زميل عزيز كتب لي عاتبا على الحاحي غير المبرر – كما قال - على دور العقل في التشريع ، ومساواته بالنص ، فكأنه لم تبق في العالم قضية غير هذه ، وكأن أحوالنا كلها صلحت واستقامت ، فلم يبق سوى اصلاح دين الله.
والحق اني لم اجد جوابا مناسبا على عتاب الصديق. لكني تساءلت عن الداعي للعتاب ، مع ان جدل العقل والنقل دائر منذ قرون. ولم اعرف الجواب في أول الأمر. ثم تذكرت لاحقا ان زميلي لا يتحدث عن "دور العقل" على النحو المتعارف في مجامع العلم الشرعي ، بل يركز خصوصا على ما زعمته من تنافر بين العلم والدين. ويهمني التذكير بأن هذا هو قلب اشكالية العقل والنقل ، في رايي.
علاقة الدين بالعلم ، تبدو عند عامة الناس محسومة.
لكنها في واقع الامر محكومة بفرضيات متوهمة. وسأعرض هنا لواحدة منها ، وهي الفرضية
القائلة بانه لا خلاف مطلقا بين العلم والدين ، والدليل عليه الآيات والروايات
التي تبجل العلم وأهله ، فضلا عن تبجيلنا للعلماء الذين عرفهم تاريخ الاسلام القديم.
ولهذه الفرضية نصيب من الحقيقة ، على المستوى
النظري البحت. لكنها تستعمل دائما في الموقع المضاد للنظرية. وهذا سبب وصفها
بالوهم ، لأننا نتحدث في مستوى الفعل الواقعي اليومي للناس ، وليس في مستوى
المجردات.
يعلم القراء الاعزاء بأن المجتمع الديني يطلق وصف
"العالم" على دارس العلوم الشرعية فقط. فالطبيب والمهندس والفيلسوف
والفيزيائي واللغوي وأمثالهم ، لا يعتبرون – في العرف الديني – علماء.
-
لكن .. ما
الداعي لهذه الاشارة؟.
هذه الاشارة مهمة ، لأن مدارس العلم الشرعي تعتبر
العلم حجة على صاحبه. فلو علمت باتجاه القبلة مثلا ، وجب عليك الاتجاه اليها في
الصلاة ، حتى لو خالفك جميع الناس. حجية العلم من القواعد المشهورة في أصول الفقه.
لكن – وهنا يأتي دور العرف المذكور سابقا – جرى التعارف على ان تلك الحجية محصورة في
العلوم التي يألفها طلاب الشريعة ، وهي عدد قليل جدا ، أبرزها علوم اللغة ، فقول
اللغوي عندهم حجة في فهم النص. ويميل الاكثر الى قبول رأي بقية العلماء في تشخيص
موضوعات الحكم ، وليس أدلة الحكم. ومنه مثلا قبول راي الطبيب في تحديد قدرة المريض
على الصوم او عدمها. لكنهم لا يقبلون رأيه أو رأي غيره من حملة العلوم الحديثة ، في
الامور التي تحدث فيها قدامى علماء الشريعة ، مثل عدد سنوات الحمل ، وتحديد سن البلوغ
والرشد ، وتعيين اوقات الصلاة واثبات الهلال ، والشهادة في القضاء. كما لا يقبلون
رأيه إذا تعلق بأدلة الاحكام (وليس موضوع الحكم). ومن هنا فهم لا يقبلون رأي عالم
اللسانيات او الفيلسوف في تفسير النص او تأويله. ولا يقبلون رأي عالم الاقتصاد في تحديد
المفيد والضار من المعاملات المالية والمصرفية. كما انهم يرفضون – من حيث المبدأ –
اي بحث يعتمد معايير ومناهج العلم الحديث ، في موضوعات مثل المساواة بين الذكور
والاناث ، في الحقوق والواجبات ، وامثالها.
هذه الامثلة ، وهي قليل من كثير ، توضح المسألة
التي بدأت بها ، وهي ان نقاشنا في دور العقل في أمور الدين ، لا يتعلق بالموازنة
بين العقل والنقل ، كما يفهمه غالب الناس ، بل بالتناقض الحاصل بسبب ادعاء بعضهم
امتلاك العلم وتبجيل اهله ، بينما يرفضون اي علم غير العلم الذي ألفوه واعتادت
عليه نفوسهم. والحق ان العلم دليل على الواقع ، وصفا أو تفسيرا ، فينبغي ان يكون –
بذاته - حجة مقبولة في اي امر شرعي ، كي يبقى الدين متصلا بالواقع. ولو قبلنا بهذه
القاعدة ، فسوف ينفتح الباب لتطورات عظيمة في الفكر الديني وفي القانون.
الشرق الأوسط الأربعاء -
30 مُحرَّم 1445 هـ - 16 أغسطس 2023 م
https://aawsat.com/node/4489901
مقالات ذات صلة