‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد التراث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد التراث. إظهار كافة الرسائل

02/02/2022

حول النقد الأخلاقي للتراث ‏

 لا أذكر حقبة من الزمن شهدت نقدا للتراث والمعارف الدينية ، نظير ما نشهد ‏اليوم. لعله حصل في ستينات القرن العشرين ، ايام ما كان يعرف بالمد الشيوعي. لكني ‏لم اعاصره كي أحكم عن خبرة ، ولا اطلعت على تسجيل تاريخي لما جرى  ، كي اسند اليه. ‏وغرضي هنا هو تنبيه الناقدين الى الاطار التاريخي للفكرة او الممارسة موضع النقد. ‏وأذكر هنا عنصرين على وجه التحديد: ‏

الاول: قيمة الفكرة او الفعل في زمنه الخاص ، رجوعا لمعيار الحسن والقبح ‏العقليين. ‏

الثاني: موقع الفكرة او الفعل في سياق التطور العام للأفكار والممارسات ‏الاجتماعية. ‏

دعنا نأخذ مثالا نعرفه جميعا ، هو الفتوحات الاسلامية. فالمتفق عليه ان غزو البلاد ‏الاجنبية ليس أمرا طيبا. ولو دعا أحد اليوم الى غزو اي دولة ، صغيرة او كبيرة ، لنشر ‏دعوة الاسلام ، لقابله غالب المسلمين بالانكار والاستهجان. ‏

-       لماذا؟ ‏

‏-  لأن نشر الدين بالقوة لم يعد "فعلا حسنا" في منظومات القيم السائدة اليوم. ‏ولأن غالب سكان العالم متفقون على احترام القانون الدولي وسيادة الدول ، أيا كان ‏دينها. واحترام السيادة يقتضي عدم غزوها او إلزامها بعقيدة لا ترضاها. 

وخلال الثلاثين عاما الماضية ، جرب بعض المسلمين استعمال القوة والقهر في ‏فرض عقيدتهم. لكنا نعلم ان عدد الذين التحقوا بهذه  المشاريع ، لم يتجاوز بضع مئات ‏، وان كثيرا ممن ساندهم أول الأمر ، ما لبث ان تراجع وأنكر  حين انكشف ما تحمله هذه ‏المشروعات من كوارث. 

هذا يثير بذاته سؤالا حرجا: اذا كان الفتح ونشر الدين بالقوة امرا طيبا ، فلماذا لا ‏يسعى له المسلمون اليوم؟. واذا كان سيئا ، فلماذا لا يتبرأون من فتوحات اسلافهم؟. ‏

الجواب ببساطة: ان الفعل ذاته قد يكون حسنا في زمن وقبيحا في زمن آخر. ‏مرجع التحسين والتقبيح ليس كتب التراث. الاخلاق اعتبارات عرفية ، وعرف العقلاء ‏يتطور ويتغير بتأثير عوامل عديدة. بعبارة أخرى فان الغزو لأغراض ‏جيوبوليتيكية ، او لنشر الدين او تعزيز الاقتصاد ، كان "فعلا حسنا" عند عقلاء الأزمنة ‏القديمة. ‏لكن دول العالم قررت تقبيح هذا الفعل في منتصف القرن السابع عشر ، حين ‏اتفقت دول اوربا على معاهدة وستفاليا سنة 1648 ، واعتبرت الحدود ‏القائمة لكل منها ، نهائية ، وان التجاوز عليها عدوان يستحق الادانة. 

منذ ذلك الوقت اتجه العالم لاستحداث بدائل للحرب ، حتى وصلنا الى وقت بات ‏فيه الغزو وتجاوز الحدود "فعلا قبيحا" عند الجميع. ‏

ما اردت الوصول اليه هو ان نقد اي قول او فعل في الماضي ، انطلاقا من ‏دوافع اخلاقية بحتة ، يجب ان يراعي أيضا موقعه الزمني ، لا أن يطلقه إطلاق المسلمات العابرة للزمان والمكان. فلو استنكر أحدنا الحروب القديمة ، انطلاقا من اخلاقيات اليوم ، ‏فلن يكون منصفا. ولو دعانا للحرب مستدلا بسيرة الأسلاف ، فلن يكون مصيبا ، لأن ‏قيمة الأفعال لها إطار زمني وليست مطلقة. 

مثال الفتوحات قابل للتطبيق على نظائر كثيرة ، بما فيها أحاديث نبوية وروايات ‏عن الصحابة ، وكذلك افعالهم ومسارات حياتهم. فقيمتها متصلة بزمنها ، سواء صنفت ‏يومئذ كأفعال حسنة او  قبيحة  ، وسواء كانت يومها مقبولة او مرفوضة. 

زبدة القول: ما نستنكره اليوم ربما كان حسنا في وقته ، اي قبل ألف عام أو أكثر ، ‏وما نقبله اليوم ، ربما كان مستنكرا وقبيحا في ذلك الزمان ، فلا ينبغي لوم الناس او ‏اعتبارهم خاطئين ، لمجرد الاختلاف في تقييم قول او فعل.

الأربعاء - 1 رجب 1443 هـ - 02 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15772]

https://aawsat.com/node/3450701

مقالات ذات صلة

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

 

10/11/2021

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

لكانما كانت هذه التدوينة بمثابة وداع للاستاذ جودت. فقد رحل عنا يوم 30 يناير 2022. رحمه الله وغفر له. 


لطالما استمتعت بقراءة مؤلفات الاستاذ جودت سعيد ، المفكر السوري الذي اعتبر امتدادا لمدرسة المرحوم مالك بن نبي ، ومن قبله محمد اقبال ، المفكر والشاعر الهندي. يتناول الاستاذ جودت قضايا معقدة ، بلغة بسيطة مباشرة ، لا تهتم بالمسافة الفاصلة بين شرح الحالة والحكم عليها ، لغة موجعة بنقدها الصريح لحال عرب اليوم ، وعدم اكتراثها بتبريراتهم.

جودت سعيد

ركز جودت على التفسير "المادي" للتاريخ وتحولاته. كما اهتم بالقيمة الفعلية التي يولدها عمل الانسان في الطبيعة. اهتمامه بهذا الجانب ، قاده للتأمل في العوامل الثقافية والروحية ، التي تجعل شخصا ما متفاعلا مع الطبيعة ، مؤثرا في عالمه ، أو تجعله خائبا متواكلا ، منفعلا بما يفعله الآخرون. اطلق جودت سعيد على هذه العوامل اسم "سنن الله".

وتظهر الأمثلة التي يشرح من خلالها فكرة "السنن" أنه يقترب كثيرا من مفهوم "قانون الطبيعة" الذي تحدث عنه أرسطو ، ثم القانوني الروماني شيشرون ، وغيرهم من قدامى الفلاسفة ، وشكل منطلقا لمحاولاتهم وضع "رؤية كونية" تتضمن تصورا عن الطبيعة وعلاقة الانسان بها ، ونظاما للمجتمع والدولة ، متلائما مع النظام الكوني.

وللحق فقد أدهشني اهمال جودت سعيد (بل انكاره احيانا) للعوامل غير المادية في تحولات المجتمع والتاريخ. واقصد بالعوامل غير المادية ، ذلك الميل الشائع بين الكتاب الاسلاميين ، الذي يرجع الحركة التاريخية او التحولات الاجتماعية ، الى اسباب غير قابلة للتقدير العرفي او الادراك العقلائي ، من قبيل نسبة الكوارث الطبيعية الى ذنوب البشر ، او نسبة الانتصار للايمان والهزيمة للفسق والعصيان.

في هذا السياق يعتقد سعيد ان معرفة "سنن الله" والعمل بها ليست مسألة دينية ، فكل مخلوق قادر على فهمها واتباعها. فاذا استوعبها ، أمسك بمفاتيح الحياة وقوى الطبيعة. ليس ثمة علاقة بين هذا وبين الايمان والكفر. ولهذا يقول ان المسلمين باتوا خاضعين لغيرهم ، لأن هؤلاء اخذوا بسنن الله ، ومن بينها العلم والبحث عن مصادر القوة ، بينما انشغل المسلمون بالجدل في مدح انفسهم وانكار تأخرهم. ولن يستطيع المسلم المعاصر الاقلاع من هذا المستنقع الآسن ، ما لم يعترف بانه ما عاد قادرا على الانتفاع بشيء مما في الكتاب والسنة ، لأنه فقد القوة العلمية الضرورية للنفاذ الى جوهر القرآن ، و – تبعا لهذا – فقد القدرة على إيقاظ عقله من سباته الطويل.

ما هي تلك السنن؟.

يجيب سعيد بانها مجموعة القواعد التي يتشكل منها نظام الكون وتعمل وفقها اجزاؤه ، والتي نتعرف عليها بالتدريج من خلال الانضمام الى تيار العلم في مختلف عصوره. علم الاجتماع يوضح لنا "سنن الله" في الحراك والتحول الاجتماعي ، علم الاقتصاد يعرفنا بسنن الله في تحسين المعايش والاستقواء المادي ، علم الفلك والفيزياء يخبرنا عن سنن الله في الطبيعة والمادة .. الخ.

ان استيعاب هذه العلوم وغيرها ، ضروري كي يكتمل الخط الواصل بين الكون والعقل وخطاب الخالق للخلق.

هل يجب ان تكون مسلما كي تحقق هذا الوصل؟.

ليس بالضرورة. يرى سعيد ان نجاح الاوربيين في الانتقال من التقاتل الى الوحدة  "آية" من آيات الله ، انها دليل على ان العقلاء الذين يسعون لفهم السنن واتباعها ، سيجنون ثمرات هذا السعي. لقد جرت سنة الله في الذين خلوا من قبل على ان  الاتحاد واجتماع القوة من دون قهر ولا قسر ، طريق سريع الى الارتقاء والثروة والكرامة بين الشعوب.

الشرق الاوسط الأربعاء - 5 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 10 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15688]

https://aawsat.com/home/article/3295231/

مقالات ذات صلة 

تأمــــــــــــلات

تفكيك التداخلات

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

27/10/2021

تراثيات حسن حنفي

 

فقدنا في الأسبوع الماضي (21-اكتوبر-2021) العلامة الدكتور حسن حنفي ، المفكر البارز الذي كرس حياته لاحياء دور العقل وتجديد الثقافة العربية.

سوف اخصص هذه المساحة للتعريف بمحور رئيس في مشروعه الفكري ، وهو دعوته للحداثة من دون القطيعة التامة مع التراث. فهو يرى ان نهوض العالم الإسلامي ، مشروط بتحول "الحداثة" الى مضمون جوهري لثقافة المسلم المعاصر وحياته وتفكيره في المستقبل. أول معاني الحداثة هو ان يكون الانسان سيد حياته وصانعها.

د. حسن حنفي

ماذا تعني هذه الفكرة بالنسبة لعلاقة المسلمين بتراثهم؟

يتبنى حنفي رؤية الفيلسوف الالماني فريدريك هيجل ، في معنى الوعي التاريخي ، وخلاصتها ان التجربة التاريخية تؤثر بعمق في تشكيل وعي الانسان وذهنيته. هذه حقيقة لا يسع الانسان الحديث إنكارها. الاقرار بدور التجربة التاريخية في تشكيل أذهاننا ضروري لبدء المرحلة التالية ، اي استعادة الزمام ، بالانتقال من حالة الانفعال الكلي بتلك التجربة ، الى التحكم في حدود تأثيرها علينا.

يختلف انسان التقاليد عن انسان الحداثة ، بأنه مستغرق في الماضي بكليته ، مسلم بما فيه ولمن كان فيه ، وهو يفضل ان يصف نفسه كتابع ، خشية ان يتهم بالابتداع او المروق عن حدود الموروث.

أما انسان الحداثة فطبعه المروق والتمرد. وهو واع بأن تاريخه يؤثر فيه سلبيا وايجابيا. ولذا فهو مهتم بكشف العوامل المؤثرة على ذهنه ، سواء كانت قادمة من التاريخ او من الحاضر. الانسان الحديث واع بأن ما يفكر فيه وما يفعله ، ليس نتاج لحظته الراهنة بشكل كلي ، بل هو توليفة من مؤثرات شتى ، قديمة وجديدة ، عقلانية وعاطفية.

في نهاية المطاف يريد حنفي ان يسأل المسلم المعاصر نفسه: لماذا أهتم بتراث الاسلاف.. هل لأنه علم يقودني للحقيقة ، ام لأنه حبل يربطني بأسلافي؟. واذا كان الأول هو الجواب ، فلماذا نرجح علما قديما على علم جديد ، وإذا كان الثاني هو الجواب ، فما الذي يدفعني للارتباط بالاسلاف ، والى أي حد اريد الارتباط بهم؟.

لكن لماذا لا نترك هذا التراث تماما ، بدل ان نأخذ بعضه او نتحكم في تأثيره؟

يعتقد حنفي ان النهوض الحضاري لن يتحقق ، لو اكتفينا بمسايرة الحضارة القائمة والتعلم منها. كما لن نستطيع المساهمة في هذه الحضارة لمجرد التعلم منها.

نحن الان نتعلم الكثير من الغرب. لكننا لا نساهم جديا في مسارات الاختراع والاكتشاف والتطوير ، لاننا داخل الاطار التقني لحضارة الغرب ، لكننا خارج اطارها الثقافي. لعلنا خدعنا انفسنا حين تصورنا ان مئات الآلاف من الأطباء والباحثين الذين درسوا في الغرب ، او اتبعوا المنهج الغربي في البحث العلمي ، سوف يشكلون ، في نهاية المطاف ، مجتمعا لعلم الطب ، شبيه بذلك القائم في الغرب ، مجتمع ينتج العلم ويساهم في البحث والابتكار مثلما تساهم الاكاديميا ومراكز الابحاث الغربية.

لكننا نعلم ان هذا لم يحدث ، رغم مرور قرن من الزمن على اتصالنا بالغرب ، في هذا المجال العلمي ، وفي غيره. ما تحقق فعليا هو ان اولئك الباحثين والعلماء اقاموا "توصيلة" لعالم الطب الغربي ، يشبه توصيلة التلفون ، اما السنترال ، فلازال هناك ، وسيبقى هناك.

الطريق  السليم هو "عصرنة" الثقافة العامة ، أي إعادة وصلها بعالم اليوم وما فيه من تيارات وعلوم وهموم. وهذا يتطلب – بالضرورة –  التحرر من الارتباط القسري بالموروث ، وتحويله الى موضوع يتحكم فيه الانسان ولا يسلم له او يخضع لاملاءاته. سيطرة الانسان على حياته وخياراته هي الخطوة الأولى لاعادة بناء ثقافة تمد جذورها في أعماق الماضي ، وتتشابك في الوقت نفسه مع تيارات الحاضر.

التراث المفيد - وفقا للمرحوم حسن حنفي – هو التراث الذي يؤسس لرؤية عميقة متينة ، تساعدك في فهم العالم ، وليس التراث الذي يحبسك في حياة الاسلاف ، او يحول حياتك كلها الى تجوال بين القبور أو المتاحف.

الشرق الاوسط الأربعاء - 21 شهر ربيع الأول 1443 هـ - 27 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15674]

https://aawsat.com/node/3268601/

مقالات ذات علاقة 

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

 الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

 

23/12/2020

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

 

مرت علينا هذا الأسبوع الذكرى الاولى لرحيل العلامة محمد شحرور ، المفكر المفسر الذي اطلق موجات ضخمة من النقاش حول مفاهيم استقرت قرونا متمادية.  

غرضي ليس تبجيل المرحوم شحرور ، مع انه جدير به. قد يؤدي تمجيد الاشخاص الى تصنيمهم ، بحيث يمسي عسيرا تجاوز آرائهم. ان قيمة المفكر  رهن بما يفتح من آفاق جديدة ، تمكن المتلقي من تجاوز موقعه في تاريخ المعرفة.

كما لا أنوي تكرار الاراء القيمة للمرحوم ، فهي منشورة ومشهورة. مايهمني حقا هو تفصيح الفكرة التي ربما لم يصرح بها ، لكنها تلوح للمتأمل بين السطور او في النهايات غير الواضحة.

لقد اشرت في مقالات سابقة الى ما ظننته عناصر رئيسية في تفكير المرحوم شحرور ، وبينها باختصار شديد:  أ) ان الحياة تجربة ، و ب) ان الدين يعالج جانبا من قضايا الحياة ، كما ان العلم يعالج جانبا اخر ، والفن يعالج جانبا ثالثا ، وكذا الاخلاق والاسطورة. و ت) ان الانسان – كل انسان – شريك فاعل/متفاعل في تلك التجربة ، في تطوير مساراتها ونتائجها. 

ربما أعود الى هذه المسائل في مقالات لاحقة ان شاء الله. لكني اريد تخصيص ما تبقى من مساحة ، لتوضيح سؤال تكرر كثيرا  في الاشهر التالية لوفاة شحرور ، سؤال: كيف توصل شحرور الى هذه الآراء ، مع ان المئات من مفسري القرآن وعلماء اللغة وغيرهم لم يقل بها قبله. وهذا يستبطن سؤالا خلفيا فحواه: كيف اترك الآراء المتفق عليها ، الى رأي لم يقل به غير شخص واحد؟.

في الجواب على السؤال الخلفي ، ادعو للتمييز بين العقل النظري والعقل العملي. لا ينبغي للإنسان ان يتخلى عما هو مطمئن اليه ، لمجرد انه شك فيه او بدت له رؤية مختلفة. عليه ان يواصل البحث في المستوى النظري ، حتى يوصله الى نتيجة قطعية. عندها سيتوقف كي يقرر: هل يتبع قناعته الجديدة ام يبقى على ما استقر عليه رأي الناس من حوله.  هكذا يتعامل الناس مع أسئلة الدنيا. وفي رايي ان أسئلة الدين لا تختلف عنها.

بالنسبة للسؤال الأصلي ، فالمعلوم ان الزمن شريك رئيس في تكوين السؤال. فالذين بحثوا عن أجوبة في كلام السابقين وجدوا أجوبة تناسب تلك الازمان. وقد لا تكون صائبة في هذا الزمان. من ذلك مثلا: لو كنت في العام 50 للهجرة ، وسألت فقيها او صحابيا: هل بيع وشراء البشر واستعبادهم امر معقول ومناسب؟. سيكون الجواب يومذاك: نعم. لأنه أمر رائج ولم يمنعه الشرع. حسنا.. ماذا لو وجهت نفس السؤال في هذا اليوم لواحد من عامة المسلمين او نخبتهم ، فكيف سيجيبونك؟. هل يخبرونك ان استعباد البشر امر معقول ومناسب؟.

نعلم ان الموضوع لم يتغير ، والاحاديث الحاوية لاحكامه باقية كما هي. الذي تغير هو الاطار التاريخي للسؤال. ولذا بات يشير الى حقيقة غير التي أشار اليها سؤال الامس ، مع ان كليهما صيغ بنفس الالفاظ ووجه الى اشخاص متماثلين في العقيدة.

آمن شحرور ان أسئلة اليوم غير أسئلة الامس ، وكذلك اجوبته. فبحث عن أجوبة القرآن عن أسئلة اليوم ، بعدما غض الطرف عن أجوبة السابقين ، كما غض الطرف عما نقله المعاصرون من أجوبة السابقين. من  هنا جاءت آراؤه وتفسيراته غريبة نوعا ما ، لأنها غير مألوفة بالنسبة لأمثالنا الذين اعتادوا على إسلام الكتب والمدارس. هذا كل ما في الأمر.

الشرق الاوسط الأربعاء - 9 جمادى الأولى 1442 هـ - 23 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15366]

https://aawsat.com/node/ 2698201/

مقالات ذات صلة

اصلاح المجال الديني

انقاذ النزعة الانسانية في الدين

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

التدين الجديد

التشريع بين المحلي والكوني

جدالات ما بعد شحرور

سؤال الى البابا

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ما ينبغي للتيار الديني ان يخشاه

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

من اللغة الى الرؤية الكونية

من المناكفة الى النهضة

نسبية المعرفة الدينية

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا تحدث محمد شحرور

 

01/07/2020

ملاحظات على حديث قصير – غريب


انه شريط فيديونشر الاسبوع الماضي على الانترنت ، شريط لا يصل طوله ثلاث دقائق ، يوجز الفارق بين حرية التفكير التي ينبغي ان تكون مطلقة ، وحرية الفعل والسلوك التي ينبغي ان تلتزم حدود القانون. ردود الفعل على هذا الشريط كشفت لي ان قيمة رفيعة مثل الحرية لازالت غريبة في ثقافتنا العامة. ولذا لا يبعد ان ترى اناسا يديرون رؤوسهم قائلين: ولكن الحرية مفهوم غير واضح .. فما هي الحرية التي تقصدها؟.
هذا القول مما ينطبق عليه عنوان "المضحك المبكي".. فمن الذي لايعرف معنى الحرية في هذا العالم ، لاسيما في هذا العصر؟.

لكن هذا يهون حين تقرأ لاستاذ جامعي بارز قولا فحواه ان حرية التفكير مثل حرية السلوك ، يجب ان تحكمها  قواعد. ويستدل على هذا بأن جماعة متعصبة مثل "داعش" انحرفت أولا على المستوى الذهني ، ثم تمظهر انحرافها في السلوك اليومي.
لقد لاحظت تكرار ا ان النقاش حول قيم عليا ، كالمساواة والحرية والنظام ، يستدرج سريعا نقائض متخيلة من زاويتين: زاوية تتعلق بتطبيق هذه القيم في الغرب. فكأن المعترض فهم ان الكلام عن المساواة مثلا ، هدفه تقليد نمط العيش الاوربي. وهذا بدوره يستدعي أزمة الهوية والعلاقة المتازمة بين المسلمين والحضارة الغربية. اما الزاوية الثانية ، فتتمثل في السؤال الأبدي المضمر ، الذي فحواه: اذا كانت المساواة قيمة طيبة فلم أمر الاسلام بخلافها ، واذا كانت الحرية امرا طيبا فلم نرى ان الدعوة اليها تأتي من الغرب ، بينما يعارضها المسلمون؟.  
أقول ان هذا سؤال مضمر. لأن الغالبية تدرك انه غير معقول. فعدم معرفتنا سابقا بهذه القيم ، او عدم اكتراثنا بها ، لايعني انها معيبة. انهم يدركون حقا انها قيم رفيعة ، لكنهم لايشعرون بالارتياح النفسي لها بذاتها ، كما لا يرتاحون لفكرة ان يتقبلوا دعوة قادمة من الغرب ، وكان بالامكان ان تأتي من داخل تراث المسلمين ، كي تكون امتدادا لنفس النسيج ، لاعضوا غريبا يجري اقحامه كيفما اتفق.
احتمل ايضا ان عدم ارتياحنا للحديث حول الحرية والمساواة وأمثالها من القيم ، مرجعه خوف دفين من فقدان النظام القيمي ، الذي نتخيل ان سنده الوحيد هو التوزيع الموروث للسلطة في المجتمع: الاباء والامهات بالنسبة لابنائهم والرجال على نسائهم وهكذا.
هذا الموقف مدعوم ثقافيا بكم ضخم من التوجيه الايديولوجي ، تلقيناه خلال الربع الاخير من القرن العشرين ، على يد الموجهين والاساتذة الذين تولوا دفة التعليم والثقافة في بلادنا. وقد استهدف هذا التوجيه بصورة متعمدة ، تأكيد النظام الابوي في المجتمع ، وتعزيز منظومة قيمية تستهدف عن قصد ، تعميق أوجه التناقض مع المجتمعات الصناعية. والمبرر في هذا هو خوف التأثر بالأمم الغالبة ، على النحو الذي قرره عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة.
اختتم هذه الملاحظات بالاشارة الى حاجتنا لتعميق معرفتنا بالقيم الرفيعة في حياة البشر ، مثل قيمة الحرية والمساواة والعدل وحقوق الانسان والتراحم والنظام ، وامثالهم ، وذلك بجعلها موضع نقاش لا يتوقف ، من اجل ان نعزز في أذهاننا وفي نفوسنا جميعا ، الاسس الكبرى التي تقوم عليها الحياة الانسانية الكريمة ، والعلاقات البناءة في داخل المجتمع ، وبين مجتمعنا ونظرائه. 
نحن بحاجة حقا الى هذا النقاش ، كي لا نتأخر عن مسيرة البشرية فوق ما تأخرنا حتى الآن.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو القعدة 1441 هـ - 01 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15191]

11/09/2019

الحلول الفضائية

|| الحلول الميتافيزيقية هي تلك الاجوبة السجالية التي تدعونا للبحث عن الحلول والاجوبة في التراث. هؤلاء يرون التراث دينا من عند الله ، وهو يحوي جوابا لكل سؤال وحلا لكل مشكلة||

قبل سنوات قال سياسي عراقي ان تحقيقا داخليا كشف عن آلاف "الجنود الفضائيين" على قوائم رواتب الجيش. وعلمنا فيما بعد ان المقصود بالفضائي هو الاسم الذي لا مسمى له. فقد يكون اسما لشخص ميت ، أو لشخص لم يولد أصلا.
"الحلول الفضائية" مثل نظيرها العراقي ، اسماء بلا مسمى ، لكنها بالطبع ليست في الجيش. بل في الجدالات اليومية لدعاة الاصلاح الديني.
Image result for mujtahid shabestari
د. محمد مجتهد شبستري
ويغلب على ظني ان كافة القراء الاعزاء يعرفون الحلول والنظريات الفضائية ، ولعل بعضهم يستعملها أيضا. وكنت  التفت اليها حين قرأت للفقيه المعاصر محمد مجتهد شبستري ، حديثا عن "الحلول الميتافيزيقية" ، وهي مرادفة لأختها الفضائية. وتنطبق على قصة رجل جيء به لمحكمة يرأسها عالم رفيع الشأن. فتحدث الشيخ أولا عن عدل الاسلام ، وسبقه للغرب في اقرار حقوق الانسان وضمانه لكافة الحريات الانسانية. لكنه في نهاية الجلسة ، حكم على المتهم بالسجن ، لتأليفه ونشره كتابا يعارض آراء فقهية مشهورة ، ويدعو لاستبدالها بقانون وضعي.
وفقا لتعريف شبستري ، فان الحلول الميتافيزيقية هي تلك الاجوبة السجالية التي تقول انه يتوجب علينا البحث عن الحلول والاجوبة في التراث ، لانه من عند الله ، فهو يحوي جوابا لكل سؤال وحلا لكل مشكلة.
حسنا نحن نصدق هذا.. لكننا نريد ان نراه في ارض الواقع. لسنا بحاجة لمن يخبرنا عن سبق الاسلام للغرب في اقرار الحريات الشخصية ، بل نحتاج للاقرار بحق الاشخاص الذين معنا  في ان يعبروا عن رأيهم ، حتى لو تعارض مع معتقداتنا او فقهنا. نحن ندعو حراس العقيدة الى تبني مبدأ حرية الاعتقاد والعبادة والتعبير عن الراي في الدين وغير الدين ، كي نصدق انهم يؤمنون بما قالوه عن سبق الاسلام الى حقوق الانسان وتفوقه على الغرب في حمايتها. ان حديث القاضي عن عدالة الاسلام ليس سوى حل فضائي لا علاقة له بالواقع أصلا. أما الذي جرى في الواقع فهو ان شخصا عوقب بالسجن دون أن يرتكب جرما ، سوى تعبيره عن رأيه بطريقة متمدنة.
اظن ان الصلة بين الجنود الفضائيين والحلول الفضائية قد اتضحت الآن. فهذه وتلك اسماء وحقائق مفترضة ، يتحدثون عنها ويقيمون لها اعتبارا ، لكنها غير موجودة في أرض الواقع.
لقد ذكرت مثال حرية التعبير  ، سيما نقد الخطاب الديني ، لأنه واضح ومتكرر. ولأن منع النقد مدعوم بفتاوى وروايات.  ولأن اشخاصا قتلوا واخرين سجنوا أو جردوا من حقوقهم المدنية ، بعدما مارسوا ما يفترض انه حق اصلي في التعبير عن الرأي.
لكن عدا هذا فهناك مسالة التجديد ، ومكافحة الفقر ومنع الاستغلال وحماية الضعفاء وقضايا المساواة والعدالة التوزيعية الخ.
والذي ألاحظه ان اصحاب الحلول الفضائية يمارسون لعبة ظريفة: حين تقول مثلا ان المعاملات التي ابتكرها الفقهاء لتحليل معاملات البنوك ، لا تعالج المشكل الاصلي اي الاستغلال ، سيردون عليك بآيات وأحاديث تؤكد على العدالة والرحمة بالضعيف الخ.. فاذا جادلتهم بان هذا مجرد توجيه وارشاد ، وان المهم هو ما حوله الفقهاء الى فتوى او قانون ، أجابوك بأنهم اهل الاختصاص في معرفة النص ، وربما تواضعوا قليلا فقالوا ان تقصير الفقهاء لا يعني قصور الاسلام. لكننا نعلم ان هذه الاجوبة كلها فضائية ، تحاول ابعاد الانظار عن موضوع السؤال الاصلي ، بطرح موضوع جديد ، يحول النقاش الى نقاش حول الاسماء ، بدل الموضوعات والوقائع. هذه ببساطة فكرة الحلول الفضائية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 12 محرم 1441 هـ - 11 سبتمبر 2019 مـ رقم العدد [14897]
https://aawsat.com/node/1896956/

مقالات ذات علاقة 
 الحداثة كحاجة دينية  (النص الكامل للكتاب(

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...