31/05/2023

حول العلاقة بين الثقافة والنهضة


||فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل||.

بين يدي كتاب "إعادة التفكير في التنمية الثقافية" ، وهو دعوة لاحياء الدور المحوري للثقافة العامة ، في الحراك الاجتماعي - الاقتصادي الذي ينشده عرب اليوم. بذل الكاتب د. محمد حسن جهدا فائقا في الربط بين الأساس النظري للموضوع والتطبيقات التي يدعو اليها. لكنه – مثل العديد من الدراسات العربية ، أخفق في التحرر من مؤثرات الانتماء الاجتماعي ، وإيفاء الجانب العلمي حقه. للمناسبة فهذه مشكلة يواجهها كثير منا ، حين نقارب قضايا متصلة بالتراث أو القيم الدينية. في حالات كهذه يتراجع المنظور العلمي لصالح ما يعتقد الكاتب انه حقيقة دينية ، مع انها قد تكون مجرد انطباع عام او فهم من الأفهام المحتملة.

لايضاح هذه الإشكالية سوف أركز على مسألتين ، تكررت الإشارة اليهما في الكتاب ، وشكلا خلفية لجانب من طروحاته ، وهما مسألة العلاقة مع الغرب ، وربط صلاح المستقبل بالرجوع للماضي.

د. محمد محمود عبد العال حسن

يظهر واضحا ان الكاتب منتبه لكون العلاقة مع الغرب عنصر محوري ، في أي نقاش جاد حول عصرنة الثقافة العربية. لكنه لم يبذل جهدا مناسبا في معالجة المسألة ، بل أراد الجمع بين الاضداد كما يقال. وهذا يظهر في دعوته للتمييز بين ما اسماه "الغرب الثقافي والغرب الاستعماري العدواني". هذه الفكرة تمثل بالتأكيد خطوة متقدمة على نظيرة لها شائعة في العالم الإسلامي ، تدعو لتقبل التكنولوجيا والعلوم التجريبية ، بموازاة نبذ الثقافة والفلسفة التي تطورت في الغرب ، لأن الأخيرة راس جسر للنفوذ والهيمنة الاجنبية.

هذه فكرة متقدمة نسبيا ، لكنها لا تخلو من العلة الأكبر ، أي التعامل مع القيم ككائنات ناجزة ومهيمنة ، خارج الوعي الإنساني. وقد وجدت هذا المنهج انعكاسا لتصور عليل عن الانسان ، ينطلق من اعتباره كائنا منفعلا متأثرا ، تصوغ حياته عوامل خارج وعيه وخارج اختياره. وهذا يعاكس أولى أسس النهضة ، أي اعتبار الانسان عدلا كاملا مريدا خالقا لعالمه ، صانعا لمستقبله ، مسؤولا عن أقداره ، أو على أقل التقادير شريكا في كل ذلك.

يتصل هذا المعنى بالمسألة الثانية التي أشرت اليها ، وهي النظر للماضي كمرجع ونموذج. وقد شاعت كلمة الامام مالك بن انس رحمه الله "لا يصلح آخر الامة الا بما أصلح أولها" حتى ظنها الناس من كلام النبي. وذهبوا في تفسيرها كل مذهب. والمفهوم انه يقصد ان صلاح الامة بالدين. لكن تكررت التجارب ، بما فيها تجربة الامام مالك نفسه ، فما ظهر في الواقع تصديقا لهذا القول. والاصل ان التجربة المتكررة هي الدليل على صحة الرأي.

ولنا في حقيقة ما جرى في الماضي حديث طويل ، لا يتسع له المقام. لكني اريد التركيز على جوهر المسألة أي النظر للإنسان باعتباره وعاء فارغا ، تلقى فيه القيم والأفكار والايديولوجيات ، فيتلقاها كما هي. واظن هذا قياسا على مكانة الدين ، حيث افترض غالبية الإسلاميين ان الانسان لا دور له في هندسة حياته الدينية ، بل هو متلق منفعل ، يتلقى القيم والتعاليم كما هي فيطبقها تعبدا وتسليما ، بلا نقاش ولا مراجعة.

هذا تصور عن العلاقة بين الدين والمؤمنين ، اراه فاسدا ، بل سببا لاخفاق العديد من المحاولات النهضوية. ان فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل.

النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة ، مالم يسترجع الفرد مكانته ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين ان ينهض على اكتاف المنفعلين السلبيين ، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق ، في الماضي والحاضر ، دون انبهار او استسلام ، ودون ارتياب او ترفع.

الشرق الاوسط الأربعاء - 12 ذو القِعدة 1444 هـ - 31 مايو 2023 م  https://aawsat.news/4496j

مقالات ذات صلة

أول الاصلاح عقلنة القيم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

 ظرف الانتقال العسير

العالم ليس فسطاطين

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

المكنسة وما بعدها

الموت حلال المشكلات

اليوم التالي لزوال الغرب

وهم الصراع بين الحضارات

17/05/2023

الحق ليس واحدا


||التعددية الدينية تبدو غريبة على اسماعنا ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي||

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشا غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكرارا لما عرفناه قبل عقد من الزمان ، مع انها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعا ما: فمن ناحية نستطيع القول ان مجتمعنا يتحرك بصورة ملموسة ، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنه – من ناحية ثانية – غير قادر على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه ، الأمر الذي يستدعي نقاشا اكثر تركيزا على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني هو مبدأ تعدد الحق. أي ان نكون على أديان أو مذاهب مختلفة أو حتى غير متدينين ، لكننا نعيش جميعا في توافق وسلام. ولهذا سوف اخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة ، وتمهيد ارضيتها لمن أحب المزيد من النقاش.


نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: ان الحق في طبعه الاولي ، لا ينحصر في تطبيق واحد ، بل يتجلى في صور عديدة ، يمكن لكل منها ان يكون طريقا الى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق او تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة.. الخ. بمعنى ان كل الناس متجه الى الحقيقة المطلقة ، وهي الخالق سبحانه ، عبر الطريق الذي يراه أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائبا عن غيره يوم الحساب ، ولن يحمل أوزاره. وهذا هو مذهب ابن عربي ، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: ان الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة ، وليس شيئا منفصلا عن الحياة او مختلفا عنها. وهو يتجلى في كل فعل انساني خير. ان اختلاف الاعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة ، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق ، بوصفها المستوى الارفع في كل مجال ، الارفع موضوعيا واخلاقيا. ان الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة – وبالتبع تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الانسان والعمران.

في هذا المعنى ، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الانسان لاتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزء من التجربة الدينية الواسعة ، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى الى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس ، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الامراض ، وهكذا البناء الذي يبني البيت ، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال ، والفقيه الذي يعلم الناس الشعائر ، والفنان الذي يحول الفكرة الى مشهد للتأمل من خلال لوحة او مقطوعة موسيقى.. الخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها هو الخالق ، والطريق اليه هو نية التقرب. اما في الوجه الثاني فالحق يتجلى في تفاعل البشر مع بعضهم ، تفاعلا بناء واخلاقيا ، يؤدي – موضوعيا – الى تطور حياة الانسان وارتقاء الجوهر الانساني ، اي العقل/العلم والاخلاق. وهذا – في اعتقادي – هو الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريبا شيئا ما ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة – من التزام بمذهب محدد واطار اجتماعي وعرفي خاص ، لا يتعداه من اراد السلامة. لكنه – رغم غرابته – ليس جديدا. وقد اشار الى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا الى الآية المباركة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". وفحواها ان الاختلاف اصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا اراده الله. فهل ارادنا ان نقتتل مثل حيوانات الغابة ، ام نتسالم – رغم اختلافنا – كما يحكم العقل السليم؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوّال 1444 هـ - 17 مايو 2023 م    https://aawsat.news/y4mfr  

مقالات ذات صلة

ايزايا برلين ... حياته وفكره

اين ينجح الاسلاميون واين يفشلون

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دعوة لمنهج جديد في الاجتهاد واستنباط الاحكام

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

كلمة السر: كن مثلي والا..!

من الراي الواحد الى التعددية الدينية

 

 

 

10/05/2023

غدا نتحرر من الخوف

||الحل السليم للقلق من تأثيرات الذكاء الصناعي ، هو نشر المعرفة به||

القلق من تأثير الذكاء الصناعي لا يختلف كثيرا عن القلق من تأثير الانترنت. الأسباب التي تبرره ، تشابه ما  قيل في الماضي عن عواقب انتشار الانترنت. سوف اعرض لبعض هذه المبررات بعد قليل. لكن يهمني أولا تطمين المتوجسين بأن كثيرا من أسباب القلق القديم ، قد تم احتواؤها فعليا ولم تعد قائمة ، او - على الأقل - لم تعد قوية او جدية مثلما كانت يوم تعرفنا على الانترنت ، قبل عقدين من الزمن.

بيان ذلك: ان معظم القلق ناتج – في المقام الأول - عن غموض المستقبل وانعدام اليقين ، أي شعور الانسان بأنه لا يتحكم في أقداره. اعرف أشخاصا كانوا يعملون في مجال التصوير ، وفقدوا وظائفهم بعد انتشار التصوير الرقمي. واعرف ان اكبر شركتين في هذا القطاع ، قد اعلنتا افلاسهما: الألمانية آجفا (2005) والأمريكية كوداك (2012).

والعجيب في الأمر ان انهيار هذه الصناعة ليس سببه هجر الناس لهواية التصوير ، بل العكس تماما: لانها باتت هواية يمارسها كافة الناس ، كلما تحدثوا أو نظروا في الهواتف الذكية ، التي يحملونها في جيوبهم. لقد تسبب التصوير الرقمي وشبكات الانترنت في اطلاق تدفق هائل للصور ، فتحول عامة الناس الى منتجين ومستهلكين في آن واحد ، ولم يعد بوسع المحترفين السيطرة على المساحة التي تقوم فيها صناعة التصوير ، في أي بعد من ابعادها. الشبكات الغت الجغرافيا/المكان الذي يمكن التحكم فيه ، فتولد منطق جديد للتبادل ، مختلف تماما عن منطق المنتج/المستهلك في السوق القديم ، سوق ما قبل الانترنت.

هذا المصير نفسه واجه الشركات التي كانت تصنع أجهزة التسجيل والراديو والآلات الكاتبة والصحف الورقية ، والمئات من الصناعات والتجارات والوظائف الأخرى التي يصعب عدها وحصرها. وتحدثت قبل زمن مع خطيب ذي شعبية عريضة ، فوجدته ضجرا من تناقص ملموس في عدد الأشخاص الذين يحضرون خطبه. لان مستمعيه المعتادين يبحثون الآن عن مصادر للمعرفة تتجاوز المصادر التقليدية.

لا بد ان كثيرا منا قد سمع بواحد او اكثر من هذه الأشياء ، التي حدثت منذ عقد او عقدين. لكنك نادرا ما تسمع أمثالها في هذه الأيام.

- لماذا؟

لأن غالبية الناس ، بمن فيه القلقون ، تعلموا استخدام أجهزة الانترنت ، واكتشفوا المساحات الرحبة التي تقودهم اليها هذه الأجهزة الصغيرة ، أي الكمبيوتر والهاتف الذكي. ولعل بعضهم قد تأكد من ان مخاوفه لم تكن بلا أساس. لكن منطق الأمور يقول بان القلق من المجهول طبيعة في الانسان ، وان علاجه الوحيد هو تمزيق حجاب الجهل. حين يتعرف الانسان على شيء ، فسوف يسعى لاكتشاف مفاتيح التحكم فيه ، او على اقل التقادير سيتعرف على حدود تأثيره. وعندها سيتحول التعامل مع مصادر القلق الى جزء من الروتين اليومي المعتاد.

من هنا فاني أود التأكيد على ان الحل السليم لما يبدو من قلق إزاء الذكاء الصناعي ، هو نشر المعرفة به. بإمكاننا التعرف على الذكاء الصناعي ، مثلما تعرفنا سابقا على الكمبيوتر والانترنت ، ومن قبله على الراديو والتلفزيون والبث الفضائي. وقبل ذلك على وسائل الاتصال والمواصلات على اختلافها.  انظر كيف صار بوسع الانسان ان يركب حديدا يطير في الهواء ، دون ان يراوده أدنى قلق... اليس لأن هذه الوسيلة معروفة تماما ، له ولغيره ، وان المعرفة تولد الاطمئنان؟. السبيل الوحيد لتحييد القلق المتولد عن التقنيات الجديدة ، هو استثمارها واستعمالها ، وأول خطوة في هذا الطريق هو التعرف عليها.

اريد دعوة كل قاريء لتخصيص بعض وقته للتعرف على الذكاء الصناعي ، ثم استعماله ، فهذا هو السبيل الوحيد لتحييد اضراره ان كان ثمة ضرر.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شوّال 1444 هـ - 10 مايو 2023 م

https://aawsat.com/node/4319851

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تجربة تستحق التكرار

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

الذكاء الصناعي وعالمه المجهول

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هل تعرف "تصفير العداد"؟

03/05/2023

هل يمثل الذكاء الصناعي تهديدا للهوية؟

 

واجهت هذا السؤال في سياق النقاش المتعلق بكتاباتي الأخيرة. واكتشفت لاحقا انه مطروح على نطاق واسع في الولايات المتحدة وأوروبا ، وثمة مهنيون يجاهرون بالقلق على مكانتهم ووظائفهم ، مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية (انظر على سبيل المثال البحث الذي نشرته مجلة البحوث الطبية JMIR حول الميل لمقاومة الذكاء الصناعي بين الأطباء وطلبة كليات الطب).

بالمثل فان النقاش حول الموضوع قد بدأ بالفعل في مثل مجتمعنا. لكن يبدو لي انه يلامس جوانب أكثر حساسية ، تتعلق خصوصا بالهوية الموروثة ، الدينية والاثنية. ولعله سيزداد سخونة في الأشهر القادمة ، بعد تبلور التأثيرات الفعلية للوافد الجديد في السوق والمجتمع.

لابد من القول ابتداء ان هناك من لا يرى في الذكاء الصناعي خطرا داهما ، فهوية المجتمع لم تتأثر جديا بتوسع الانترنت ومن قبلها البث التلفزيوني الفضائي. وفقا لهذه الرؤية فان الهوية الموروثة قوية بما يكفي لاحتواء التحدي التقني أيا كان ، كما أن الذكاء الصناعي ليس من نوع التحولات العميقة ، التي تلامس جوهر تفكير الانسان او رؤيته لذاته والعالم ، أي ما نسميه هويته. هذا بالطبع جواب سهل ولا يثير القلق. غير ان مبرراته لا تبدو قوية او مقنعة.

لكن لو أردنا النظر للتهديد المذكور كاحتمال قائم ، بغض  النظر عن مستوى تأثيره النهائي ، فلعلنا نذهب الى سؤال آخر تحليلي ، يتناول المسارات المحتملة لتأثير الذكاء الصناعي على الهوية ، أي  كيف يؤثر وأين يظهر تأثيره؟.

استطيع الإشارة بايجاز الى ثلاث دوائر يتجلى فيها ذلك التأثير ، واترك التفصيل لمناسبات أخرى في المستقبل. في كل من هذه الدوائر سنرى انكماشا لقنوات التواصل بين الأجيال. وهي – كما نعرف – الأداة الرئيسية التي يستعملها المجتمع لتمرير هويته وثقافته الى الأجيال الجديدة.

الأولى: الذكاء الصناعي مرحلة ثقافية/تاريخية لها متطلبات تقنية ، تتجاوز المتطلبات الخاصة بتصفح الانترنت او الاتصالات الشبكية التي اعتدناها حتى الآن. ولهذا فان المستفيد الأول من أدوات الذكاء الصناعي ، هو جيل الشباب وعدد قليل من المحترفين الأكبر سنا. اما الغالبية العظمى ممن تجاوز سن الشباب ، فلن تستفيد منه ، لأنها لا تطيق تعلم فن جديد ، خاصة ان لم تكن في حاجة ماسة اليه. لقد رأينا حالة شبيهة في مطلع القرن الجاري ، حينما دخل العالم عصر الانترنت ، وبات معظم المعاملات الرسمية والاقتصادية رقميا. يومذاك وقف آلاف من كبار السن موقف الحائر ، ثم قرر غالبيتهم الانسحاب الى الهامش تاركا للشباب هذا العالم الجديد. ان شباب ذلك اليوم هم كهول اليوم ، ومن المرجح ان ينقسموا بين راغب في عالم الذكاء الصناعي وبين زاهد فيه.

الثانية: سوف تزداد قدرة الجيل الجديد على الوصول الى مصادر المعلومات. وبالتالي سوف ينكمش دور العوامل الداخلية في تشكيل الهوية. كما ان أهمية المكان سوف تنكمش جديا ، فلا يعود له تأثير حاسم على الوظيفة والمكانة ، ولا على الالتزامات ذات الطبيعة الثقافية.

الثالثة: الذكاء الصناعي يؤذن بظهور اقتصاد جديد ، لم يسبق ان جرى تعريفه ضمن الثقافة ومنظومات القيم الخاصة بالمجتمع. وبالتالي فهو لا ينضوي تحت المنظومة الأخلاقية والعرفية القائمة. في هذه الحالة ستكون اخلاقيات وتقاليد الاقتصاد الجديد متأثرة بالمجتمع الجديد ، مجتمع الشبكة حسب التصوير الذي اقترحه مانويل كاستلز ، والذي يتألف من كافة الأشخاص الذين نتواصل معه على نحو شخصي او ثقافي او اقتصادي ، بواسطة الشبكة وباستعمال منطقها وادواتها. نحن اذن بصدد مفاهيم جديدة لتعريف الذات واخلاقيات التعامل ومعنى الاختلاف بينك وبين الاخرين ، أي معنى الاخرية.

يشير كل من هذه المواقع الثلاثة الى نقطة اشتباك بين مكونات الهوية الموروثة ومؤثرات/تحديات العالم الجديد ، في مرحلة تواصل مكثف يقودها الذكاء الصناعي. لازلنا بحاجة الى دراسة اعمق لهذه المسالة. ولعلنا نعود لمراجعتها مرة أخرى في المستقبل القريب.

الشرق الاوسط الاربعاء - 11 شوّال 1444 هـ - 3 مايو 2023 م

    https://aawsat.com/node/4307296/

مقالات ذات صلة

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

الذكاء الصناعي وعالمه المجهول

استمعوا لصوت التغيير

تجربة تستحق التكرار

غدا نتحرر من الخوف

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

 

26/04/2023

الذكاء الصناعي وعالمه المجهول



في حديث لبرنامج 60 دقيقة على قناة CBS قال ساندر بيشاي، رئيس شركة غوغل الشهيرة ، ان انتشار الذكاء الصناعي ينذر بتحديات جديدة ، تستدعي حلولا أخلاقية واجتماعية ، ولهذا السبب فهو يدعو الفلاسفة لأخذ دورهم في هذا المجال ، وعدم القاء المسؤولية على رجال الأعمال او  المهندسين وحدهم.

يثير اهتمامي ان عددا متزايدا من العلماء والباحثين ، يوجه اهتمامه الى الانعكاسات الثقافية للذكاء الصناعي. كنت قد قرأت في أول الأمر عن اهتمام وزير الخارجية الامريكي السابق هنري كيسنجر بالموضوع. وكيسنجر مفكر قبل ان يكون سياسيا وقد بلغ الآن 99 عاما (مواليد 1923م) ، وقد اصدر في أواخر 2021 كتاب "عصر الذكاء الصناعي ومستقبل البشرية The Age of AI and Our Human Future  " بالتعاون مع إريك شميت ، الرئيس السابق لشركة غوغل ، والبروفسور دانييل هتنلوكر ، الاستاذ بمعهد ماساشوستس للتقنية MIT ، والكتاب مكرس للموضوع المذكور أعلاه ، وعنوانه يكفي للدلالة على محتواه.

نعوم شومسكي

وفي الشهر الماضي كتب المفكر المعروف نعوم شومسكي مقالا خصصه للحديث عن إطلاق منصة "تشات جي بي تي" وهي  محرك بحث يعتمد أدوات الذكاء الصناعي. وكان اطلاقها قد اثار ضجة كبيرة في شرق العالم وغربه ، حيث قدمت نموذجا أوليا عما يمكن ان يؤول اليه الذكاء الصناعي ، ومدى ما يمكن ان يحدثه من انعكاسات.

قبل هذا وذاك ، كان المفكر الامريكي-الاسباني مانويل كاستلز قد كتب بالتفصيل عن التحول المنتظر في القيم والعلاقات الاجتماعية والثقافة ، بعد قيام ما اسماه مجتمع الشبكة ، اي نظم العلاقات والتواصل المعتمدة تماما على الانترنت ، ونبه يومها الى عالم جديد يوشك على النهوض.

نحن ندرك الآن التحول الهائل الذي أثمر عنه توسع الانترنت ، في الثقافة والاعمال وانماط المعيشة والتعليم والهوية ، وفي كل جانب آخر من جوانب الحياة ، وصولا الى الحرب. ان عالم ما بعد الانترنت لا يشبه ما عرفناه في القرن الماضي الا قليلا.

لا يعتقد شومسكي ان الذكاء الصناعي سيحتل مكانة الانسان او يستعبده ، كما يقول الخائفون. لن يمكن للآلة ان تسبق الانسان في صناعة الفكرة ، حتى لو سبقته في معالجة المعطيات. التفكير ليس فقط تقديم إجابات معروفة سلفا ، او قابلة للاكتشاف بناء على المعطيات المتوفرة ، وهذا ما تفعله الآلة. التفكير يبدأ من إعادة تركيب السؤال وإعادة تحديد المشكلة التي يطرحها ، وقد يتضمن خلق احتمالات لم تكن موجودة قبل ذلك. وهذا ما يتجاوز قدرات الآلة. وبالتالي فان الخوف من الغاء العقل الإنساني لا مبرر له.

لكن كيسنجر وزملاءه يلفتون انظارنا الى مشكلة مختلفة نوعا ما ، هي ذاتها التي يشير اليها مدير شركة غوغل ، وهي التي تحدث عنها أيضا كاستلز: الذكاء الصناعي سيأتي بعالم مختلف في أسواقه ، في مدارسه ومناهج تعليمه ، وعلاقات الافراد الذي يعيشون فيه. إذا اردت مقارنة شبيهة ، فارجع خمسين عاما الى الوراء ، أي 1973 ، قارن وضع العالم والحياة يومئذ بنظيره في 2023. هكذا ستكون المقارنة بين يومنا واليوم التالي لهيمنة الذكاء الصناعي.

هذا التحول سيخرج ملايين من البشر من دائرة النشاط الاقتصادي ، كما سيغير بعمق في العلاقات الاجتماعية وفي منظومات القيم الحاكمة. نتحدث اذن عن تحول في المفاهيم والثقافة وسبل العيش ، وليس فقط في التطبيقات. وهذا ما دعا ساندر بيشاي ، مدير شركة غوغل لالقاء الكرة في ملعب الفلاسفة وعلماء الانسانيات: ان صياغة العهد الجديد ليس مهمة المهندسين ورجال الاعمال وحدهم ، وليست - بالطبع - مهمة السياسيين وحدهم.  

الشرق الاوسط 26 ابريل 2023   https://aawsat.com/node/4294296/

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تجربة تستحق التكرار

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هل تعرف "تصفير العداد"؟

19/04/2023

الاجتهاد خارج اطار المذهب


القى الشيخ صالح المغامسي ، وهو فقيه سعودي معروف ، صخرة ضخمة في بحيرة هادئة نسبيا ، يوم دعا لفتح الباب امام الاجتهاد المطلق ، بما يؤدي لظهور مذاهب فقهية جديدة.

نعلم ان الجدل الذي اعقب الدعوة راجع للقسم الثاني ، اي المذاهب الجديدة ، مع ان جوهرها في القسم الاول ، اي الاجتهاد المطلق. وقد مهد له بالتأكيد على ان علم الفقه صنعة بشرية ، ولذا تختلف آراء الفقهاء باختلاف الازمان والظروف.

الشيخ صالح المغامسي

ثمة أسباب عديدة تبرر مواقف الداعين لاجتهاد مطلق ، وثمة مثلها أسباب لرفض الدعوة في الجملة او في التفصيل.

اهم المبررات الداعمة هي حاجتنا لعقلنة التفكير الديني واحكام الشريعة. بديهي ان العقلنة المقصودة ليست مقابل الجنون او السفه ، بل العقلنة بالمعنى المعاصر ، أي ربط المقدمات والمعايير بما تفضي اليه من نتائج. وقبل ذلك إقامة البحث على فرضيات علمية قابلة للاثبات المادي او المنطقي. خلفية هذه الفكرة ان العلم الحديث قد تطور وترك آثاره في مختلف جوانب الحياة ، بل أمسى ضرورة للحياة السليمة الكريمة. ومن هنا اعتمد الانسان المعاصر في حياته كلها تقريبا على نتاج العلم ، كما جعل المنهج العلمي أساسا لاتخاذ أي قرار.

ونتيجة لهذا التطور فان بعض الاحكام الفقهية القديمة لم تعد بديهية في نظر الناس ، بل أمست مورد شك ، في مطابقتها لواقع الحياة وحاجاتها ، والنتائج التي تؤدي اليها إذا طبقت ، قياسا بالأخلاقيات والنظم المماثلة التي توصل اليها العلم الحديث. ونضرب على هذه الحجة مثالين ، أولهما يتعلق بالمعاملات التي يعتبرها الفقه التقليدي ربوية ، وهي تشمل كافة المعاملات المصرفية تقريبا ، فضلا عن العقود المستحدثة كالتأمين والبيع بالاجل وبيع البضائع التي لم تنتج بسعر غير محدد ، وأمثالها من المعاملات التي لم تكن معروفة او مقبولة في الأزمنة السابقة ، لكنها باتت اليوم عنصرا أساسيا في الاقتصاد والمعيشة ، بحيث لا يصح القول انها تفضي للفساد او تمحق الرزق ، كما قيل في تبرير منعها. بل على العكس ، نستطيع الجزم بأنه لولا النظام المصرفي الحديث ، لبقيت الثروات العامة والخاصة تدور في محيط ضيق جدا "دولة بين الأغنياء منكم" كما ورد في التنزيل الحكيم. ولولا الدين ، أي تأجير المال ، لما رأينا هذه الاستثمارات الضخمة ، الضرورية لازدهار الحياة وتوليد الوظائف واستئصال الفقر.

المثال الثاني يتناول الاحكام المتعلقة بوضع المرأة ودورها في الحياة العامة. فالتفكير الديني بعمومه ، وكل احكام الفقه تقريبا ، تميل لعزلها واعتبارها جزء من الحياة المنزلية ، لمبررات أهمها انها ليست كفؤا للرجل ، فلا تقوم بعمله ولا تحتل مكانا مماثلا لمكانه. لكننا نرى بأعيننا ان هذه الفرضيات لم تعد صحيحة في زمننا ، وانه لا يمكن البناء عليها في انشاء حكم عادل او صحيح او مفيد.

زبدة القول ان المثالين يوضحان بجلاء ، وفي تجارب متكررة ، ان تلك الاحكام والفرضيات التي بنيت عليها ، لا تؤدي الى مصلحة لعباد الله ولا تصلح بلادهم. رغم هذا فهي موضع إصرار من جانب المدرسة الفقهية التقليدية في مختلف المذاهب.

والذي أرى ان المشكلة لا تتعلق بالاجتهاد في الفروع او الاجتهاد داخل المذهب ، ولا حل لها بتجديد أدوات تحرير او تحقيق المناط وفهم موضوع المشكلة ، كما ذكر العلامة الشيخ قيس المبارك مثلا. المشكلة تتعلق بالاجتهاد في الأصول ، أي منح العقل وعلم الانسان في كل زمن ، مكانا موازيا لمكانة الكتاب والسنة ، في تحديد ما هو مسألة شرعية وما ليس كذلك ، ثم تحديد المعايير العقلائية العادلة التي ينبغي ان يأتي الحكم مطابقا لمقتضياتها.

الاجتهاد في الأصول ضرورة لتمكين الدين من استيعاب حاجات العصر وأهله والرد على تحدياته. لكن هذا مستحيل ان بقينا في إطار المذاهب والطوائف واعتبرناها نهاية العلم.

الشرق الاوسط الأربعاء - 29 رَمضان 1444 هـ - 19 أبريل 2023 م

https://aawsat.com/node/4281891/

ان تكون مساويا لغيرك: معنى التسامح

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

نقد التجربة الدينية

نموذج مجتمع النحل

12/04/2023

ثقافة العيب

ذكرت في الأسبوع الماضي ان "علاقة المسلمين بالأمم الأخرى ، واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم". واطلعت قبل أيام على تغريدات للأستاذ محمد المحمود في الموضوع ذاته. عبارات قصيرة ، لكنها – مثل جميع كتابات المحمود الأخرى – عميقة ومباشرة ، تضع الاصبع على الجرح ، من دون تمهيد او مجاملة.

لاحظ المحمود ان نقد الذات تقليد راسخ في الثقافة الغربية ، وانه يصنف كشرط للتطور. النقد الذاتي يعني تشجيع البحث عن العيوب والمشكلات ، كشفها لعامة الناس ، ثم استنهاض الرغبة في المجادلة والمعالجة ، وصولا الى اكتشاف العلاج. لقد تسارع التقدم في الحضارة الغربية ، لأنها جعلت الشفافية ركنا من أركان حياتها ، وتخلصت من عقدة العار إزاء الخطأ.

ولفت انتباهي خبر نشرته الصحافة البريطانية في الأسبوع الماضي ، خلاصته ان قصر بكنغهام قد فتح أرشيفه السري لباحثين من جامعة مانشستر ، بعدما كشف أحدهم عن علاقة القصر بتجارة الرقيق في القرن السابع عشر. وكان شارلز ملك بريطانيا قد صرح العام الماضي بانه يشعر بأسى عميق لدور أسلافه في تجارة الرقيق ، وانها كانت صفحة سوداء في تاريخ بريطانيا ، لكنه يرى ان علاج هذا الجرح يبدأ بالكشف عن كافة البيانات المتعلقة بالمسألة ، في اطار بحث علمي موضوعي.

الاقرار بالأخطاء التي ارتكبها المجتمع السياسي تقليد مقبول في الثقافة الغربية ، خاصة بعدما يصبح الخطأ وأطرافه في ذمة التاريخ. وهي طريقة لاعادة الامور الى سياقها الطبيعي ، والحيلولة دون تحول العداوات السابقة الى محرك لعداوات جديدة ، او على الاقل شعور الطرف المظلوم بأنه قد استعاد اعتباره ، وان المخطيء أقر بمسؤوليته ، كي لا يقول أحد في المستقبل ان المظلوم شريك في الخطيئة أيضا.

ويرد الى ذهني الآن كتاب "التقصير" الذي اصدره فريق من الصحفيين الاسرائيليين بعد حرب اكتوبر 1973 ، وركز على استكشاف نقاط الضعف التي قادت الى هزيمة اسرائيل في الحرب. موقف الاسرائيليين والعرب من هذا الكتاب مثال على الفارق الكبير في التعامل مع اخطاء الماضي. نعلم ان الرقابة العسكرية لم تسمح بالكثير مما أراد المؤلفون نشره. رغم ذلك فقد شكل صدمة للاسرائيليين ، واثار مطالبات قوية بمراجعة مدعياته وتحديد المسؤولية. في المقابل فان العرب الذين اطلعوا عليه في العام التالي (1974) تعاملوا معه كدليل على اننا "تمام التمام" وان الإسرائيليين "مثلما تكلمنا عنهم سابقا". الحقيقة ان الانتصار الباهر في حرب رمضان (اكتوبر 1973) قد حجب عن عيوننا أهمية المراجعة التحليلية لما جرى في تلك الحرب ، ولا سيما تشخيص نقاط القوة والضعف في الاداء السياسي والعسكري والاجتماعي. بحسب علمي لم تقم أي جهة عربية بمراجعة علمية جادة لتلك الحرب ، ولا للحروب الاخرى التي كان العرب طرفا فيها. كما اننا نمر بين حين وآخر بأزمات كبيرة ، فلا يتوقف أحد لدراسة ما حدث ولماذا ظهرت الأزمة أو كيف نتفاداها.

النقد الذي يمارسه الغرب كممارسة تقدمية ، يستثمره بعضنا في سياق التفاخر بان "اقرار العاقل على نفسه حجة" ، أي طالما قال الغربيون بأنهم اخطأوا ، فهذا دليل على اننا خير منهم ، والدليل امامك: اقرارهم.

هذا المنهج يعزز في ظني ثقافة "العيب" اي اعتبار الحديث عن العيوب منقصة وسببا لهدم البناء الاجتماعي والثقافي ، ويتسبب عادة في التشنيع على الناقد. ثقافة العيب تعني – ببساطة - التستر على العيوب والاخطاء ، مع ان هذا التستر يؤدي الى تعميقها وتوسيعها والحيلولة دون علاجها في الوقت المناسب.

الشرق الاوسط الاربعاء 21 رَمضان 1444 هـ - 12 أبريل 2023 م

https://aawsat.com/node/4267676/

مقالات ذات صلة

الحداثة تجديد الحياة

الخروج من قفص التاريخ

العقلاء الآثمون

مجتمع العبيد

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

نقد التجربة الدينية

نقد المشروع طريق الى المعاصرة


 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...