16/08/2023

تبجيل العلم مجرد دعوى

زميل عزيز كتب لي عاتبا على الحاحي غير المبرر – كما قال - على دور العقل في التشريع ، ومساواته بالنص ، فكأنه لم تبق في العالم قضية غير هذه ، وكأن أحوالنا كلها صلحت واستقامت ، فلم يبق سوى اصلاح دين الله.

والحق اني لم اجد جوابا مناسبا على عتاب الصديق. لكني تساءلت عن الداعي للعتاب ، مع ان جدل العقل والنقل دائر منذ قرون. ولم اعرف الجواب في أول الأمر. ثم تذكرت لاحقا ان زميلي لا يتحدث عن "دور العقل" على النحو المتعارف في مجامع العلم الشرعي ، بل يركز خصوصا على ما زعمته من تنافر بين العلم والدين. ويهمني التذكير بأن هذا هو قلب اشكالية العقل والنقل ، في رايي.

علاقة الدين بالعلم ، تبدو عند عامة الناس محسومة. لكنها في واقع الامر محكومة بفرضيات متوهمة. وسأعرض هنا لواحدة منها ، وهي الفرضية القائلة بانه لا خلاف مطلقا بين العلم والدين ، والدليل عليه الآيات والروايات التي تبجل العلم وأهله ، فضلا عن تبجيلنا للعلماء الذين عرفهم تاريخ الاسلام القديم.

ولهذه الفرضية نصيب من الحقيقة ، على المستوى النظري البحت. لكنها تستعمل دائما في الموقع المضاد للنظرية. وهذا سبب وصفها بالوهم ، لأننا نتحدث في مستوى الفعل الواقعي اليومي للناس ، وليس في مستوى المجردات.

يعلم القراء الاعزاء بأن المجتمع الديني يطلق وصف "العالم" على دارس العلوم الشرعية فقط. فالطبيب والمهندس والفيلسوف والفيزيائي واللغوي وأمثالهم ، لا يعتبرون – في العرف الديني – علماء.

-         لكن .. ما الداعي لهذه الاشارة؟.

هذه الاشارة مهمة ، لأن مدارس العلم الشرعي تعتبر العلم حجة على صاحبه. فلو علمت باتجاه القبلة مثلا ، وجب عليك الاتجاه اليها في الصلاة ، حتى لو خالفك جميع الناس. حجية العلم من القواعد المشهورة في أصول الفقه. لكن – وهنا يأتي دور العرف المذكور سابقا – جرى التعارف على ان تلك الحجية محصورة في العلوم التي يألفها طلاب الشريعة ، وهي عدد قليل جدا ، أبرزها علوم اللغة ، فقول اللغوي عندهم حجة في فهم النص. ويميل الاكثر الى قبول رأي بقية العلماء في تشخيص موضوعات الحكم ، وليس أدلة الحكم. ومنه مثلا قبول راي الطبيب في تحديد قدرة المريض على الصوم او عدمها. لكنهم لا يقبلون رأيه أو رأي غيره من حملة العلوم الحديثة ، في الامور التي تحدث فيها قدامى علماء الشريعة ، مثل عدد سنوات الحمل ، وتحديد سن البلوغ والرشد ، وتعيين اوقات الصلاة واثبات الهلال ، والشهادة في القضاء. كما لا يقبلون رأيه إذا تعلق بأدلة الاحكام (وليس موضوع الحكم). ومن هنا فهم لا يقبلون رأي عالم اللسانيات او الفيلسوف في تفسير النص او تأويله. ولا يقبلون رأي عالم الاقتصاد في تحديد المفيد والضار من المعاملات المالية والمصرفية. كما انهم يرفضون – من حيث المبدأ – اي بحث يعتمد معايير ومناهج العلم الحديث ، في موضوعات مثل المساواة بين الذكور والاناث ، في الحقوق والواجبات ، وامثالها.

هذه الامثلة ، وهي قليل من كثير ، توضح المسألة التي بدأت بها ، وهي ان نقاشنا في دور العقل في أمور الدين ، لا يتعلق بالموازنة بين العقل والنقل ، كما يفهمه غالب الناس ، بل بالتناقض الحاصل بسبب ادعاء بعضهم امتلاك العلم وتبجيل اهله ، بينما يرفضون اي علم غير العلم الذي ألفوه واعتادت عليه نفوسهم. والحق ان العلم دليل على الواقع ، وصفا أو تفسيرا ، فينبغي ان يكون – بذاته - حجة مقبولة في اي امر شرعي ، كي يبقى الدين متصلا بالواقع. ولو قبلنا بهذه القاعدة ، فسوف ينفتح الباب لتطورات عظيمة في الفكر الديني وفي القانون.

الشرق الأوسط الأربعاء - 30 مُحرَّم 1445 هـ - 16 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4489901

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي
تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم
الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

09/08/2023

لماذا تركنا مقامات الحريري؟


ثمة عامل معطل لعقلانية التفكير ، احتمل انه موجود - بقدر او بآخر - في كل مجتمع على وجه الكوكب ، أعني به اعتبار الماضي مصدرا للقيم العليا ومعايير العلم. هذا العامل مثير للحيرة بعض الشيء ، فهو يبدو عقلانيا من جانب ، ومعطلا للعقلانية من جانب آخر.

دعنا نأخذ مثالا بسيطا كي تتضح المسألة: قبل 2400 عام رأى افلاطون ، الفيلسوف اليوناني ، ان الناس يتفاضلون بحسب طينتهم ، او جيناتهم كما نقول اليوم. ثمة اشخاص يولدون وهم مهيأون للجندية ، واخرون يولدون حكماء ومعلمين ، ويولد صنف ثالث ليحكم البلاد ، واخرون ليعملوا حدادين وفلاحين.. الخ. وعلى نفس النسق ثمة من يولد بعقل كامل ، مهيئا لاكتساب الفضائل ، وثمة من يولد ناقص العقل ، فلا يحظى من اسباب الفضيلة الا بقدره. وهذا التباين والتفاضل ضروري كي يستقر نظام العالم.

سادت هذه الرؤية طوال العصور الماضية ، وأخذت بها الكنيسة في عهد الدولة البيزنطية ثم الامبراطورية الرومانية المقدسة ، وأخذت بها الدولة الاسلامية منذ عهودها المبكرة ، واعتبرها علماء المسلمين من قبيل المسلمات. وهذا ظاهر في تمييزهم بين الاحرار والعبيد ، وبين النساء والرجال ، وبين العرب وغيرهم ، وبين قريش وغيرها.

حسنا.. ماذا يقول انسان اليوم عن هذه الرؤية العميقة الجذور في ثقافة العالم وتاريخه؟.

بناء على معرفتي المحدودة ، أفترض أن معظم الناس سيرفضونها. وربما جادلوا بان تحولات العلوم والتقنية في السنين الأخيرة ، قضت على اي دليل ربما يدعم الرؤية القديمة. لكن بعض الناس ربما يحاجج قائلا: هذا شيء آمن به آلاف العلماء طيلة قرون ، فهل كانوا جميعا جهلة او غافلين؟. لعل لديهم حجة من نوع ما ، أو دليل لم نعثر عليه. المهم انهم لم يتبنوا تلك الرؤية عبثا ولا جهلا بمعناها.

هذه حجة لا يمكن ردها. فلو رمينا أولئك الناس بالجهل ، لمجرد قبولهم فكرة نراها خاطئة ، فعلينا ان نعيد النظر في كل فكرة نتبناها اليوم ، فما من نظرية معاصرة إلا ولها جذور ممتدة في علوم الماضين. وقد أشرت في مقال الاسبوع المنصرم الى ان فكرة اليوم هي نتاج العبور من فكرة الأمس ، وفكرة الأمس مرتبطة بما قبلها وهكذا. ترى هل كان البرت اينشتاين ، أبرز علماء هذا العصر ، قادرا على انشاء نظريته التي غيرت مسار العلم ، لولا تراث جيمس ماكسويل واسحاق نيوتن. وهل كان نيوتن قادرا على وضع نظريته في الفيزياء ، لولا النتاج العلمي الباهر لغاليليو غاليلي ويوهان كبلر. وهل يمكن فصل هؤلاء عن نتاج كوبرنيكوس؟. وهكذا تتواصل السلسلة الى ابن الهيثم وبطليموس وارخميدس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.

هذا وجه من العملة. دعنا ننظر في الوجه الآخر: لماذا نعتمد الطب الحديث بدل علاجات ابن سينا ، لماذا نهتم بالرواية الحديثة وليس مقامات الحريري ، ولماذا نصفق للشعراء المعاصرين ولدينا تراث امرؤ القيس وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم ، وسائر شعراء المعلقات وفحول شعراء العرب السابقين؟. ولماذا لا نكتفي بفيزياء نيوتن وغاليليو وبطليموس ، بدل العلماء المعاصرين ، ولماذا لا نكتفي بفقه الامام جعفر الصادق او ابي حنيفة او مالك او احمد او الشافعي ، بدل عشرات الآلاف من الفقهاء الذين جاؤوا بعدهم حتى يومنا هذا؟.

أعلم اننا جميعا نعرف الجواب: النظرية العلمية بنت زمانها ، ثم تذهب للارشيف. حسنا دعنا نسأل انفسنا: هل ينطبق المبدأ ذاته على العلوم المتصلة بالهوية والايمان؟. اظن ان الامر لا يستدعي مناقشة ، بل تأملا ذاتيا ومراجعة لمحتويات الذهن ، وربما مساءلة النفس عن مكان تلك المحتويات على خارطة الزمان.

الأربعاء - 23 مُحرَّم 1445 هـ - 9 أغسطس 2023 م    https://aawsat.news/pbpdx   

مقالات ذات علاقة 

الحداثة تجديد الحياة

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

العيش في ثياب الماضين

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

في مبررات العودة الى التاريخ

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

02/08/2023

العقل المؤقت


نقول ان فلانا تفكيره عقلاني ، ونعني انه ملتزم بالتأسيس المنطقي لقناعاته. لكن التفكير العقلاني اوسع من قواعد المنطق ، الا اذا توسعنا في تطبيق هذه القواعد ، فقلنا مثلا انها تنطبق على كل تفكير يتبع مسارا معروفا مترابطا ، بحيث يمكن للنهايات ان تفسر البدايات ، تفكير يمكن لكل من اتبع نفس مساره ، او التزم بنفس قواعده ، ان يصل الى ذات النتائج.

ومن اركان التفكير العقلاني ، ان المعارف والأعراف والعلوم والاخلاقيات والجماليات ، جميعها مؤقتة ، بمعنى انها تعبير عن مستوى ذهني/معرفي ، او هي مرحلة في فهم الذات والعالم ، ما إن تتحقق او تتجلى حتى يتجاوزها العقل الى ما وراءها. التفكير مثل النهر ، كلما استلم موجة دفعها واستلم غيرها. ولو توقف عن هذا الفعل لركد الماء وتحول النهر الى مستنقع آسن.

ناعورة "المحمدية" وسط حماة. بنيت في 1361م

وقد تأملت يوما في نواعير الماء التي تشتهر بها مدينة حماة في غرب سوريا ، ولفت نظري خصوصا ان الغرض الوحيد لهذه الآلة الجميلة ، هو ملء أوعية الماء وحملها الى الأعلى. فما ان تصل الدلاء الى قمة العجلة ، حتى تسكب الماء كله ، ثم تعود الى القاع كي تملأ الدلاء من جديد. قلت في نفسي ان عقل الانسان يشبه – من أحد الوجوه – هذه الناعورة ، كلما تخيل الانسان انه امتلأ بمعرفة من نوع ما ، سكبها في الجانب الآخر وعاد الى البحث عن غيرها ، مثلما فعلت الناعورة حين ملأت الوعاء وحملته الى الاعلى ، فألقت به وذهبت تأخذ غيره.

وهذا يوضح معنى زعمنا بان المعارف مؤقتة. وأظن ان الفيلسوف المعروف كارل بوبر (1902-1994) هو افضل من وصف هذه الحقيقة ، حين قال ان النظريات العلمية لا تحكي حقيقة ولا تصف حقيقة ، بل هي ببساطة احتمال راجح في وقته probability ، والاعلان عن اي نظرية هو بذاته المسمار الاول في نعشها. فما ان يعرف الناس بها حتى يهلكونها درسا وتجريبا ، فيكشفون عيوبها ، فيقترحون صيغة ارفع منها او نظرية بديلة عنها. وهكذا تتحول من احتمال راجح في وقته ، الى احتمال مرجوح ، ثم يتركها الناس الى غيرها ، وهكذا يتقدم العلم. النظريات التي نؤمن بها ونطبقها اليوم لم تنبت في الصحراء ، بل كانت ثمرة لمجموع المعارف والنظريات التي سبقتها ، ولولا ظهور هذه لما اكتشفنا خطأها ، ولولا تخطئتها لما عرفنا البدائل الأفضل منها. ومن هنا قال بوبر بانه لا بد للنظرية ان تكون قابلة للتفنيد falsifiable كي نسميها علما. فان لم تكن قابلة للتفنيد ، فهي اما علم زائف او ميتافيزيقا او ايديولوجيا ، او اي نوع آخر من المعارف غير العلم.

ترى... هل كانت النظرية التي تخلينا عنها خطأ ، فاخترنا البديل الصحيح؟ ام كانت صحيحة لكننا وجدنا ما هو اصح منها؟

الواقع ان هذا السؤال ليس واقعيا وليس مفيدا ايضا. فما المفيد في وصف نظرية ما بانها صحيحة او خاطئة ، مع علمنا بانها – في كل حال – تلعب دورا في اضاءة الطريق امامنا الى النظرية التالية؟. انها اقرب الى الجسر الذي حملنا الى ضفة النهر الاخرى وبقي في مكانه ، فهل نشتمه او نهدمه بعدما تجاوزناه ، هل نعتبره جامدا او كسولا لأنه لم يرافقنا الى نهاية الطريق؟.

حسنا.. هل يمكن تطبيق هذه الأوصاف على المعارف التي تنتمي الى تراثنا الديني أو القومي او اعراف مجتمعنا وتقاليده؟.

اني اسمع اشخاصا يرفضون - من حيث المبدأ - نسبة هذه المعارف الى العقل. وهم لا يقولون انها غير عقلانية ، بل يقولون ان العقل عاجز عن استيعابها والحكم عليها. وأظن ان السطور السابقة قد اوضحت لماذا نحتاج للتفكير العقلاني.

الشرق الاوسط الأربعاء - 16 مُحرَّم 1445 هـ - 2 أغسطس 2023 م https://aawsat.news/nvfez

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول القراءة الايديولوجية للدين

الرزية العظمى

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

الفكــرة وزمن الفكـرة

كي لايكون النص ضدا للعقل

مدينة الفضائل

مغامرات العقل وتحرر الانسان

نافذة على فلسفة كارل بوبر

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

26/07/2023

مأزق الأسئلة الضبابية

السطور التالية جواب على سؤال وجه لي تكرارا ، وفي صيغ مختلفة ، محورها جميعا هو المسافة بين الثقافة والوعي ، على مستوى المجتمع او البلد بأكمله. ويظهر لي ان هذا من نوع الأسئلة التي لا يمكن الجواب عليها بنحو قطعي.

بيان ذلك: ان الذين يطرحون السؤال ، ليسوا متفقين على الاطار الموضوعي الذي يدور فيه نقاشهم. فهل يقصدون الوعي والثقافة بالمعنى العام الذي يملكه غالبية الناس؟. ام ياترى يعنون صنفا خاصا من الثقافة والوعي؟. وقرأت قبل أيام مقالة تعيب على بعض كبار المثقفين العرب تقبلهم لفكرة التطبيع مع اسرائيل ، ويقول الكاتب ان اولئك المثقفين ينقصهم الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده ، وموقع التطبيع من هذا الصراع التاريخي. فالواضح ان الوعي واللاوعي يعادل – عند هذا الكاتب -  تبني موقف محدد من الصراع مع اسرائيل ، وليس الوعي في معناه العام.

وفي وقت مقارب ذكر كاتب آخر ان الشعب الامريكي مغيب وغير واع بما تدبره النخبة اليسارية من مؤامرات كبرى للسيطرة على مقدرات البلاد. وأظنه قد أشار الى ان النخبة اليسارية التي يعنيها ، تتألف من الامريكان الأفارقة ورجال الاعمال الذين يديرون شركات التقنية الكبرى. ومعظم هؤلاء من المهاجرين الجدد. اما زعيم هذه النخبة فهو الرئيس الأسبق باراك اوباما ، كما يظهر من سياق الكلام.

كما قرأت قبل سنوات مقالا لكاتب امريكي يقسم بالايمان المغلظة ، ان كل ما يجري في الولايات المتحدة من انتخابات ومؤسسات ، ليس سوى مسرحية محبوكة جيدا ، وان الحكومة الحقيقية التي تدير هذه البلاد هي منظمة الامم المتحدة ، وهي التي تعين الرؤساء وقادة الجيش ، وتسخر الاعلام والفن لابقاء الشعب مغيبا وغير واع بما يجري من حوله. بل ان ضابطا سابقا في سلاح الجو الامريكي نشر كتابا في 1991 يزعم فيه انه اطلع شخصيا على وثائق سرية تثبت ان مؤسسات حكومية امريكية تنسق مع كائنات فضائية للسيطرة على ا لولايات المتحدة وادارتها سرا.

وأعلم ان بعض القراء الاعزاء سيضحك في سره من هذه التقديرات المنحازة. لكنها امثلة حية على ان الوعي المقصود في بعض الكتابات ، هو تبني الموقف الخاص بالكاتب او المتحدث: من قبله فهو واع ، ومن انكره او تبنى غيره فهو مغيب أو غافل.

ويغلب على ظني ان لا فائدة ترتجى من الاسئلة العامة التي لا تدري في اي عالم تدور. ولهذا فقد يكون الأولى ان "نفترض" مقصدا للسائل ، فنحيل السؤال إليه ، ونجيب عنه بما يقتضيه هذا المقصد. والغرض من هذا التحوير هو تلافي تضييع الفائدة المرجوة من النقاش. وقد رأيت عددا من كبار الأساتذة يفعله صراحة ، فيقول مثلا: اني لا اعلم المقصود بهذا السؤال لكن سأفترض انه كذا وكذا..

وعلى هذا المنوال فسوف أفترض ان غرض السؤال الذي بدأنا به ، هو المسافة بين الثقافة في معناها العام ، وبين الوعي المؤدي لفهم الواقع والسعي لتغييره ، فالوعي هنا يقابل القدرة على نقد الواقع ، واكتشاف الفارق بينه وبين الوضع الأمثل ، اي بين الحاضر والمستقبل ، والدعوة الى سلوك طريق التغيير. الثقافة هنا تمهد للوعي وتوفر المادة اللازمة لاكتماله ، فهي تحرك حاملها كي يلعب الدور التاريخي المطلوب من أهل العلم. ومادمت قد بلغت هذه النقطة ، فلابأس بالاشارة الى اني لا أرى المثقف مسؤولا عن اي شيء ، سوى ان ينتج شيئا يليق بما يحمله من معرفة ، تماما مثل الطبيب والمهندس والفلاح الذين نطالبهم بأن يتقنوا مهنهم ، كي يسهموا في عمران الكوكب.

زبدة القول اذن ان الوعي يساوي القدرة على نقد الواقع ، اي فهم وتفكيك الثقافة التي تبرره ، وكمال الوعي يكمن في تشخيص المسافة التي تفصل بين النقطة التي نقف عندها ، والنقطة التي نريد الوصول اليها.

الشرق الاوسط الأربعاء - 09 مُحرَّم 1445 هـ - 26 يوليو 2023 م    https://aawsat.news/vyvqb

19/07/2023

عودة الى جدل الطبيعة البشرية


الغرض من هذه الكتابة هو استدراك ما فات بيانه في مقال الاسبوع الماضي. وعلته ان زملاء أعزاء وجدوا فكرة المقال غير مقنعة ، كما شكك آخرون في اهمية هذا النوع من "السوالف العتيقة" كما قالوا.

والحق ان قصة الطبيعة البشرية ، اي سؤال: هل الانسان صالح بالطبع او فاسد بالطبع ، عتيقة جدا. فقد وردت في كتابات افلاطون الذي عاش قبل 2300 عام. وظهرت في كتابات فقهاء وفلاسفة مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي. ثم تكررت في نقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرون الوسطى. لكنها لم تخسر اهميتها في العصور الحديثة. بل أن غاري ماديسون رأى ان اي نظرية في الفلسفة السياسية ، هي بصورة مباشرة او غير مباشرة ، نظرية حول طبيعة الانسان ذاته. وقد ذكرت في دراسة سابقة ، اني اميل لرؤية فيها تعديل على رأي البروفسور ماديسون ، وخلاصتها ان اي نظرية في علم السياسة او في الفقه او القانون ، يجب ان تقام على موقف مسبق من طبيعة الانسان. بمعنى ان على المشرع ان يقرر الاساس الذي يبني عليه: هل يتوجه بتشريعه لبشر طبيعتهم صالحة خيرة ، ام العكس.

بيان ذلك: حين يفكر المشرع في مواد القانون الذي يريد وضعه ، يضع نصب عينيه الغاية التي يستهدفها هذا القانون. فالمشرع الذي يحمل رؤية متفائلة ازاء طبيعة البشر ، سوف يصدر قانونا لينا ، يستهدف في المقام الأول تمكين الناس من تحصيل حقوقهم ، وحيازتها بيسر وسلام.

وسيحدث العكس حين يحمل المشرع او الفقيه رؤية متشائمة ، اي حين يكون معتقدا بان الناس اميل للفساد ، فهو حينئذ سيجعل غاية القانون وغرضه الاساس ، تضييق الثغرات التي ربما يستغلها الفاسدون والعابثون. وبالتالي سيأتي خشنا معقدا ، لا يمكن الناس من حقوقهم الا بعد الف تحقيق وتحقيق.

بعبارة اخرى فان النوع الأول يفترض ان الناس طيبون ، وانهم حين يدعون حقا ، فهم في الغالب صادقون ، وان دور القانون هو مساعدتهم. اما الثاني فيفترض ان الناس فاسدون ، وحين يدعون حقا فانهم في الغالب يسعون للاستحواذ على حقوق غيرهم ، او ان الجشع يحملهم على اخذ ما يزيد عن حقهم. ولذا يجب الحيلولة دون وصولهم الى الحق المزعوم قبل التحقيق والتدقيق.

أعلم ان كثيرا من الناس يميل الى الرأي الثاني. وقد قرأت عشرات الأمثلة التي ضربها قراء وزملاء لتأكيد هذا الرأي. أما أنا فأميل للرأي الأول ، ولدي دليل واحد فحسب ، وهو موقفك انت عزيزي القاريء. أدعوك للتوقف لحظة وسؤال نفسك سؤالين ، وانت تعرف جوابهما ، وفي هذين الجوابين يكمن الدليل على ما زعمته.

السؤال الأول: لو عقدت مقارنة افتراضية ، بين عدد الفاسدين الذين تعرفهم وعدد الصالحين الذين تعرفهم. هل ترى ان عدد الفاسدين سيكون اكبر او العكس؟.

السؤال الثاني: الق نظرة على تاريخ البشرية خلال الف عام ، هل تراها تقدمت ام تأخرت.. على صعيد القانون والتكنولوجيا وتوفر الغذاء والدواء ورعاية الاطفال وكبار السن والتواصل وانتشار العلم والمعرفة.. الخ. هل يمكن للفاسدين ان يصنعوا هذه التحولات العظيمة. اذا كان الجواب نعم ، فينبغي ان تكون السجون مصدر العلم والاختراع ، وليس الجامعات ومراكز البحث والمصانع والمختبرات. فهل هذا ما حدث فعلا؟.

بعد هذا دعنا نتحدث انطلاقا من مصلحتنا كأشخاص عاديين: ما هو الاصلح لي ولك وما الذي نريده لانفسنا: ان يعاملنا القانون كأشخاص صالحين يريدون العيش بسلام ، ام كأشخاص فاسدين يبحثون عن ثغرة كي يفسدوا عالمهم؟.

هل أمثل انا وانت وعشرات الاشخاص الذين نعرفهم ، نماذج عن ملايين الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب ، ام ان الله اصطفاك وبضعة ممن تعرفهم ، دون بقية خلقه؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 02 مُحرَّم 1445 هـ - 19 يوليو 2023 م  https://aawsat.news/4nm4z

مقالات ذات صلة

الاثم الاصلي 

اناني وناقص .. لكنه خلق الله 

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح 

بقية من رواية قديمة 

الانسان الذئب؟.... 

صورتان عن الانسان والقانون 

مجتمع العقلاء 

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون 

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟ 

في معنى الردع وعلاقته بالطبع الاولى للبشر 

صورتان عن الانسان والقانون 

القانون للصالحين من عباد الله 

الحق في ارتكاب الخطأ 

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري 

دعاة الحرية وأعداء الحرية 

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون 

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟ 

واتس اب (1/2) أغراض القانون 

واتس اب (2/2) عتبة البيت 

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...