14/03/2024

حكاية سعودية.. تحولات اياد مدني

 

عدت في الايام الماضية الى كتاب الاستاذ اياد مدني "حكاية سعودية" الذي نشر العام الماضي باللغة الانكليزية. وهو من نوع الكتب التي يصعب تقليب صفحاتها ، دون وقفة للتأمل او تدوين ملاحظة او العودة الى رأس الفقرة.

اياد مدني

بدأ الكتاب كسيرة ذاتية. لكنه تجاوز هذا الاطار ، فقدم مقاربات عميقة في تكوين الهوية لدى الجيل العربي الذي تبلورت مداركه في ستينات القرن المنصرم. ومن هذه الزاوية فالكتاب لا يشبه السير الذاتية ، التي يلعب صاحبها دور بطل القصة ومحور أحداثها. فبعد تمهيد موجز ، سرعان ما يتراجع دور البطل ليبرز دور الشاهد على العصر ، حيث يكون خط التحول التاريخي ومراحل التحول هي المحور الرئيس للقصة. صحيح ان صاحب السيرة يبقى لصيقا بالموضوع ، لكنه يضع مسافة بينه وبين مجريات القصة ، فيعالجها من خارجها. ومن هنا فهو يمارس دور المفسر والمحلل الذي عاش التجربة فعلا ، لكنه لم يغرق في زخمها ، ولم يخفت وعيه بالمسافة التي تفصله عن مسارها ، وهي مسافة تتقلص احيانا وتتسع احيانا اخرى ، لكنه يبقى محافظا على موقع المراقب ، حتى لو بدا كما لو انه تلاشى في لجة الموجة.

يتطلب الأمر قدرة ذهنية عالية كي تكون في وسط التيار دون ان تغفل دور المراقب لتموجاته ، اي ان تكون متداخلا معه متخارجا عنه في نفس اللحظة. لا أدري ان كان هذا ما حصل تماما ، لكن القدرة على وصف تحولات السياسة والمجتمع ، وانعكاسها على النظريات والافكار الكبرى ، ليست بالأمر السهل ، سيما اذا كان المتحدث منخرطا فيها او متأثرا ببعضها. سواء استطاع المراقب تسجيل وصفه وتحليله في وقت مواز لحصول التحول ، أو حصل بعده ، فان النظر للاشياء من خارجها ، مع انك – بصورة من الصور – متداخل معها ، ليس بالامر اليسير.

سوف اعرض بعض التحولات التي شرحها الاستاذ مدني ، في مقال لاحق. لكن شد انتباهي  قصة في الصفحات الأولى ، استطيع اعتبارها المرحلة الاولى في تحولات الهوية ، وهي تشكل جانبا مهما من الحكاية السعودية: نعلم ان المدينة المنورة – مسقط رأسه – كانت منذ قديم الزمان مركزا علميا ، يقصده العشرات من طلبة العلوم الشرعية ، ويقيم فيها عدد لافت من كبار الفقهاء والمحدثين من مختلف البلاد الاسلامية. ومن هنا فالمتوقع ان تكون عاصمة للكتب والمكتبات. لكن الاستاذ مدني يخبرنا ان والده الاديب المعروف "أمين مدني" قرر ان ينتقل الى القاهرة مع عائلته حوالي العام 1958 ، كي يكمل كتابا له يدرس تاريخ الجزيرة العربية قبل الاسلام. هذه النقلة لشاب في الثانية عشرة لم تكن مجرد انتقال جغرافي ، بل نقلة من عالم الى عالم آخر مختلف تماما ، لا سيما في تلك الأيام.

هذا مدخل اساسي للتحول المتوقع في هوية الشاب. لكن القصة لم تبدأ هنا ، بل تبدأ عند اشكالية كون المدينة مركزا علميا بارزا ، ومع هذا لم تتوفر فيها المراجع التي يحتاجها باحث في التاريخ. لقد احتاج مدني الأب للسفر الى القاهرة كي يحصل على المراجع الضرورية لدراسته ، وربما الاشخاص ذوي الخبرة في التاريخ. فلم لم توجد هذه المراجع في المدينة؟.

سوف يشير الاستاذ مدني في صفحات اخرى الى انكفاء الدراسات الدينية وانكماشها على ذاتها ، الامر الذي مهد لتبلور اتجاهات سطحية أو متشددة ، ساهمت – من بين عوامل اخرى – في دفع اجيال المسلمين للبحث عن ذواتهم وعن عالمهم المنشود في دوائر ثقافية أخرى. ابسط تمظهرات التشدد كان افتقار ابرز مراكز العلم الديني للكتب والمراجع التي تنتمي لمختلف الثقافات والعوالم ، والتي تساعد طلاب العلم على فهم تحولات العالم المحيط بهم والبعيد عنهم.

هل كان هذا هو الدافع وراء جولة الاستاذ مدني الطويلة بين مختلف التيارات والافكار ، ام كان الأمر طبيعيا ، اي نتيجة لفوارق مادية وثقافية لم يكن بالوسع تلافيها؟.

الشرق الاوسط الخميس - 04 رَمضان 1445 هـ - 14 مارس 2024 م

https://aawsat.com/node/4910181

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...