29/05/2012

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني



ذهلت حين سمعت أن الفريق أحمد شفيق حصد 24 في المائة من أصوات الناخبين المصريين. كان الأمر بسيطًا ومفهومًا لو ذهبت هذه الأصوات لعمرو موسى أو حمدين صباحي، لكن التصويت الكثيف لأحمد شفيق يكشف عن تأزم غير اعتيادي يجري تحت السطح. فهم هذا التأزم ربما يساعدنا أيضًا على كشف السبب الذي جعل الثورة اليمنية تنتهي بإعادة إنتاج النظام القديم بدل إرساء جمهورية جديدة. وهو قد يساعدنا على فهم تلكؤ العالم في اتخاذ موقف يدفع الأزمة السورية إلى خط النهاية المأمولة.
كنت أظن أن دول العالم ما عادت تخشى وصول الإسلاميين إلى السلطة، لكن ما جرى في ليبيا بعد سقوط القذافي، وما يجري في لبنان وسورية اليوم، يقدم مبررات إضافية على أن قلق دول المنطقة والعالم ليس مجرد ''إسلاموفوبيا'' كما كان يقال في السنوات الماضية.

ليس سرًّا أن الثورة اليمنية فتحت الباب أمام سيطرة تنظيم القاعدة على عدد من المحافظات. وليس سرًّا أن عددًا من المحافظات الليبية يخضع لجماعات دينية محلية تتبع اسميًّا فقط حكومة طرابلس. وليس سرًّا أن مراقبين عديدين يتحدثون عن احتمال مماثل في سورية ولبنان.

Mohamed Morsi-05-2013.jpg
التيار الديني كان هو القاسم المشترك في كل هذه الحوادث. هذا يثير سؤالاً جديًّا: هل يسهم الصعود الحالي للتيار الإسلامي في تصحيح مسار الدول العربية، أم يؤدي إلى تفكيك الإجماع الوطني والتمهيد لظهور دويلات الطوائف؟
تصويت المصريين لمصلحة أحمد شفيق بعد أشهر قليلة من إسقاط النظام الذي كان جزءًا منه، يشير إلى قلق عميق ينتاب المصريين. لعل الناس أرادوا الإسلاميين في الحكومة لأنهم يثقون بنزاهتهم، لكنهم يخشون تسليمهم القوات المسلحة. وهذا ما سيحصل لو أصبح مرشح الإخوان رئيسًا للجمهورية. الجيش- بالنسبة لعامة الناس- يمثل الملجأ الأخير فيما لو سارت الأمور في الطريق الخطأ.

يقول محللون إنه لو عقدت الجولة الثانية للانتخابات المصرية اليوم، فإن أحمد شفيق سيكون الرئيس القادم وليس مرشح الإخوان محمد مرسي. ولهذا السبب فإن على التيار الإسلامي المصري أن يبذل جهدًا استثنائيًّا لتطمين الناس. هذا لا يتحقق بالكلام في التلفزيون، ولا بإصدار تعهدات أحادية، بل باتفاقات محددة مع الأطراف السياسية الفاعلة، تتضمن التزامات علنية تعالج أسباب قلقهم.

أبرز نقاط ضعف الإخوان في الأشهر القليلة الماضية هو استهانتهم بقوة الآخرين، وتعزز هذا مع سيطرتهم على البرلمان. هذا يجعلهم اليوم أمام خيارات مريرة: لو فاز أحمد شفيق فسيقول الناس إن الإخوان هم الذين مهدوا له الطريق. ولو عالج الإخوان خطأهم وتحالفوا مع القوى السياسية، ونجح مرشحهم، فسوف يكون– في المرحلة الأولى على الأقل– رئيسًا ضعيفًا، الأمر الذي سيعطل عودة مصر إلى مكانتها السابقة كدولة محورية في النظام الإقليمي.

إذا كان ثمة درس على الإسلاميين أن يتعلموه من التجربة المصرية، فهو بالتأكيد درس التواضع. تستطيع السيطرة على كل شيء، وربما تشعر بالفخر ويشعر أتباعك بخيلاء القوة، لكن ليس كل انتصار في السياسة يستحق العناء. بعض الانتصارات تدفع تكلفتها بعد أن تتحقق، وهي تكلفة قد تكون أعلى كثيرًا من قيمة الانتصار ذاته.

الاقتصادية   2012 مايو 29

مقالات ذات صلة:

22/05/2012

اضحك مع الضاحكين والا فانت هاتف عملة


لا مناص من مواصلة التفكير . ولا مناص من التعبير عما نتوصل اليه من افكار . سواء قبلها الناس او رفضوها. وسواء توافقت مع المألوف او كانت غريبة. بوسع الكاتب والمفكر ان يستقريء اراء الناس ثم يعيد صياغتها في قالب ادبي . وسوف يحصل بالتاكيد على شهادات مديح لاحصر لها ، لانه "عبر عما في نفوس الناس" او كان "مرآة للمجتمع". لكننا نعرف ان المرآة لا تريك شيئا غير القشرة الخارجية. تريك وجهك الذي تعرفه والذي اعتدت عليه.

المفكر ليس مرآة للمجتمع ولا ينبغي ان يكون كذلك. وليست مهمة الكاتب محصورة في التعبير عما في نفوس الناس. رايت مرة اشخاصا ياتون الى عزاء فيجدون اهله يبكون وينتحبون فيشاركونهم في البكاء ، وهم بذلك يواسونهم ويعزونهم ويخففون عليهم وطأة المصيبة . فهل وظيفة الكاتب هي البكاء مع الباكين والضحك مع الضاحكين؟.
لو قبل اصحاب الافكار بالاستسلام لفكرة التوافق مع مألوف المجتمع والانسجام مع تقاليده ، فمن الذي سيكشف للمجتمع عيوب هذه التقاليد والمالوفات؟ ومن الذي سيخبر الناس عن الافكار الجديدة ، ومن الذي سيلفت انظارهم الى عيوب الواقع ونواقصه؟.
كتب توماس كون ، الفيلسوف الامريكي الشهير ، ان العلوم لم تتطور بشكل تدريجي ، لبنة فوق لبنة. تقدم العلوم جاء على شكل انقلابات دراماتيكية في المفاهيم والافكار والمسلمات. وجادل في كتابه "بنية الثورات العلمية" بان عالم الافكار ليس مجرد منظومة متفاعلة ، بل هو نسق Paradigm مغلق الى حد ما ، يحوي في داخله – اضافة الى النظرية العلمية – انماط سلوك ونظم علاقات وقيم . بل وحتى تكوينات اجتماعية ، تعمل جميعها على نحو يشبه مؤسسة مترابطة ، تدافع عن وجودها ، مثلما يدافع حزب سياسي عن طروحاته ومصالحه.
حين يتمرد البعض على هذا النسق ، يعارضون مسلماته او يقدمون بدائل عنه او حلولا لمشكلات مستعصية فيه ، فانهم – خلافا للمتوقع – لا يلقون ترحيبا او تشجيعا . بل يواجهون الشكوك والاتهامات ، وربما يصفهم رجل دين – كما فعل الشيخ ناصر العمر هذا الاسبوع – بانهم هواتف عملة ، يتحدثون بقدر ما يدفع لهم. او ربما يوصفون بانهم حمير للاجنبي ، او تافهون – رويبضة حسب الوصف المعياري الدارج في بلدنا -. 
تجربة الانسان المعاصر تكشف بوضوح حقيقة ان  الخلاص من التقاليد البالية والاعراف المتخلفة لم يكن – في اي بلد – سهلا او ميسرا. ولعل ابسط ثمن يدفع هو احتمال تلك الاوصاف والصبر على اصحابها ، حتى يصل النداء الجديد الى جميع الناس. وعندها سينقلب الذين قاوموا الراي الجديد الى مدافعين عنه وانصار.
لو مالأت المجتمع وانسقت في تياره فلن يكون لفكرك قيمة. لانك – حينئذ – مجرد ميكروفون او مرآة. ولو حاولت تنبيه الغافلين الى العوالم التي لا يرونها ، او التي لا يريدون رؤيتها ، فسوف تتهم بالزندقة والالحاد وعمالة الاجنبي. هذه اوضح الخيارات المتاحة امام اصحاب الراي والكتاب.

الاقتصادية 22 مايو 2012
http://www.aleqt.com/2012/05/22/article_659209.html

09/05/2012

في بيان ان حقوق المواطنة اعلى من قانون الدولة


يمكن تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة على واحد من وجهين:
1- تبعية المجتمع للدولة ، اي كون الدولة سيدا على المجتمع وحاكما فوقه
2- تبعية الدولة للمجتمع ، اي كون الدولة وكيلا عن المجتمع وممثلا له ، باعتبار المجتمع مصدرا للسلطة.
تشرح السطور التالية ان الوجه الثاني هو الوحيد المشروع ، استنادا الى نظرية " شراكة التراب " التي ادعو اليها.
لويس الرابع عشر: الدولة أنا
من المفهوم ان الدولة لم تخلق ارض الوطن ولا سكانها ، ولم تجلبهم من أماكن أخرى ، وتعمر أرضهم وتسكنهم فيها. الأرض التي تخضع لسلطان الدولة هي ملك أصلي للذين يعيشون فوقها. وبموجب هذا الملك فإنهم وحدهم أصحاب الحق في إدارة مواردها والتصرف فيها. الدولة لا حق لها في أي شيء من تلك التصرفات إلا إذا اتفق أولئك المالكون على تفويضها هذا الحق. ملكية الأرض أعلى وأسبق - من حيث قابليتها لتوليد حقوق التصرف- من الدين والقانون والتوافقات، وإنما تصبح أحكام الدين والقانون سارية إذا وافق المالك على الخضوع لها.
وعلى هذا الاساس فان الدعوة للمساواة والعدالة في توزيع الموارد، ليست مجرد دعوة أخلاقية أو ضرورة سياسية. بل هي أولاً وقبل كل شيء تعبير عن حق أصلي ثابت ، سابق للدولة والدين والقانون. وإنما تأتي القوانين والأحكام لتنظيم القيام بهذا الحق وتمكين كل فرد من أن يحصل على نصيبه العادل منه.
والحق ان العالم كله يأخذ اليوم بمفهوم الشراكة هذا. الدول العربية تقع ضمن شريحة صغيرة جدا ضمن 194 دولة عضو في الامم المتحدة ما زالت تعيش على النظم والقيم القديمة التي تنكر شراكة الجمهور وملكيته لارضه وما يترتب عليها من حقوق سياسية. نتحدث احيانا عن عالم ما قبل قرنين ، فنستنكر ما جرى فيه ، لكن ذلك العالم مازال قائما – ولو بتمثيلات مصغرة – في الدول العربية المعاصرة . نتذكر مثلا مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر «الدولة هي أنا» التي تختصر واقع الحال في الأكثرية الساحقة من أقطار العالم يومذاك. ولعلنا نتذكر ما نقله مؤرخو العالم الإسلامي عن تحول الناس عن الدين أو المذهب الغالب في بلدهم إذا تولى الحكم ملك يتبع مذهباً مختلفاً. يمكن القول بكلام مجمل: إن الخضوع والتسليم لشخص الحاكم كان المضمون العام لعلاقة المجتمع مع حكومته.
تغيير تلك المفاهيم بدأ في اوربا خلال القرن السابع عشر ، متاثرا بالأفكار السياسية الجديدة التي أطلقها فلاسفة عصر النهضة. كما اكتسب التغيير زخماً إضافيًّا بعد الحروب الأهلية والنزاعات الدينية والحركات الثورية، لا سيما الثورتين الفرنسية (1789) والأمريكية (1783). جوهر التغيُّر المذكور هو تحول صفة الدولة من حاكم فوق الشعب إلى حكم بين أفراد الشعب وممثل للمجتمع ، تستمد سلطتها منه. وترتب عليه نزع الصفة المتعالية للدولة، وتحديد سلطتها واعتبارها مسؤولة عن أعمالها وعما يجري إجمالاً في الإقليم السياسي الخاضع لسلطانها.
وصل التغيير في الدول الصناعية إلى مرحلة متقدمة من النضج ، فرسخت مفاهيم مثل الحقوق الطبيعية والمدنية والمساواة بين المواطنين، وحاكمية القانون وكون الدولة ضامناً للحقوق الدستورية لكل مواطن. ولهذا فإن الاختلاف المذهبي أو الديني بين أبناء الوطن الواحد لم يعد مشكلة أو مولداً لمشكلة. فعدا عن الحق الأولي في المساواة بين الأفراد بغض النظر عن معتقداتهم، فإن النظام السياسي يوفر آليات قانونية محددة وموثوقة لمعالجة التمييز والعدوان فور حدوثه.
سار العالم الإسلامي في طريق مختلف. فبعد استقلال أقطاره، هيمنت على الحياة السياسية نخب اوتوقراطية تفهم الدولة والمجتمع في نفس الإطار الذي كان متعارفا في القرون الوسطى ، أي اعتبار الدولة هيئة مستقلة عن المجتمع ، تتمتع بسلطات مطلقة. لا يمكن بطبيعة الحال إفراد النخب الحاكمة باللوم على ما جرى. فالمجتمعات المسلمة وقادة الرأي من أهلها يتحملون نصيباً من اللوم على افتقارها إلى ثقافة سياسية تُعلي شأن الإنسان الفرد وحقوقه، وتسمح بالتفكير في سلطة تمثيلية منبعثة من المجتمع.  اغفلت الدولة والمجتمع العربي حقيقة كون الناس مالكين لأرضهم، بل واعتبروها -صراحة أو ضمناً- ملكاً للدولة المستقلة عن المجتمع والحاكمة فوقه. وانطلاقاً من هذا الفهم أهملت الدولة العربية مسألة العدالة في توزيع الموارد . ثم انكرت على عامة الشعب حقه في المشاركة الكاملة في صناعة السياسات التي تؤثر على حاضره ومستقبله. في بعض الحالات وجدنا طبقات أو طوائف أو قبائل بعينها تستأثر بمعظم خيرات البلد ومناصب الدولة ، حتى اصبحت هي والدولة شيئا واحدا ، بينما اكثرية الناس لا حظ لهم ولا حصة ولا صوتا.
على المستوى النظري فان جميع دساتير الدول العربية – عدا اثنين او ثلاثة ربما - يقرر ان الشعب هو مصدر السلطة. الا ان هذا لا يكشف عن حقيقة الحال. كي يتحول هذا المفهوم الى واقع ، فاننا بحاجة الى التاكيد على قاعدته الفلسفية ، اي كون الشعب مالكا للاقليم الارضي الذي هو وطنهم. هذا يعني ان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويقترب هذا المفهوم الى حد كبير من فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا[1].
بناء على مفهوم الشراكة فان المواطنين يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم. سواء نص القانون الوطني على هذا ام سكت عنه. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر ، بنزع الجنسية مثلا . الوطن في هذا المفهوم لا يتكون من اقلية واكثرية ، بل من مواطنين متكافئين في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن اصولهم العرقية وجنسهم وانتماءاتهم الثقافية والاجتماعية. هذه الحقوق لا يمكن حجبها لأنها منبثقة عن ملك شرعي صحيح وكامل الاركان.
موقع المقال 9 مايو 2012

مقالات ذات صلة




[1]  لتفصيلات حول الخراج واحكامه واستخدامه في تاسيس مبدأ الشراكة ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الباب الثالث

08/05/2012

في تفسير التنازع بين الدعاة والمصلحين


خلال العقدين الماضيين ، تحولت شريحة كبيرة من العاملين في الحقل الديني ، الى العمل السياسي الصريح او الضمني ، بعدما "اكتشفت" ان الدعوة الى مكارم الاخلاق ، وتعليم الناس عقائدهم وعباداتهم ، تنطوي – ضمنيا – على بعد سياسي.

تبعا لذلك ، برز في المجتمع المحلي ما يمكن وصفه بحالة استقطاب polarization  متعددة  المحاور، تبرز فيها جماعات دينية تقليدية واخرى اصلاحية ، وجماعات ليبرالية ، فضلا عن مجموعات شبابية غير مؤدلجة. بعض هذه الاقطاب يتبنى مباشرة او مداورة اجندات سياسية ، وبعضها يصر على ترك السياسة للسياسيين والتفرغ للعمل الديني البحت.

كل عمل يستهدف التاثير على المجتمع ، فهو ينطوي – بالضرورة – على مضمون سياسي. لانه يستهدف ، او يؤدي الى اقامة دائرة نفوذ ، يكون الداعية قطبا فيها او موجها لحركتها. وهذا يقود الى مزاحمة – عفوية او مقصودة – لدوائر النفوذ الاخرى ، المماثلة او المختلفة. نعرف ان المجتمع لا يتالف من افراد هائمين في فراغ ، بل من دوائر ينتمي اليها الناس لانهم يرون فيها تعبيرا عن مصالحهم او تطلعاتهم او اطمئنان نفوسهم. العلاقة بين هذه الدوائر تتحدد – في الغالب – على ضوء توازنات القوى او التوافقات والتعارضات في المصالح. اما الافكار فهي تلعب دور التبرير لانظمة العلاقات هذه.

جرت عادة اصحاب النفوذ والساعين اليه ، على ابراز المبررات التي تؤكد على صحة دعواهم ، مع السكوت عن جوهر ما يسعون اليه ، اي الرسالة النهائية التي يريدون اقناع الناس بها او استثمار نواتجها. سبب هذا الغموض المرحلي ، هو ان الناس يكرهون مصارحة انفسهم بفكرة التسليم لنفوذ شخص او اشخاص محددين ، مهما علا شأنهم. لكن اولئك الناس لا يمانعون من قبول المبررات التي تؤدي – بالضرورة – الى التسليم لهذا الشخص. حين يطلق الناس على شخص لقبا ذا قيمة ، وحين يمتدحون علمه او خدماته ، او يتحدثون عن قبول الاخرين له ، فهم – في حقيقة الامر - يسعون لارضاء انفسهم بفكرة التسليم له والخضوع لنفوذه.

قديما قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو "الاقوى ليس قويا تماما حتى يقنع الناس بان سلطته عليهم حق وان طاعتهم له واجب". وهذا جوهر مفهوم الشرعية السياسية ، او شرعية السلطة والقيادة. واليوم يسعى جميع النافذين والساعين للنفوذ وراء هذا المثال: اقناع الناس بان ما يامرونهم به هو الحق ، وان ما يطلبونه منهم واجب عليهم. هذا واحد من ابرز وجوه السياسة. والذين يمارسونه هم في واقع الامر فاعلون سياسيون ، سواء كانوا واعين بهذه الحقيقة او غافلين عنها.

ظهور دائرة نفوذ جديدة ، او تمدد دائرة نفوذ قائمة ، يؤدي – شئنا ام ابينا - الى شعور الاخرين بالمزاحمة وربما التهديد. هذا يفسر عجز الدعاة والمثقفين والعاملين في المجال الخيري عن توحيد جهودهم. تسمعهم يتحدثون عن قيمة الوحدة وأمر الله بها. لكنهم مع ذلك ليسوا مستعدين ابدا للمبادرة بالاتحاد غير المشروط مع الاخرين. المسالة – في الجوهر – لا تتعلق بالعمل نفسه ، وضرورة توحيده او ابقائه منقسما ، قدر ما تتعلق بكيانات ودوائر نفوذ ، يعتقد اصحابها بالحاجة الى ابقائها قائمة وفعالة ، ايا كانت المبررات اللازمة.

هذا اذن تطور طبيعي يمكن ان يحدث في اي مجتمع : ظهور دائرة مصالح جديدة ، يستثير رد فعل معاكس من جانب الدوائر القائمة ، ويؤدي – تاليا – الى اعادة تحديد من يصنفون كاصدقاء واعداء ومنافسين ، اي كفرصة محتملة او تهديد محتمل.

الاقتصادية 8 مايو 2012  http://www.aleqt.com/2012/05/08/article_654656.html

01/05/2012

العالم ليس فسطاطين


حوار الثقافات والحضارات الذي يتحدث عنه الرسميون والصحافة في بعض الأحيان ، لا ينبغي ان يبقى خطابا موجها للخارج. نعرف من تجربة البشرية في القرون الثلاثة الأخيرة ، ان اكتشاف الاخرين والتعرف عليهم ومعرفتهم ، يضيف قوة الى قوتك ، ويجعلك أقدر على إدارة حياتك والتأثير في حياتهم .

حوار الثقافات والحضارات والأديان ، هدفه الأسمى إرساء قيمة التسامح ،  وتوسيع افاق العلاقة بين الناس ، حتى يصبحوا قادرين على استثمار اختلافاتهم وتنوع مشاربهم وتوجهاتهم ، في اغناء حياتهم جميعا. التسامح لا يعني بالضرورة قبول عقائد الاخرين وافكارهم ، بل احترام قناعاتهم وحقهم في اختيار طريقة حياتهم.

تتصل قيمة التسامح بجذر عميق في فلسفة الحياة ، هو الايمان بالتكافؤ الطبيعي بين البشر ، وبخيرية الانسان وكمال الخلق . لقد تجاوز بلدنا  – او يكاد – حقبة اتسمت بالجموح في تقدير الذات والتشدد في التعامل مع المختلف. لقد خسرنا الكثير في تلك الحقبة. وحان وقت الخلاص من المفاهيم التي خلفتها في حياتنا.

نحن بحاجة الى تنسيج قيمة التسامح في ثقافتنا. هذا طريق اوله التعرف على الناس الذي حولنا، الناس الذين يشبهوننا او يختلفون عنا قليلا او كثيرا.

نحن  نعلم ابناءنا جغرافيا العالم ، فنركز على الارض والجبال والصحارى. لكننا لا نذكر شيئا عن البشر الذين يعيشون في هذه الجغرافيا: ثقافتهم وعاداتهم وملابسهم وطرق عيشهم واديانهم وهمومهم وتنظيمهم الاجتماعي .


ونعلم ابناءنا تاريخ العصور الاسلامية ، وقد نعرج على تاريخ العالم ، فنركز على تحولات السياسة. لكننا ننسى البشر الذين تعرضوا لتلك التحولات. ولهذا لا نستفيد من منهج التاريخ في استيعاب تاريخ المعرفة والعلوم ، أو في البحث عن تطور التنظيم الاجتماعي والقانون.

لقد نشأنا ونحن نظن العالم مقسوما الى فسطاطين. فلما خرجنا اليه وتعرفنا عليه ، اكتشفنا انه اوسع واثرى من هذا التقدير الضيق.

في عيد الميلاد المنصرم نشرت على صفحتي في الفيسبوك ، تهنئة بالمناسبة للمسيحيين الذين يعيشون في بلادنا ، فعلق بعض من اطلع على ذلك مستغربا: وهل لدينا مسيحيون؟.

والحق اني قد صدمت بهذا التعليق. اعتقدت وقتها ان جميعنا يعرف هذه الحقيقة. لكنها ليست من نوع المعارف النشطة في اذهاننا. ولهذا السبب ايضا يندهش بعضنا حين يكتشف ان بلادنا تضم مذاهب عديدة وثقافات متنوعة ، واشكالا من الفولكلور والاعراف ، يشير كل منها الى تجربة ثقافية او تاريخية متمايزة.

ليس من الصحيح ان يبقى حوار الثقافات والحضارات والاديان خطابا موجها للخارج. فهو من القيم السامية التي يجب ترسيخها في ثقافتنا المحلية وحياتنا اليومية .

اني ادعو وزارة التربية خصوصا الى وضع برنامج محدد لتعريف طلبة المدارس بعالم الانسان. ليس التضاريس والاقتصاد ، وليس تاريخ من ساد في الماضي ، بل الناس الذين يعيشون معنا في هذا البلد وعلى هذا الكوكب: ثقافاتهم واسلوب حياتهم واديانهم وهمومهم. معرفة الناس هي اول الطريق الى التعارف معهم ، والتعارف هو طريق الحوار والتسالم.


الاقتصادية 1 مايو  2012
http://www.aleqt.com/2012/05/01/article_652544.html
مقالات ذات صلة

نجران التي رايت


28-30 ابريل 2012

بعض الناس ، بعض المدن ، تدانيها كي تتعرف اليها ثم تحبها. اناس اخرون ، مدن اخرى ، تقتحمك دون مقدمات . تفرض عليك محبتها مهما كنت متحفظا . نجران هي واحدة من هذه المدن. 
تجولت على اطراف الصحراء وبين الجبال في وادي نجران ، بين نجران القديمة ، وسوقها المعروفة بسوق السلاح ، وبين حواريها واحيائها القديمة والجديدة بحثا عن روح هذه المدينة التي طالما سمعت عن اشياء واشياء تميزها عن غيرها. شعرت وانا اسير في الوادي السحيق بما تنطوي عليه من روح جامحة وجمال قلق متفرد ، يستحيل ان تمسكه ويصعب ان تدركه دون ان تراه بعقلك قبل عينيك.
جمال نجران ليس في جبالها وشجرها وافقها المفتوح على الصحراء. بل في ناسها الذين يتواضعون كما لو كانوا ترابا من هذا التراب  ويشمخون كما لو انهم جزءا حيا من جبالهم. البشر في نجران يشبهون ترابهم وتراب نجران يشبه انسانها.  
تمشي في الوديان ، تتسلق الجبل ، او توغل شيئا في اطراف الربع الخالي الممتدة الى اخر الافق ، تراب وحجر وشجر، شجر وحجر وتراب . لكنك تشعر في اعماقك ان الذي امامك ليس مجرد امتدادات ارض . تشعر بروح الانسان في كل خطوة ، وتحت كل شجرة وصخرة. هذه مدينة تضج بالحياة ، ترابها مثل صخورها ، وشجرها مثل بشرها ، اغنية حية تصعد حينا وتهبط حينا ، فصل يتبع فصلا ، وترنيمة تميز اخرى. 
تساءلت وانا اخرج من نفق ضيق وسط الجبل: هل يحتمل ان تكون الاشباح الاسطورية حقيقة ، هل يمكن ان تكون هي التي تشعرني بالحياة في الصخور؟
لا اؤمن بالاشباح ولا بالعوالم المتداخلة . لكني شعرت اكثر من مرة بان اكوام الصخر والتراب تلك ، وان الاشجار الحية واليابسة هناك ، لم تكن مجرد اشياء غادرتها الروح. مثل هذا الجمال لا يمكن ان يكون بلا روح . نجران ليست مجرد مدينة . انها للحق اسطورة تجلت على شكل مدينة.



24/04/2012

عالم يتداعى ، لكننا بحاجة اليه

لا نستطيع تجاهل الواقع السياسي الذي يتبلور الان في العالم العربي ، سواء اعجبنا به ام كرهناه. الربيع العربي – مثل كل ثورة اخرى في العالم – ولد معادلات جديدة ومنظومات قوى مختلفة عن تلك التي سادت قبله.

بعض هذه التحولات مريح وبعضها مزعج وبعضها مفاجيء ومدهش. لكن ايا كان الحال ، فان جوهر عمل السياسي هو اعادة تدوير الزوايا الحادة واستظهار خيوط المصلحة التي ربما تخفى على الناظر المتسرع.

يعرف اهل السياسة ، ان الاستقرار والسلم الاهلي مؤسس على ارضية التداخل بين مقومات الامن الوطني والامن الاقليمي. ومن هذه الزاوية فان العلاقة مع المجتمعات المجاورة  والحكومات المؤثرة في النظام الاقليمي هي جزء اساسي في مركب الامن الوطني والسلم الاجتماعي. العلاقة مع الجيران والمؤثرين قد تؤسس على مبدا توازن القوة او على مبدأ التعاون او الشراكة. والمؤكد ان المبدأ الثالث هو الافضل والاكثر فائدة وفاعلية على المدى البعيد.

حين اقرا صحافتنا اليومية او استمع الى تعليقات المتحدثين في القنوات التلفزيونية ، يخيل الي اننا نعيش في زمن غير طبيعي. نحن نتحدث عن الحكام الجدد في العالم العربي كما لو اننا على وشك الدخول في حرب معهم . قال احد المعلقين هذا الاسبوع ان الاخوان المسلمين هم الجناح السياسي لتنظيم القاعدة. وكتبت سيدة مقالا فحواه ان الحكومات الجديدة قامت على الخداع والتزوير وما يشبه هذا الكلام.

لن اتوقف عند هذه التعبيرات ، فهي ليست مؤثرة في سياسة البلد وتوجهاتها. لكني اشعر ان اعلامنا المحلي وشبه المحلي يميل الى تكريس صورة كريهة ومنفرة عن الاوضاع الجديدة من حولنا. قد يكون هذا الاعلام معبرا – حقيقة – عما يعتمل في نفوس بعضنا . لكنه في نهاية المطاف لا يعبر عن مصالحنا الراهنة والممكنة. نحن بحاجة لاحياء المنهج التصالحي الذي اتبعته المملكة في ازمان سابقة . المنهج الذي يركز على ترميم الجسور واعادة بناء الثقة المتبادلة وارساء علاقات متعددة الابعاد والاتجاهات مع كل من يتاثر بنا او يؤثر فينا.

اني ادعو دون تحفظ الى تنشيط العلاقات التي تبدو فاترة مع النخب الجديدة في اليمن والعراق وتونس ومصر ، كما ادعو الى رفع مستوى علاقاتنا مع السودان والجزائر وباكستان، ولا انسى ضرورة فتح نقاش جدي حول العلاقة مع ايران.
ايا كانت المعطيات التي نراها ، وايا كانت انطباعاتنا عن تلك النخب والتحولات، فان مهمة السياسي ليست الفرجة على تداعي العالم من حوله ، بل البحث عن الخيوط الخفية او الممكن تخليقها . وهي مهمة لا يعرفها غير المحترفين.

ليس في السياسة مستحيل ، وليس فيها عواطف. الحب والكره ، الرغبة والنفور ، اشياء يقولها الناس فيما بينهم ، لكنها – عند اهل السياسة – مجرد تعبيرات خفيفة او خالية من المعنى. للسياسي صديق واحد هو مصلحة بلده. هذه المصلحة هي الخيط الذي ينبغي للسياسي ان يبحث عنه في اكوام الفوضى والعواصف التي تهب علينا شرقا وغربا. نحن – بالتاكيد – في حاجة ماسة الى تصور جديد ونشاط جديد.

الاقتصادية 24 ابريل 2012
http://www.aleqt.com/2012/04/24/article_650276.html

23/04/2012

سلفي سياسي وشيعي حداثي:تعقيب على مقالة الاستاذ مهنا الحبيل

اود ابتداء تقديم الشكر للاستاذ مهنا الحبيل على مقالته "ملتقى النهضة واسئلةالتصحيح" المنشورة بجريدة الحياة. مثل هذه النقاشات ضرورية لكشف تفاصيل المجتمع السعودي والقوى الفاعلة فيه ومساراتها.

لست ضليعا في النقد. لكن لفت نظري ان المقال ترك غرضه الرئيسي وانصرف الى ما أظنه تنفيسا عن غضب او نحوه. – أراد الكاتب - كما يبدو من العنوان والمقدمة – الحديث عن ملتقى النهضة (كان مفترضا ان ينعقد في الكويت في 23مارس 2012 ، ولما منع استبدل بندوة في جمعية الخريجين الكويتية). لكن يظهر انه غفل عن هذه المهمة وكرس اكثر من نصف مساحته لنقد ما وصفه الكاتب بتيار الحداثيين الشيعة. كنت اتمنى لو ان الكاتب خصص المقال لهذا الموضوع ولم يحشر الملتقى فيه. وعرض امثلة على التقييمات والاوصاف التي ذكرها كي يستفيد القراء ، وكي يكون الموضوع فاتحة نقاش وليس سلة احكام مسبقة. تبعا لميل الاستاذ مهنا ، سوف اخصص معظم هذا المقال لمناقشة ما اورده في ذلك الجانب.
توفيق السيف متحدثا في ملتقى النهضة-جمعية الخريجين-الكويت

سوف اناقش هنا ثلاث نقاط ذكرها الاستاذ مهنا ، تتعلق اولاها بمعارضة السلفيين التقليديين للملتقى ، وتتعلق الثانية بالمشاركة الشيعية ، والثالثة بمساهمة الشيعة المشاركين في مسيرة الاصلاح.

اولا: حول المعارضة السلفية للملتقى:

افترض ان الاستاذ الحبيل مدرك لحقيقة ان المعارضة السلفية لملتقى النهضة تصدر عن منطلق سياسي ، وتنطوي في حقيقة الامر على "تصفية حسابات مستبطنة بوضوح، وسلسلة النسج التلفيقي التي لا تتحرى الصدق، بل تصنع الحدث والفكرة كذباً لتكوّن قضية" (هذه الفقرة وردت بالنص في مقال الحبيل) ، اي انها ليست مسالة دينية بحتة. الا انه يعود ليضعها في اطار النقاش الاخلاقي المثالي. الشيخ ناصر العمر وشيوخ الجامية لم يعارضوا الملتقى لانه مخالف للدين بل لانه ينطوي – بشكل غير مباشر – على تجاوز لدوائر النفوذ الاجتماعي والسياسي ، ونقد لمتبنيات واستهدافات هذه الدوائر ومن يتزعمها ويستفيد منها.

افترض ان الاستاذ مهنا عارف بما تشهده الساحة الدينية السعودية من اعادة اصطفاف داخل تيار الصحوة ورموزها ، بين فريق يتبنى مطالب المجتمع وما وصفه الكاتب بـ "تقرير الفقه الدستوري الإسلامي وضمان الحقوق المدنية ونقد الخلل والتشدد والخرافة" ، وفريق يدعو لحماية التقاليد المتوارثة السياسية والثقافية والدينية ، ويرفض مشروعات الاصلاح السياسي التي عبرت عنها بيانات مثل "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" و "برنامج وطني للاصلاح" و "نحو دولة الحقوق والمؤسسات".

من الواضح لكل الناس ان التيار الديني السعودي منقسم اليوم بين هذين الاتجاهين. وان هذا الانقسام يولد – بالضرورة – تنافسا حول المواقع والمفاهيم ومسارات الخطاب العام والشرائح الاجتماعية التي هي موضوع النفوذ ومصدره. اي باحث في علم الاجتماع او السياسة يدرك هذه الحقيقة التي لا تصفها الجرائد بصراحة ، لكنها اجلى من كل بيان.

السلفيون عارضوا الملتقى لانه خروج على النسق السائد ، ولانه يؤدي – بالضرورة – الى مساءلة التيار المعارض للاصلاح او المتردد فيه. مساءلة مبرراته ومشروعية موقفه ودائرة نفوذه. نفهم هذا من موقف الشيخ ناصر العمر واتباعه تجاه الشيخ يوسف الاحمد فرج الله عنه. الشيخ يوسف لم يشرك شيعة ولا ابتعد عما وصفه الكاتب بالمرجعية الدينية التي ينتمي اليها العمر ، بل كرس نفسه وحياته للدفاع عن سجناء دون محاكمة ، بينهم رجال دين وناشطون في التيار الديني. ومع ذلك فان الشيخ ناصر تجاهل اعتقال الشيخ وبرر محاكمته وما صدر عليه من احكام. وقبل ذلك – في منتصف 2011– صدر توجيه بعدم مناصرة الشيخ يوسف او دعمه ، لانه تجاوز المكان المرسوم له. هذا وذاك فعل سياسي في منطلقاته ومساراته وغاياته ونتائجه ، وهو يعبر عن اعادة اصطفاف في الساحة الدينية المحلية ، اصطفاف سياسي بين فريق يتبنى الاصلاح وآخر يدافع عن التقاليد والقيم الموروثة ونظام العلاقات القائم.

ثانيا : حول المشاركة الشيعية:

ما فهمته من المقال هو ان "مشاركة اشخاص ينتمون لتيار حداثي شيعي" هي المشكلة الرئيسية. ولو لم تحدث لربما عقد الملتقى بسلام ، وحقق غاياته. لم افهم حقيقة جوهر هذه المشكلة؟. لكن سوف احاول تفكيك هذا القول المجمل تفكيكا منطقيا لفهم جوهر المشكلة ، من خلال ستة احتمالات ، ربما يكون احدها او بعضها هو جوهر المشكلة التي ادت الى افشال الملتقى ، او كانت عيبا فيه – طبقا لتحليل الاستاذ مهنا-:

أ‌-      ان الملتقى نشاط ديني "سني" بالمعنى الخاص "المذهبي او الطائفي"، فيجب ان يلتزم بالاطار الثقافي والاجتماعي للطائفة. بهذا المعنى فان مشاركة "الشيعي" هي جوهر المشكلة.

ب‌-  الملتقى ليس نشاطا دينيا بالمعنى الخاص. حتى لو كان منظموه مصنفين ضمن التيار الديني. من هنا فمشاركة تيار "ديني" يلقي على الملتقى ثوبا غير ثوبه. جوهر المشكلة اذن هي مشاركة اشخاص ينتمون لتيار ديني. بمعنى انه لو شارك شيعة لا ينتمون لتيار ديني لما كان ثمة مشكلة.

ت‌-   المشكلة ان الشيعة المشاركين "ينتمون لتيار" وليسوا مجرد افراد. بمعنى لو لم يكونوا منتمين لتيار لما كان ثمة مشكلة.

ث‌-  المشكلة هي ان الاشخاص الذين شاركوا في الملتقى ينتمون لتيار يمارس عنفا فكريا نقديا ونقضيا للتوجهات الإسلامية السنية. جوهر المشكلة اذن هي في عنف هؤلاء الفكري المضاد والناقض لما وصفه الكاتب بالتوجهات الاسلامية السنية.

ج‌-   المشكلة ليست في مشاركة الشيعة بشكل عام ولا في كونهم تيارا. بل في كون المشاركين متدينين حداثيين. بمعنى انهم لو كانوا ينتمون لتيار ديني تقليدي لما كان ثمة مشكلة.

ح‌-   مشاركة الشيعة ليست مشكلة اصلا. اي ان هذه المسالة لا علاقة لها بالموضوع. المشكلة هي ان الشيعة انفسهم متخلفون عن ركب التجديد ونقد الاستبداد الديني ومراجعة التراث وتجديد المنظورات ، لاسيما تلك المرتبطة بعلاقتهم بالسنة ونظرتهم للتاريخ ورجاله. بمعنى ان الكلام حول مشاركة الشيعة كان مجرد تمهيد لدعوة الشيعة الى اصلاح حالهم وليس جزء من جوهر الموضوع.

اعرض هذه الاحتمالات لاني لم افهم جوهر المشكلة التي كرس لها الاستاذ مهنا اكثر من نصف مقاله. وآمل مخلصا ان يكتب مقالا او مقالات اخرى لتبيين ما اجمله.

لكني اجد – من حيث المبدأ ومن دون مناقشة للاحتمالات السابقة – ان مفهوم "النهضة" ينطوي بالضرورة على مبدأ الاقرار بالحق في الاختلاف والاشتراك مع المختلفين. هذا المبدأ الذي عبر عنه المرحوم البنا في قوله المشهور "نتعاون في ما اتفقنا عليه ونتعاذر في ما اختلفنا فيه". وهو من ابرز موارد احتجاج السلفيين والسروريين على الاخوان ومن تاثر بمدرستهم ، وانا وشباب النهضة ممن تاثروا بهذا المنهج. يؤكد السلفيون على تقديم قاعدة "الولاء والبراء" التي طورها التيار المعروف بسلفية المدينة (او الجامية) الى نظرية يطلقون عليها في الجملة اسم "التصنيف" ويدافعون عنها بكل قوة. وهذا امر معروف لكل متابع لتحولات التيار الديني في المملكة.

الاقرار بحق الاختلاف يعني على وجه التحديد التعامل مع المختلف والمخالف كما هو ، وبدون اشتراط التخلي عن صفاته السابقة او متبنياته. وهذا هو الذي دعا القائمين على المنتدى لدعوة متحدثين من مشارب مختلفة ، اسلاميين وغير اسلاميين.

ثالثا: حول من وصفهم الكاتب بالتيار الحداثي الشيعي

اشرت في البداية الى ان الاستاذ الحبيل  خصص اكثر من نصف المقال لشرح حال "الحداثيين الشيعة". فكأن ذهن الاستاذ مهموم بهم اكثر من انشغاله بالملتقى ومن عارضه. خلاصة الشرح الذي قدمه الكاتب يتلخص في ان هذا التيار سيء ، غير مفيد وينطوي على عيوب اخلاقية. سوف انقل النصوص التي وردت في مقال الاستاذ مهنا لتوضيح مدى انشغاله بالموضوع.

يتصف التيار المذكور – طبقا للاستاذ الحبيل – بانه:

1-      يمارس عنفا فكريا نقديا ونقضيا "للتوجهات الإسلامية السنية".

2-      ليس له أي مشاركة مهمة ذات بعد منهجي في دعم مدرسة الاعتدال الشيعي ضد التطرف الطائفي.

3-      ليس له أي مشاركة في نقد قضايا الخرافة التي تمكنت من العودة من التراث إلى حديث الوعاظ المعاصر في بعض المنابر الشيعية.

4-      وليس لهذا التيار موقف أخلاقي أو فكري من الضحايا، سواءً كان طفلاً أو شاباً أو رجلاً من احتكاره الشامل لعمره الزمني في منظومة التثقيف الطائفي والاحتقان في سلسلة المآتم.

5-      ليس لهذا التيار موقف من قضايا المرأة في التقاضي الجعفري وما وراء هذا الحجاب من صيحات ضحايا الاستبداد الديني لهذا الواعظ أو ذاك.

6-      ليس للتيار موقف مساند صريح من دعوات المثقفين الشيعة للخلاص من التراث السلبي، وعودة تصديره للواقع المجتمعي المشترك، وارتهان الإنسان الشيعي البسيط الذي يبحث عن هداة الزمن لمشاركة مدنية إنسانية مع رفيقه السني.

7-      ليس لتيار الشيعة الحداثيين دور في دعم فكرة إعادة الاستهداء بمدرسة آل البيت الأولى في قضية الخُمس التي لا تُمنح للفقراء والمساكين من أبناء الطائفة، ولا ذوي الاحتياجات الخاصة، أو المرأة المضطهدة، ولا تدعم تكتلات الفقراء.

لا يخفى على القاريء المنصف ما تنطوي عليه النصوص السابقة من كلام انشائي يحتمل معاني قابلة للتضخيم. لكني سأتجاوز هذه النقطة ، واطالب الاستاذ الحبيل بايراد بعض الامثلة التي تصلح دليلا علميا معقولا على كل نقطة من النقاط السابقة. واحتمل انه لم يورد ما اورده الا بعد تامل وبحث اوصله الى هذه الاستنتاجات القاطعة. اما اذا لم يورد امثلة قابلة للاثبات فسيقول القراء ان كلامه كان انفعاليا وعاطفيا وغير لائق.

مرة اخرى اتمنى ان يطور الاستاذ هذه الملاحظات وان يفصل فيها كي يفتح بابا للنقاش يفيدنا جميعا.

لكن اود ابتداء عرض الملاحظات التالية:

أ) وصف الاستاذ الحبيل هذا التيار بانه حداثي. ونفهم ان الحداثي - بالتعريف – ناقد ومعارض للتقاليد والموروث. ومن بينها ما ذكره الكاتب في النقاط 3،4، 5، 6،7 الورادة اعلاه. ترى كيف يكون الفرد او التيار حداثيا وهو مستسلم او ساكت عن مثل هذه الامور؟. كيف صنفه الكاتب كحداثي ، مع ان الحق ان يصنف – طبقا للاوصاف المذكورة – كتقليدي ورجعي ومعاد للحداثة؟.

ب) قال الاستاذ مهنا ان هذا التيار يمارس عنفا نقديا نقديا ونقضيا للتوجهات السنية. وفي اول المقال كان قد وصف اعتراضات السلفيين على ملتقى النهضة بانه "خطاب النقض والطعن الكريه.... أنّه خطاب تحريضي غير مشروع". فهل خطاب النقض السلفي للتوجهات النهضوية (السنية مثل ملتقى النهضة – كما يظهر من تصنيف الاستاذ مهنا) هو من جنس خطاب النقض الشيعي الحداثي للتوجهات السنية ، وهل ان خطاب النقض السني للتوجهات الشيعية يحمل نفس القيمة ام ان اختلاف مذهب الناقضين يفرض اختلافا في قيمة كل منهما؟.

ت) ذكر الاستاذ ان "المدرسة الإسلامية السنية أنجزت مساراً في تقرير الفقه الدستوري الإسلامي وضمان الحقوق المدنية ونقد الخلل والتشدد والخرافة" بخلاف التيار الذي انتمي اليه ، والذي لم يقدم شيئا من هذا النوع.

اقول: اذا كنا نتحدث في المجال السعودي على وجه الخصوص ، فان ما قدم حتى الان قيم لكنه ليس كثيرا ولا وافيا. لكن فيما يخصني ، وانا اتحدث في المجال السعودي ، فان مشروعي الفكري الذي صرفت فيه حتى الان جل حياتي الفكرية هو بالتحديد "تطوير نظرية حول ديمقراطية منسجمة مع القيم الاسلامية" تتجاوز التصنيف المذهبي. وكرست لهذا الموضوع جميع كتبي الاخيرة واذكر منها "ضد الاستبداد" وهو دراسة في رسالة فقهية حول الدستور، وكتاب "نظرية السلطة في الفقه الشيعي" وهو نقد لنظرية ولاية الفقيه انطلاقا من ان الشعب هو مصدر السلطة ، وكتاب "الديمقراطية في بلد مسلم" وهو معالجة فلسفية للعلاقة بين الدين والديمقراطية ، وكتاب "حدود الديمقراطية الدينية" وهو دراسة حالة عن امكانية الديمقراطية من دون علمانية ، نقدا لنظرية التحديث الكلاسيكية التي تفترض ان العلمانية شرط للديمقراطية. واخيرا كتاب "رجل السياسة : دليل في الحكم الرشيد" الذي يناقش الاركان الكبرى للدولة المدنية الديمقراطية. وقدمت فيه معالجة هي الاولى من نوعها – كما اظن – لمبدأ العقد الاجتماعي وامكانية اقامته على اساس ديني.

اضافة الى ذلك كتبت خلال العقدين الماضيين ما يزيد عن مئة مقالة ، جميعها منشورة ، حول القضايا والاشكالات الاساسية المتعلقة بالدولة المدنية والدستورية ، وكثير من هذه المقالات موجود على مدونتي الشخصية. اود ان يطلعني الاستاذ الحبيل على اي كاتب سعودي قدم هذا القدر من المساهمات فيما يخص هذا الموضوع. كما اتمنى ان يصرف الاستاذ مهنا بعض وقته الثمين للاطلاع على كتاباتي المذكورة وموافاتي باوجه القصور فيها. وساكون شاكرا لفضله.

اما اذا كنا نتحدث في اطار اوسع من الاطار السعودي، فان التيار الاصلاحي الوطني الذي انتمي اليه متفاعل ومتكامل مع جميع النشاطات الاسلامية ، سنية وشيعية ، ومساهم في تطوير مساراتها الفكرية ومستفيد من تلك المساهمات والمسارات . ورجال التيار لهم علاقة شخصية وفكرية بمعظم التيارات الاسلامية الفاعلة ، من العدالة والتنمية في المغرب الى مجتمع السلم في الجزائر والنهضة التونسية والاخوان المصريين ، والمؤتمر الشعبي – الذي يتزعمه د. الترابي في السودان الى الدعوة العراقية والحركة الاصلاحية في ايران وغيرها. اضافة الى ذلك فان مفكري هذا التيار ورجاله يشاركون بفاعلية في النشاطات الفكرية التي تقوم بها المجموعات غير الاسلامية ، سواء كانت سياسية او مراكز ابحاث ، في العالم العربي وخارجه. وهم بالطبع يتاثرون بهذه الملتقيات ويؤثرون فيها ويتفاعلون مع رجالها.

خلاصة القول ان هذا التيار لا يرى نفسه مستقلا عن الحراك الفكري الجاري في العالم ، سواء في جانبه الفلسفي او السياسي او الديني. هذا التيار ليس حزبا يملك ايديولوجيا خاصة ، وهو لا يدعو الناشطين فيه الى تصنيف المصادر التي يتفاعلون معها وياخذون منها. انه تيار مفتوح يرى نفسه جزءا من السياق التنويري والتنموي العام ، وهو يحترم جميع المساهمين في هذا المسار بغض النظر عن مواطنهم وانتماءاتهم.

ث) فيما يخص الوحدة الوطنية والدعوة للتعايش والتقارب والسلم الاهلي بين الاطياف التي يتشكل منها المجتمع السعودي الكبير ، وهي نقطة اغفلها الاستاذ الحبيل ، فان التيار الذي انتمي اليه هو اول من قدم مبادرات جدية في هذا المجال. ولا يزال الى يومنا هذا انشط الجهات السعودية في هذه الدعوة . وقدم – اضافة الى المبادرات العملية - تنظيرات موسعة حول قضايا التقارب والتعايش والمواطنة. وتشكل قضايا السلم الاهلي وحقوق الانسان والاصلاح السياسي اهم انشغالات هذا التيار ، ولعلها ابرز ما يميزه على المستوى الوطني.

 اذكر هذا ردا على ما ورد في مقال الاستاذ الحبيل بشان العلاقة المفترضة بين الشيعة والسنة ، حيث قرر ضمنا ان اي لقاء يشارك فيه سنة وشيعة ، فينبغي ان يكون هدفه هو التقريب بين المذاهب. وهو يضرب مثالا بندوة التنوع المذهبي في الخليج التي عقدت في الدوحة "ومن خلال هذا النسق تعقد هذه الندوات التي تجمع أطيافاً عدة". اما اللقاءات حول النهضة والحرية والمجتمع المدني فيجب ان تقتصر – حسب مايظهر من راي الاستاذ مهنا- على المتفقين في العقيدة والافكار "مسار الملتقى يَعْبُر لتحقيق أسئلة النهضة داخل الفكرة الإسلامية المؤمن جمهورها بأن الرسالة الخاتمة .. هي المرجعية الدستورية والتنظيرية".

 اقول رغم ايماني بضرورة النقاش حول قضايا الوحدة والتقارب ، وهو ايمان مدعوم بالفكر والعمل ، الا انني اجد هذه الاشارة غريبة جدا. فهي ربما توحي بان التيار الذي انتمي اليه ليس اسلاميا ، او ان ايمانه بالرسالة الخاتمة مجروح. كما استغرب حشر موضوع الحوار المذهبي في ملتقى النهضة ، لانه عقد للحديث حول المجتمع المدني وليس حول المذاهب. والذين شاركوا فيه ، جاؤوا لانهم مؤمنون بالمجتمع المدني كسبيل للنهضة او كانوا معروفين بالنشاط في الدعوة اليه.

بقيت نقاط تستحق المناقشة. لكن يبدو انني اطلت قليلا. لذا اعتذار من القراء الكرام . واود تكرار دعوتي للاستاذ مهنا لايراد ادلة او امثلة يمكن الاستدلال بها لاثبات الاوصاف التي وصف بها التيار. كي يتلافى تهمة الانشائية والعاطفية. واكرر شكري له على هذه الاثارات المهمة التي قد تفتح بابا مفيدا للنقاش حول اوضاع بلدنا والفاعلين فيه.

نشر في موقع المقال 23 ابريل 2012 http://www.almqaal.com/?p=2160
مقالات ذات علاقة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...