14/05/2008

في أصالة التيسير ومشكلاته



ذكرت في مقالين سابقين ان التيسير اصل في سلامة الحكم الشرعي. بمعنى ان الحكم المؤدي للعسر او الحرج قابل للطعن من جانب المكلف. وهذه قاعدة جارية في الفقه وفي القانون كما في الاخلاق. هناك بطبيعة الحال اناس يرغبون في التشديد على انفسهم تطوعا او رياضة.
 وتنقل كتب السير عن رجال روضوا انفسهم بخشونة العيش وترك اللذائد ، حتى تعتاد الانس بطريق الذاكرين. نعرف ان هذه الممارسة تجربة ذاتية ، يأخذ بها القليل من الناس ويستصعبها الكثير. وقد يوصي بها الفقيه حوارييه او خلص اصحابه، لكنه لا يأمر بها عامة الناس. فالاصل في الدعوة وتبليغ الرسالة هو الامر بالعرف، اي الحد المتعارف والمقبول من عامة الناس، وهو فحوى الرواية التي تنقل عن الامام علي بن ابي طالب.
التيسير في الفتوى واجتناب ما يؤدي الى العسر والحرج من القواعد الراسخة في الشريعة وهي مؤيدة بنصوص صريحة في القرآن والسنة النبوية الشريفة، اضافة الى الادلة العقلية. ولهذا تبدو الفكرة واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن الامر الذي يبدو غامضا هو طبيعة العسر والحرج الذي نتحدث عنه ومن هو المرجع في تشخيص ما اذا كان حكم معين سببا في عسر ام لا. فهل نتكلم عن الحرج النفسي، او المادي، او الاجتماعي ؟. وهل يا ترى نرجع الى الفقيه في تشخيص الحالة، ام نرجع الى العرف الاجتماعي، ام نترك للمكلف ان يشخص حالته؟.

بعض الناس قد يرى الخيار الثالث اقرب الى روح الدين فالشخص اعرف بظروفه واوضاعه الخاصة. كما ان تطبيق الحكم الشرعي منظور فيه نية التقرب الى الله، والنية مكانها القلب فلا يعرفها غير المكلف نفسه. لكن الخيار الاول هو الخيار السائد بين الدعاة والفقهاء. وهو امر متوقع، فهم يرون انفسهم اعرف بالحكم وموضوعاته وانهم الامناء على سلامة تطبيق الشرع. وذهب كثير من اهل العلم الى ان العرف هو المرجع في تشخيص موضوعات الاحكام. وامتدادا له يمكن القول ان تشخيص موارد العسر والحرج راجع ايضا الى العرف العام.

لا يخلو اي من الخيارات الثلاثة من اشكالات نظرية وعملية. فالتعويل على تشخيص الفرد معقول اذا كانت حدود انطباق الحكم محصورة في شخصه. لكنه غير معقول اذا ترتبت عليه الزامات او تصرفات تمس الغير. والتعويل على تشخيص الفقيه فيه احتمال الانحياز، خاصة مع اختلاف نمط المعيشة ومصادرها واختلاف الثقافة بينهم وبين عامة الناس. وقد رأينا امثلة لذلك في موقف اكثرية الدعاة من تحريم اقتناء اجهزة استقبال القنوات الفضائية رغم ميل الاكثرية الساحقة من الناس اليها، ونسمع اليوم عن الجدل حول تجويز او منع اقتناء اسهم شركات معينة لانها تتعامل مع بنوك تتهم بالربوية.

 وثمة حوادث نشرتها الصحف في الايام الماضية تشير الى ميل كثير من الدعاة الى التشدد في امور ليس فيها نص وليست من مواضع الاجماع، وهو خلاف التيسير. فهذه وتلك تشير الى ان العرف السائد بين الدعاة مختلف عن عرف عامة الناس، بغض النظر عن الرأي في سلامة هذا العرف او ذاك.

وعلى نفس الخط فان الرجوع الى العرف العام، اي رأي عامة الناس، يثير اشكالات غير قليلة، خاصة مع قلة الادوات العلمية المعتبرة لكشف الرأي العام. لعل ابرز تلك الاشكالات هو تحديد نطاق العرف المقصود. فلو كنا نتحدث عن قرية معزولة لامكننا اكتشاف العرف الخاص بها. لكن ماذا نفعل في دولة او مدينة كبيرة يهاجر اليها الناس من شتى بقاع الارض، وتجد فيها اعرافا عديدة بعدد المجتمعات التي ينتمي اليها سكانها.

ثم ان العرف ليس قيمة ساكنة، فهو يتغير مع تغير الثقافة والظروف المعيشية ونظام المجتمع. فبعض الاعراف التي كانت راسخة قبل عقدين او ثلاثة لم تعد اليوم سوى ذكرى قديمة. بعض ما كان مرغوبا اصبح اليوم متروكا وبعض ما كان مستغربا اصبح اليوم اعتياديا مألوفا. خذ مثلا الحرف اليدوية التي كان ابناء القبائل يعتبرون الانشغال بها عيباً، لكنها اليوم حرف محترمة ومرغوبة. وخذ مثلا إعراض رجال الامس عن الزواج من المرأة العاملة، فاذا بها اليوم مقدمة على تلك القاعدة في البيت. فهذه وتلك اعراف متحركة ومتغيرة بتأثير الثقافة والمعيشة فضلا عن السياسة.
عكاظ 14 مايو 2008    https://www.okaz.com.sa/article/184679

مقالات ذات علاقة

07/05/2008

رأي الفقيه .....متى يصبح حكم الله

الفقهاء يفتون بآراء مختلفة في المسألة الواحدة، مثل دعوى الاختلاط بين الرجال والنساء في أماكن العمل، المثارة حاليا. ولا بد أن القراء اطلعوا على آراء من يجيز الاختلاط ومن يحرمه ومن يضع شروطا للتجويز. فهذا مثال حي على الاختلاف في مسألة واحدة في ظرف واحد. بديهي أن حكم الله في المسألة واحد ولا يمكن أن يكون متعددا. لكن لا يستطيع أحد، فقيها كان أو غيره، أن يدعي دون تحفظ أن رأيه هو حكم الله بلا زيادة ولا نقصان. لأنه لو ادعى ذلك فكأنه قال إن علمه هو علم الله أو مساو لعلم الله. وهذا مستحيل ولا يقول به أحد.

صورة ذات صلة
تنبه الفقهاء إلى هذه الإشكالية منذ القدم، فميزوا بين نوعين من العلم هما: العلم بالواقع والعلم بالظاهر. وحصروا العلم الواقعي في الله سبحانه. أما علم البشر فهو جميعه علم بالظاهر ، وهو قد يطابق الواقع وقد يجانبه. والفقه هو واحد من هذه العلوم، لذلك عرفه بعضهم بالظن الغالب.
والحق ان جميع العلوم هي ظنون غالبة، او احتمالات، بعضها يستند الى أدلة أقوى، وبعضها يجمع بين الدليل العلمي والإمكان العملي. وطور الأصوليون مجموعة أدوات منهجية لحصر تلك الإشكالية وتحديد ما يصح وما لا يصح الاعتماد عليه من الأدلة. بديهي أن جميع الأدلة مؤقتة، بمعنى أنها مرتبطة بحيثياتها الظاهرة للفقيه في وقت البحث. وقد تظهر له أو لغيره أدلة أخرى في وقت مختلف أو ظرف مختلف فيعدل عن الرأي الأول إلى غيره، وهذا من الأمور الجارية والمتعارفة بين جميع دارسي الشريعة. هذا من جهة.
لكن من الجهة الثانية، فإن الناس بحاجة إلى العلم حتى لو كان ناقصا. ويقضي العقل الطبيعي بالعودة إلى صاحب العلم المتخصص، مثلما نعود الى المهندس حين نبني بيتنا وإلى الطبيب حين نحتاج للعلاج. الفقيه في هذا المقام مصدر للعلم. وحين يعطيك العالم علمه فأنت تأخذ به، حتى لو علمت باحتمال تغير رأيه بعد زمن. لأن الناس لو انتظروا كمال العلم لما وصلوا الى شيء أبدا، فالعلم بطبعه ناقص وهو يتكامل بالتدريج، لكنه يبقى الى الأبد ناقصا، وهذا هو السر في كفاح الإنسان من أجله.
في مثال الطب، يخبرنا الطبيب بأن بعض علاجات اليوم ستلغى في المستقبل لوجود أخرى تحت التطوير والبحث. لكننا مع ذلك نأخذ بالأولى لأننا نحتاجها اليوم، مع علمنا بنقصانها. من هنا قال الأصوليون بأن الأخذ برأي الفقيه وتطبيقه مبرئ لذمة المكلف لأنه يسد حاجة قائمة ولو كان ناقصا. ولا يجب على المكلف دراسة جميع الأراء ولا تقييم أدلتها. واعتبروا ذلك من أنواع التيسير الذي يأمر به الشرع.
المكلف اذن، يأخذ برأي الفقيه لأنه علم، تقوم الحجة بوجوده، وتبرأ الذمة بتطبيقه. فاذا أخذ المكلف بذلك الرأي، تغيرت صفته من نظرية علمية الى حكم ديني. بعبارة أخرى فإن التزام المكلف برأي الفقيه يسبغ على هذا الرأي قيمة دينية، فيصبح (حكم الله) بالنسبة لذلك المكلف على وجه الخصوص. مع أنه يبقى رأيا علميا عاديا بالنسبة لبقية المكلفين الذين لم يقبلوه أو لم يلتزموا به.
ومثل ذلك رأي القاضي الذي يتحول إلى حكم واجب التنفيذ على أطراف القضية التي نظرها، دون بقية الناس. فهو بالنسبة لأولئك قانون ملزم وهو بالنسبة للآخرين مجرد رأي علمي. ومن هنا نفهم أن القيمة الدينية لرأي الفقيه ليست منبعثة من داخله، بل من مصدر خارجي هو تبعية المكلف له، أي قرار هذا المكلف بالرجوع الى ذلك الفقيه. وكذلك الأمر بالنسبة لحكم القاضي الذي يستمد قيمته من القانون العام للبلد الذي فرض على المتخاصمين الالتزام بحكم القاضي الذي نظر دعواهم.
خلاصة الكلام اذن:
1ـ ان رأي الفقيه هو في الأصل نظرية علمية محترمة لكنه ليس حكم الله ولا ينطوي على الزام.
2ـ بالنسبة للمكلفين الذين يطمئنون الى رأي فقيه معين، فان أخذهم برأيه، يضفي عليه قيمة الحكم الديني، حتى لو بقي رأيا عاديا بالنسبة لغير هؤلاء.

عكاظ  7 مايو 2008
 https://www.okaz.com.sa/article/182937



مقالات ذات علاقة



01/05/2008

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة




 حاورته امل زاهد لمجلة الاطام  (النادي الادبي بالمدينة المنورة - العدد 31 -- ابريل 2008م

تحدثه فيجيبك بتواضع جم وتسأله وتحاوره فيفتح لك فضاءات أوسع وأحيازا بلا مدى أو حدود، تتفجر الأسئلة من رحم الأسئلة.. وتتناسل من عمق إشكالات كانت ولازالت تتردد حائرة في مشهدنا الثقافي. ولابد أن تؤجج إجاباته عقلك وتستفزه للمزيد من التساؤلات، فهذا الرجل يهجس بالنهضة وتسكن داخله تلك الرغبة الصادقة في التغيير، وفي إعادة روحية النهضة وقلبها للنابض لهذه الأمة الساكنة النائمة في رحم عادات وأعراف التبست بالدين وتسلقت على أصوله، فتتوارى الأصول وراء الحواشي والجوهر خلف القشور كما يرى ضيفنا.. حاورته الآطام فكان هذا اللقاء
امل زاهد
- من سالف الأزمان كانت علاقة المثقف بالسلطة علاقة شائكة، فهو إما متمرد عليها رافض لها.. وعليه يحكم عليه بالنفي الذي يصل لتكميم الأفواه أو الاعتقال، وإما مثقف مدجن طوعا أو قسرا.. هل دجن توفيق السيف؟
• أجاب على هذا السؤال شاعر قديم: وكل يدعي وصلا بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاكا. الناس ترغب في السلطة وترغب في الاقتراب من أهل السلطة، ويتهم الناس بعضهم بالتملق للسلطان. جدلية الاقتراب والابتعاد تدور أساسا حول إمكانية المحافظة على استقلال الرأي وحرية التفكير والتعبير. إذا قدرت على حفظ حريتك واستقلال رأيك، فالبعد والقرب سواء. أما الحكم بان فلانا دجن أو لم يدجن فهو انطباع شخصي متروك للقراء وعامة الناس، وعلينا أن نحترم رأيهم.
- هل يستطيع توفيق السيف أن يقول عن نفسه أنه متحرر تماما من الايديولوجيا؟
• لست متحررا من الايديولوجيا، ولا أظن أن شخصا في العالم كله متحرر من الايديولوجيا. الايديولوجيا هي الوسيلة التي نبني بها علاقتنا مع العالم المحيط بنا، ونعطي للأشياء معاني، ونربطها مع بعضها حتى تتحول من عناصر منفردة هائمة في الفضاء إلى أجزاء في مركب، هو رؤيتنا للعالم. وما لم يكن لدينا منظومة مفاهيم ومسلمات أولية فلن نحب شيئا ولن نقيم علاقة مع شيء مما يحيط بنا، لا إنسانا ولا فكرة ولا شجرة ولا ساعة.
لا يحتاج الإنسان إلى التحرر من الايديولوجيا، بل يحتاج إلى:
أ-الوعي بأنه يحمل ايديولوجيا تؤثر على أرائه وأحكامه، ونتيجة لذلك فان آراءه ليست معيارية او موضوعية في كل الأحوال
ب- الوعي بان الايديولوجيا - حتى لو اعتقد بصحتها – تلعب أحيانا دور حجاب الحقيقة، أي أنها تظهر الأشياء للعين والعقل بخلاف ما هي عليه في الواقع الخارجي
ج- الوعي بالفارق بين وظيفتي الايديولوجيا والعلم. وظيفة العلم هي وصف الأشياء وتفسير أحوالها، أما وظيفة الايديولوجيا فهي الحكم على تلك الأشياء والأحوال وتحديد قيمتها، أي إيجاد علاقة بينها وبين الشخص.
من هنا فاني من القائلين بإمكانية الجمع بين عقلين، عقل علمي يصف الأشياء ويفسرها مهما كانت متنافرة مع رغبات الشخص وقناعاته ومعتقداته، وعقل ميتافيزيقي دوره صناعة المعنى، وتسكين الروح، ومنح الأشياء الخارجية لونا إنسانيا، وإيجاد علاقة جمالية بين الشخص والعالم. من المهم على اي حال الوعي بوجود هذه الثنائية وعدم الخلط بين العلم بالأشياء والحكم عليها.
- فكر توفيق السيف فكر صادم للعقل الجمعي التقليدي شيعيا كان أو سنيا، هل ترى التصادم وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ضرورة اليوم لإيقاظ أمتنا من سباتها؟
• الفكر الشيعي والسني هو اقرب ما يكون إلى ثقافة اجتماعية، فيها شيء من العلم والفكر، لكن معظمها هو نتاج للتجربة التاريخية للمجتمعات، فهي تبرير للمصالح أو التحولات أو الحاجات أو الهموم أو دفاع عن الذات. كثير من عناصر هذه الثقافة تشكل في رحم المعاناة، ولهذا فهي صورة عن البشر الذين يحملونها في كل حقبة زمنية. كلا الثقافتين تعاني في الحقبة الراهنة من تخلف عن العصر وحاجاته وتحدياته وما يموج فيه من تيارات وتحولات. ونحن بحاجة الى وضع النقاط على الحروف، كي يلتفت الناس الى جوهر مشكلتهم، أي العجز عن التفاعل مع العصر الذي يعيشونه. وظيفة المثقف ليس تبرير الواقع بل نقده، وتحريض الجمهور على البحث عن الغيب الذي تخبيه الأيام. يبدأ التخلف في اللحظة التي يقرر الناس انه ليس في الإمكان أبدع مما كان. ومهمة المثقف هي دحض هذه الرؤية السكونية.
|| التراث الجيد هو التراث الذي نسخره ونستخدمه ونتحكم فيه وليس الذي يسخرنا ويستخدمنا ويتحكم في عقولنا ||
- يشغلك سؤال النهضة إلى حد كبير وترى أننا متخلفون اقتصاديا وثقافيا وعلميا واجتماعيا، هل تلمح في عالمنا العربي بداية إرهاصات قد يتوالد من رحمها ما أسميته في كتابك الجميل «الحداثة ضرورة دينية»: روحية النهضة؟
• منذ اواخر القرن التاسع عشر كانت هناك ارهاصات نهضة ومحاولات نهوض. المحاولات الاولى ركزت على تحديث الثقافة، وفي منتصف القرن العشرين تركزت المحاولات على تحديث السياسة، وفي الربع الاخير من القرن العشرين تحول التركيز الى الاقتصاد. وقد جنينا من جميع تلك المحاولات خيرا كثيرا، ولولاها لكنا اليوم نعيش في ظرف يشبه ظرف افغانستان مثلا. من المتفق عليه في بحوث التنمية ان كل مسار تنموي يؤدي الى تحريك المسارات الاخرى، فالنهوض الثقافي يؤدي الى نهوض اقتصادي وسياسي، وهذا يقود الى ذاك. المشكلة الكبرى في حياة المجتمع العربي هي عدم الاستمرار. كنا دائما نتوقف في منتصف الطريق. فلو واصلنا تحديث الثقافة لاصبحنا اليوم منتجين للعلم والتقنية ننافس بقية العالم. ولو واصلنا تحديث السياسة لاسترحنا من كثير من الازمات الاجتماعية التي نعرفها اليوم. واذا واصلنا تحديث الاقتصاد فسوف نتخلص من معضلة الفقر التي تهدد السلام الاجتماعي في كل اقطارنا. من المهم ايضا ان نفكر في التحديث الشامل والمخطط، بدل ان نفاجأ بالتحولات التي هي انعكاس للنهوض في مجالات اخرى، كما هو الحال في تفاقم ظاهرة العنف التي هي – جزئيا على الاقل – انعكاس لتحديث الاقتصاد في سياق منفرد.
- أين المرأة من سؤال النهضة؟ وما هي نظرتك الاستشرافية لوضع المرأة الاجتماعي في المملكة؟ وألا تحتاج المرأة إلى إعادة صياغة للوعي كونها من أشد حراس النسق قسوة وضراوة؟
• في كل مجتمع هناك مراكز توتر رئيسية واخرى ثانوية. مراكز التوتر تحرك الازمات احيانا وتصنع الحلول احيانا اخرى. الوضع الاجتماعي للمرأة هو احد مراكز التوتر الرئيسية في المجتمع السعودي. هي ليست حارسة للنسق التقليدي بل ضحية له «مع ملاحظة ان الضحية قد ينساق احيانا في مشروع عدوه بسبب انعدام الخيارات البديلة، مثل العامل الفلسطيني الذي يشارك في بناء مستعمرة اسرائيلية لانه بحاجة الى خبز اليوم». الاغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة. حتى اللاتي يدافعن عن التقاليد على المستوى النظري، متمسكات بالحداثة في حياتهن اليومية، ولذلك ترين الفتيات جميعا يذهبن الى المدارس ويسعين وراء وظائف خارج البيت، ويرغبن في استعمال المنتجات التقنية للحداثة.
|| الأغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة ||
الوعي ليس مشكلة المرأة فقط، نحن امام مشكلة مجتمع بأكمله، رجاله ونساؤه، مجتمع يريد الحداثة ويخشى منها في الوقت نفسه، يتطلع الى التقدم لكنه غير مستعد لدفع ثمنه الثقافي والاخلاقي. واظن ان الجدل الواسع الذي يشهده المجتمع السعودي حول حقوق المراة ودورها وموقعها في النظام الاجتماعي هو دليل على تحولها فعليا الى مركز توتر رئيسي. وجدنا خلال السنوات الاخيرة تغييرات ملموسة مثل اقرار المجتمع بحقها في العلم ثم في العمل واخيرا مشاركتها في بعض اطراف الحياة العامة «التجارة والاعلام كمثال». واظن ان التغيير في هذا الاتجاه سوف يتواصل وسوف يتعلم المجتمع كيف يتكيف مع هذا التحول. لكن لا بد من الاشارة الى ان التحولات الكبرى كانت ثمرة لقيام حركة نسائية واسعة، منظمة، ومتنوعة التعبيرات، ونحن نفتقر الى حركة من هذا النوع.
- أنت تقول أن فكرة الأصالة لم تؤد إلى توضيح مكانتها من سؤال النهضة بقدر ما ساهمت فعليا في إعادة إنتاج فكرة الأصالة في معنى المحافظة على التقاليد والبحث عن حلول لمشكلات العصر من عمق التراث، وفي ذات الوقت ترى أن التخلص من إرثنا الثقافي أشبه ما يكون بأن نطلب من الأمة أن تمحو ذاكرتها، هل من سبيل للخروج من هذا المأزق؟
• أود الاستشهاد بمقولة هيجل، الفيلسوف الالماني، حول الوعي بالتاريخ، وخلاصتها ان الفرد الواعي هو الذي يعي تاثير تجربته التاريخية على تفكيره الحاضر، اي القادر في لحظة من اللحظات على النظر الى تراثه التاريخي كشيء قابل للانفصال عن عقله، اي تحرير عقله من ضغط الاحكام المسبقة. في ظني ان كل فرد قادر على ان ينفصل عن تراثه حين يفكر في موضوع معاصر، لكنه يحتاج الى وعي بكيفية تاثير التراث التاريخي على العقل، ويحتاج الى ارادة قوية للانفصال عنه. نحن اذن لا نحتاج الى مسح ذاكرتنا، بل الى الوعي بتاثير هذه الذاكرة على تفكيرنا في قضايا اليوم، والانفصال عنها حيثما كان الانفصال ضروريا للتوصل الى فهم موضوعي ومحايد للاسئلة التي تواجهنا.
|| المشكلة هي الخلط بين الدين وعلم الدين فالدين هو ما انزله رب العالمين، أما علم الدين فهو آراء البشر ||
فكرة الاصالة الشائعة في بلدنا هي تعبير عن رؤية كسيحة ترتاب في قدرة الجماعة الانسانية على صياغة ذاتها وزمنها. وترتاب في قدرتها على اكتشاف مصالحها وصياغة القيم والمفاهيم المناسبة لتبرير تلك المصالح. ولهذا فهي تشدد على العودة الى مبررات ومفاهيم صاغها الماضون. فكأن هؤلاء الذين يتحدثون عن الاصالة يربطون بين قيمة الفكرة وزوال موضوعها. حين يتحدثون في السياسة او الاخلاق او السلوك اليومي مثلا يستذكرون عصر الخلافة الاسلامية باعتباره الزمن المعياري للصحة والخطأ، وحين يتحدثون عن الادب يستذكرون العصر الجاهلي، وحين يتحدثون عن العلوم النظرية والتجريبية يستذكرون العصر العباسي. لقد استفدنا من التجربة السياسية والاخلاقية والادبية والعلمية في تلك العصور. لكن لا اجد اي مبرر لاعتبار تلك التجارب معيارية تقاس عليها كل تجربة اخرى.
لا اشك ان انسان هذا العصر اقدر من اسلافه الذين عاشوا في العصور الماضية على ابداع حلول اكمل، لانه يعرف تجربة اولئك وتجارب من جاء بعدهم، اضافة الى ما يستخلصه من تجربته الخاصة. مجموع هذه المعارف تفوق كثيرا ما توفر للاسلاف. نحن نرجع الى تجربة الاسلاف للحصول على علم، لا باعتبار تلك التجربة حدودا نهائية للقيمة. القيم الاساسية مثل العدل والحرية والنظام ثابتة وموضوعية، ولا تختلف في عصر عن عصر آخر، اما معايير التطبيق والعمل فيجب ان تتناسب مع الزمن ومع حاجات الانسان الذي يعيش في ذلك الزمن، ولا فضل لاهل زمن على غيرهم في هذه الناحية، ولهذ فمن الخطل ان نحول الماضين الى مرجع قسري او حصري، او حتى مقدم على المعاصرين.

الحاجة للتراث

- تتساءل عن مدى حاجتنا الحقيقية للتراث، وتقول أننا أصبحنا كحراس المتاحف أو الذين يعتمدون في معيشتهم على مرافقة الأموات، وكأنك تفترض أن شروط النهضة لن تتحقق إلا بقطيعة شبه كاملة مع التراث، وتقول أن التراث الجيد هو الذي نسخره وليس الذي يسخرنا.. هل هناك تراث جيد وتراث سيء؟
لا شك اننا نحتاج الى بعض التراث كي يعيننا على فهم ديننا وكي يساعدنا في اعطاء معنى لبعض جوانب حياتنا. لكننا لا نحتاجه ابدا كقيد على عقولنا، ولا نحتاجه كحبل يشدنا الى الماضي السحيق، ويعطلنا كلما اردنا اللحاق بقطار الحياة في عصرنا. 
التراث الجيد هو التراث الذي نسخره ونستخدمه ونتحكم فيه وليس الذي يسخرنا ويستخدمنا ويتحكم في عقولنا. التراث الجيد هو المعلم الذي يساعدنا على معرفة ما عنده كي نتجاوزه الى ما هو اعلى منه. التراث الجيد جسر ثابت بين زمنين او مكانين، يحمل الناس من زمن الى زمن، او من مكان الى مكان، ثم يتركهم احرارا كي يواصلوا دربهم بينما يبقى هو ثابتا في مكانه او زمانه.
اما التراث السيء فهو راعي الماشية الذي يرسلها الى المرعى، لكنه يعيدها الى حظيرته آخر النهار. فهي مهما انطلقت فانها تتحرك ضمن دائرة محددة آخرها العودة الى الحظيرة نفسها. التراث السيء هو السقف الذي يوفر مساحة للحركة تحته لكنه لا يسمح لك بتجاوزه الى ما هو اعلى منه. التراث السيء هو الجسر الذي يحملك الى نهايته لكنه يمنعك من الانتقال الى الضفة الاخرى، فيبقيك محصورا بين حدوده، لا أنت في الماضي ولا انتقلت الى الحاضر.
- المشكلة الحقيقة في تقديرك هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري، وترى في التدين السائد في العالم الإسلامي معيقا للنهضة، يبدو هذا الخطاب صادما للعقل الجمعي فكأنك تتهم التدين بأنه سبب تخلفنا؟
• ادعوك للتنبه الى الفارق الجوهري بين الدين وفهم الدين. الدين كما انزله رب العالمين لا جدال فيه. بل اعتقد بعمق في انه طريق فسيح للنهوض والتقدم. اما التدين فهو افهام الناس لذلك الدين وتطبيقهم لتلك الافهام، وهي بطبيعة الحال قاصرة عن بلوغ مراد الخالق، ومتلونة بطبائع الناس وذهنياتهم المختلفة وثقافاتهم. ولهذا ترى مفهوم التدين في المغرب غيره في مصر او اليمن او المملكة او تركيا او ايران او ماليزيا. هذه كلها مجتمعات مسلمة، لكن لكل منها مفهوم خاص وطريقة في التطبيق مختلفة. وورد في الحديث 'من بدا جفا' وهو يشير الى تاثير الظرف الجغرافي او نمط المعيشة فيه على ذهنية الفرد وسلوكه. من هنا فان حديثنا لا يتناول الدين، بل فهم الدين وتطبيقاته. وازعم ان بعض الافهام والكثير من التطبيقات معيقة للنهضة.
من بين المعيقات الواضحة نذكر الخلط بين موضوعات الدين «وهي احكام» وموضوعات العلم «وهي اوصاف وتفسيرات». ومنها التصور العدواني للعلاقة بين المسلمين وسائر البشر. ومنها غياب رؤية عقلانية عن حقوق الانسان والتعدد الثقافي والاثني.. الخ. لكن اشد العناصر اعاقة هي انكار فردانية الفرد واستقلاله وكفاءته والتركيز الكامل في قيم الجماعة الدينية على دور الجماعة وكونها محورا للقيمة والاعتبار. واظن ان غياب مفهوم الفردانية وانكار استقلال الفرد في ثقافتنا الدينية هو جذر للعشرات من اوجه القصور والضعف وتعطيل احتمالات النهضة. الفردانية تعني في المقام الاول حق الاختلاف والتمايز وحرية الفكر، واحترام المبادرة الفردية، وهذه من ابرز اركان النهضة. لو تاملت في انماط التدين السائدة في معظم المجتمعات المسلمة، فسوف ينكشف لك اتفاقها جميعا في عناصر الاعاقة السابقة الذكر.
- التدين حولنا في كل مكان، ومظاهر التدين صارت أكثر وضوحا في كافة أنحاء العالم الإسلامي، ولكنك تصر أن الدين فقد وظيفته الاجتماعية وأصبح شأنا فرديا، كيف يكون ذلك وهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الحياة في مجتمعاتنا؟
• فقد الدين وظيفته الاجتماعية لانه لم يعد ملكا لمجموع الناس، بل اصبح حكرا على طبقة خاصة تملك نوعا من السلطة. وهي تستعين بهذه السلطة في فرض مراداتها وارائها تحت عباءة الدين، وقد تكون مجرد اراء فردية او اعرافا وتقاليد لطائفة محددة من الناس. ظهور التدين في كل مكان هو تعبير عن نفوذ الطبقة التي تحتكر الشأن الديني، وهي بالطبع قادرة على ان تصل الى كل انسان حتى داخل بيته. لكن هذا مختلف تماما عن اندماج الدين في الحياة العامة وهدايته لها. لو سألنا اليوم اي مسلم: ماذا يريد الاسلام لمجتمع المسلمين، فسيجيبك فورا بانه يريدهم اعلى الناس شأنا بعلمهم وقوتهم الاقتصادية واستغنائهم عن الغير ونفوذهم في نظام العلاقات الدولية. لكن لو نظرنا الى الواقع فما الذي سنراه؟. نرى الناس جميعا مؤمنين بالدين ملتزمين بشعائره، لكن جماعة المسلمين متأخرة عن كل ما يريده الإسلام من ازدهار العلم وقوة الاقتصاد والاستغناء عن الغير والقوة السياسية. فهذا دليل بسيط على الفارق بين مراد الدين وحال جماعة المسلمين المتمسكة به. التفسير الوحيد لذلك هو ان نمط التدين السائد لا يوفر الفرصة الكافية كي تتبلور فاعلية الدين في اطار الجماعة، وتحديدا في الاتجاه الذي شرحته.
|| نعيش في حال التباس بسبب شعورنا بالحرج من البحث في موضوعات معينة خشية ان تكون مصادمة للقيم الدينية ||
سوف استخدم مصطلحا معروفا في بحوث التنمية السياسية وهو "الاجماع" وهو غير الاجماع المعروف عند الفقهاء. وخلاصته ان نمو المجتمع الوطني مشروط بوجود نوع من التوافق الطوعي بين افراده على منظومة معايير تنظم العلاقة بينهم، تحدد صورة مستقبلهم، وكيفية العمل المشترك لتحقيق اهدافهم وحل خلافاتهم. هذا الاجماع غائب للاسف بسبب غياب المساواة بين افراد الجماعة المسلمة، وغياب حرية الفكر والتعبير والاختلاف، ومنع النقاش في في ما يعتبره البعض مقدسات دينية او اعرافا ضرورية. خلاصة القول ان التدين منتشر في كل مكان، لكن الاجماع غائب. يمكن للوظيفة الاجتماعية للدين ان تظهر بوضوح في اطار حركة اجتماعية من اجل التقدم، لكن هذه متوقفة على قيام ذلك الاجماع.
- تفصل ما بين التراث والدين. ولكن واقع حال ثقافتنا اليوم يمحو ذلك الخط الفاصل ما بين التراث والدين، فما هو تراث وثقافة اجتماعية صار دينا لا يمكن مقاربة حدوده الشائكة واختلطت الأصول بالحواشي، وعملية الفصل تبدو مستحيلة في ظل المناخ الثقافي الذي نعيش فيه.. هل توافقني على ذلك؟
• يميل الناس في العادة الى البحث عن تبرير لما يريديون وما يفعلون كي يرضوا ضمائرهم، وكي يحققوا الانسجام بين ما يدّعونه وما يفعلونه. وتجري هذه العملية بصورة عفوية تماما. عملية اضفاء المعنى على الفعل تجري في غفلة. كمثال على ذلك فان غالبية الناس في بلادنا – وهم جميعا مؤمنون – ينظرون الى سائقيهم وخدمهم وعمالهم الاجانب كطبقة ادنى منهم، ويعاملونهم على هذا الاساس، مع انهم جميعا يقرأون تعليمات الدين الحنيف التي تؤكد على تساويهم معهم. المثال الاخر في مكانة النساء التي تشير اليها الاية المباركة ﴿ المؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض ﴾ وهي صريحة في أهلية النساء وحقهن في تولي المناصب السيادية في الدولة والمجتمع «ما يسمى في الفقه بالولايات»، وان لهن من حرية الاختيار ما للرجال سواء بسواء. لكننا مع ذلك اعطينا الولاية وحق الاختيار للرجل، وحصرنا دور المراة في السمع والطاعة. في كلا المثالين اتينا باعراف او تقاليد اجتماعية والبسناها رداء الدين، لاننا نريدها من جهة، ولاننا – من جهة اخرى - نريد ان يكون عملنا مبررا ومقبولا. 

||مفهوم العلمانية ليس قالبا نهائيا، وليس الغرض من الكلام فيه هو دائما ابعاد الدين عن الحياة العامة||
بالمناسبة فاني لا ارى ضيرا في هذه العملية، اي الباس الاعراف والتقاليد والمصالح عباءة الدين. بل اظن انها عملية طبيعية ستجري سواء احببناها ام كرهناها، وسواء اعترفنا بها او انكرناها، لان الانسان يميل بطبعه الى البحث عن معنى لما يفعل، هذا المعنى هو قيمة مسبقة يؤمن بها كمعيار للحسن والقبيح. من دون هذا المعنى يشعر الانسان بغربة ما يفعل، وهو لا يفعل الاشياء الغريبة اذا كان مختارا. ان كثيرا مما نصفه بالحسن او القبيح هو اشياء نرغب فيها او نبغضها، وقد لا تكون حسنة في الواقع او قبيحة في الواقع. وفي هذا النطاق بالذات نجد اشخاصا يفعلون اشياء متباينة يراها بعضهم حسنة ويراها الاخرون قبيحة، ولكل منهم تبريرات هي القيم التي تلقي على الفعل المعنى المراد. اختيار هذه القيمة او تلك عملية فردية تختلف من فرد الى اخر او من مجتمع الى آخر. كمثال على ذلك فان تعدد الزوجات يعتبر في بلادنا عملا عاديا، او مرغوبا، بل يعتبر احيانا من علامات الوجاهة والثراء، بينما يعتبر في ايران وتركيا مثلا من الاعمال القبيحة، ومن النادر جدا ان تجد وجيها او شخصا معروفا يتزوج باخرى، لانه في الغالب سيفقد احترامه بين انداده من رجال النخبة.
خلاصة القول ان تداخل الاعراف والمصالح والتقاليد مع القيم الدينية هو امر اعتيادي ولا ينبغي ان يثير القلق. لكن المشكلة تكمن في تناسي الناس للخط الفاصل بين ما هو دين وما هو تقاليد البست رداء الدين. التقاليد بطبعها مرتبطة بالزمان والمكان ونظام المصالح الذي تولدت في اطاره، ولهذا لا يصح تجريدها من تلك القيود وتعميمها كما لو كانت دينا. نعرف طبعا ان مبررات الالتزام بالدين موجودة في داخله، اما مبررات الالتزام بالتقاليد فهي موجودة في خارجها، اي في المكان والزمان ونظام المصالح الذي اوجدها.
- ترى أن الفقهاء القدماء ساهموا في التباس الدين بالعرف، وإضفاء صفة القدسية الخاصة بالأحكام الدينية على كثير من العادات وبالتالي تحويلها إلى مقدس، كيف حدث هذا؟ وما هي أدلتك عليه؟
• أصل المشكلة في ظني هو الخلط بين الدين وعلم الدين. وقد اشرت سابقا الى ان الدين هو ما انزله رب العالمين، اما علم الدين فهو اراء البشر من علماء ومفسرين ورواة، وهم جميعا غير معصومين، يصيبون ويخطئون، ويتاثرون بما يحيط بهم من مصالح ومشكلات وضغوط، وما يتوفر في بيئتهم من علوم وثقافات وانماط حياة. عمل الفقيه او المفسر او المفكر ليس منفصلا عن الظرف الذي يعيش فيه.
دعنا نأخذ مثلا الاختلاف في صحة بعض الروايات المنقولة عن النبي (ص) : السبب الذي جعلها تنسب الى رسول الله، مع ان كثيرا من الفقهاء والاصوليين يشككون فيها، لسندها او لمتنها او لمفهومها. لا بد ان هناك اسبابا في البيئة الاجتماعية ولدت الحاجة اليها، وهناك اسباب مقابلة ولدت الشك فيها، هذه الاسباب هي افهام او افكار بدت لوهلة انها بديهية او ضرورية، لخدمة غرض ديني او دنيوي. لكن – وبسبب غياب الممارسة النقدية الحرة جرى تثبيت تلك الافهام باعتبارها قيمة مستقلة قائمة بذاتها. هناك امثلة على قواعد عقلية اتخذت نفس المسار، واقرب امثلتها قاعدة سد الذرائع التي استدل بها بعض الفقهاء المعاصرين على تحريم قيادة النساء للسيارات. ويريد البعض تثبيت هذا الراي الفقهي بغض النظر عن الظرف الخاص الذي استدعاه او المكان الخاص الذي كان يقتضيه. الحكم القائم على قاعدة سد الذرائع يتخذ لحاجة مرتبطة بظرف محدد وليس مستقلا، ولا يصح تعميمه الى ما يتجاوز ذلك الظرف. 
||في بلادنا كثير من المفكرين واصحاب الاراء الناضجة. لكنهم صامتون خوفا من الاذى||
المثال الاخر هو القاعدة التي يسميها الاصوليون بالتسامح في ادلة السنن، اي الروايات التي تفيد استحباب شيء او كراهة شيء آخر. غالبا ما يتساهل الفقهاء في التدقيق في الروايات التي تتحدث عن آداب فردية او عامة، لانها لا ترتب الزامات. لكنها من ناحية اخرى تساهم في صياغة رؤية الجماعة لنفسها وحياتها. من ابرز الامثلة على ذلك الروايات المتعلقة باللباس والزينة والسلوك الفردي، والتي اختلط فيها ما هو امر رباني بما هو عرف لجماعة او قبيلة او منطقة.
هناك ايضا تصوير الفقهاء السابقين للمصالح والمفاسد. ثمة جدل حول تعريف المصالح، هل يرجع الى العرف العام ام هو متروك للفقهاء. في الماضي والحاضر يقدم الفقهاء تعريفاتهم الخاصة للمصالح، والمصالح ويستدلون عليها بنصوص او قواعد شرعية. لكننا نعرف ان موضوع المصلحة متغير بحسب الزمان والمكان. تظهر المشكلة حين ياتي اشخاص، من اهل العلم او غيرهم، في زمن متأخر، ويسقطون تعريفا قدمه فقيه توفي قبل خمسة قرون، على مصلحة حاضرة، لا يجمع بينها وبين سابقتها غير الاسم. ثمة ميل شديد الى تثبيت الاسماء والعناوين القديمة، ربما ينبيء عن عجز عن صياغة مفاهيم جديدة منبثقة من حاجات اليوم وشروط البيئة. مثال ذلك مفهوم الحسبة الذي اختصرناه من مفهوم المحاسبة ومنع الظلم الى مفهوم ضيق قريب مما يعرف في بلاد اخرى بشرطة الاداب. ومثله ايضا مفهوم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني حرية النقد في المجال العام ويمارسه جميع اعضاء المجتمع، وقد ضيقناه الى وظيفة تقوم بها مؤسسة خاصة تراقب بالتحديد سلوك الافراد.
هذه الاشكالات ليست من انتاج فقهاء اليوم، بل بدأت قبل زمن بعيد. لكن فقهاء اليوم لم يتعاملوا معها تعاملا نقديا كما يفترض في المجتهدين، بل اخذوها كمسلمات. ربما لانها تتناغم مع مألوفهم ، وربما لان مبدعيها قد ماتوا وتقادم عليهم الزمن، وقد جرت عادتنا على تقديس ما مضى وتقديمه على ما هو حاضر، او لاننا غير قادرين على اجتهاد يتجاوز الشكليات والظواهر الى ما تحتها من مفاهيم او قيم او قواعد.
- تقول أن لكل وقت أسئلته، وأجدني أتفق معك في ذلك ولكن إذا كنا لم نجب على سؤال الأصالة والمعاصرة بعد وهو سؤال أثير منذ اصطدامنا بالغرب وانهزام السيف أمام البارود.. وإذا كنا في زمن ما بعد الحداثة لا نزال مأزومين بثنائيات على شاكلة التراث والحداثة والخصوصية والعالمية، فكيف نستطيع الإجابة على أسئلة وقتنا؟ وما هو في تقديرك السؤال الأهم اليوم؟
• يؤسفني القول ان التحديات التي نواجهها لا تسمح لنا برفاهية الاختيار. نحن نعيش في عالم تبلورت معايير القوة فيه وأصبح الطريق الى القوة واضحا لكل عاقل. وهناك الكثير من التجارب التي يمكن لنا ان نرجع اليها كي نحدد اولوياتنا ومن بينها تجاربنا الخاصة. 
في ظني ان علينا انجاز ثلاث مهمات رئيسية، اذا نجحنا فيها فسوف نشق طريقا سريعا الى القوة والتقدم:
 المهمة الاولى: ترسيخ قيم حقوق الانسان، وابرزها احترام استقلالية الفرد وكفاءته وتساويه والحماية القانونية لحرياته الاساسية، وحقه في المشاركة النشطة في صناعة القرار المؤثر على حاضره ومستقبله.
المهمة الثانية: ترسيخ قيمة العلم والبحث العلمي، وتطوير نظامنا التربوي والتعليمي كي يساهم في تشكيل بيئة محفزة لانتاج العلم.
المهمة الثالثة: توسيع قاعدة الانتاج الاقتصادي باتجاه التحرر من الارتهان لمنتج وحيد هو البترول. ونحن نملك اليوم الموارد اللازمة لتوسيع تلك القاعدة ولدينا الفرص. من امثلتها الحج والعمرة الذي لا زلنا نتعامل معه كعبء بينما يمكن ان يشكل موردا اقتصاديا عظيما لو تعاملنا معه كفرصة. ولدينا الموارد المالية والبشرية والاسواق التي تشكل اساسا متينا لصناعة ضخمة ومتنوعة.
 لقد بدأنا فعليا في اختبار تلك المهمات وظهر لنا فائدتها، ولهذا فاننا لا نبدأ من الصفر، لكني اشدد على الحاجة الى التعامل الجاد معها وتكريس الجهود كي نحولها من مسارات ثانوية كما هو وضعها الراهن الى جوهر العمل العام وغرضه الرئيس لمدة لا تقل عن عقدين من الزمن. اي ان نجعل نجاحنا كمجتمع او فشلنا مرهون بنجاحنا في انجاز المهمات الثلاث خلال مدة زمنية محددة.
- تجديد الخطاب الديني قضية تثار منذ زمن بعيد، وهو دون شك ضرورة إذا ما أردنا النهوض واللحاق بركب الحضارة الحديثة التي نصر على أن نعب من منجزاتها دون قدرة على إنتاجها.. ما هي أبرز المعوقات التي تواجه تجديد الخطاب؟
• الحياة الدينية للفرد والمجتمع هي جزء من حياته اليومية العادية. عالم الدين بثقافته وتقاليده وحدوده وهمومه تشكل جزء عضويا من روح الجماعة وشخصيتها وسلوكها. ولهذا فانه يتعسر تجديد الخطاب الديني ما لم يكن هناك مسار تجديد شامل يطال مختلف جوانب الحياة والثقافة. بعبارة اخرى فان تجديد الخطاب الديني هو جزء من فكرة النهضة الاجتماعية وليس مسارا مستقلا بذاته. بديهي ان مجتمعا ساكنا متخلفا لا يستطيع انتاج ثقافة حية ومتجددة ولا يستطيع انتاج علم جديد. نحتاج الى تجديد حياتنا الاجتماعية كي ننتج ثقافة جديدة، واظن ان الشرطين الاولين لتجديد الحياة الاجتماعية هما التطبيق الكامل لمباديء حقوق الانسان، واصلاح نظام التربية والتعليم.
 رجوعا الى الجانب النظري من المسألة، يفهم تجديد الخطاب الديني على واحد من ثلاثة وجوه، كل منها يعبر عن نوع محدد من الهموم والاستعدادات :
 الاول: تحديث الادوات والوسائل وطرق العرض، مع المحافظة على المضمون القديم، وهذا يشبه اصدار طبعة حديثة لكتاب قديم. وهذا هو منهج التيارات المحافظة التي ترى ان كل ما ورثناه من الماضين طيب ولا ينقصه غير الوسيلة المناسبة للوصول الى المتلقين، ولهذا فهي تركز على ادوات التوصيل من دون تعديل جدي في المحتوى. مناهج التربية والتثقيف الديني في بلادنا هي اوضح الامثلة على هذا المسار.
الثاني: اعادة تفسير التعاليم القديمة واستخراجها من حالة السكون الى حالة الحركة، اي تحويلها من تعليمات محايدة الى تعليمات حركية قابلة للتوجيه والاستعمال في الصراع الثقافي والاجتماعي. وهو منهج الحركيين الذين يركزون على توجيه الافكار المتجذرة في نفوس الناس نحو اتجاه مختلف، اي تحويلها من ساكنة او محايدة الى نشطة، مثل فكرة الجهاد التي استثمرت كأداة رئيسية لتجنيد الانصار وصناعة القوة السياسية في الصراع ضد السلطة او ضد الغرب او ضد قوى اجتماعية منافسة.
الثالث: مراجعة القواعد والاصول فضلا عن الفروع بحثا عن روح التشريع، اي الرسالة الداخلية التي يمكن وضعها في صيغ مختلفة بحسب اختلاف الازمنة والاماكن والموضوعات. وهو منهج المفكرين الذين يركزون على تطوير الفكرة اكثر من اهتمامهم برد فعل الجمهور.
من الواضح ان المنهج الاول هو الاكثر رواجا وهو تعبير عن الرغبة العميقة في الابقاء على المألوف، اما الثاني فيرتبط رواجه بالازمات، حيث توفر الازمة دوافع قوية لظهور الافكار الثورية. المنهج الثالث هو منهج الاقلية، لكنه في الغالب المحرك الاقوى للاصلاح الطويل الامد. ان ابرز الاصلاحات في الثقافة والنظام الاجتماعي هي ثمرة اعمال المفكرين سواء كان نقدا للسائد او اقتراحا لبدائل.
- تطالب بالفصل بين الدين والعلم في ذات الوقت الذي تطالب فيه باستئناف المصالحة بين العلم والهوية، أين يجتمع هذان المطلبان؟ . كما تطالب بالفصل بين الدين والعلم تطالب بالفصل بين الدين والسياسة، وتؤكد أن دور الدين في السياسة يقتصر فقط في تقديم القيم والمعايير الأساسية، وليس نماذج العمل التي تختلف بالضرورة من زمن لآخر، أليست هذه دعوة صريحة لتبني العلمانية؟
• المقصود من الفصل بين الدين والعلم هو التمييز بين العلم والحكم. وهما مرحلتان في العمل العلمي ولا بد من الفصل بينهما كي نكتشف الحقيقة. مثاله الرأي الفقهي في عمل البنوك: يمكن ان نبدأ بالحكم فنقول ان اخذ الفائدة على القرض او دفع الفائدة على الوديعة هو عمل البنك، وهو يطابق موضوع احكام الربا الواردة في القرآن الكريم. وهكذا ينتهي الموضوع. وبالعكس من ذلك يمكن ان نبدأ بدراسة عمل البنك ودوره ضمن النظام الاقتصادي القائم، وطبيعة العلاقة بين راس المال والعمل والقيمة الاقتصادية لكل منهما، اي دور كل منهما في توليد القيمة المضافة، ثم تحديد القيمة الاجتماعية للقيمة المضافة ذاتها، وهي تختلف بحسب النظام الاقتصادي وتوزيع مصادر المعيشة من جهة، وبحسب دور المال كمصدر للقوة الاجتماعية والسياسية من جهة اخرى، ثم نقارن نتائج هذه الدراسة بنظائرها في زمن النص «اي النظام الاقتصادي وحركة راس المال والعمل وتوليد القيمة المضافة وقيمتها الاجتماعية في ذلك الزمن». وبناء على هذه المقارنة نبحث في مدى التطابق بين 'موضوع' احكام الربا الواردة في النص و'الموضوعات' المطروحة حاليا. الفارق بين الطريقتين ان الحكم جاء متاخرا في الحالة الثانية الى ما بعد الدراسة العلمية المحايدة، اما في الحالة الاولى فقد قدمنا الحكم واهملنا العلم بالموضوع، ولهذا فقد خرجنا بنفس النتيجة التي كنا نعرفها سلفا، اي اننا لم نقم باي جهد علمي حقيقي.
هناك من يقول اليوم بان"الفائدة" ليست جوهر العملية الربوية، بل الاستخدام الاجتماعي للمال، والتوازن بين حصة راس المال وحصة الجهد الانساني في توليد القيمة المضافة، ولهذا فهؤلاء يجيزون القروض التنموية دون الاستهلاكية. والخلاصة ان المسألة بحاجة الى بحث ولا ينبغي الوقوف عند ظواهر الاشياء والتسرع في الاحكام.
المثال الثاني يظهر في المعالجات الراهنة لمسألة العنف، سواء العنف السياسي «الارهاب» او الجنائي «المخدرات، السطو.. الخ». التفسير الرائج للعنف السياسي يربطه بالغلو في الدين ويقارنه بحالة الخوارج في العصور الاسلامية الاولى. والتفسير الرائج للعنف الجنائي يربطه بالتفلت من تعاليم الدين وهو يربطه بالاعلام الفاسد وتزايد المال وضعف العلاقات الاسرية الخ.
بدلا من التسرع في اصدار احكام، نحتاج الى مراجعة التفسيرات العلمية المتوفرة حول ظاهرة العنف في كلا وجهيها السياسي والجنائي. هذه التفسيرات هي نتاج لدراسات وبحوث علمية ركزت على حالات محددة، فهي اذن تجربة كاملة، وأول العلم قراءة التجارب. قد لا نستفيد من ذات النتائج لانها ربما ترتبط عضويا بالتجربة التي انتجتها، لكنها على الاقل سوف تنير الطريق امامنا للبحث في الاسباب المحتملة لهذه الظاهرة. ربما يكون سببها الرئيس اقتصاديا، وربما يكون سببها تفكك منظومات القيم الاجتماعية، او لعل سببها العجز عن التكيف. وربما يكون السبب هو ما قيل اي عجز المعنيين عن استيعاب الصورة الصحيحة للدين، او ضآلة تاثير التوجيه الديني عليهم. وهذا بذاته يقودنا الى سؤال: لماذا، الذي يحتاج الى بحث علمي لا اصدار حكم سريع.
خلاصة الفكرة اذن هي ان العلم «او الدراسة العلمية للموضوع» هي مرحلة سابقة على تحديد القيمة او اصدار الحكم الديني. البحث العلمي يجب ان يجري من دون قيود، وغرضه الوحيد هو الوصول الى الحقيقة، وبوسعنا ان ناخذ بهذه النتائج او نرفضها فيما بعد، لكننا على اي حال نعرف اننا قد بذلنا جهدا معقولا في فهم موضوع الحكم قبل اصداره.
اما الدعوة الى المصالحة بين العلم والهوية «والمقصود هو الثقافة الدينية باعتبارها المكون الرئيسي للهوية» فهي ترتبط بذات الاساس السابق. اذكر مثلا ان العالم العربي ابن الهيثم وصف في كتابه "المناظر" معادلة فيزيائية صمم على ضوئها النموذج الاولي للكاميرا في أزمان تالية. وكانت فكرته تدور حول انتقال الضوء والتناظر بين أحجام المرئيات. ولو واصل العرب نشاطهم العلمي لكانت الكاميرا اختراعا عربيا. كان ابن الهيثم رياضيا وعالما في الدين. لكن فقهاء القرن العشرين حرموا التصوير في أول الامر لانهم طبقوا النصوص الواردة في صناعة التماثيل على عمل الكاميرا. تحريمهم هذا ناتج عن عدم معرفتهم بالفيزياء وعمل الكاميرا. واصدارهم الحكم مع عدم علمهم هو نتاج لاعتقاد سائد فحواه ان كل شيء وكل جديد يجب ان تحدد قيمته على ضوء ما ورد في الكتاب والسنة. نعرف ان هذا مستحيل لان النص توقف عند زمن محدد ولا يمكن ان يستوعب كل جديد في الحياة. وحسب راي الامام الغزالي فان النص محدود والموضوعات لا محدودة ومحال ان يستوعب المحدود غير المحدود. فيما بعد جاء فقهاء وقالوا ان عمل الكاميرا هو حبس الضوء وليس النحت او التمثيل وبناء عليه اجازوا التصوير. ومن هذا وذاك نعرف ان المصالحة بين العلم والهوية تعني على وجه التحديد توضيح الخط الفاصل بين ما هو موضوع اشتغال للحكم الديني وما هو موضوع لعمل العقل والعلم، ما يدخل ضمن تخصص الفقيه وما يخرج عنه. 
|| لا طريق للتقدم والاصلاح من دون حرية النقد المطلقة التي لا تحدها قوانين ولا قيود ولا احكام ولا اعراف ولا مجاملات ||

نحن اليوم نعيش في حال التباس بسبب شعورنا بالحرج من البحث في موضوعات معينة او علوم معينة، خشية ان تكون مصادمة في الجوهر او في العرض للقيم الدينية. نحن في حرج لان الراي السائد هو ان البحث في الدين مقصور على من درس كتبا معينة، في مدراس معينة، وبطريقة معينة. وهذا يجعل سائر المسلمين من اهل العلم وغيرهم مستبعدين قسرا من النقاش في امور الدين وما يخص تطبيق قيم الدين في الحياة اليومية. نحن في حرج ايضا بسبب تصورنا ان كل شيء يجب ان يكون قد ورد في الكتاب والسنة او ان له حكما فيهما. والحق ان اكثر جوانب الحياة تصنف ضمن المباحات اي انها موضوعات لعمل العقل، والاحكام التي نصدرها عليها هي احكام اخلاقية تقوم على معايير عقلية بحتة.
في اطار المصالحة بين العلم والهوية نحتاج الى تحرير العلم من التصنيف التقليدي الى طيب وخبيث او جائز ومحرم، واعتبار العلوم كلها «بما فيها علوم الشريعة» محترمة، لكن غير مقدسة، واعتبار نتائجها مؤقتة وتاريخية لا معصومة ولا نهائية، وفتح الباب امام كل عالم في اي تخصص لقول رايه العلمي سواء جاء مطابقا لما قاله الفقهاء السابقون، او ما يقوله فقهاء هذه المدرسة او تلك، او مخالفا لجميعهم. راي هذا العالم وراي الفقهاء السابقين والمعاصرين كلها غير مقدسة، بل هي تاريخية وقابلة للنقد من دون حرج.
- العلمانية مصطلح سيء السمعة، رغم أن الكثير من المفكرين الإسلاميين يرون أن للعلمانية جذور في عمق الدين الإسلامي؟ ألا ترى أنه حان الوقت لقشع الضبابية المحيطة بهذا المصطلح وتبييضه ليدرك عامة الناس ماهيته؟
• نحن مصابون بمرض اسمه نقل القوالب والجدل فيها ثم اصدار الاحكام عليها من دون فتحها وتفكيكها. هكذا فعلنا بالعلمانية وهكذا فعلنا بالسيارة ايضا. الا ترين ان خلاصة علم الميكانيكا عندنا هو استعمال المنتجات المستوردة بدل تفكيكها واعادة انتاجها ضمن شروط وحاجات بيئتنا الخاصة. خلاصة ما يمكن قوله هنا ان العلمانية بالمفهوم الراسخ في الثقافة الاوربية نقيضة لثقافتنا وغير قابلة للتنسيج فيها. ونحن لسنا مضطرين للاخذ بكل ما يقوله الاخرون. لكننا بحاجة الى دراستها والتفكير فيها. نستطيع التمييز بين العلمانية كمذهب او ايديولوجيا خلاصتها الفصل بين الدين والحياة العامة، وبين العلمنة اي المسار الذي يؤدي الى نزع القداسة عن بعض الاحكام ذات المصدر الديني وتحويلها الى اعراف مفتوحة لتصرف البشر. من ذلك مثلا تحويل بعض الاحكام الشرعية الى قوانين وطنية تطبق باستعمال قوة الدولة، فيطيعها الناس خوفا من العقاب الدنيوي او رغبة في المكافأة المادية، لا رغبة في طاعة الله ورضاه. هذه القوانين دنيوية او علمانية «بحسب بعض التعريفات» رغم ان مصدرها ديني. يمكن ان نفكر في العلمانية كتجسيد لاستقلال العلوم وتمايزها عن بعضها فثمة علوم دينية وثمة علوم غير دينية مثل العلوم الطبيعية والتجريبية والرياضيات والفلسفة الخ، فهذه يمكن ان توصف بالعلمانية لتمييزها عن العلوم الدينية. 

أخيرا يمكن ان نفكر في العلمانية في صورة فصل "المؤسسة الدينية" عن "مؤسسة الدولة"، وجعل الايمان اهليا اختياريا للافراد لا قسرا عليهم، واقامة قوانين الدولة على ارضية المصلحة العرفية لا على اساس النص الديني، وجعلها بالتالي موضع نقاش ونقد بين العامة لا مقدسات يحرم الكلام فيها. او يمكن التفكير في الفصل بين الحكم الديني والعلم الديني، الحكم الديني واجب الطاعة اما العلم الديني فهو قابل للنقد والمعارصة.
خلاصة القول ان مفهوم العلمانية ليس قالبا نهائيا، وليس الغرض من الكلام فيه هو دائما ابعاد الدين عن الحياة العامة. في كثير من الحالات يكون هدف النقاش هو تخفيف الاعباء التي حملت على كاهل الدين واثقلته بما ليس منه. وتقديم الدين للمؤمنين كسبيل للحياة والتقدم لا كقيد في ايديهم وعلى عقولهم. 
لكن لا شك ان مفهوم العلمانية السائد في الغرب لا يتناسب مع معتقداتنا الدينية. وبالمناسبة فقد نشرت كتابا مشتركا مع خمسة باحثين بعنوان "الديمقراطية في بلد مسلم"، وهو عمل تجريبي يستهدف اختبار العلاقة الممكنة بين ما نعتبره دينيا وما يعتبره الغرب علمانيا، وركزت هذه المحاولة على الصور الممكنة للتقريب بين قيم الدين ومباديء الديمقراطية، وهو يقدم شروحات مفصلة حول الاحتمالات الممكنة للجمع بين الطرفين.
- لا يمكن أن نتقدم دون ممارسة النقد الذاتي ولكن هناك عقبات كثيرة تقف أمامنا.. ما هي في تقديرك أبرز هذه العقبات؟ وكيف نعيد تفعيل قيمة جهاد النفس وربطها بالنقد الذاتي؟
• ابسط صور الممارسة النقدية هي ان يقول كل رأيه في النقطة المحددة من دون سعي الى اقناع الطرف الثاني بهذا الراي، اي يخلق خيارا جديدا ويترك للاخرين حق الاختيار. النقد الموضوعي هو الذي يتوجه الى الفكرة المطروحة للنقاش ويغض الطرف تماما عن صاحب الفكرة. نحن نفتقر الى النقد لاننا نفتقر الى النقاش العلمي. النقاشات عندنا قليلة جدا، ومعظم هذا القليل يتناول الاشخاص ويساجل دفاعا عن الذات. الناقدون يضعون نصب عينهم اسم صاحب الفكرة وانتماءه الايديولوجي او السياسي او الجغرافي «واحيانا الاثني» وينظرون الى ارائه من خلال هذه الزوايا. لهذا تجدهم يحتفون بافكار بسيطة واحيانا ساذجة لاشخاص معينين ويحتقرون افكارا عظيمة لاشخاص آخرين.
في بلادنا كثير من المفكرين واصحاب الاراء الناضجة. لكنهم صامتون خوفا من الاذى او بسبب ضيق المساحة المتوفرة للتعبير الحر عن الرأي. في الصحافة نعاني من تضخم في الرقابة وارتياب من جانب الرقباء وانعدام تام للمعايير المكتوبة التي على ضوئها يسمح او لا يسمح بالنشر.
 لدينا اذن مشكلة الافتقار الى اطارات قانونية ومؤسسية تضمن حرية التعبير وتحمي اصحاب الاراء من العسف والتحكم. لدينا اخيرا مشكلة الخلط بين الراي والدعوة. فريق من النخبة ينظر الى الراي كأمانة ومسؤولية، ويطالب الكتاب بان لا يقولوا شيئا يخالف قواعد راسخة او اعرافا جارية او متبنيات لهذا الفريق او ذاك. ويبرون هذه المطالبة بان القلم امانة وان الصحافة المنشورة تؤثر على افكار الناس وعقولهم، وهم لا يريدون للناس ان يعرفوا شيئا سوى ما هو مؤكد الصلاح.
في رأيي ان هذه المبررات وتلك المطالبات كلها سقيمة لا تصلح ولا تصلح. الراي ليس أمانة بل اعلان عن معرفة قد تتفق مع المتعارف او تتمايز عنه. ووظيفة الكاتب ليس اصلاح الناس بل التفكير والتعبير عن افكاره. والناس ليسوا دجاجا في حظيرة كي نتحكم في الغذاء والهواء الذي يصل اليهم. اول العلم هو حرية التعبير والنقد والاختلاف. وليس ثمة طريق للتقدم والاصلاح من دون حرية النقد، واعني الحرية المطلقة التي لا تحدها قوانين ولا قيود ولا حكام ولا اعراف ولا مجاملات.
- تطرح قضية التفكير في الذات وأهميته وتحليل الأمور وتفكيكها وعدم قبولها على علاتها أو ما يسمى بالعقلية النقدية. ولكن كيف يتكون العقل النقدي ومنظومتنا التعليمية قائمة على آلية التلقين والقولبة، وإعادة إنتاج الآت تحفظ ولا تفهم وتستظهر ولا تفكر؟
• حين نتحدث عن الذات، فان جوهر حديثنا يتعلق بفهم الذات، وقدرة الفرد على ان يفكر في ذاته من دون ان يتأثر بتصوره المسبق حول هذه الذات. وهو ما يعرف في الفلسفة باسم الذاتانية او subjectivity. ينطوي هذا النقاش على اسئلة عديدة، بعضها ضروري كي يحدد الفرد مكانه في العالم. 
لعل اول الاسئلة وابسطها هو سؤال العلاقة بين الفرد والجماعة: هل انا فرد مستقل بذاته، مستقل بعقله وفكره، قادر على التعبير عن ذات خاصة غير ذائبة في المجموع. ام انا نقطة في بحر المجموع، مجرد كسر يكمل الرقم، او امتداد لواحد من الوان اللوحة. هل اصنع هويتي الخاصة ام ارثها او استعيرها من الهوية الجمعية. هل انا الذي اصوغ حياتي ورؤيتي وتطلعاتي ام انا منساق فيما صاغه غيري من اسلوب حياة او رؤية للعالم او تطلعات؟. هل انا هنا لاني قررت ان اكون هنا، ام لان الاقدار ساقتني الى هذا المكان؟. هل احمل هذه الرؤية لانني توصلت اليها بعقلي الخاص، ام لأن عائلتي او مدرستي او مجتمعي زرعوها في عقلي؟. هل انا انا لاني اردت ذلك ام لان غيري قرر لي ان اكون كذلك؟. 
|| الحريم الشخصي هو المكان الذي يتمتع فيه الفرد بوجوده الانساني الخاص، الذي قد يتوافق وقد يختلف مع الغير. خلافا للمجال العام الذي يمثل نطاقا مشتركا بين الناس ||
 حين تطرح هذه الاسئلة على بعض الناس، فان جوابهم السريع - والمتوقع – سيكون: حسنا.. الفرد مستقل وهو في الوقت نفسه جزء من الجماعة، لديه هوية فردية واخرى عضوية. واذكر كتابا قديما للاستاذ محمد قطب حاول فيه مناقشة المسألة، وتوصل في ختام تلك المناقشة الى هذه التسوية التي يعرفها جميع الناس حتى لو لم يناقشوا الامر. 
نعرف بالبديهة ان الفرد لا يعيش في فراغ بل وسط جماعة. لكننا نتكلم عن جانبين مختلفين: الاول هو الحدود الفاصلة بين ما هو فردي وما هو جمعي، والثاني ارضية النقاش هل هي استقلال الفرد ام محورية الجماعة. اذا قلنا باستقلال الفرد فيجب ان نقر بوجود مجالين متمايزين في الحياة الاجتماعية: المجال الخاص والمجال العام. 
المجال الخاص حريم شخصي للفرد، يمارس فيه رغباته وحرياته المطلقة واراداته الخاصة، ولا يجوز خرقه او الحكم او التحكم فيه او اصدار القوانين او تحديد الحركة ضمنه من جانب اي طرف ولاي مبرر. الحريم الشخصي هو المكان الذي يتمتع فيه الفرد بوجوده الانساني الخاص، الذي قد يتوافق وقد يختلف مع الغير. خلافا للمجال العام الذي يمثل نطاقا مشتركا بين الناس، ولذلك فهو مجال اشتغال الارادة الاجتماعية والقوانين والسلطات والاعراف والتوافقات الخ. 
ويترتب على القول باستقلال الفرد توفير الحماية القانونية لحقه في مخالفة الجماعة، وعدم ايقاع عقوبات رجوعا الى اعراف او توافقات او قناعات جمعية، الا اذا حددت سلفا في القانون العام.
هذه الاسئلة هي المنطلق في تحديد فلسفة التربية والتعليم. نظامنا التعليمي اليوم يدور في الجوهر حول نقل الموروث الثقافي والتجربة الاجتماعية الى الجيل الجديد، فهو اذن يركز على التواصل والاستمرارية بين الاجيال، ولا يهتم الا نادرا بالتغيير او القفز على الفواصل الزمنية. الطريقة المتبعة هي ذات الطريقة المعروفة في الكتاتيب القديمة، اي شرح النص واقناع الطالب بان هذا النص هو اطار الحقيقة وحدودها. وهذه الطريقة سائدة في تعليم العلوم الانسانية والعقيدة وفي تعليم العلوم الطبيعية والتجريبية وحتى الرياضيات. فلسفة التربية والتعليم في بلادنا تستهدف اذن انتاج نسخ جديدة عن الجيل القديم مع القليل من التعديلات. 
|| لا اشك ان انسان هذا العصر اقدر من اسلافه الذين عاشوا في العصور الماضية على ابداع حلول اكمل ||
اذا اردنا انتاج جيل مفكر ومنتج للعلم، فنحن بحاجة الى تربية عقل شكاك ومتسائل، عقل متمرد على الاطر والموروثات. عقل يتطلع الى كشف الغيب وليس الوقوف امام جدرانه، عقل يؤمن بالغيب، اي بوجود عالم وراء المشهود والمعروف والمتفق عليه. الايمان بالغيب هو ايمان بوجود اوسع من الوجود المرئي والمشهود، وان الانسان مكلف وقادر في الوقت عينه على الوصول الى ذلك العالم اذا خرق جدار الغيب، اي اذا فكر وجرب وتأمل في الاشياء وحاول عبور السطح الظاهر الى ما تحت السطح من خفاء.
العقل المفكر والعقل المتسائل والعقل الشكاك يحتاج الى بيئة تسمح بالاختلاف، وتقدر المبادرة الفردية ولو كانت مخالفة للسائد. نحتاج اذن الى فهم الذات باعتبارها حرة مستقلة، قائمة بذاتها، شجاعة في ابداع الجديد، لا مجرد "صامولة" في الة ضخمة اسمها المجتمع، وظيفتها الوحيدة هي تسهيل عمل الالة او تكميل الوان اللوحة.
- لاحظت في كتابك «الحداثة كحاجة دينية» أنك لا تفصل بين التحديث والحداثة، ألا ترى أننا نحتاج لهذا الفصل والتفريق بينهما لنعي أن ما حدث في عالمنا العربي هو تحديثات دون تبني للأساس المعرفي القائمة عليه وهو الحداثة؟
• الحداثة هي تيار في الفكر الانساني ظهر في القرن السابع عشر الميلادي، ويدور بمجمله حول فهم جديد لثلاثة عناصر متفاعلة: الانسان الفرد، الزمن، العلم.
الانسان – عند الحداثيين - محور الكون وهو غايته ونهايته. كل شيء من صنع الانسان وكل شيء غرضه تحسين حياة الانسان. الزمن – عند الحداثيين – هو الحاضر والمستقبل، اما الماضي فهو مجرد مخزن للافكار والمعلومات يرجع اليه الانسان متعلما لا مستفتيا. اما العلم فهو المعرفة الناتجة عن الفحص والتجربة والنقد واعادة التجريب في اطار منهجي يسمح بالتفنيد والتعديل. ولا يوجد عندهم علم معصوم. كل ما ليس قابلا للنقد او التفنيد فليس علما، بل ميتافيزيقا تقبله او ترفضه بحسب ارادتك بغض النظر عن دليله. 


 تركز دعوى الحداثة على قابلية الانسان لصياغة ظرفه الحياتي وتطوير بيئته والسيطرة عليها اعتمادا على المعرفة العلمية والتجربة والاستخدام السليم للتقنيات التي يطورها لحل مشكلاته. تدعو الحداثة الى اختبار كل وجه من وجوه الحياة الانسانية لكشف سبل التقدم وما يعترضها من معوقات وتطوير حلول علمية لازاحتها. وهي اخيرا تنبذ السكون، وتركز على التغيير المتواصل باعتباره الطريق الطبيعي للارتقاء، وترحب بكل مختلف عن السائد باعتباره نافذة محتملة على مستقبل افضل.
وبالمقارنة فان التحديث هو العمل الهادف الى ارساء القيم الاساسية للحداثة في الحياة الاجتماعية، اي التاكيد على محورية الانسان الفرد كسيد للكون، وهدف للتشريعات، وصانع للحياة. والتركيز على العلم كاساس لاتخاذ القرار في المجالين الفردي والاجتماعي. والنظر الى الحاضر باعتباره اعلى قيمة من الماضي واكثر كمالا، واعتباره النطاق الاساس لكل الجهود التي غرضها صياغة المستقبل.
من الناحية المبدئية نعتبر الحداثة مرحلة متطورة في تاريخ الانسانية وسعيها للارتقاء. لكنا لا ناخذها كقالب جاهز. بل نتعامل معها تعاملا نقديا، وهدفنا هو اعادة انتاجها ضمن الشروط المادية والثقافية الخاصة بمجتمعاتنا. قد نقبل بعض اجزائها ونرفض الاخر، وقد نقدم بعضها ونؤخر الاخر او نعدله. في كل الاحوال نعتبر الحداثة "معرفة" و "تجربة" مفتوحة لاي جهد انساني، بغض النظر عن الاطارالحضاري الذي ظهرت فيه وتطورت. 
|| الأغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة ||
التعامل الانتقائي مع الحداثة يختلف عن التعامل النقدي. في التعامل الانتقائي يقتطع الانسان اجزاء وينقلها، وهذا هو الجاري في المجتمعات العربية. فنحن ننقل نظم البناء الغربية كما هي، وننقل التقنيات المختلفة وننقل النظم الاقتصادية والمالية من دون تعديل. اما الذي ندعو اليه فهو اعادة انتاج الحداثة، اجزاءها او مجموعها، ضمن الشروط الثقافية والمادية الخاصة بنا. اعادة الانتاج تاتي ضمن قراءة نقدية تتعلق بقيم الحداثة نفسها وبموضوعات اشتغالها المقترحة في آن واحد. 
في الاقتصاد مثلا نحن ننقل قوانين عمل تطورت في اطار فلسفة اقتصادية- اجتماعية مختلفة، وقد لا تلبي حاجاتنا، لا سيما بالنظر الى الفارق الكبير في الثقافة وفي مستوى النمو بين مجتمعاتنا والمجتمعات الصناعية. كان من الافضل لنا ان ندرس علم الاقتصاد من جهة وندرس حاجاتنا من جهة اخرى، فنعدل قوانين العمل تلك او نبتكر بدائل كي تستوعب وتلبي هذه الحاجات لا ان ننقل نسخة كاملة عن البنك الاوربي والبيروقراطية الاوربية الخ. خلاصة القول اننا بحاجة الى انتاج حداثتنا الخاصة، ويمكن ان تكون القراءة النقدية للحداثة الاوربية هي الخطوة الاولى في هذا الطريق.
- علاقتنا بالغرب كانت ولازالت علاقة شائكة وأنت تطالب بالانفتاح على الثقافة الغربية، وترى أننا ندور بين فشلين فشل في الإتباع وفشل في الإبداع، وأن الخروج من هذه الدائرة لا يكون إلا بإعادة الإنتاج من خلال العلاقة النقدية.. كيف السبيل إلى ذلك إذا كان مثقفونا أنفسهم إما مستلب للغرب وإما ناقم عليه؟
• علاقتنا مع الغرب هي واحدة من نقاط التازم البارزة في تاريخنا المعاصر. نحن نكرهه ونرغب فيما عنده. نتألم من هيمنته ونخشى من الانفكاك عنه. نطالبه بالعدل معنا ونتجاهل قيامنا بالعدل فيما بيننا. وهناك اضافة الى هذا هيمنة السياسة على تصورنا لهذه العلاقة. فكلما تحدثنا عن الغرب قفزت الى واجهة الحديث صورة الدولة القاهرة المهيمنة. وباء السياسة جعل النقاش الموضوعي مستحيلا. وجعل كل متحدث عن فضائل الغرب غبيا او مشبوها.
لا نتكلم عن الغرب بالمفهوم الجغرافي، بل بالمعنى الثقافي والزمني. نحن بعبارة اخرى نتحدث عن التجربة وارضيتها الفلسفية والمعرفية، سواء جرت هذه التجربة في بريطانيا او اليابان او في مصر او السعودية او اي مكان آخر. الغرب الثقافي والحضاري هو رمز لمرحلة تاريخية هي الاخيرة في تاريخ البشرية وسعيها المتواصل من اجل التقدم وتسخير الموارد التي اودعها الله في الكون وطلب من عباده استثمارها ﴿ هو انشأكم في الارض واستعمركم فيها ﴾. 
اذا اردنا النهوض فان نقطة البداية هي استيعاب ما وصل اليه الغربيون، وفهم مصادر القوة التي قادت الى هذه الحضارة او تولدت في اطارها، ثم العمل على اعادة انتاجها ضمن نسيجنا الثقافي الخاص وتبعا لحاجاتنا ومصالحنا الخاصة. بين ابرز مصادرالقوة التي كشفت عنها تجربة الغرب، اشير الى التفكير العلمي والعقلاني، وانتاج العلم، والابداع في مجال الاقتصاد، وتمكين المجتمع من المشاركة الفاعلة والمؤثرة في صياغة الحياة العامة والمستقبل. وامامنا امثلة قريبة مثل كوريا الجنوبية التي بدأت بتقليد الصناعة الغربية وهي اليوم تنافسها في عقر دارها. وقبلها اليابان وسياتي في السنوات القليلة القادمة مثال الصين، وبينهما تجارب عديدة من ماليزيا الى البرازيل. في كل هذه الاقطار جرى التركيز على الانسان باعتباره منتج العلم والمدنية. 
ونحن اليوم نشكو من ان النشاطات التي تسمى تنموية تركز على الاشياء وتهمل الانسان. فنحن نفتقر الى اجماع حول محورية الفرد وحول حقوق الانسان ولا سيما حرية التفكير والتعبير، كما نفتقر الى التربية المدرسية التي تبني العقل العلمي والتفكير العقلاني، واخيرا نفتقر الى الاطارات القانونية والمؤسسية التي تسمح بمشاركة الافراد في صياغة النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه والمستقبل الذي يسعون اليه. يمكن لنا ان نتعلم الكثير من التجربة الغربية، نتعلمها ثم نطور تجربتنا الخاصة التي قد تكون مرحلة موازية وقد تاتي بمستوى ارقى مما وصل اليه الغربيون. لكن في كل الاحوال لا يمكن الابتداء من الصفر، ولا يمكن اغفال تلك التجرب القيمة، سواء احببناها ام كرهناها. 


مقالات  ذات علاقة
-------------------


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...