بقلم: د. عبد الحميد الأنصاري
هذا عنوان لكتاب قيّم ظهر قبل
سنتين ولم يأخذ حظه من الاهتمام، للكاتب السعودي الدكتور توفيق السيف، وهو مُفكر
إسلامي مُستنير له العديد من المؤلفات التي تضيء أوجه العقلانية في التراث والفكر
الإسلامي، وتجتهد في تجسير الفجوة المصطنعة بين الفكرين الديني والحداثي. تذكرت
هذا الكتاب صغير الحجم وعظيم الفائدة وأنا في احتفالية التنوير بالكويت، على هامش
الاحتفالية العالمية لعصر التنوير الإنساني، بمناسبة مرور قرنين على انطلاق عصر
"الأنوار" في العالم، تلك الأنوار التي أيقظت أوروبا من سباتها الطويل
وأخرجتها من ظلمات القرون الوسطى، فانطلق العقل ليكتشف ويبدع ويخترع، ويصنع المعجزات
العلمية والتقنية التي غيّرت حياة البشر، وأزالت الحواجز بين شعوب الأرض.
د. عبدالحميد-الأنصاري |
هذه الاحتفالية التي حملت
عنواناً جذاباً "التنوير... إرث المستقبل" واجتذبت جمعاً حاشداً من
المفكرين والمهتمين بقضايا التحديث والتنوير من الجنسين كانت أشبه بتظاهرة
جماهيرية متعطشة إلى عصر التنوير الكويتي الذهبي الذي انحسر بفعل هيمنة طروحات
دينية سياسية أو متشددة هادفة إلى قطع جسور التواصل مع الفكر الحداثي عبر تغذية
روح الممانعة ورفع لواء المواجهة بدلاً من التفاعل العقلاني النقدي مع الفكر
الحداثي. كان منظم هذه الاحتفالية، مركز الحوار للثقافة (تنوير) بالتعاون مع
الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية، وهو مركز ثقافي تنويري، أسسته مجموعة من
المثقفين الكويتيين المهتمين بحقوق الإنسان وحريات الفكر والتعبير وثقافة المجتمع
المدني، وقد استضافوا المفكر الإسلامي الدكتور محمد أركون، صاحب المشروع الفكري
الكبير المعني بإعادة قراءة التراث العربي لإبراز النزعة الإنسانية في هذا التراث
العظيم، وقد صكّ أركون مصطلح "الأنسنة" لأول مرة عام 1997 فشاع وانتشر
بين الباحثين. يقول أركون: "أردت لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة التفكير في
النزعة الإنسانية الدينية المشتقة من الانتروبولوجيا الروحانية القرآنية"،
ويقصد بمصطلح الانتربولوجيا القرآنية "الصورة السائدة عن الإنسان في القرآن،
وهي صورة رفيعة مليئة بالقيم الروحية، لكنها لم تكن وحدها السائدة في العصر
الكلاسيكي، وإنما انضافت إليها صورة أخرى عن الإنسان نفسه مشتقة من التراث الفلسفي
اليوناني والتجارب الثقافية الدينية الخاصة بالهنود والمانوية والزرادشتية وغيرها
من تيارات ثقافية متفاعلة (طبقاً لهاشم صالح).
لقد أسِر أركون الحضور بحديثه
عن عصر الأنوار، وكيف كان عالم القرون الوسطى في أوروبا. "كان عالماً قلقاً
مخيفاً، ينبغي أن نذهب إلى أفغانستان أو بلاد "الطالبان" لكي نفهم ذلك،
كان الحزن القائم يغلّف المناخ العام للأشياء بغلالة السواد، والناس كانوا ينتظرون
نهاية العالم بين يوم وليلة! ولذلك كانوا ينوحون ويبكون ويتحسرون على ما فات،
يخشون لقاء ربهم في الدار الآخرة، وكانوا يعتبرون الفرح حالة غير طبيعية"
(هاشم صالح في مقالته عن مارتن لوثر). ما هو التنوير؟ هو الاستخدام الحر للعقل
واسترداد الإنسان لنوره الخاص، والخروج الشجاع من آلية إشراف الغير إلى إشراق
الذات، من آلية الطائفة والمذهب والحزب والمرجعيات (كلمة وزيرة الثقافة البحرينية
(الشيخة مي آل خليفة). إنّ هدف التنوير الأسمى كما يقول أركون، هو منح العقل
البشري جميع الحمايات والأسباب التي تمكنه من مواصلة الإنتاج المعرفي والثقافي
لنفع الإنسانية جمعاء، لا أمة معينة.
وقال: إن الوظيفة الأولى
للعقل، هي نقد العقل نفسه فإذا تخلى عنها وتورط في تأييد مواقف أيديولوجية، اعتبر
فاشلاً، وأضاف أن هذه النقطة هي المأزق الذي يُعاني منه الفكر العربي. حلّق أركون
بالحضور وطاف بهم شرقاً وغرباً، لكن أهم ما أضافه هو مقارنته بين المسيرتين:
الإسلامية والأوروبية، فمع سبق المسلمين في الاعتماد على العقلانية في إنتاج معارف
علمية دعمت الإيمان الديني وأعطت الوسائل اللازمة للتفاعل مع العقل الفلسفي والذي
أثمر كماً معرفياً هائلاً على امتداد القرون الستة الهجرية الأولى، فإن هذه
المسيرة توقفت بسبب التدخل السياسي للسلطة في الفكر الإسلامي، وكان كتاب
"فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" للغزالي، إيذاناً بأفول عصر
التنوير الإسلامي لتبدأ أوروبا التي كانت غارقة في ظلمات القرون الوسطى حمل راية
"التنوير" ومواصلة المسيرة بدون انقطاع إلى يومنا هذا.
كانت لي مداخلة وضّحتُ فيها
أن "العامل السياسي" لا يكفي وحده في تفسير انقطاع التنوير الإسلامي،
هناك عوامل عديدة، وأتصور أن "العامل الاجتماعي" وأعني به حجب المرأة
وعزلها عن مجريات الحياة العامة وفرض الوصاية عليها، هو العامل الأهم في انحسار
الفكر التنويري وتدهور حضارة المسلمين. أركون وخلافاً لبعض الظنون في أنه يجترئ
على المقدسات، هو من أكثر المفكرين الذين لا يرون "الحداثة" بمعزل عن
القيم الدينية، بل ينعى على التنوير الأوروبي في مرحلته الثالثة، أي بعد الحرب
الثانية والمرحلة الاستعمارية، تنكره لقيم الأنوار تحت تأثير ما سماه
"المخيال الاجتماعي".
وعودة إلى كتاب الدكتور توفيق
السيف فإن المؤلف معني بوصل ما انقطع في مسيرة الفكر الإسلامي التنويري، وهو يطرح
في الكتاب تساؤلات مهمة، كانت مطروحة بين الحضور في الاحتفالية مثل: هل يمكن لأمة
أن تصل إلى الحضارة بدون الدين؟ وإذا كان "التراث الإسلامي" كائنا حيا
يعيش فينا ونعيش فيه، ولا فكاك منه، بحسب تعبير أحمد البغدادي، فما مقدار التراث
الذي يُشكل حاجة حقيقية لمسلم العصر؟ هذه التساؤلات تأتي على خلفية إشكالية
العلاقة بين النهضة والدين والتراث والحداثة، فهُناك من يرى أن شرط النهضة
والحداثة، التخلي عن الدين والتراث، بينما يرى آخرون أن الطريق الوحيد للنهضة هو
الدين والتمسك بالتراث. يقول الكاتب: إن هذا الربط فيه تكلّف، إذ يمكن لأمة أن تصل
إلى الحضارة والتحديث بدون الدين كما حصل في أزمان سابقة وفي زماننا، كما يمكن
لأمة أن تحافظ على دينها وتراثها سواء تحضرت أو لم تتحضر، المشكلة الحقيقية عند
الكاتب هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري، ويؤكد: يمكننا
إثبات أن نمط التدين السائد في عالمنا الإسلامي اليوم معيق للنهضة والحداثة، لكن
هذا التدين مُلتبس بالعادات والتقاليد والتجربة التاريخية بأكثر من انتسابه إلى
الوحي، وهذا ما يحاول الكتاب تفكيكه وهو ما ينبغي على الإسلاميين التنويريين العمل
على فرزه وتوضيحه.
"الحداثة" ليست
مجرد تقدم تقني بل هي أيضاً "نظام قيمي" ونحن بحاجة إلى الأمرين وإذا
كان "الدين" بحاجة إلى "الحداثة" لتجديده فإن في تجديد
الإسلام، تجديداً لحياة المسلمين وتحويله من مجرد "هوية: مختلفة إلى فاعل في
تطوير حياة البشرية كلها.
جريدة "الاتحاد" الإماراتية
2008/12/24
موضوعات ذات علاقة: