فكرة التأصيل هي
احدى علل الفكر الديني المعاصر. وقد ظهرت في سياق الرد على الحداثة ، لا
سيما في ميدان العلوم الانسانية. ويبدو انها تحولت - عن قصد او عن غفلة - الى نوع من المساومة مع
الحداثة ، يؤدي في نهاية المطاف الى ابقاء العلم ميدانا خاصة للنخبة. ومن هذه الزاوية ، فهي تستوحي فكرة قديمة – وراسخة الجذور الى حد ما في التراث الديني – تقول بان من
الافضل ابعاد عامة الناس عن الفلسفة والعلوم العقلية ، لان عقولهم اضعف من احتمال
اشكالاتها ، ولهذا يخشى على دينهم ان يتزعزع اذا انفتح عليهم موج الاسئلة.
مارتن هايدغر |
في سياق الجدل حول الحداثة ، تبلور في العالم الاسلامي ثلاثة اتجاهات :
يدعو الأول الى رفض العلوم الحديثة
كليا او جزئيا ، لان ما ورثه المسلمون من علوم ابائهم ، فيه خير وزيادة.
ويدعو الثاني الى الاخذ بالعلوم الحديثة
وما تقوم عليه من اسس فلسفية ، لان العلم هو ميراث الانسان في كل الازمان والامكنة
، وان الاخذ بهذه العلوم سيؤدي بالتدريج الى توطينها واغنائها بالقيم الخاصة
بالمجتمعات المستقبلة.
اما الثالث الذي يبدو انه حل محل
الاتجاه الاول ، فيدعو الى الاخذ بالجوانب التقنية في العلم الحديث ، وترك القواعد
الفلسفية والمعيارية. ثم تأصيل تلك الجوانب ، اي اعادة بنائها على اساس المعايير
الخاصة بالاسلام.
حتى هذه النقطة يبدو اقتراح التأصيل حلا مريحا ، خاصة
لأولئك المهمومين بقلق الغزو الفكري والهجمة العالمية على الاسلام ، وبقية مفردات
نظرية المؤامرة. لكن هذا الحل الذي يبدو مريحا ، غير صحيح من الناحية المعيارية ، وغير ممكن من الناحية العلمية. يقوم هذا الحل على فرضية خاطئة اساسا ، تخلط بين
الدور الوصفي - التفسيري للعلم والدور التوجيهي للعالم. الممارسة العلمية بالمعنى
الفني ، عملية وصف وتحليل وتفسير. اما توجيه النتائج ووضعها في سياق دعوة او
استخدامها لتعزيز دعوة ، فهي خارج نطاق العلم ، ويمكن ان يقوم بها اي انسان ، عالما او
غير عالم.. ولهذا تميز المجامع العلمية بين الابحاث التي تستهدف العلم بذاته ، وتلك
التي تستهدف وضع سياسات عمل. الاولى تقوم – او ينبغي ان تقوم - على معايير علمية
بحتة ، بينما تهتم الثانية بوضع خيارات ملائمة لأهداف محددة مسبقا ، ولهذا فان
اعتبارها العلمي ادنى من الاولى.
لكي يقوم الباحث او المفكر بممارسة علمية صحيحة من
الناحية التقنية ، فانه يحتاج الى التحرر الكامل من قيود الاستهداف المسبق. يجب ان
يكون الغرض الوحيد للبحث ، هو التوصل الى معرفة جديدة ، حتى لو كانت تعارض المسلمات
والبديهيات التي يؤمن بها سلفا ، لان غرض العلم ليس تعزيز الايمان بل كشف الحقائق
الغائبة.
طبقا للفيلسوف الالماني مارتن
هايدجر فان من المستحيل تقريبا ، الانفصال عن المسلمات الذهنية
السابقة ، التي تشكل عقل الانسان ونظرته الى العالم. دور الخلفية الثقافية في تحديد فهم الانسان للعالم المحيط به ، بما فيه من ناس واشياء ، امر ثابت ، بل هو من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان. لكن لا بد
من ملاحظة الفارق الدقيق بين التأثر العفوي بهذه المسلمات ، وسوق الحقائق والتفسيرات
بالقوة لكي تطابقها. مشكلة فكرة التأصيل انها تدعو الى المعنى الثاني على وجه
التحديد ، اي فرض مسلمات سابقة (يدعى انها دينية) على صورة الحقيقة ، وكيفية وصفها
وتحليلها ثم تفسيرها ، وفي هذه الحالة فاننا لا نتوصل الى اي معرفة جديدة ، بل الى تأكيد
ما نعرفه مسبقا او ما نريد تحويله ، من رغبة عاطفية الى معرفة او شبه معرفة.
الاشكال
الثاني يتعلق بالمعايير الدينية التي يراد تطبيقها على العمل
العلمي. الكتاب والسنة لا يقدمان بحوثا علمية ، بل منظومة قيم تتعلق اساسا بمسألة
الوجود والكينونة. نقل هذه القيم من صورتها الاصلية ، المجردة والمعيارية ، الى
نطاق محدد علمي او عملي ، يؤدي فعليا الى نزع صفتها التجريدية المتعالية ، وتحويلها من مطلق الى محدد ، ومن مجرد الى نسبي. هذه العملية التي يطلق
عليها احيانا "الاجتهاد" تتضمن بالضرورة ، تأثر النتائج التي يتوصل اليها
المجتهد بخلفيته الذهنية الخاصة. الزعم
بامكانية اخذ النص واستعماله في الاجتهاد او التطبيق ، دون مؤثرات ذهنية او خارجية ،
يستحيل اثباته علميا وتجريبيا.
كل اجتهاد هو بدرجة او بأخرى نتاج عقل مختلف في مكوناته ، ولهذا تختلف اجتهادات المجتهدين وتتعارض. فاذا توجهنا الى المجتهدين للحصول على ما يوصف بالقيم الدينية ، فان ما سنحصل عليه ليس قيما معيارية بل منظورات شخصية. وبهذا فان ما سنبني عليه علمنا ليس القيم بل آراء اشخاص محددين.
لهذين السببين ، ولأسباب
اخرى ربما نعود اليها لاحقا ، فان فكرة التأصيل التي يدعى اليها ، كسبيل للمواءمة
بين العلوم الحديثة والتقاليد العلمية او السلوكية (التي يدعى انها دينية) لا يمكن
ان تنتج علما. لكي ينتعش العلم فانه يحتاج الى التحرر من الاهداف المسبقة والرغبات.