتبار الليبرالية نهاية حقيقية للتاريخ ، وتقرير لها كأيديولوجيا نهائية للبشرية ، حتى لو اعترض البعض على اعتبارها أيديولوجيا .
لكن الاستاذ القفاري يدعونا إلى طريق ثالث نبدعه أو نشارك في إبداعه ، بغض النظر عما يسعى اليه توني بلير ، الذي يريد ارتداء عباءة المنظرين ، بعد ان  شارك بكفاءة في إبعاد حزبه عن النظرية ، وتحويله إلى حزب سياسي صرف .

والمفهوم من سياق الكلام ، ان القفاري سيتوصل إلى ان الاسلام هو الطريق الثالث المقترح ، وهي فكرة سبقه  اليه كثير من الكتاب في العالم الإسلامي ، بعضهم بطروحات مجردة هي أقرب إلى الدعوة ، منها إلى اثبات المدعى ، وقليل منهم كلف نفسه عناء عرض الأدلة التي تناسب القضية ، ومن المساهمات الحديثة التي لفتت نظري ، دراسة رئيس الوزراء الجزائري السابق ، د. عبد الحميد براهيمي (العدالة الاجتماعيةوالتنمية في الاقتصاد الإسلامي) الصادرة في سبتمبر 1977 عن مركز دراسات الوحدة العربية ، التي حاول فيها تحديد أطراف الموضوع ، الذي سيكون مجالا للبحث في أي دراسة لاحقة حول فرص اشتغال نظرية العدالة الاجتماعية ، وقد أصاب في هذا الاختيار ، لأن العيب الاساسي في أكثر الدراسات والدعوات التي عالجت القضية ، هو عدم تحديد الموضوع ، ومعالجة قضايا في غاية السعة والتشعب ، هي عند التحديد العلمي موضوعات كثيرة ، لا يمكن ان تدرج في بحث واحد ، أو ان يقترح لها ضابط أو نظام واحد للبحث .

عدا عن هذا الاستطراد ، فقد لفت نظري في مقال الاستاذ القفاري مسمى (الطريق الثالث) وكنت اتساءل في نفسي كلما قرأت مساهمة حول الموضوع : هل ينبغي حقا التفكير في طريق ثالث ؟ .

المسلمون الذين سبق لهم الدعوة إلى طريق ثالث ـ معظمهم على الأقل ـ افترضوه شيئا جديدا ، مستقلا ومختلفا عن الطروحات السائدة ، الليبرالية والاشتراكية وما هو تجميع من هذي وتلك ، وهذا الاقتراح يثير إشكالين كبيرين :
الأول : هل لدينا مشروع اسلامي جاهز ليحل مكان أحد الطريقين؟.
الثاني : على افتراض ان الاسلام هو الطريق الثالث ، فما هو حجم الفجوة التي تفصله عن كل من الطريقين السابقين ، وهي فجوة تتضح خصوصا في حال الانتقال ، وليس بعيدا عنا ما حدث في روسيا منذ أن بدات الانتقال من الاشتراكية إلى الليبرالية ، في بداية التسعينات ، وهي فجوة تحولت إلى هوة قاتلة ، ما تزال تحصد الضحايا حتى هذا اليوم .

والمراد من السؤال الأول ، تقرير ان ثمة فرق بين مشروع العمل الذي يقوم على فلسفة الاسلام وفي إطاره ، وبين صورة الاسلام المتداولة عند عامة المسلمين وكثير من الدعاة ، وهي صورة تميل بشدة نحو التبسيط ، ان صورة الاسلام التطبيقي في أذهاننا ، هي تركيب غير تاريخي لبعض مشاهد التاريخ ، وعامل التركيب الذي جمع بين هذه المشاهد ، هو الشوق إلى تصور المثال ، وليس المعرفة أو الدليل ، ولا يخفى اننا بحاجة إلى فقه جديد ، متصل مع العصر وتحدياته ، لا سيما في المجالات التي أهملها الفقه التقليدي .

أما المراد من السؤال الثاني ، فهو تقرير الحاجة إلى طرح المشروع الإسلامي المعاصر ، باعتباره متصلا ومتواصلا مع تجربة الانسان المعاصر ، وليس إقحاما للتاريخ في الحاضر ، ونحتاج هنا إلى إعادة فهم المشروع الإسلامي ، باعتباره حلقة أعلى في مسيرة البشرية ، وليس قفزة خارج هذا المسار ، ويؤول تقرير هذا الفهم إلى احترام ما توصل اليه الانسان من معرفة لذاته وللطبيعة ، وتقرير لمكانته بين مجمل المخلوقات ، وفي مقابل أخيه الانسان ، واعتبار محصلة هذه المعرفة ، أساسا يسهم في حمل المشروع ، ضمن هذا الفهم فقد لا نكون بحاجة إلى طريق ثالث ، بل إلى استكمال ما ينقص منظومة افتراضية ، نتفق على اعتبارها نقطة الاتصال بين ما هو سائد وما هو مطلوب.

مقالات ذات علاقة

عكاظ 15-12-1998

06/12/1998

قاعدة شيلني واشيلك

نعرف جميعا اننا نرث عن أسلافنا ، صفاتنا الجسمية ، لون بشرتنا وشكل وجوهنا وبقية الصفات البيولوجية ، حتى الامراض. لكن فكرة الوراثة كانت - حتى اواخر القرن الثامن عشر - أوسع من هذا بكثير. فقد اعتادت النخبة المتعلمة على تقبل الفكرة القائلة بان الانسان يرث عن أبويه حتى الصفات السلوكية والذهنية ، بما فيها قابلية الاستقامة والانحراف عن الطريق السوي. بل أن بعض العلماء بذل جهدا كبيرا لاثبات امكانية تمييز الشخص المستقيم أو المنحرف ، من تفاصيل وجهه وشكل جمجمته ، وان هذه الصفات تنتقل الى الأبناء من الآباء ، وبقيت فكرة تأثير الأصل سائدة في الابحاث المتعلقة بالمجتمع والانسان ، حتى منتصف القرن العشرين.

البروفسور كارل يونغ

في العام 1939 سئل كارل يونغ ، عالم النفس السويسري ، عن رأيه في ردة فعل الشبية الالمانية على صعود هتلر السياسي ، فقال ان هتلر هو ( مكبر الصوت الذي يجسم الهمسات الخفية للروح الالمانية). 

ومما يذكر هنا ان بعض المتعلمين ، وبينهم دعاة ورجال علم بارزون ، قد ابتلع الطعم ، فبالغوا في التدليل على هذا المنحى ، بالروايات التي تدعو الانسان إلى تحري الأصول الطيبة عند الزواج والجيرة ، أو تلك التي تمتدح أقواما بعينهم ، فصرفوها إلى ذلك المفهوم ، رغم ان الدعوة الاسلامية قد قامت على اعتبار الانسانية جامعا مشتركا ، يفرض التسوية بين كل انسان والآخر بما هو انسان ، وأحالت التفاضل على الفضائل الأخلاقية والعقلية ، التي يجتهد الفرد في اكتسابها والتحلي بها ، فتتحدد قيمته تبعا لها.

أما في العصور الاسلامية المتقدمة ، فقد اهتم عدد من العلماء بالعلاقة بين البيئة الطبيعية والنشاط الذهني ، وكان القاضي صاعد الاندلسي (1029-1070) من أوائل الذين طرحوا هذه الفكرة ، حين قرر ان الامم المؤهلة لاكتساب العلم ، هي التي تعيش في المناطق المعتدلة الهواء ، بينما انسان المناطق  الحارة  انفعالي غير متزن ، وانسان المناطق الباردة خامل ، وذهب إلى هذا المذهب - مع تبني استنتاج معاكس- المفكر الفرنسي  مونتسيكيو ( 1689-1755) الذي قرر ان السخونة تأتي بالاستبداد ، بينما البرودة تجعل العقل مسيطرا على الحواس .

 لكن هذا النوع من التصنيف لم يجد رواجا في المجتمع العربي ، لتزاحمه مع مفهوم آخر يقوم على نسبة الأفراد إلى بيئاتهم الاجتماعية ، أي النظر إلى الفرد من خلال انتمائه الاجتماعي ، وليس من خلال صفاته البيولوجية ، أو صورة أسلافه ، أو بيئته الطبيعية ، فضلا عن تزاحمه مع الصورة الدينية للفرد ، التي سبق الاشارة اليها ، ونعلم ان الدين الاسلامي هو المكون الرئيس لثقافة العرب ، منذ البعثة النبوية .

مع مرور الزمن وتطور علم الانسان ، أهملت نظريات الوراثة والتأثر بالبيئة الطبيعية ، لصالح تعظيم قيمة الفرد ، فيما يمكن اعتباره اكتشافا متأخرا للمفهوم الاسلامي ، الذي بدأ بالنظر إلى الفرد الواحد كمخاطب للشريعة ، ومسؤول عما كسب في دنياه ، حيث يتساوى في هذا الاعتبار والقيمة مع كل فرد آخر ، بغض النظر عن أصله ونسبه وبيئته .

لقد احتاج الانسان في الغرب إلى قرون طويلة من الكفاح ، حتى يسترد اعتباره الذاتي ، فيتحول من محمول على غيره إلى حامل لذاته ، قادر على تقرير قيمته الخاصة ، بناء على اجتهاده وانجازه ، مما حمل العالم البريطاني ادوار كار ، على القول بان (تاريخ البشرية هو بوجه من الوجوه ، تاربخ صراع الفرد من أجل استعادة قيمته) .

لكن على خلاف هذا فان المجتمع العربي ، وكثيرا من المجتمعات النامية الأخرى ، ما تزال تقاوم فكرة استقلال الفرد بقيمته ، الفرد في عالمنا ما يزال مجهولا كذات مستقلة قائمة بمفردها ودون نسبة إلى الغير ، الفرد في العالم النامي معروف بقبيلته أو طائفته أو بلده ،  أي بانتمائه الاجتماعي ، ولهذا فانك تواجه كثيرا من الحالات ، التي يعرف فيها زيد باعتباره من أهل البلد الفلاني أو القبيلة أو الطائفة الفلانية ، ويتقرر مكانه أو الموقف منه بناء على هذا الاعتبار .

وفي سنوات ماضية كتب دارسون عرب ، ان التحضر والنشاط الاقتصادي وانتشار التعليم ، سوف يقضي على هذا النوع من التصنيف ، الذي ينطوي على (احتقار غير مقصود) للانسان الفرد ، لكن ظهر لاحقا ان هذا التوقع كان متفائلا جدا ، رغم انه لا يخلو من صحة ، فلنقل على سبيل التحفظ ، ان عددا من الأفراد استطاعوا ان يفرضوا اعتبارهم الخاص ، وان يجعلوه مقدما على نسبهم أو انتمائهم ، وثمة عدد ملحوظ من الشخصيات البارزة اليوم في مجتمعنا ، ترجع إلى اصل متواضع ، لكن على الوجه الثاني ، فان الأفراد الذين لم يستطيعوا ابراز قدرات استثنائية ، ما زالوا يواجهون ذات المشكلة ، ومنهم من يعوّل كثيرا على استثمار انتمائه الاجتماعي للحصول على ما يريد ، بل وفي بعض الأحيان للاسـتـئـثار بالفوائد على حساب الغير ، فالانتماء يلعب هنا دور المرجح ، مقابل الكفاءة والصفات الفاضلة الأخرى .

وتجد أحيانا ان معظم الموظفين في إدارة من الادارات ، ينتهي اسمهم بلقب واحد ، يعكس الانتماء إلى قبيلة محددة أو منطقة محددة ، وليس ثمة تفسير لهذا الوضع ، سوى ان الانتماء الاجتماعي لعب الدور الرئيس ، بل ربما الوحيد في فوز هؤلاء بالوظيفة ، ضمن قانون (شيلني واشيلك) وهو قانون غير مكتوب ، لكنه قوي جدا وفعال على المستوى العملي . وهذا من أسباب التشاؤم الذي عبر عنه د. خلدون النقيب ، الذي توصل إلى ان انتشار التعليم في الأقطار العربية ، لم يؤد إلى تجسير الفجوة بين الكيانات الاجتماعية ، بل ربما ساعد على ابرازها وتسليط الضوء على خواصها ، التي هي نقاط افتراق لكل منها عن الغير .

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

بقية من ظلال الماضين

عودة لمبدأ المساواة

فكرة المساواة: برنارد وليامز

المساواة بين الخلق ... المساواة في ماذا ؟ : رؤية امارتيا سن

المساواة والعدالة : ديفيد ميلر

المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته ايزايا برلين

 


في 6-12-1998

30/11/1998

اشكالية التعدد في اطار الوحدة



عندما تنظر إلى مجتمع عربي من الخارج ، فسوف تراه شريحة واحدة ، يشبه كل فرد فيه الآخر ، في ملامحه وفي كلامه وتفكيره ، وفي نمط حياته ، وهذا من طبيعة العقل الابتدائي ، الذي يميل إلى التعميم ويتفادى التفاصيل ، إذ التفصيل يحتاج إلى تأمل وبذل شيء من الجهد الذهني .

وبالنسبة لكل عربي فان هذا التقدير الأولي ، مرغوب ومطلوب ، كصورة نهائية للمجتمع الذي يود أن يراه ، فهو يعكس ـ ولو على مستوى الاستعارة والمجاز ـ فكرة الوحدة التي تعتبر ثابتا من ثوابت التفكير العربي والاسلامي ، وأملا عزيزا على قلب كل عربي ومسلم .
ربما كان الاستعمار ابغض شيء عند المسلمين المعاصرين ، فهم يرونه تجسيدا مقاربا لمفهوم الشيطان ، الذي يؤكد النص الديني على عداوته المطلقة للانسان وخالق الانسان ، ويحتفظ كل مسلم في ذاكرته بفكرة تعد من الثوابت والبديهيات ، خلاصتها أن الاستعمار سعى بكل دأب إلى تفريق الأمة الاسلامية وتقسيمها ، فكأن الاستعمار هو الشيطان الذي يقول عنه القرآن (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) ولهذا فان كل مبادرة أو مسعى ، يشم منه رائحة الاختلاف عن التيار السائد ، فانه ينسب إلى خطة استعمارية .

 لقد تحول العداء للاستعمار ، إلى موضوع إجماع بين المسلمين ، فكل من تصدى لهذا الأمر أو دعا إليه ـ ولو على مستوى الخطابة ـ حصل على تقدير العامة وتأييدهم ، ذلك لان مقاومة الاستعمار هي الوجه الثاني للكفاح من اجل الوحدة .
والوحدة ، فوق أنها مطلب إنساني فطري ، فهي إحدى الأولويات الدينية الكبرى ، التي دعا إليها القرآن بصورة مباشرة وغير مباشرة .

ومع كل التأكيد على ضرورة الوحدة ووجوب الحفاظ عليها ، فان المجتمع المسلم لم يكن في يوم من الأيام ، موحدا بالمفهوم الذي يتخيله معظم الناس ، فقد كان هناك على الدوام آراء متباينة وتفسيرات مختلفة واجتهادات متعددة ، على المستوى الفكري والعقيدي ، وعلى المستوى الاجتماعي حافظت القبائل والطوائف والأعراق ، على قدر من الخصوصية والتميز عن غيرها ، وعلى المستوى السياسي كان الوصول إلى السلطة وممارستها ، موضوعا ثابتا للخلاف بين مراكز القوى ومجموعات الضغط المختلفة ، وعلى المستوى المعيشي كان هناك فقراء وأغنياء ومتوسطون .

في ظل هذه التباينات التي هي من سنن الحياة ، بقي المسلمون أمة واحدة ، ذلك أن الوحدة في حقيقتها هي اجتماع المختلفين على قواسم مشتركة ، وكانت شهادة أن لا اله إلا الله ، والشعور بالمصير المشترك ، والمصلحة الظاهرة في الوحدة ، هي هذه القواسم .

العجز عن تصور معنى التعدد في إطار الوحدة  ، هو واحد من ثمار انقطاعنا الثقافي عن تجربة اسلافنا في العصور الاسلامية السابقة . وبسبب هذا العجز فاننا نتطلع اليوم إلى وحدة قوامها انصهار المجموع في بوتقة واحدة ، اجتماعية وثقافية واقتصادية ، انصهارا يذيب الفروقات الفردية ، ويلغي ذاتية كل فرد واستقلاله .

 نجد هذا الشعور الخفي ـ لكن المسيطر على سلوكنا ـ في الضيق بالآراء المختلفة حتى لو لم تكن متناقضة أو متعارضة ، ونجدها في التوجس من تعبير الطوائف الاجتماعية أو الجماعات السياسية ، عن ذاتها وأفكارها بصورة صريحة أو من خلال رموزها الخاصة ، حتى ضمن السياق الايجابي الذي يتحاشى نقد الغير ، ونجدها في القلق الشديد من كل تشكل اجتماعي ـ سياسي أو فكري ـ متميز عن التيار العام .

وبصورة عامة فان مفهوم الوحدة الذي نحمله ويتبادر إلى أذهاننا ، يختلف عن مفهوم الوحدة الحقيقية ، كما لا يطابق حقيقة الوحدة التي كانت سائدة في عصور الاسلام السابقة . يصعب علينا اليوم فهم إمكانية ان يكون هناك تعبيرات عن الدين مختلفة ، وهي في نفس الوقت صحيحة ، أو ـ على اقل التقادير ـ مبرئة للذمة ، ويصعب علينا تصور ان الطريق إلى الله ليس محددا في مذهب معين ، أو اجتهاد مخصوص ، كما يصعب علينا أن نتعايش ، إذا كنا على خلاف في بعض المعتقدات أو الفروع الفقهية .

 ويضيف القلق الدفين من مؤامرات الاستعمار على الوحدة الاسلامية ، زيتا على نار الرغبة المحمومة في التماثل ، فكلما رأينا مختلفا يعبر عن رأيه ، أو يعلن عن نفسه ، استذكرنا سياسة (فرق تسد) التي سار عليها الاستعمار ، فنسبنا ظهور هذا الاختلاف إلى مؤامرة استعمارية جديدة ، أو رميناه بالتعاون مع الاستعمار أو ـ مع إحسان الظن ـ خدمة أغراض الاستعمار دون وعي .

05/11/1998

في الحوار النقدي مع التراث



أظهر الاستاذ عبد الله الحصين جلدا بينا وحصافة محمودة ، في مناقشة الملاحظات التي كتبتها ضمن مقال الخميس الأسبق ، تعقيبا على مقاله (لماذا الهجوم على الثوابت) المنشور في 27 جمادى الثاني المنصرم ، وقد طوق عنقي بالاحسان إذ مدحني وأنا غير مستحق للمدح ، فيحسن بي انتهاز الفرصة للاشادة بسعة صدره وخلقه الرفيع ، واحتماله مجادلة من هو في مقام ابنه أو تلميذه علما وشأنا .
أثار الاستاذ الحصين في مقاله الأول ورده التالي مسائل هامة ، تتعلق بمنهج النقد ونظرتنا إلى تراثنا الفكري وموقفنا من المساهمات الفكرية المعاصرة ، لا سيما هذه التي تحاول وضع تشكيل للثقافة الاسلامية ، جديد وقادر على الاستجابة لتحديات العصر ، هذه الاثارات هي الأولى بالنقاش ، أما الشواهد التي تفضل الاستاذ بايرادها فهي مقبولة على أي حال ، حتى لو اختلفنا في صحة الاستشهاد ببعضها ، أو التعويل عليها في اتخاذ موقف محدد من الاساتذة الذين خصص المقال لنقد آرائهم . فليسمح لي بالتعرض لبعضها على وجه الايجاز :

أولى المسائل هي التدرج الزمني للعلم ، يتساءل الاستاذ الحصين عما إذا كان شخص معين من كتاب هذا العصر قادرا على كشف ما لم يكتشفه الصحابة والسلف الصالح من العلماء الأجلاء ، ومفهوم هذا السؤال ، ان السلف لم يتركوا شيئا من العلم إلا وطرقوه وخلصوا إلى ما فيه ، فلم يتركوا لمن بعدهم ما يستحق النظر أو ما يعول عليه ، وبالتالي فان المواقف التي عبر عنها السالفون هي المواقف التي يجب على الخلف تبنيها والأخذ بها ، وليس لهم نقضها أو نقدها أو البحث عن احتمالات في غيرها ، وهذا رأي قال به كثير من أهل العلم في هذا العصر وفي الماضي ، وتدعمه نظرية السير  التراجعي للتاريخ التي يتبناها بعض أهل العلم ، وخلاصتها ان الزمان والخيرية يسيران في اتجاهين متعاكسين ، فكل زمن يأتي يكون أقل خيرا مما سبقه وهكذا .

 وكلا الرأيين مخالف للمنطق ، وما يهمنا هو الرأي الأول ، فالعلم قد يتوقف في أمة من الأمم زمنا ، وقد يبطيء الحركة ، وقد يذهب موضوع معين أو اتجاه علمي معين إلى هامش الاهتمام ، لكن لا يمكن الحكم على المحصلة العامة للعلم ، في أزمان متوالية ، بأنه تخلف أو توقف ، ولا يخرج العلم بالدين والشريعة عن هذا التعميم .

ومهما افتقرنا إلى جرأة الادعاء بوجود علماء في هذا العصر ، أو في سابقه ، ممن يجاوز ـ عمقا في الدين وفهما للشريعة ـ بعض السلف ، إلا انه لا مناص من الاصرار على أن ما يتوفر في هذا العصر ، من علوم ومناهج وأدوات بحث ، تزيد كثيرا عما توفر في الأزمان الماضية ، وتهيء  الفرصة للتوصل إلى آراء تجاوز ما وصل اليه السلف . ان فضل  السلف لا يرجع إلى كثرة علمهم وعمق نظرهم ، بل إلى سبقهم واحتمالهم وكفاحهم في سبيل تثبيت أركان الشريعة المقدسة ، وواضح ان هذه مسألة أخرى لا علاقة لها بالعلم على  وجه الضرورة .

وأظن أن جلال قدر السابقين قد أخذ بتلابيب أفهامنا ، فانتزع منا الجرأة التي يحتاجها صاحب العلم ، لكي يبحث أمرا سبقه اليه من يعلوه شأنا ، ونتيجة لهذا الخوف من المخالفة ، فقد اصبح انتاجنا العلمي مجرد جمع مكرور لما قاله السابقون ، وأصبحنا نعجب إذا سمعنا قولا يخالف ما ينقل من آراء السابقين .

الثانية : ان الدين في معناه الأخص والدقيق هو ما في القرآن والسنة المطهرة (ما ان تمسكتم به لن تضلوا) أما آراء الصحابة والتابعين والعلماء الأجلاء ، فهي شروح وتفسيرات وتنزيل للنصوص على الموارد الموضوعية الخاصة ، وليس لنا ولا لغيرنا ، الحق في وضع أحد من هؤلاء الأجلاء في مقام الرسول صلوات الله عليه ، فنأخذ كلامه كما نأخذ كلام الرسول . ان الله سائلنا في غد عما بين دفتي كتابه ، وما وصلنا من أقوال نبيه عليه الصلاة والسلام .

 لكن آراء الصحابة والعلماء قد تعامل معاملة الدين في معناه الأعم ، إذا اطمأن المكلف إلى كون الشرح أو التفسير أو الاجتهاد أو الارشاد ، مطابقا لمقاصد النص القرآني أو النبوي . والمكلف نوعان المجتهد والعامي ، فالمجتهد يأخذ برأي من سبقه إذا وافق على مبانيه وأدلته ، والعامي يأخذ بهذا الرأي إذا اطمأنت نفسه إلى قول محدد لعالم ، أو جملة ما قاله عالم معين ، فهو لعجزه عن البحث عن الادلة ، محتاج إلى ابراء ذمته بأخذ الرأي ممن يمكن الاحتجاج برأيه يوم السؤال ، ولا شك ان اجلاء الصحابة والتابعين والعلماء ، كثير منهم ، من هذا النوع ، فالاخذ بأقوالهم وتفسيراتهم على الوجه الأول أو الثاني ، لا غبار عليه .

لكن إذا استثنينا الحاجة الشخصية المحددة زمنا وموضوعا ، فان هذه الآراء تبقى في مكانها الطبيعي كآراء علمية ، ولا ترقى إلى مستوى النص المعصوم ، الملزم لكافة الناس في كل الأزمان والأمكنة ، وقد وضع الأصوليون لها تعريفا خاصا ، فأدرجوها تحت عنوان (الاحكام الظاهرية)  لتمييزها عن (الأحكام الواقعية) التي هي المراد الواقعي للخالق سبحانه ، بكلمة أخرى فان تلك  الاراء هي فهم اصحابها للدين ، وليست دينا بالمعنى الخاص . والفهم البشري ـ كما نعلم بالضرورة ـ قاصر عن بلوغ المراد الرباني ، فهو يصيب مرة ويخطيء أخرى ، وفي الأزمان السابقة اختلف العلماء في تحديد القيمة الشرعية لرأي المجتهد ، فقال الأكثر بالتخطئة ، وقال بعضهم ـ كالامام الغزالي في المستصفى ـ بالتصويب ، بل اعتبر قول المجتهد خلقا لخطاب التكليف ، لكن لم يذهب إلى هذا الرأي غير القليل .

والخلاصة ان أقوال العلماء السابقين ، في كل أزمانهم ، لها قيمة رفيعة ومرجعية ، لكنها قيمة علمية ومرجعية علمية ، فمخالفتها لا ترقى إلى مرتبة الخلاف في الدين ، ومن خالفها لا يعتبر خارجا عن الدين .

الثالثة : لكل من العلم والايمان مكانه الخاص ، الايمان مستقره القلب ، والعلم محله العقل ، طبيعة الايمان التمكن من النفس والتداخل مع نسيج العاطفة ، حتى يتحول المؤمن وما يؤمن به إلى شيء واحد ، والعاطفة قد تتحول في فروعها ويبقى الأساس ثابتا مكينا ، يحوم الانسان محاولا الابتعاد عنه ثم يعود ، وقديما قالت العرب (كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل).

أما العلم فهو دائم التحول ، لا يستقر على حال ، وهذه طبيعة العقل وما يحل فيه ، وتجد الانسان منذ نعومة أظفاره إلى أن يبلغ من الكبر عتيا ، مستقر الايمان بما عرفه أولا ، بغض النظر عن مصادر هذه المعرفة ، لكن لا تجد أحدا توقف عند حد معين في العلم ، فهو يتعرف كل يوم على جديد يحل في مكان ما حصل عليه بالأمس .

أردت من هذا ، الاشارة الى ان ايمان الناس لا يتزعزع لمجرد قراءتهم كتابا لمؤلف ، أو تعرفهم على رأي لعالم ، ما حصل في العالم الإسلامي من انسلاخ بعض أبنائه عن الالتزام بالدين القويم ، لم يكن نتيجة كتب قرأوها ، بل لأنهم لم يقرأوا ، ولو بكرنا قليلا في طرح مختلف الاراء تحت مظلة الاقرار بمرجعية القرآن وقطعيته ونهائيته ، لربما ساهمنا في الحفاظ على كثير ممن تباعد أو اتخذ طريقا آخر ، هؤلاء الذين ذهبوا بعيدا لم يجدوا سعة فيما هو متعارف ، فبحثوا عن غيره ، ولو تركنا فسحة لربما بقوا ضمن الاطار . وأخشى ان تؤدي المبالغة في التحوط والقلق إلى مزيد من التضييق . خاصة وأن ما نريده من الناس هو الاتفاق على الأصول ، أما الفروع ففيها سعة ، ولا يلام على الخلف فيها مخالف .
5 نوفمبر 1998



مقالات  ذات علاقة
-------------------


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...