في
الجدل حول الملف النووي الايراني تركز اهتمام الاعلاميين على المفاوضات الطويلة
بين ايران والوكالة الدولية للطاقة النووية
والترويكا الاوربية . هذا المقال لا يتناول تلك المفاوضات على وجه الخصوص ،
بل يسعى لاستخلاص العبر القابلة للتعميم الى حالات سياسية اخرى.
واشير هنا الى
ثلاث ملاحظات على وجه الخصوص: انقل الاولى عن الاستاذ عبد الرحمن الراشد الذي اشار
الى ثلاثة نماذج من السلوك السياسي في هذا النوع من القضايا: نموذج العراق/صدام
حسين الذي رفض التفاوض حول برنامج اسلحة الدمار الشامل فانتهى الى تدمير نظامه
السياسي كليا ، والنموذج الليبي الذي استسلم دون مفاوضات فخسر ما بناه ولم يربح
شيئا ، والنموذج الايراني الذي تمسك بالمفاوضات كسبيل وحيد لحل الخلاف بين ايران
والدول الغربية.
اما الملاحظة الثانية
فانقلها عن الاكاديمي الايراني صادق زيبا كلام الذي قارن بين المفاوضات الحالية
حول الملف النووي ومفاوضات ايران مع الولايات المتحدة حول ملف الرهائن ، التي
انتهت الى اتفاقية الجزائر عام 1982 . ويشير زيبا كلام الى مفارقة جديرة بالاهتمام
، فهو يقول ان المفاوضات الاولى جرت في سرية كاملة ولم يعرف الايرانيون مجرياتها
حتى اليوم ، بخلاف المفاوضات حول الملف النووي التي ترافقت مع نقاش واسع في
الصحافة الايرانية ، وكانت محاور الخلاف
ومطالبات الجانبين ، الايراني والدولي ، وهامش المناورة المتاح لكل منهما معروفة
تماما.
ويرى زيبا كلام ان ايران قد خسرت في مفاوضات الجزائر ، بينما ربحت في
المفاوضات النووية ، وهو يرجع السبب الى جو الانفتاح النسبي السائد في البلاد.
يقول زيبا كلام ان المفاوضين الاوربيين كانوا واعين لحقيقة ان الحكومة الايرانية
لن تستطيع تمرير اي اتفاق تحت الضغط ، لان الشعب ببساطة كان عارفا بما يجري وان اي
اتفاق لن يصمد اذا واجه رفضا شعبيا واسعا . هذه النقطة التي خدمت الايرانيين هذه
المرة لم تكن موجودة في 1982 ، لان المفاوض الامريكي كان سيقول لنظيره الايراني
ببساطة: "حسنا ، لا تعلنوا عن تفاصيل الاتفاق ولن يغضب احد" .
بكلمة
اخرى : ان طرح القضايا العامة ، بما فيها تلك الشديدة الحساسية للنقاش العلني
العام يعزز موقف البلاد في مفاوضاتها مع الاجانب ، لان المفاوض الاجنبي سيعرف
حينئذ ان نظيره لا يستطيع الموافقة على اي عرض . من ناحية اخرى ، فان طرح القضية للنقاش
العام سيحمي الحكومة ومفاوضيها من تهمة التفريط في الحقوق الوطنية او الرضوخ لضغط
الاجانب ، ان اطلاع الشعب على اطراف القضية منذ البداية سيسلط الضوء على الابعاد
المتعددة لها ، مما يجعل التفكير الشعبي فيها اكثر عقلانية .
الملاحظة
الثالثة : طبقا لهذا الاتفاق فقد قبلت ايران رسميا وعلنيا بالتخلي عن اي جهد يمكن
ان يؤدي الى تسخير برنامجها النووي للاستخدامات العسكرية . وكانت في العادة تنكر
هذا الجانب ، لكن الانطباع العام في الشارع الايراني وفي العالم ايضا ، ان الطريق
الذي يتخذه المشروع النووي سيؤدي في نهاية المطاف الى تمكين ايران من استخدامه في
المجال العسكري. وجاء هذا التراجع الايراني على عكس ما اشتهاه التيار المحافظ ،
ولا سيما العسكريون الحاليون او السابقون ، مثل محسن رضائي القائد السابق لحرس
الثورة والمرشح الحالي للانتخابات الرئاسية القادمة ، الذي وصف الاتفاق بالخديعة .
في النهاية فقد اقر الايرانيون بانه ثمة فارق بين ما يريد الانسان وما يستطيع
الحصول عليه . وهذا هو الفارق بين الاعلانات الايديولوجية وبين الممارسة السياسية
. حينما يعتلي السياسي منبر الخطابه وحين يصدر التصريحات ، فانه يستطيع قول ما
يشاء لان احدا لن يعارضه ، لكن حين يفاوض ، ففي جعبة الطرف المقابل رد على كل كلمة
وموقف احتياطي تجاه كل موقف ، وهكذا تجري
السياسة في جانبها الواقعي. هذه القضية بشكل عام تكشف عن حقيقة تلاشي الحدود بين
السياسة الداخلية والخارجية ، اي عن انحدار مبدا السيادة في ميدان التطبيق ، وتحول
العامل الخارجي الى جزء من معادلات الداخل والعكس.
اوائل
ديسمبر 2004