ثمة في العالم مساحات كثيرة خارج النطاق الديني. ومن بينها مثلا النشاطات الحياتية القائمة على العلوم الطبيعية او التجريبية او التقنيات العملية او الرياضيات. لا يختلف الجسر الذي يصممه مهندس مسلم عن ذاك الذي يصممه مسيحي او وثني او ملحد، من حيث المعادلات الهندسية والرياضية والتقنيات التي يتبعها او يعتمد عليها في تصميمه. ولا تختلف السيارة التي يصنعها مسلم عن تلك التي يصنعها غيره. كما لا يختلف نظام المحاسبة الذي يتبعه بنك مسلم عن ذاك الذي يتبعه غيره. فهذه كلها اعمال علمية تقوم على جهد عقلي محض، لا يختلف بين دين وآخر. نحن نعيش في عالم مليء بالحلول التقنية المحايدة، اي التي يمكن تطويرها او استعمالها في اي بلد، بغض النظر عن دينه او لونه. نحن لا نسأل عن دين الرجل الذي صنع مكيف الهواء او صنع الدواء او مصباح الكهرباء. وحين يحتاج احد الى بناء منزله فانه يقصد المهندس وليس الفقيه، وحين تصيبه علة فانه يقصد الطبيب وليس شيخ القبيلة. لكن الطبيب والمهندس وشيخ القبيلة سيلجأون الى الفقيه حين يواجههم امر له علاقة بدينهم، اي بالامور الحياتية التي يعرف كل عاقل انها تدخل ضمن دائرة الدين.
هذا يكشف في الحقيقة عن تلك المساحات التي تقع خارج دائرة الدين. ترى هل توجد نقطة اتصال بين الدين وهذه المساحات ؟.
الجواب : نعم، يمكن للدين ان يتدخل كمعيار لتحديد قيمة العمل، اي كمصدر للقيم الاخلاقية التي تمنع المهندس او الطبيب او التاجر او رجل الدين من استثمار عمله في ما يضر بالانسان او البيئة او المجتمع. بعبارة اخرى فان كل منشط من مناشط الحياة ينطوي على بعدين، داخلي يتضمن آليات اشتغاله الخاصة، وخارجي يتضمن تأثيره على الانسان والبيئة التي يطبّق فيها.
يتدخل الدين هنا كموجّه لأغراض العمل، ولا يتدخل في العمل نفسه. يمكن لنا ان نسبغ القيمة الدينية او الاخلاقية على عمل الطبيب او المهندس، او نسلبها منه، لا بالنظر الى العمل نفسه بل بالنظر الى نتائجه النهائية. لان دور الدين يتركز على تقييم الناتج وليس تقييم البحث او العمل بذاته.
خلاصة القول إن كمال الدين امر لا نقاش فيه، بل الكلام في الشمول بالمعنى الكمي. فثمة مساحات كثيرة في الحياة تعتمد على جهد عقلي انساني لا يتدخل فيه الدين. لكن في كل الاحوال فان نتاج كل عمل انساني يحتاج الى تقييم اخلاقي (سلبي) غرضه سلب المشروعية عن تلك الاعمال التي تضر بالانسان او البيئة او المجتمع. وهذه –في ظني- نقطة الاتصال الاولى بين الدين والعلم.