28/03/2024

دين الانسان

 اكتب هذه السطور تأييدا لرؤية الدكتور رضوان السيد ، المفكر المعروف ، في مقاله المنشور بهذه الصحيفة نهاية الاسبوع الماضي. كان د. رضوان يعقب على نقاشات "المؤتمر الدولي: بناء الجسور بين المذاهب الاسلامية" الذي استضافته مكة المكرمة في الاسبوع المنصرم. وزبدة رأيه ان على الهيئات الدينية ورجال الدين ، ان يتبنوا مفهوما محددا لتجديد الفكر الديني ، محوره فهم "المعروف في إطار عالمي". وينادي د. رضوان باطلاق مبادرات مشتركة تجمع النخب الدينية الاسلامية مع نظرائها في المجتمعات الاخرى ، هدفها تعزيز المفاهيم والاعمال التي يتفق فيها أهل الاديان وتخدم البشرية بشكل عام. ويضرب مثالا على هذا بالمبادرات الرامية الى اغناء الحياة الروحية ، وحياة الأُسرة وتطوير التعليم ، وحقوق المرأة والطفل.

د. رضوان السيد

على السطح تبدو هذه المهمة سهلة المنال ، فهي طموح مشترك لجميع محبي الخير في العالم ، من اتباع الأديان وغيرهم. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول الانجليز. التعاون يحتاج – كما نعلم – الى تعارف ، يتلوه اعتراف متبادل بحق كل طرف في اختيار طريقة عيشه في الدنيا وسبيل نجاته في الآخرة. هذا يعني بصورة محددة القبول العلني بتعددية الفهم الديني ، او – على وجه الدقة – الفصل بين المصدر الاصلي للدين ، أي القرآن الكريم وبين المعارف والشروح والتفسيرات التي قامت حوله ، والتي نسميها معارف دينية او تراثا دينية.

نعلم انه لا خلاف على القرآن ولا مكانته. لكن ثمة خلاف عريض حول ما يأتي من بعده ، ولاسيما المعارف التي انتجها العلماء طوال القرون السالفة ، حتى اليوم. وشهدت السنوات الأخيرة جدلا حول مكانة السنة النبوية ، ولا سيما كونها حاكمة على فهمنا للقرآن ، وكونها مصدرا مستقلا للتشريع ، عابرا للزمان والمكان. وهو نقاش له مبرراته طالما بقي في الاطار المدرسي / العلمي البحت. وأشير هنا الى ان المعارضين لاعتبار السنة وحيا ثانيا ، كما عند الامام الشافعي ، يستندون الى مبررات علمية متينة. وفي العام الماضي تابعت حلقة دراسية تجاوزت مدتها 40 ساعة ، حول هذا الموضوع بالذات ، فوجدت ان أدلة هذا الفريق ليست هينة.

ما سبق بيانه يتعلق بتعددية المعرفة الدينية والتفسير ، أي تعددية الاجتهاد في إطار الشريعة الإسلامية. وقبوله يعني – بالضرورة – قبول تعدد المذاهب والآراء مهما بعدت عن قناعاتنا الراهنة. لكن دعوة الدكتور رضوان تذهب مسافة ابعد مما ذكرنا. فهي تعني – ان أردنا تفسيرها – تحرير "الخير" من الهوية الدينية/المذهبية وجعله مشتركا إنسانيا ، يشارك فيه المؤمن انطلاقا من ايمانه ، من دون ان يحصر ثمار عمله في اطار الجماعة التي تحمل هويته وتشاركه قناعاته.

أعتقد ان تطورا كهذا سوف يعيد هيكلة الفهم الديني ، ليس على مستوى العلاقة مع غير المسلمين فقط ، بل حتى على المستوى النظري ، أي فهم النص الديني والاجتهاد في اطار الشريعة. وفي أوقات سابقة ، تحدث عدد من كبار الفقهاء والمفكرين عما اعتبروه انفصالا بين الفكر الديني والواقع الحياتي الذي يعيشه الانسان المعاصر ، سواء في المجتمعات المسلمة او خارجها. وأرى أن أوضح وجوه الانفصال المدعى هو رفض "مبدأ الحسن والقبح العقليين". وفقا لهذا المبدأ فان كل فعل بشري ينطوي – في جوهره – على حسن او قبح ، يدركه عامة العقلاء ، بغض النظر عن أديانهم ، وان قدرة العقل على إدراك حسن الفعل وقبحه كاف لتحديد قيمته الأخلاقية ، أي اعتبار الحسن موجبا لمدح فاعله واعتبار القبح موجبا لذمه ، سواء ورد فيه نص ديني ام لا.

اما الوجه الثاني الذي يكشف الانفصال بين الشريعة والواقع ، فهو الفصل التعسفي بين الاحكام الشرعية ومقاصدها ، او تحديد المقاصد في ما ذكره الاسلاف ، دون الاخذ بعين الاعتبار حقيقة كونها اجتهادية وانها قابلة للانكماش والتوسع او حتى الاستبدال.

هذه اذن لمحة سريعة ، وجدتها ضرورية لوضع رؤية الدكتور رضوان في السياق الذي أراه مناسبا ، واحسب اني قد أوضحت الفكرة بما لا يحتاج الى مزيد بيان.

الشرق الاوسط الخميس - 18 رَمضان 1445 هـ - 28 مارس 2024 م      https://aawsat.com/node/4936376

مقالات ذات صلة

 

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

كي لايكون النص ضدا للعقل

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

21/03/2024

رحلة البحث عن الذات

 

قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني "حكاية سعودية" ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ: ان لم يكن سيرة ذاتية ، فما هو موضوعه اذن ، ما الذي يقوله الكتاب وما الذي اراده الكاتب؟.

بالنسبة لي فالكتاب اقرب الى دراسة في "تاريخ الافكار". وهذا - للمناسبة – حقل علمي لم ينل حظه من الاهتمام حتى اليوم. وأذكر مثلا ان أعمال الفيلسوف البريطاني ايزايا برلين (1909-1997) تصنف عادة ضمن هذا الحقل. لعل غيري من القراء صنفه كدراسة في تكوين الهوية. والحق ان هذا الوصف اقدر على الجمع بين فصول الكتاب.

المدينة المنورة التي انطلق منها الكاتب أحتلت جانبا محدودا من الفصل الاول. فقلت لنفسي: ان سيرة الشخص هي – في جانب رئيسي - تاريخ المكان الاجتماعي الذي ينتمي اليه ، فلماذا لا يبدو المكان بارزا هنا؟. وضعت بعض الاحتمالات ، لا استطيع الجزم بأي منها. احتمالات من قبيل ان المدينة منذ تلك الحقبة ، أي ستينات القرن العشرين ، لم تكن مجتمعا مستقرا  بل لعل الوصف الاقرب اليها انها مجتمع في حال سيولة ، يكثر الآتون اليها ويكثر الخارجون منها. وبالنظر لخصوصية الوضع الديني – العلمي للمدينة ، فهذه الحركة البشرية تجلب معها ثقافات متفاوتة واعراقا مختلفة ، تحتاج لوقت طويل كي تندمج فتشكل وحدة اجتماعية. وهو وقت لم يكن متاحا في غالب الاحوال.

لكن لو اعتمدنا تفسير الكاتب نفسه ، فهو يأخذنا سريعا الى رحلته المصرية ثم الامريكية ، وهما – فيما بدا لي – المرحلتان الاعمق اسهاما في تكوين الاسئلة التي شغلت ذهنه طيلة العقدين التاليين. المهم اذن هو ولادة الاسئلة التي ستحدد مسار الحياة.

في الفصل الثاني سنفهم العلاقة بين نكبة حزيران 1967 وبين اختياره للصحافة كمحور لحياته التالية. الواقع ان معاناته كطالب أجنبي في الولايات المتحدة في تلك السنوات ، قد عمقت شعوره بالحاجة لتصميم هوية "يختارها بنفسه" لا الهوية التي يفرضها المحيط. خلال هذه المكابدة ، كان قد لاحظ النقطة الغامضة التي نادرا ما التفت اليها أمثالنا ، اي عملية القولبة او التنميط القسري التي يفرضها عليك المحيط ، فتتقبلها بصورة عفوية لانك لا تعرف بديلا ، او تضطر لقبولها لانك لا تحتمل كلفة البديل. في الفصل 12 يقدم مدني معالجة عميقة ومفصلة الى حد ما عن هذه القصة ، ويذكرنا بمقولة شهيرة للمناضل الجنوب افريقي ستيف بيكو "ان اقوى سلاح في يد الجبابرة هو عقل المقهورين".

لقد رسمت المجتمعات الغربية صورة للعالم الاسلامي ، تجعله مستحقا للقهر ، لانه عاجز عن اكتشاف تخلفه ، وعاجز في الوقت نفسه عن تجاوز تلك المحنة ، او ربما غير راغب في التغيير. هذه الفكرة تقبلها كثير من المسلمين ، وباتت – وهذا هو الجانب المؤلم في القصة – مبررا للتعامل معهم تعاملا فوقيا ، او حتى تبرير اذلالهم. وضع العرب والمسلمون في موقف من يتوجب عليه تبرير قناعاته وسلوكياته ، والإجابة على كل سؤال يختاره الطرف الاخر. ان تقبل المسلم لهذا الموقف واعتياد الطرف الآخر عليه ، انشأ تعريفات ضيقة لما هو صحيح وما هو خطأ ، اي ما يسمح بقوله وما يجب السكوت عنه. وهذي هي المرحلة الحاسمة في توليف الهوية الفردية.

لم يقل اياد مدني صراحة انه اراد اصدار صحيفة باللغة الانكليزية ، كي تساهم في تصحيح هذه الصورة البائسة ، مع انه أشار الى ان صحيفة كهذه ، سوف تخبر العالم بان لدى هذه البلاد واهلها ما يستحق ان يقال وما يجب الاصغاء اليه. المرحلة الاخيرة في رحلة البحث عن الذات ، هي العودة الى المكان الذي خرج منه. المهمة الرئيسية الآن هي ان تختار هويتك بنفسك. ربما لا يرتاح الاخرون لرؤيتك على هذا النحو ، لكن المهم ان تقتنع بها أنت ، حينئذ سيعمل الزمن لصالحك وسيضطر الاخر الى قبولها في نهاية المطاف. هذا هو ملخص الحكاية السعودية.

الشرق الاوسط الخميس - 11 رَمضان 1445 هـ - 21 مارس 2024 م

https://aawsat.com/node/4923371

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حكاية سعودية.. تحولات اياد مدني

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

الهوية المتأزمة


14/03/2024

حكاية سعودية.. تحولات اياد مدني

 

عدت في الايام الماضية الى كتاب الاستاذ اياد مدني "حكاية سعودية" الذي نشر العام الماضي باللغة الانكليزية. وهو من نوع الكتب التي يصعب تقليب صفحاتها ، دون وقفة للتأمل او تدوين ملاحظة او العودة الى رأس الفقرة.

اياد مدني

بدأ الكتاب كسيرة ذاتية. لكنه تجاوز هذا الاطار ، فقدم مقاربات عميقة في تكوين الهوية لدى الجيل العربي الذي تبلورت مداركه في ستينات القرن المنصرم. ومن هذه الزاوية فالكتاب لا يشبه السير الذاتية ، التي يلعب صاحبها دور بطل القصة ومحور أحداثها. فبعد تمهيد موجز ، سرعان ما يتراجع دور البطل ليبرز دور الشاهد على العصر ، حيث يكون خط التحول التاريخي ومراحل التحول هي المحور الرئيس للقصة. صحيح ان صاحب السيرة يبقى لصيقا بالموضوع ، لكنه يضع مسافة بينه وبين مجريات القصة ، فيعالجها من خارجها. ومن هنا فهو يمارس دور المفسر والمحلل الذي عاش التجربة فعلا ، لكنه لم يغرق في زخمها ، ولم يخفت وعيه بالمسافة التي تفصله عن مسارها ، وهي مسافة تتقلص احيانا وتتسع احيانا اخرى ، لكنه يبقى محافظا على موقع المراقب ، حتى لو بدا كما لو انه تلاشى في لجة الموجة.

يتطلب الأمر قدرة ذهنية عالية كي تكون في وسط التيار دون ان تغفل دور المراقب لتموجاته ، اي ان تكون متداخلا معه متخارجا عنه في نفس اللحظة. لا أدري ان كان هذا ما حصل تماما ، لكن القدرة على وصف تحولات السياسة والمجتمع ، وانعكاسها على النظريات والافكار الكبرى ، ليست بالأمر السهل ، سيما اذا كان المتحدث منخرطا فيها او متأثرا ببعضها. سواء استطاع المراقب تسجيل وصفه وتحليله في وقت مواز لحصول التحول ، أو حصل بعده ، فان النظر للاشياء من خارجها ، مع انك – بصورة من الصور – متداخل معها ، ليس بالامر اليسير.

سوف اعرض بعض التحولات التي شرحها الاستاذ مدني ، في مقال لاحق. لكن شد انتباهي  قصة في الصفحات الأولى ، استطيع اعتبارها المرحلة الاولى في تحولات الهوية ، وهي تشكل جانبا مهما من الحكاية السعودية: نعلم ان المدينة المنورة – مسقط رأسه – كانت منذ قديم الزمان مركزا علميا ، يقصده العشرات من طلبة العلوم الشرعية ، ويقيم فيها عدد لافت من كبار الفقهاء والمحدثين من مختلف البلاد الاسلامية. ومن هنا فالمتوقع ان تكون عاصمة للكتب والمكتبات. لكن الاستاذ مدني يخبرنا ان والده الاديب المعروف "أمين مدني" قرر ان ينتقل الى القاهرة مع عائلته حوالي العام 1958 ، كي يكمل كتابا له يدرس تاريخ الجزيرة العربية قبل الاسلام. هذه النقلة لشاب في الثانية عشرة لم تكن مجرد انتقال جغرافي ، بل نقلة من عالم الى عالم آخر مختلف تماما ، لا سيما في تلك الأيام.

هذا مدخل اساسي للتحول المتوقع في هوية الشاب. لكن القصة لم تبدأ هنا ، بل تبدأ عند اشكالية كون المدينة مركزا علميا بارزا ، ومع هذا لم تتوفر فيها المراجع التي يحتاجها باحث في التاريخ. لقد احتاج مدني الأب للسفر الى القاهرة كي يحصل على المراجع الضرورية لدراسته ، وربما الاشخاص ذوي الخبرة في التاريخ. فلم لم توجد هذه المراجع في المدينة؟.

سوف يشير الاستاذ مدني في صفحات اخرى الى انكفاء الدراسات الدينية وانكماشها على ذاتها ، الامر الذي مهد لتبلور اتجاهات سطحية أو متشددة ، ساهمت – من بين عوامل اخرى – في دفع اجيال المسلمين للبحث عن ذواتهم وعن عالمهم المنشود في دوائر ثقافية أخرى. ابسط تمظهرات التشدد كان افتقار ابرز مراكز العلم الديني للكتب والمراجع التي تنتمي لمختلف الثقافات والعوالم ، والتي تساعد طلاب العلم على فهم تحولات العالم المحيط بهم والبعيد عنهم.

هل كان هذا هو الدافع وراء جولة الاستاذ مدني الطويلة بين مختلف التيارات والافكار ، ام كان الأمر طبيعيا ، اي نتيجة لفوارق مادية وثقافية لم يكن بالوسع تلافيها؟.

الشرق الاوسط الخميس - 04 رَمضان 1445 هـ - 14 مارس 2024 م

https://aawsat.com/node/4910181

07/03/2024

ركز ياعزيزي!

وصلتني هذا الأسبوع ثلاثة أسئلة ، أظنها نموذجا للنقاشات غير المفيدة ، أي تلك التي أدعو اصدقائي الكرام للزهد فيها. لعل القاريء العزيز يذكر ان مقالاتي الأخيرة تناولت مسألة الحداثة وحاجتنا اليها وبعض الفروق الرئيسية بين عصر الحداثة وعصر التقاليد. وفي هذا السياق كتب احد الأعزاء متسائلا "ما هو مفهوم الحداثة الذي تقصده". وسأل آخر عن المقصود بالعصر ، وهل أعني العصر في المفهوم الإسلامي ام الغربي. وتناول الثالث فكرة التقليد ، ولماذا نعرضها في سياق سلبي نوعا ما ، مع ان الدول الصناعية المتقدمة تتمسك بتقاليدها وتفخر بها.

وذكرني هذا بأسئلة مماثلة واجهتها في اوقات سابقة ، عن المقصود بالمساواة والحرية والقانون وأمثالها. بديهي انني لا امانع من تلقي هذه الأسئلة أو غيرها. لكني اود ان يهتم القاريء بالموضوع المطروح للنقاش وليس الالفاظ المستعملة في عرضه. وذكرني هذا بمشروع لاحد زملاء الدراسة يتضمن شرحا لديوان "أغاني الحياة" للشاعر التونسي الشهير ابي القاسم الشابي. خصص الزميل فصلا من 20 صفحة تقريبا لشرح العنوان ، وقد افرط في تعداد معاني كلمة "أغاني" وكلمة "الحياة" واستعمالاتهما المنفردة والمجتمعة وتاريخ ظهور الكلمة ومواطن تكرارها ، وسياقات استعمال كلمة "الحياة" في القرآن وكلمة "أغاني" في شعر العرب القديم.. الخ.

وقد علق الأستاذ على هذا العمل بانه قليل الفائدة ، وطلب حذف الفصل كله ، فغضب الزميل أشد الغضب ، واعتبر قول الاستاذ إهانة لشخصه ، لأنه عمل فيه نحو ستة أشهر. ولسوء الحظ فان غضبه انتهى بتركه للدراسة والكتابة والابتعاد عنهما تماما.

والذي يهمني بيانه اننا نستعمل الالفاظ والمصطلحات في السياقات المتعارفة في هذا الزمان ، ولا نخترع لها معاني من عندنا ، كما نتجنب الاستعمالات المخصوصة او الغريبة. ولا بد أن القراء يعرفون ان موضوع البحث وسياق الكلام يحددان المعنى الدقيق للفظ والمصطلح. وقد التفت اهل القلم للفارق المتوقع بين الاستعمال السي
اقي والاصطلاحي وبين الاستعمال اللغوي الدقيق ، فوضعوا للأول عنوانا هو "التعريف/الاستعمال الاجرائي" الذي يعني انه يؤخذ كما يفهم في العرف السائر بين الناس او بحسب السياق ، حتى لو اختلف قليلا عن المعنى اللغوي الدقيق.

 وهذا سائر في كل العلوم وكافة اللغات. ونعلم مثلا ان القرآن الكريم استعمل العديد من الالفاظ في معنى غير معناها اللغوي ، واطلق عليها دارسو الشريعة اسم "الحقيقة الشرعية" تمييزا لها عن نظيرتها اللغوية. ونعلم أيضا ان بعض الالفاظ تستعمل في حقول علمية عديدة ، فتنصرف الى معنى مختلف في كل من تلك العلوم.

ومثل ذلك المعاني المرتبطة بالسياق. وأذكر أستاذا لنا كان يسأل مازحا: لقد رأيت الله ، فهل رأيته أنت؟ وفي بعض الأحيان كان يسأل الطلبة المستجدين قائلا: يرى الفلاسفة انك حيوان ناطق ، فهل انت كذلك؟. وكنا ننكر تلك الاقوال في بداية عهدنا به ، ثم تعلمنا انه كان يقصد تحديدا ايضاح تاثير السياق والموضوع والزاماته.

لا يستطيع الكاتب شرح كل مصطلح يستعمله في كل مقالة. ولو فعل لضاعت فكرة المقال الرئيسية. ثم انه لا ضير في ان نختلف قليلا او كثيرا في تحديد معنى الكلمة بل حتى فكرة المقال كله ، فمقال الرأي هدفه اثارة الذهن ، ودعوة القاريء للتفكير في المسألة المطروحة. ولو نجح الكاتب في اثارة ذهن القاريء فقد حقق غرضه كاملا ، حتى لو اتخذ القاريء موقفا معارضا كليا لفكرة المقال. ليس غرضي من الكتابة اقناع القراء بأي شيء ، بل مشاركتهم في التفكير وتفصيح الأسئلة التي أراها ضرورية او مفيدة. اما النتائج فهي تخص كل قاريء بمفرده.

زبدة ما اردت دعوة القراء الأعزاء اليه ، هو: كفوا عن الانشغال بالكلمات والالفاظ ، وخذوها كما تفهموها في النظرة الأولى ، فليس المقصود غيرها ، فان تبين خطأها فلن تسقط السماء على الارض. نحن نخطيء كل يوم ونكررأخطاءنا ، ثم نكتشفها فنصحح ، وهذه طبيعة الحياة.

الشرق الاوسط الخميس - 26 شَعبان 1445 هـ - 7 مارس 2024 م   

https://aawsat.com/node/4896961

  

29/02/2024

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتطلباته ، فما الذي يتوجب فعله كي ننجز هذه المهمة؟.

الواقع ان عددا من الاصدقاء قد وجه هذا السؤال فعلا. لكني لاحظت ان بعضهم استعمل عبارات توحي بالقلق من تحول كهذا. من ذلك مثلا ، قول من قال ان الانتقال للحداثة سيؤدي للتخلي عن الدين. ومثله قولهم ان الصين واليابان وكوريا وحتى بريطانيا ، لم تتخل عن تقاليدها القديمة حين قررت ركوب قطار الحداثة ، فلماذا نطالب نحن بالتخلي عن تلك التقاليد؟.

ويتراءى لي ان هذا النوع من الاسئلة ، يستبطن رغبة قوية في التحرر من قيود الماضي. لكنه – من ناحية أخرى – يشير الى تخوف من الكلفة النفسية والاجتماعية ، التي ربما تترتب على اتخاذ القرار. الذين يطرحون هذه الاسئلة ، يحاولون القول بطريقة ضمنية: هل لديكم طريقة لتخفيف الكلفة ، نظير ما فعل الصينيون او اليابانيون مثلا؟.

حسنا دعنا نقول من حيث المبدأ اننا لا نملك دليلا نهائيا قاطعا ، على أن طريقة الحياة الحديثة او نظيرتها التقليدية ، خالية من العيوب والنواقص. في كل من الحياتين فضائل وفيها نواقص. لكن الذي ندعيه ان فضائل الحداثة اوسع واعمق من نظيرتها التقليدية ، كما ان عيوبها ايسر علاجا وأقل مؤونة. ومن هنا فانه يصعب جدا اقناع الناس باختيار هذا الطريق او ذاك. انها مسؤولية فردية. بوسع كل فرد منا ان يتأمل في حياته الخاصة والخيارات التي أمامه ، ثم يختار ما يراه اقرب لمصلحته او تطلعاته. وفي كلا الحالين سيجد ما يكفي من المبررات لدعم هذا الخيار او نقيضه.

ان التحرر من حياة التقاليد ليس صعبا جدا من الناحية المادية ، لكنه – على أي حال – يحتاج الى تبني "رؤية كونية" جديدة ، اي القواعد الكبرى التي يقوم عليها فهم الانسان لذاته وعالمه ، وعلاقته بالبشر والاشياء في هذا العالم. من بين تلك القواعد ، اريد التأكيد على ثلاث:

الاولى: الانسان محور الحياة في هذا الكون ، ولحياته وكرامته أولوية مطلقة على كل شيء آخر. وهو  - من حيث المبدأ - كائن عقلاني وأخلاقي. الانسان "الفرد" حر في اختيار عقيدته وثقافته وطريقة حياته ومتبنياته القيمية وتطلعاته المستقبلية. وهو مسؤول بصفة شخصية عن خياراته.

الثانية: لكل من الدين والعلم نطاق خاص في حياة الفرد ، لا يتعداه. يستهدف الدين توفير السكينة الروحية ، وتعميق صلة الانسان بالله والنظام الكوني الذي سخره له. ويستهدف العلم استكشاف هذا النظام واستثماره ، ومن ثم تطوير حياتنا ، وتعزيز ازدهارها المادي والاخلاقي. تشترك القيم الدينية والعقلية البحتة في وضع المعايير التي تساعدنا في تعيين ما هو صالح وما هو فاسد ، ماديا واخلاقيا.

الثالثة: الزمن عنصر جوهري في مفهوم الحداثة وتحديد القيمة العلمية للافكار. التاريخ حركة دائبة الى الامام. ما يأتي أصح واكمل مما مضى. التفاعل بين البشر وعناصر الطبيعة ، هو المصدر الاول للمعرفة. ومواصلة العقل لتعامله النقدي مع الافكار والمعلومات ، يؤدي دائما الى فهم أفضل للانسان والكون المحيط به. لا قدسية للزمن بذاته ، ولا تفضيل لحقبة على حقبة ، لكن بالنظر الى محورية الجهد البشري في صناعة التقدم ، فان ما يأتي سيكون غالبا اكمل وأصح مما مضى.

هذه القواعد الثلاث تحدد – في اعتقادي – الخط الفاصل بين عصر التقاليد وعصر الحداثة. اعتناقها كرؤية حاكمة ومعيارية ، هو ما يجعل الانسان منتميا الى العصر الجديد. لا يتعلق الامر بلباس قديم او جديد ، ولا لغة محلية او عالمية ، ولا مصادر معلومات خاصة ولا ايديولوجيا او دين بعينه. يمكن للانسان الحديث كما التقليدي ، ان يكون متدينا او ملحدا. ويمكن له ان يعيش في مدينة حديثة او في اعماق الريف. ما هو مهم هو تكوينه الذهني ورؤيته للعالم ، هل تنتمي للعصر القديم ام تتفاعل مع العصر الجديد.

الشرق الاوسط الخميس - 19 شَعبان 1445 هـ - 29 فبراير 2024 م   https://aawsat.com/node/4883681

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

البديل عن نموذج السوبر ماركت

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

التواصل الثقافي ، موديل السوبر ماركت

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

الشيخ القرني في باريس

العقلاء الآثمون

العولمة فرصة ام فخ ؟

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

من القطيعة الى العيش المشترك

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

22/02/2024

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين


ابدأ من حيث انتهى استاذنا الدكتور محمد الرميحي ، حين قال بانه "لا يمكن الاحتفاظ بالتفاحة وأكلها في الوقت نفسه". وقد سألت نفسي وأنا اقرأ مقاله البديع  (البيان 19 فبراير) : هل هناك حقا من يريد الاحتفاظ بأي شيء واكله في نفس الوقت. والحق ان المسألة لم تخطر على بالي ولا تخيلتها ، قبل هذا اليوم.

د. محمد الرميحي
 لكن الرميحي يعتقد ان الذين يريدون الانضمام الى قطار الحداثة ، ويريدون – في الوقت نفسه - الاحتفاظ بهوياتهم القديمة ، هم من هذا النوع. والسبب واضح: التقاليد والحداثة ليسا مجرد أوصاف نطلقها على نمط المعيشة ، ولا هي وظائف نضيفها على هذا النمط او ذاك ، كي يعمل بطريقة محددة. بل هي انساق متعارضة ، او "باراديم" بحسب التعريف الذي اقترحه المفكر الامريكي المعاصر توماس كون. البارادايم نمط من العيش متفرد ، اذا وجد في مكان فهو يزاحم اي نمط آخر ، حتى يلغيه او يتلاشى أمامه ، فكأنه يحتذي سيرة الشاعر الشهير ابي فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسط عندنا ..... لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

بحسب التصوير السابق ، فان الحداثة ليست مجرد تنويع على نمط معيشة قائم ، ولا هي منظومة وظائف اكثر تطورا ، تضيفها على النمط القديم ، مثلما تغير بطارية السيارة مثلا او عجلاتها او حتى محركها ، بأخرى احدث وافضل أداء. ان وجود الحداثة  يعني – بالضرورة – زوال التقاليد. لا يمكنك رؤية العناصر التي تشكل نمط العيش الحديث ، إلا اذا زالت نظائرها التقليدية. انه كرسي واحد ، يحتله واحد من النمطين ، اما التقليد او الحداثة.

لكن ما علاقة هذا التعارض بأكل التفاح أو الاحتفاظ به؟

يقول الرميحي ان شريحة واسعة من قومنا تريد الحداثة ، لكنها في الوقت نفسه خائفة من هجر التقاليد. فهم مقتنعون تماما بضرورة الانتقال الى الحداثة ، بل ان كثيرا منهم يعيشون في ظلها ، بل ربما شاركوا في بناء أركانها ، لكنهم – في موازاة ذلك – يشعرون بالقلق من احتمال خسارتهم لما اعتادوه في عصر التقاليد. ولهذا فان مشاركتهم في الحياة الحديثة أقرب الى ان تكون وظيفية براغماتية ، بينما تبقى نفوسهم مغروسة في بستان التقاليد ، لا تستطيع مغادرته.

يمكن للانسان ان يعيش على هذا النحو عمره كله: يمارس قناعاته التقليدية الخالصة في وقته الشخصي ، بينما يلتزم بمتطلبات العيش الحديث في وقت الدراسة او العمل. وكان المرحوم د. سعد الدين ابراهيم قد لاحظ منذ وقت مبكر ان الرغبة في الحفاظ على ما يعتقد الناس انه مظهر ديني قد تحول الى نوع من الحياة المزدوجة: نسق حداثي في الصباح (وقت العمل) ونسق تقليدي في المساء (الوقت الاجتماعي). لا نتحدث هنا عن اللباس او السلوكيات التي لها طابع شكلي تظاهري ، بل تلك التي تنم عن قناعات عميقة في نفس الانسان ، قناعة بقيم الحداثة او التقاليد. وقد لاحظ د. سعد الدين محاولات حثيثة من جانب الطبقات الوسطى الحديثة ، لانشاء نوع من تبادل ادوار  بين النسقين ، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره الاعراف والتقاليد الموروثة ، لكنهم في الوقت نفسه يتخلون عن مصادر الانتاج واساليب العيش المرتبطة بتلك الاعراف.

وأشار الدكتور الرميحي في مقاله آنف الذكر ، الى ان كثيرا من العرب يستشهدون بقول من قال ان الصين واليابان حافظتا على تقاليدهما الثقافية والاجتماعية ، في الوقت الذي ذهبا بعيدا في تحديث المجتمع والاقتصاد ، أي انهما – خلافا لرأي الرميحي – اكلا التفاحة واحتفظا بها في الوقت نفسه. لكنه يؤكد ان هذا القول ليس سوى محاولة لتبرير الوقوف عند اطلال الماضي. فيابان اليوم مثل صين اليوم ، تختلف عن ماضيها اختلاف الليل عن النهار.

المزاوجة بين التقاليد والحداثة مستحيلة في رأي الرميحي ، وهي محاولة عبثية في رأي د. سعد الدين ، وهذا رأيي ايضا.

الشرق الاوسط الخميس - 12 شَعبان 1445 هـ - 22 فبراير 2024 م https://aawsat.com/node/4869831  

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."

إعادة إنتاج التخلف

انهيار الاجماع القديم

بقية من ظلال الماضين

بماذا ننصح أينشتاين؟

تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

الحداثة تجديد الحياة

حول الخمول والثبات على الاصول

الشيخ القرني في باريس

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القيم الثابتة وتصنيع القيم

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من الحجاب الى "العباية" 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

15/02/2024

البديل عن نموذج السوبر ماركت

بعض الذين قرأوا مقال الاسبوع الماضي ، رأوه مغاليا في القول بامكانية التخلي عن ارثنا الثقافي لتجاوز حالة التخلف. وتساءل بعضهم صراحة: هل يعقل ان نتخلى عن ذاكرتنا الثقافية ، لمجرد ان المجتمعات الأخرى تجاوزتنا في الصناعة والتقنية والاقتصاد. فماذا لو لقيت شخصا أغنى مني أو أعلم ، فهل أتخلى عن ثقافتي كي الحق به أو اصير مثله. ولنفترض اننا تخلينا عنها ، فهل سيتبدل حالنا فنصبح مثل المتقدمين ونخرج فورا من مستنقع التخلف؟.

على ان السؤال الأكثر حرجا هو سؤال الالتزام بالدين او التخلي عنه ، فالمفهوم عند السواد الاعظم من الناس ، ان الدعوة للتخلي عن التراث او القطيعة معه ، ستؤدي بقصد او دون قصد الى انفصال المؤمنين عن ثقافتهم الدينية ، الضرورية للحفاظ على الدين نفسه.

دعني اجيب على هذه المخاوف التي اتفهمها واحترمها ، رغم مخالفتي لاصحابها. اتفهم ان لا احد سيقبل دعوة كهذه من دون توقف طويل. ولذا فقد يكون مفيدا شرح اثنين من العوامل التي تولد تلك الاسئلة القلقة ، وهما الخوف على الهوية والخوف من خسارة الذات.

ان ابرز العوامل التي تبرر الانعزال الثقافي ورفض النقد الذاتي ، هو الاعتقاد بأن الانفتاح على المخالفين ، سيثير الشك في صلابة الهوية ، والارضية التي تقوم عليها. الهوية هي الخيط الذي يربط اعضاء المجتمع او الأمة الى بعضهم ، فتضفي عليهم لونهم الثقافي الخاص ، اي شخصيتهم المتمايزة عن الآخرين ، كما تضفي الشرعية/القبول على طائفة من الأفعال والممارسات الاجتماعية ، وتنزعها عن طائفة أخرى ، فتجعلها مدانة او مرفوضة.

ومن هنا فان التشكيك في الهوية ومصادرها (الدين/التجربة التاريخية/الارث الثقافي/اللغة/سلاسل النسب) سيؤدي ليس فقط الى تغيير الثقافة العامة ، بل قد يصل أثرها الى تفكيك او اضعاف النظام الاجتماعي ومجموعة الاعراف المنظمة لسلوك الافراد.

اما الخوف من خسارة الذات ، فهو يشبه – في وجوه كثيرة – تجريد الشخص من جنسيته ، أي انتمائه القانوني الى بلد بعينه. فمع ان هذا الاجراء لا يغير شيئا في ذات صاحبه ، الا انه يفصله عن دائرة مصالح/انتماء تشكل محورا لتعريف نفسه ، ومن دونها سيشعر بالغربة وربما الضياع ، واذا كان ذا مكانة في قومه ، فان هذا التحول سيطيح بتلك المكانة او يضعفها كثيرا.

لهذين السببين ، فليس من السهل ان يقدم الانسان على حوار مع مخالفيه ، يؤدي – ولو من باب الاحتمال – الى استبدال ثقافته بثقافة المخالف ، او خروجه من دائرة المصالح/الانتماء التي ولد فيها وتربى في احضانها. هذا هو الذي يجعل نموذج السوبر ماركت ، اي الانتقاء من ثقافة الاخرين بناء على معايير ثقافتنا الخاصة ، يجعله الخيار الممكن لغالب الناس.

لكني أدعو الى خيار مختلف ، محوره هو تحكم الانسان في مكونات ذهنه ، اي ان يجعل عقله حاكما على ذاكرته ، فيمارس نقده لتلك المكونات بناء على معايير الاخر المختلف. في هذه الحالة نضع الآخر معيارا ، وننقد الذات ، بخلاف نموذج السوبرماركت الذي يضع الذات معيارا ويمارس نقده على الآخر.

ممارسة هذه العملية تحررك من قيود التاريخ والهوية ، تجعلك متحكما – الى حد ما – في الذي تقبله والذي ترفضه. لكنك مع ذلك ستبقى ضمن موقعك الثقافي القديم ، فتتحول الى متخارج عنه ، اي متفاعل معه من خارجه. في هذه الحالة ستنظر الى هذا التراث وتلك الثقافة من خارجها ، رغم انك – واقعيا – في داخلها ، اي ستعمل على وضح خط فاصل بين قناعاتك ومعاييرك وبينها ، فتختار منها ولا تغرق فيها. اذا نجحت في هذه المرحلة ، فسوف تكون كذلك بالنسبة لثقافة الاخر ، متداخلا معها ، لكنك لست في داخلها.

الشرق الاوسط الخميس - 05 شَعبان 1445 هـ - 15 فبراير 2024 م   https://aawsat.com/node/4855066

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

ان تكون مساويا لغيركمعنى التسامح

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

التواصل الثقافي ، موديل السوبر ماركت

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

سجناء التاريخ

الشيخ القرني في باريس

العقلاء الآثمون

العولمة فرصة ام فخ ؟

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...