‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل

04/07/2007

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم



؛؛ لا نسأل عن دين الرجل الذي صنع مكيف الهواء او صنع الدواء او مصباح الكهرباء. وحين نحتاج الى بناء منزلنا فاننا نقصد المهندس وليس الفقيه؛؛
 ذكرت في مقال الاسبوع الماضي ان عودة التلاقي بين العلم والدين تتوقف على تحديد نقاط التداخل والتخارج بين الاثنين. وبررت هذه الدعوى بأن لكل من الدين والعلم عالمه الخاص المختلف في موضوعه وأدواته وأغراضه ومعاييره. وبدا أن هذا التبرير لم يلق استحسان بعض السادة القراء. وحسب رأي أحدهم فإن علينا ان نعتقد بشمول الدين وان كل شيء في هذه الحياة ينبغي ان يجد له مكانا في دائرته والا اعتبرناه خارجا عن الصراط المستقيم. ويظهر ان هذا الاحتجاج شائع بين عامة الناس والمثقفين الى درجة تسبب الحرج لكل من يفكر في احتمال وجود عالمين مستقلين : عالم ديني وعالم غير ديني. 

ولا مراء في عظمة الدين وكماله، أما الكلام في شموله فلا يخلو من نقاش. لدينا الكثير من الادلة على «كمال» الدين، والكمال وصف للنوعية وليس الكم. نقول مثلا إن لدينا برنامجاً شاملاً، ونشير الى مساحة يغطيها هذا البرنامج، بغض النظر عن جودته او كماله. بينما نقول ان لدينا برنامجاً كاملاً، ونقصد اتصاف هذا البرنامج بمستوى نوعي رفيع من دون الاشارة الى المساحة التي يغطيها. 

ثمة في العالم مساحات كثيرة خارج النطاق الديني. ومن بينها مثلا النشاطات الحياتية القائمة على العلوم الطبيعية او التجريبية او التقنيات العملية او الرياضيات. لا يختلف الجسر الذي يصممه مهندس مسلم عن ذاك الذي يصممه مسيحي او وثني او ملحد، من حيث المعادلات الهندسية والرياضية والتقنيات التي يتبعها او يعتمد عليها في تصميمه. ولا تختلف السيارة التي يصنعها مسلم عن تلك التي يصنعها غيره. كما لا يختلف نظام المحاسبة الذي يتبعه بنك مسلم عن ذاك الذي يتبعه غيره. فهذه كلها اعمال علمية تقوم على جهد عقلي محض، لا يختلف بين دين وآخر. نحن نعيش في عالم مليء بالحلول التقنية المحايدة، اي التي يمكن تطويرها او استعمالها في اي بلد، بغض النظر عن دينه او لونه. نحن لا نسأل عن دين الرجل الذي صنع مكيف الهواء او صنع الدواء او مصباح الكهرباء. وحين يحتاج احد الى بناء منزله فانه يقصد المهندس وليس الفقيه، وحين تصيبه علة فانه يقصد الطبيب وليس شيخ القبيلة. لكن الطبيب والمهندس وشيخ القبيلة سيلجأون الى الفقيه حين يواجههم امر له علاقة بدينهم، اي بالامور الحياتية التي يعرف كل عاقل انها تدخل ضمن دائرة الدين. 


هذا يكشف في الحقيقة عن تلك المساحات التي تقع خارج دائرة الدين. ترى هل توجد نقطة اتصال بين الدين وهذه المساحات ؟.
الجواب : نعم، يمكن للدين ان يتدخل كمعيار لتحديد قيمة العمل، اي كمصدر للقيم الاخلاقية التي تمنع المهندس او الطبيب او التاجر او رجل الدين من استثمار عمله في ما يضر بالانسان او البيئة او المجتمع. بعبارة اخرى فان كل منشط من مناشط الحياة ينطوي على بعدين، داخلي يتضمن آليات اشتغاله الخاصة، وخارجي يتضمن تأثيره على الانسان والبيئة التي يطبّق فيها.
يتدخل الدين هنا كموجّه لأغراض العمل، ولا يتدخل في العمل نفسه. يمكن لنا ان نسبغ القيمة الدينية او الاخلاقية على عمل الطبيب او المهندس، او نسلبها منه، لا بالنظر الى العمل نفسه بل بالنظر الى نتائجه النهائية. لان دور الدين يتركز على تقييم الناتج وليس تقييم البحث او العمل بذاته. 


خلاصة القول إن كمال الدين امر لا نقاش فيه، بل الكلام في الشمول بالمعنى الكمي. فثمة مساحات كثيرة في الحياة تعتمد على جهد عقلي انساني لا يتدخل فيه الدين. لكن في كل الاحوال فان نتاج كل عمل انساني يحتاج الى تقييم اخلاقي (سلبي) غرضه سلب المشروعية عن تلك الاعمال التي تضر بالانسان او البيئة او المجتمع. وهذه –في ظني- نقطة الاتصال الاولى بين الدين والعلم.


عكاظ الأربعاء 19/06/1428هـ ) 04/ يوليو/2007  العدد : 2208

27/09/2005

الخروج من قفص التاريخ


بداية الحداثة هي العودة الى الذات . ليست الذات الاسيرة في التاريخ الغابر وليست الذات المشدودة الى عالم خيالي لا يمكن ايجاده على الارض . بل الذات الحاضرة بما فيها وما يحيط بها وما تستطيع فعله وما تعجز عنه. نحن لا نستطيع استعادة مجدنا الغابر لان وظيفته الحياتية انتهت ، ولا نستطيع اقامة المدينة الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة المثاليون لانها مجرد مثال . لكننا نستطيع البناء على الواقع الذي نعيشه كي نتجاوزه الى ما هو افضل واكمل .

ربما كان الاسلاميون على اختلاف مشاربهم ، الحركيون والتقليديون ، هم اكثر الناشطين في المجتمع قدرة على استثمار التاريخ بما يكتنزه من تجربة ومعنى ، واعادة شحنه في مسارات الحاضر الى درجة تنعدم فيها المسافة بين حدث اليوم وحدث الامس ، وتتماهى فيها القيمة بين موقف اليوم وموقف الامس . بالنسبة للناشطين الاجتماعيين فان التذكير بالحوادث التاريخية ليس عملا علميا هدفه تحليل الواقعة التي جرت في الامس البعيد . بل هو في المقام الاول عمل دعوي تبليغي غرضه استيراد القيمة الرمزية التي تنطوي عليها تلك الحادثة واعادة ضخها في قضية مشهودة او مسار معاصر .

ومن هذه الزاوية فان المكون التاريخي للهوية والثقافة ، يمكن ان يلعب دورا بناء في شحذ الهمم وبعث الروح في المجتمعات الخاملة . لكنه يمكن ايضا ان يلعب دورا معاكسا . ولعل هذا ما أشار اليه المرحوم محمد عبده حين شكا من ان المسلمين قد اصبحوا اسرى لحراس القبور . حراس القبور ليسوا سوى تلك الشريحة من اهل العلم الذين شغلهم الدفاع عن التقاليد الراسخة والتراث الذي ابدعه السابقون . كان محمد عبده يسعى لاقناع  جمهوره بان مشكلاتهم هي ثمرة واقعهم وان علاجها يجب ان يقوم على النظر في هذا الواقع . بينما شدد معارضوه على ان العلاج يجب ان يبدأ بالبحث عما قاله السابقون ، وان اي حل قيل في الماضي مقدم على اي حل معاصر . وجد محمد عبده ان مشكلة المسلمين تكمن في الغائهم لقيمة الزمن وتقديرهم المبالغ فيه للعصور الذهبية المتخيلة .

مثل هذه المشكلة واجهها ايضا المرحوم علي شريعتي الذي وجد ان كثيرا من الطقوس والتقاليد قد اكتسبت قيمة دينية ودخلت في دائرة المقدسات ، مع انها مجرد فولكلور ، اي تعبير ثقافي عن ظرف اجتماعي وسياسي محدد . لكنها تحولت على يد حراس القبور الى قيم ثابتة عابرة للمكان والزمان ، عصية على النقد او التغيير. بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران ، واجه الزعماء الدينيون ذات المشكلة ، فالكثير منهم ينتمون اجتماعيا وثقافيا الى تلك الطبقة الحريصة على حماية التقاليد . لكن اية الله الخميني وجد ان الكثير من السوابق التاريخية التي جرى العرف على تقديسها لا تنفع في بناء دولة حديثة ولهذا فانه لم يتردد في تهميشها . في العام 1982 مثلا ، وجه عدد من الفقهاء البارزين نقدا لاذعا لما وصفوه بتجاوز البرلمان والحكومة لاحكام دينية راسخة وتقاليد اتفق عليها المجتمع الديني طوال قرون متمادية . فأجابهم الخميني في خطاب عام بان اعظم مشكلات الاسلام المعاصر هو العقول المتحجرة العاجزة عن رؤية التغير الكبير في حقائق الحياة ، اي هؤلاء الناس الذين يظنون ان مهمة الحكومة الاسلامية هي اعادة الناس الى عصور الاسلام الاولى .

 ان الاجتهاد الحقيقي هو ذلك الذي يستلهم روح الزمن والمكان ويعيد صياغة الاحكام الشرعية بما يناسبها ، وهو لا يحتاج – في هذه المهمة – الى تكرار ما قاله السابقون الذين عاشوا في عصر مختلف وظرف مختلف. على ضوء هذه الرؤية فان الخميني لم يعبأ بقول الذين طالبوا باعادة نظام الخلافة باعتبارها الصيغة الصحيحة للحكم الاسلامي ، ولم يعبأ بالذين عارضوا تفويض البرلمان صلاحيات تشريعية بدعوى ان التشريع حق خاص لصاحب الشريعة . ان نجاح الخميني في اقامة دولة قادرة على البقاء يرجع بدرجة كبيرة الى شجاعته في التحرر من قيود السوابق التاريخية والتقاليد الراسخة .

طوال العقود الثلاثة الماضية نجح التيار السياسي الاسلامي في تعبئة الجمهور من خلال استثمار المكون التاريخي للهوية ، وهذا ما عجزت عنه التيارات الاخرى التي اهملت اهمية التجربة التاريخية في تكوين المخيال الشعبي . لكن اليوم هو اليوم . ويجب ان لا نبقى اسرى لتلك التجربة . نحن بحاجة الى اعادة صياغة حياتنا العامة على ضوء الوقائع المعاصرة ، ومن اجل استثمارها . من المفهوم ان مرحلة التعبئة والتكوين هي في الاساس مرحلة سجال مع الغير ولهذا فان محور الخطاب السياسي يدور حول نقد الغير وتضخيم الذات . اما وقد خلصنا من تلك المرحلة فان من اللازم التركيز على الجوانب المدنية من العمل السياسي .

العودة الى الذات تعني اعادة شحن القيمة المعنوية والاخلاقية في هذا الواقع الذي يحيط بنا ، بغض النظر عن رضانا عنه او غضبنا منه . هذه الذات كما هي وكما تعيش ، وهذا الواقع كما هو وكما يجري هو نقطة الانطلاق لبناء المستقبل . في هذا المجال فان تجربة اليسار الاوربي تمثل نموذجا صالحا للاحتذاء . لقد تراجع اليسار مع انهيار المنظومة الاشتراكية في اواخر القرن المنصرم ، لكنه يعود اليوم الى الساحة وبقوة ملفتة من خلال الهموم التي اغفلتها الاحزاب الليبرالية ، ونشير خاصة الى منظمات الدفاع عن البيئة ومنظمات حقوق الانسان على اختلاف تخصصاتها وموارد تركيزها .

 ومن طريف ما يذكر هنا ، ان ظهور ما يوصف بالسياسة الاخلاقية كان المناسبة الاولى التي تشهد لقاء بين التيار الديني والتيار اليساري في اوربا . فطبقا لبحث اجري قريبا ، فان ما يقرب من ثلث الناشطين في مجالات البيئة والدفاع عن الحريات واعمال المساعدة الانسانية ، ينتمون الى خلفيات دينية . ونحن نعرف ان اليسار هو الجناح الاخر لهذه النشاطات . لقد وجد التياران الديني واليساري في السياسة الاخلاقية رافعة للعودة الى التاثير في الحياة العامة بعد فترة من التهميش .

بطبيعة الحال فان التيار الديني العربي ليس في الهامش اليوم ، فهو فاعل ومؤثر ، من خلال السلطة او من خلال الشارع . لكنه بحاجة الى التحرر من السياسة السجالية (اي المعارضة المطلقة) ، والاهتمام بدلا عن ذلك بالمعارضة من خلال تقديم البدائل . نحن بحاجة الى تصورات استراتيجية جديدة حول القضايا التي لا بد من مناقشتها اليوم او غدا ، مثل النظام المؤسسي الذي يضمن العدالة الاجتماعية . ومثل مكونات العلاقة المتوازنة بين المجتمع والدولة ، ولا سيما في ضوء الاتجاه المتزايد للتخلص من صيغة الدولة الشديدة التدخل . نحن ايضا بحاجة الى دراسة انعكاسات التغير في حركة السوق على ثقافة الاجيال الجديدة ولا سيما التواصل او الانقطاع بين الاجيال . كما ينبغي ان نساهم في تطوير صيغة محلية للمجتمع المدني وموقعه من نظام العلاقات الاجتماعية / السياسية .

بكلمة مجملة ، فان على الاسلاميين وغيرهم من الفعاليات السياسية ، ان ينتقلوا من دور التحريض والتعبئة ، الى دور الفعل في الحياة العامة . الفعل المؤثر لا ينحصر في الامساك بالسلطة. ان النشاط التطوعي في اطار منظمات المجتمع المدني يوفر قدرا من النفوذ لا يقل قيمة او اثرا عن ذلك الذي توفره السلطة .

  الايام – البحرين 27-9-2005

مقالات ذات علاقة

 

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية في بلد مسلم

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

مكانة العامة في التفكير السياسي الديني: نقد الرؤية الفقهية التقليدية للسلطة والاجتماع السياسي

ملاحظات هامشية: مناقشة لفكرة الحداثة الدينية

من الحلم الى السياسة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

20/09/2005

جبر العامة


مع الصعود المعاصر للاسلام السياسي ، ظهر الى السطح ما يمكن وصفه بنخبة سياسية جديدة ، تتشكل في الاساس من رجال دين او مثقفين حركيين نجحوا في صناعة نفوذ اجتماعي يتجاوز نفوذ المجموعات المرجعية التقليدية مثل المؤسسة الدينية الرسمية او السياسيين او وجهاء المجتمع التقليديين .  ان اكثر الزعماء تاثيرا في معظم المجتمعات المسلمة هم اليوم رجال تتراوح اعمارهم بين الثلاثين والخامسة والاربعين.
ويتحمل القادة الجدد مسؤوليات اوسع من تلك التي تحملها اسلافهم ، فهم يتعاملون مع مجموعات نشطة من شباب متعلمين يتطلعون الى ادوار في المجتمع تحقق ذواتهم . لكن هذا ليس هو المجال الوحيد المليء بالتحديات والمطالب ، فالشعارات الدينية التي يرفعها اولئك القادة ، تضفي عليهم ايضا صورة الزعيم الديني الذي يتوقع منه اتباعه تفسيرا دينيا لجوانب حياتهم المختلفة .

والحقيقة ان ظهور هذه الطبقة من الزعماء الدينيين قد عالج الى حد ما مشكلة الضعف المزمن للمجتمع ، ولا سيما عجزه عن المشاركة في تطوير الحياة السياسية والمشاركة في الشأن العام . لكنه من جهة اخرى اضعف الى حد كبير دور النخبة المثقفة ، التي يفترض ان تلعب دور المرجع في النقاشات المتعلقة بتطور المجتمع . انحسار دور النخبة المثقفة ساعد دون شك في منح الزعيم السياسي مكانة حاسمة في القضايا التي يدور حولها الجدل في المجتمع . لكنه من جهة اخرى تركه فريسة للراي العام ، او ما نطلق عليه "جبر العامة" .

"جبر العامة" هو في الاساس مفهوم نخبوي بغيض ، وربما كان مرجعه هو ضيق النخبة بالراي العام او ربما عجزها عن استقطاب تعاطف الجمهور مع تطلعاتها وارائها ، التي تبدو في اول الامر غريبة او متعارضة مع ميول الراي العام . لكن من جهة اخرى ، فان الخضوع لجبر العامة هو بالضرورة عقبة في طريق التطور الاجتماعي . فعامة الناس اميل – عادة – الى الاستمرار في انماط التفكير واساليب الحياة التي تعارفت عليها ، وهي اميل الى الاعراض عن اي فكرة جديدة او منهج مبتكر. بطبيعة الحال فان الكثير من الزعماء يفضلون مسايرة التوجه العام كي يحافظوا على مكانتهم ، والقليل منهم فقط يغامر باتخاذ مواقف او تبني اراء لا ترضي التيار العام من الجمهور . ولهذا السبب ربما فاننا نجد قادة ذوي خلفيات اصلاحية يتحولون – بعد حصولهم على مكانة مؤثرة – الى اشخاص محافظين يمالئون المجتمع ويسايرونه ولو على حساب القيم التي انطلقوا منها في البداية .
اين هي المشكلة في هذا ؟
ان نقدنا لهذه الظاهرة يقوم على فرضية فحواها ان نجاح التيار الاسلامي الجديد في تعبئة الجمهور ، قد ساهم بصورة مباشرة او غير مباشرة في فرض المشاركة الشعبية في الحياة العامة . اي انه بكلمة اخرى ساهم في التخلص من تقليد مزمن يقوم على اعتبار الشأن العام – والسياسي منه خاصة – نطاق عمل خاص بفئة صغيرة من النخبة العليا . وفي اعتقادنا ان دخول عامة الناس على خط العمل السياسي هو تمهيد ضروري لاعادة صياغة النظام الاجتماعي على نحو متفارق مع النمط الذي ساد العالم الاسلامي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، والذي سادت خلاله علاقة السيد - التابع ، وادت الى تهميش الاغلبية الساحقة من الجمهور ، بمن فيهم المتعلمين واهل الراي . ضمن هذا المفهوم فانه يمكن تصنيف الحركة الاسلامية المعاصرة كواحدة من قوى الحداثة . ان استعادة الانسان السيطرة على مصيره ، واستعادة المجتمع لزمام امره ، ومشاركته الفاعلة في صناعة نظامه السياسي ومستقبله ، هي بعض ابرز الاسس النظرية التي قامت عليها فكرة الحداثة .

وهنا تكمن اشكالية العلاقة بين الحركة الاسلامية وجمهورها . فهي من ناحية قوة تحديث يرتبط قدرها بنضج المشاركة الشعبية ، وهذا بدوره مشروط بتغيير الثقافة السائدة وما يقوم على ارضيتها من قيم ومنظومة علاقات . لكن من ناحية اخرى فان حاجة الحركة – ولا سيما قياداتها السياسية – الى تامين دعم شعبي ثابت ، يفرض عليها مسايرة ميول الجمهور . وكما سلفت الاشارة فان الجمهور في الاعم الاغلب ميال الى مقاومة التغيير . وبالتالي فان مسايرته تعني بالضرورة اتخاذ مواقف محافظة او معارضة للتحديث والتغيير . ومما يزيد الامر سوءا ان معظم القادة الحركيين يواجهون تحديا يوميا من جانب رجال دين او مثقفين تقليديين يرفضون التدين الحركي ويرونه ابتداعا . وفي العادة فان هؤلاء يستغلون اي تطور في مواقف الفريق الاول للتشنيع عليه واتهامه بضعف الدين او قلة الفهم او المساومة على المباديء الراسخة .
من المؤسف ان اخلاقيات العمل السياسي في المجتمعات العربية ضعيفة الى حد كبير وفي هذا الجانب ، لا يختلف الاسلاميون عن غيرهم ، فمعظم النشطين في المجتمع ، سياسيين وغيرهم ، لا يتورعون ابدا عن الحاق الاذى بخصومهم متى ما استطاعوا ، والسنتهم هي اقل حدود الاستطاعة . ولهذا فان الحركيين يواجهون مشكلة عسيرة حين يضطروا الى الاختيار بين قيم الاصلاح التي آمنوا بها في البداية ، ومتطلبات السياسة التي اكتشفوها بعد ان انضموا الى نادي النخبة .

لا يسعنا بطبيعة الحال ان نطالب زعيما بالتفريط في مكاسبه السياسية ، كما لا يسعنا – في الوقت نفسه – السكوت عن سلوك يؤدي في نهاية المطاف الى اعادة المجتمع الى حظيرة التقاليد بعد ان اوشك على التخلص من اغلالها . ويبدو ان الحل الوحيد لهذه المشكلة هو دعم نوع من تقسيم العمل بين الزعماء السياسيين والمثقفين الاصلاحيين ، الناقدين والمطالبين بالتغيير. مثل هذا التقسيم ينبغي ان يكون بديهيا ، اذ ان مهمات السياسي لا تسمح له بمعالجة الامور التي تحتاج الى سعة من العلم او متابعة لتطورات الفكر . مثلما ان المثقف الناقد ، عاجز عن تعبئة الجمهور الذي يحتاج الى رجال قادرين على اعادة انتاج الافكار في صورة رموز قريبة من ذوات الناس وقلوبهم . نقول ان تقسيم العمل ينبغي ان يكون بديهيا ، لكن التوصل الى بعض البديهيات يحتاج الى شجاعة . واظن ان بعض الزعماء ربما يشعر بالقلق من المثقفين الناقدين ، لان بعض نقدهم قد يتوجه اليه ، ولان تصاعد دورهم قد يفهم باعتباره منافسا لدور الزعيم . لكن على اي حال ، فان من المهم لنا ان نستوعب حقيقة ان احدا لا يستطيع جمع المجد من اطرافه ، وان بعض المجد في مجتمع متحرك ومتطور ، خير من كامله في مجتمع خامل يحاكي اجتماع اهل القبور.

09/10/2004

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر


؛؛ روح الرجعي متعلقة بالاموات، قبورهم وكتبهم ومقولاتهم وميولاتهم واحلامهم. فالعقل والجمال - عنده – كائنات عاشت في الماضي ثم ماتت فلم تعبر بوابة الزمن؛؛


يمكن لأي انسان ان يكون تقدميا دون عناء، اذا تبنى منهج التغيير كقاعدة في التفكير وادارة الحياة والتعامل مع الاشخاص والاشياء. من السهل عليه ايضا ان يكون رجعيا اذا تبنى منهج تثبيت الزمن ضمن معادلة تبدأ وتنتهي في الماضي. لتبسيط الفكرة يمكن المقارنة بين شخصين احدهما يتحرك الى الوراء والاخر يتحرك الى الامام. لو نظرنا الى العملية من زاوية الزمن ، فان الرجعي هو الذي يتراجع عن موقعه المعاصر متوغلا في التاريخ بروحه أو ثقافته، بينما التقدمي هو الذي يعيش في المستقبل روحيا أو ثقافيا.
من الناحية الواقعية، لا يتحرك الناس الى الماضي أو المستقبل، لذلك فان الحديث عن حركة لا يتناول شكلها المادي. كما ان المتراجع الى الماضي لا ينفك، بل ربما من المستحيل عليه ان ينفك - حتى لو اراد - من قيود الحاضر. لهذا فمن الافضل التركيز على مفهوم التغيير باعتباره المعيار الرئيس للتمييز بين الرجعي والتقدمي. لنقل اذن ان الرجعي هو الشخص الشديد الرغبة في المحافظة على ما هو موجود، ما ورثه من التاريخ أو ما حصل عليه في الحاضر. الحاضر يصبح باستمرار تاريخا ماضيا فور ان تتحرك عقارب الساعة . 
في المقابل فان التقدمي هو ذلك الذي ينظر الى التاريخ والحاضر معا باعتبارهما حالة مؤقتة، اي مرحلة نحو الاتي، وبالتالي فان ما ورثه من التاريخ وما يحصل عليه اليوم، كلاهما مجرد تمهيد لما سيأتي في المستقبل. الرجعي اذن يمثل عامل استمرار وتواصل بين الماضي والحاضر. معادلة العلاقة بين الازمنة عند الرجعي محكومة بالماضي : ما حدث في الماضي هو دائما معيار لتقييم الحاضر والمستقبل، ويترتب عليه بالضرورة ان الحاضر والاتي كلاهما موضع ارتياب لايحصل على صك البراءة الا اذا ثبت اتصاله بالماضي أو انبثاقه منه. بكلمة اخرى فان الرجعي ينظر الى الماضي كمصدر للقيمة، الاشخاص والحوادث والاعتبارات التي شكلت حياة الناس في الازمان الماضية، تتحول كلها الى مصادر للقيمة. الحاضر والمستقبل، اهله وحوادثه وما يدور فيه من افكار، مطالبون جميعا بان يثبتوا انسجامهم مع الماضي كي يحصلوا على قيمة واعتبار.
خلافا لهذا فان التقدمي ينظر للماضي والحاضر والمستقبل باعتبارها جميعا اطارات - مادية أو ثقافية - لحركة الانسان. هذه الاطارات وما فيها من مضامين، اضافة الى الانسان الذي ينتجها أو يستعملها أو يعيش ضمنها، كلها كائنات سائلة تتفاعل مع بعضها فتتغير بين يوم وآخر . ثقافة الامس تختلف عن ثقافة اليوم، انسان الامس يختلف عن انسان اليوم، قيم الامس تختلف عن قيم اليوم. ليست هذه افضل من تلك ، ولا تلك خير من هذه. المقارنة بين هذه وتلك مستحيلة تقريبا، لانه لا يمكن العثور على معيار موضوعي - اي متحرر من تاثير كليهما - للحكم على هذه أو تلك. لا يمكن ايضا الرجوع الى قيمة مطلقة واحدة للحكم على كلا الطرفين، لان القيم المطلقة غير قابلة للاشتغال الا اذا حددت وقيدت، فاذا حددت أو قيدت، اصبحت شخصية أو نسبية لا تفيد كثيرا في معايرة موضوعية صارمة. ما اردت قوله، ان الكلام عن تفاضل بين الرجعي والتقدمي، كلام لا قيمة له ولا فائدة فيه، ومن الافضل اذن ان ننظر الى المسارين كلا ضمن معاييره الخاصة، وفي كل الاحوال فإن حكمنا عليهما سيكون منحازاً.
عالم الرجعي عالم باد بعدما ساد، عالم زال وانتهى، اصبح خبرا بعدما كان فعلا، عالم مجازي، عاد الى الحياة لان صاحبه ألبسه عباءة الاحياء لا لانه حي بالفعل. روح الرجعي متعلقة بالاموات، قبورهم وكتبهم ومقولاتهم وميولاتهم واحلامهم و ما كانوا يحبون أو يكرهون. يرقص الرجعي طربا اذا عثر على فكرة قالها احد في الماضي، ويغرق في الفخر اذا وجد احدا من الاحياء يكرر ما قاله الميتون أو يثني عليهم أو يشير اليهم أو ينقل عنهم. الناس والاشياء التي تستمتع بحياتها امام عينيه هي مجرد كائنات سائبة تعيش في عالم مجهول أو مجنون. فالعقل والجمال - في نظر الرجعي - عاش في الماضي ثم مات فلم يعبر بوابة الزمن.
يحن الرجعي الى الماضي ويتمنى لو عاش فيه. لكن هذا الحنين هو مجرد تامل مثالي، ربما هو احتجاج على حاضر لا يمكن القبض عليه أو التحكم في تحولاته. الرجعي - مثل كل انسان اخر - يشعر باستحالة الانفلات من قيود الزمن والرجوع المادي الى الخلف، لهذا فان حنينه الى الماضي قد يكون محاولة لتغيير قوانين اللعبة، اي استثمار السلطة المعنوية التي تولدت عن نجاح الماضين في تبرير سلطة على الاحياء.
الطريق الى الرجعية بسيط جدا : ثقافة الاموات متوفرة في المكتبات، مجتمع الاموات موجود على شكل احياء-اموات أو على شكل قبور لها شواهد، ثقافة الموت هي الاخرى متوفرة في الصحف وشبكات التلفزيون وفي كل مكان. تحتاج فقط ان تدير ظهرك للحياة والاحياء، ان تنتمي - ثقافيا وروحيا - للاموات وزمن الاموات، وقد وصلت فعلا.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/10/9/Art_152790.XML

01/07/2000

الحرية وحق الاختلاف في منظور الاسلاميين: عرض كتاب "الاسلام في ساحة السياسة"


عرض : ابراهيم محمد (كاتب تونسي) 
مجلة الكلمة
العدد (28) ـ السنة السابعة، صيف 2000م ـ 1421
الكتاب: الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق.
الكاتب: توفيق السيف
الناشر: دار الجديد ـ بيروت
الصفحات: 126 من القطع الوسط
سنة النشر: ط1، 2000م.

«الحرية حلية الإنسان وزينة المدنية، فيها تنمى القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم» (1) .

لايكاد يختلف إثنان على امتداد وطننا العربي والإسلامي على تزايد أهمية «الحرية» في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويذهب العديد إلى أن غيابها يعد السبب الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا. وأن خروجنا من هذه الحالة لايتأتى إلا إذا نسجنا من خيوطها (الحرية) نهجاً يوجه مآلات فعلنا الفردي والجماعي.

وقد تكثفت الدعوات للمطالبة بها، بعد تيقظ الوعي العربي والإسلامي على خطورة ما نسجته «الدولة الحديثة» في حياتنا من مظاهر الاستلاب والاستبداد. فإذا كان مشروع النهضة في بواكيره حدّد لنفسه أهدافاً يتجاوز بها حالة الانحطاط بالتخلص معاً من مظاهر الاستعمار المباشر ورواسب التخلّف في نسيجنا الاجتماعي المنسوب إلى مراحل سابقة من تاريخنا. فالمقاربات الراهنة استفاقت على أن مشاريع «التحديث» التي قامت بعد مرحلة الاستعمار المباشر، لم تحقق المنشود. بل في أحد مظاهرها «استنسخت» مراحل غابرة من تاريخنا وتاريخ المستعمِر.


وأصبحت مقولة الحرية من القواسم المشتركة الجامعة لكل الأطراف من ليبرالية وقومية وماركسية وإسلامية. وتوجه كل طرف للتنظير والإدعاء بكون «الحرية» هي مقوم أساسي من مقومات مشروعه، بل هي الفاعل الجوهري في بنيته النظرية ولاتفترق في هذا الإدعاء السلطة عن المعارضة. ولكن يبقى الإشكال العملي قائماً. فالممارسة اليومية هي المحك لصدقية الشعارت والدعوات. وقد حاول البعض التغلّب على هذه الإحراجات بتوظيف التاريخ في الدفاع عن صورته في الماضي ولكن دون أن يكون قادراً على سحب ذلك على الحاضر والمستقبل. الأمر الذي يستدعي مواجهة حقيقية وجرأة في الطرح. ونحسب أن مقاربة الأستاذ توفيق السيف (2) تتحرك في هذا الفضاء، إذ هي تهدف إلى تناول إشكالية الحرية من منظور الإسلاميين بعيداً عن تعظيم التاريخ أو تهوينه، ودون أن تكون مجنّحة في التنظير، إذ الهدف هو الكشف عن إمكانية التنزيل العملي للمشروع الإسلامي من خلال التأكيد على مطلب الحرية في واقعنا المعيش. محاولاً استكشاف مواطن الضعف والخلل في «منظور الإسلاميين» بعقلية المشارك والمنخرط في المشروع لا المنافح أو المشكك، الأمر الذي يعطي للمقاربة مصداقية نقدية تفتقد إليها كثير من كتابات الإسلاميين اليوم.
والمقاربة في اعتقادنا هي صورة جديدة لطموح الإسلاميين في المساهمة في تجديد الفكر السياسي العربي والإسلامي. وهو ما سنحاول تبيانه في قراءتنا السريعة لجديد الأستاذ توفيق السيف. مستجيبين لدعوة المؤلف الذي يدعونا لقراءة نصه «بعين الناقد لابعين المتلقي السريع الاستجابة، ليكون الحوار قائماً بين الكاتب والقارئ ولو عن بعد».
1ـ في العنوان والمنهجية:
يذكر الأستاذ توفيق السيف أن العنوان الذي اختاره في البدء لمصنفه هذا هو «نقد المشروع الإسلامي»، وتخلّى عنه بناء على نصيحة من زملائه، لأنه عنوان ملتبس، ربما يؤدي إلى سوء فهم أو بالأحرى سوء «استقبال». ولسنا هنا في وارد مصادرة حق المؤلف في تحديد العنوان الذي يراه ملائماً للكتاب وفق ما حدده من أهداف عند نشره. ولكن هناك ملاحظة جديرة بالذكر هو إن تغيير العنوان إما لاعتبارات تقنية أو جمالية أو علمية أو مادية أو نفسية لاشك أنه يشير إلى عقلية المصنّف وتأثير ذلك في الأفكار المُراد بثها في الكتاب. «فالحذر» الذي قاد الأستاذ توفيق السيف إلى تغيير عنوان كتابه لامسناه أيضاً في متن الكتاب. إذ اتسم في كثير من مسائله «بالتعميم» و«الحذر» وعدم الجرأة في التطرق لإشكاليات هي بأمس الحاجة إلى الطرح خاصة من الإسلاميين أنفسهم. ونحسب أن المتتبع بدقة للكتاب يشعر بوجل الكاتب الذي لايفصح عن نفسه إلا عند ذكر مسألة اختيار العنوان.
ولكن رغم ذلك نحسب أن هذا «الحذر» و«الوجل» ليسا بذميمة للكاتب إذا كان هدفه هو شيوع فكرة النقد في مجتمع لانقدي. فالتدرج ومراعاة المقام والحال ضرورة لابد منها لمن يروم بناء مشيداً. ونحسب أن العنوان الجديد اقرب إلى حقيقة ما يتضمنه الكتاب.
أما فيما يتعلق بالمنهجية المعتمدة فهي استقرائية، إذ عمد المؤلف إلى استقراء النصوص الدينية وتجربة الإمام علي في موضوعة حرية الرأي. ولانشك في قدرة هذه المنهجية في الوصول إلى تحديد الكلّي في الرؤية الإسلامية للمسألة المطروحة. وذلك من خلال المرور بجمع واستقراء الجزئيات التي ندعي بأن لها علاقة بالمسألة. والتي جمعت كما ذكرنا من بعض النصوص الدينية ومن أقوال الإمام علي. ولكن ما تجدر الإشارة إليه ان همّ الكاتب في هذه المقاربة ليس التنظير للحرية وتقديم مقاربة متكاملة. وهو ما لايدعيه. ولكن همّه تفكيك العقلية القائمة على مهمة التنظير للمشروع الإسلامي، وتبيان مظاهر الخلل فيها والتي تمثل عوائق ابستمولوجية في أسلوب عرض الإسلام والتي يمكن إجمالها في:

1ـ الخلط المنهجي في لاوعي الإسلاميين بين النص الديني ومشاريع قراءته.
2ـ الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل.
3ـ قيمة العيب وتحكمها في العقلية الإسلامية.
4ـ قلق الفتنة وتأثيرها في الحراك السياسي الداخلي والخارجي.

وبقدر ما ركز الأستاذ توفيق السيف على إبراز العوائق الابستمولوجية بقدر ما غيّب الحديث عن المعوقات السوسيولوجية التي لاينكر أحدٌ أهميتها ودورها فيما تشهده الساحة الإسلامية من مظاهر الخلل.
«فالعقلية التعميمية» التي تسيطر على الذهنية الإسلامية من الأكيد أن لها أسباب تاريخية ـ سوسيولوجية تتجاوز مشاريع القراءات المختلفة للنص والتاريخ وهو ما سنحاول الاتيان عليه في إبانه.

2ـ الإسلام وحق الاختلاف:
بنى المؤلف رؤيته لحق الاختلاف في الإسلام على مجموعة أدلة مباشرة وغير مباشرة في محاولة لفك الارتباط بين معنى «التعدد» ومعنى «الخلاف في الدين وشق عصا المسلمين». وذلك بغية إلغاء هذا الفهم الملتبس في ذهن المسلم والذي يرجعه الكاتب إلى «حرمان المسلمين لقرون طويلة من ممارسة الحرية والجمود في فهم النص القرآني والتفسيرات الخاطئة، المقصودة أحياناً والعفوية أحياناً أخرى». وللحقيقة أن الفكرة المستهدَفَة (فتح الدال وفتح الفاء) هي فكرة خطيرة وهي سائدة بين الإسلاميين والتي مفادها كما يقول د. صالح كركر «أن كل تجديد وتغيير للمألوف يمثل تهديداً لسلامة الدين، ودساً من الأعداء ضده، وذلك على أساس قاعدة خاطئة مفادها أن كل مخالف لنا هو خصمنا، ومن هو كذلك فهو عدو لنا وعدو للإسلام، فاسق عنه!» (3) . ويرجع د. كركر سبب سيادة هذه الأفكار والتعميم في الفهم والعرض إلى «أن الحركة الإسلامية لم تسلك مسلكاً يكوّن لدى أفراد مجتمعاتها «العقلية المجهرية» ويزيح الستار على ملكات العقول الإبداعية، وبقيت بسبب التقليد متأخرة عن دورة الزمن تجتر خطاب التراث التعميمي، فبقي خطابها تعميمياً غير قادر على تقديم البديل العملي والمميز» (4) .

ونعود إلى الأدلة التي اعتمدها الكاتب في تأكيده على مشروعية الاختلاف في الإسلام. وقد بدأ حديثه بالأدلة غير المباشرة أي غير النصية والتي هي:
1ـ التفريق بين الدين والمعارف الدينية.
2ـ اعتبار التخطئة في الاجتهاد.
3ـ أدلة الشورى.
4ـ فردية التكليف والاختيار.
5ـ أدلة الاجتهاد، وكما يرى الكاتب أن «الاجتهاد ليس في حقيقته سوى استخدام المجتهد لحقه في مخالفة رأي الغير».
أما الأدلة المباشرة أي النقلية والمستمدة مباشرة من القرآن الكريم فقد اقتصر المؤلف على إبراز النصوص الدالة على المعاني المقصودة من خلال التمثيل بثلاثة سياقات للآيات القرآنية:
1ـ تشنيع القرآن على الذين رفضوا الدعوة الربانية تقليداً لآبائهم.
2ـ تجهيز الخالق تعالى للإنسان بالوسائل التي تمكنه من حرية الاختيار.
3ـ منع إكراه الغير على ما لايريد.
ونقدر بأن المؤلف أفلح في إبراز شرعية الاختلاف عقلياً ونقلياً. ولكن كان مروره سريعاً، خاصة وأن الاستدلال النصي يستدعي استدلالاً نصياً معارضاً له، الأمر الذي يدعو إلى تقديم مقاربة نقدية للمنهجية النصوصية (5) التي يعتمدها الطرف السلفي، وللمنهجية الإسقاطية التي يتبناها بعض «التحديثيين»، والأمر يدعو إلى إبراز منهجية بديلة، وهو ما يتوجه إليه المؤلف ولكن من الواضح أن عقبات حالت دون تحقيق ذلك.

3ـ الخلل في أسلوب عرض الإسلام:
كنا أشرنا سابقاً أن الكاتب حاول إبراز مجموعة العوائق الابستمولوجية في هذا العرض والتي يتطلب تجاوزها. وهي مطالب أساسية في عمليتي العرض والتطبيق للمشروع الإسلامي في ساحة العمل السياسي العام. فوحدانية الصورة بين النص وقراءته تمثل أولى العوائق. وقد أكد العديد على خطورة هذه المسألة، ونحسب أن الوعي الإسلامي اليوم بدأ يتجه وبشكل واضح وملموس إلى الإقرار بتعدد القراءات. وإن كانت عقلية نشر الضوابط هي المهيمنة في هذا المجال. ولكن في اعتقادنا هي صورة أولية لتجاوز حالة التردد والخوف على الذات من الآخر.
أما الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل فيعود إلى التباس في الوعي بين التفصيل في تقديم المشروع الإسلامي والابتداع في الإسلام. فالبقاء في مرحلة الشعار يحقق الوحدة والكفيل بعدم السقوط في البدعة!

فالمرحلة الأولى تحافظ على طهارة وقداسة الإسلام وبالتالي على قوة الخطاب الإسلامي في مواجهة بقية الخطابات العلمانية. بينما المرحلة الثانية تجعلهم في نفس المرتبة وهو ما يفقدهم الكثير في صراعهم. وإن كان د. صالح كركر يرجع ذلك إلى غياب «العقلية المجهرية» وجمود الذهنية الجماعية ولكن لاشك أن الاعتبارات البسيكولوجية والسوسيولوجية لها دور لاينكر. ولايمكن تقديم تفسير موضوعي لهذه المسألة دون اعتمادها مع بقية الاعتبارات. ونحسب أن الاعتبارات النفسية والاجتماعية والتاريخية لم تغب كلياً عن التحليل إذ حديث الكاتب عن «قيمة العيب» و«قلق الفتنة» يصب في جوهر المسألة. ففهم آلية النقد وماهيته عند الإسلاميين خطوة ضرورة للكشف عن العقلية التي تقف خلفه والأمر يستدعي هنا تناول العديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بعملية النقد بالتحليل والتفكيك والتي تعج بها الثقافة الشعبية والتي للأسف الشديد لاتزال تأسر الوعي الإسلامي والعربي عموماً. وبما أننا نؤكد على المجال السياسي أكثر من غيره فتجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة قراءة مدونات السياسة الشرعية والآداب السلطانية، لأن باكتشاف بعض مفاعيلها في العقل العربي والإسلامي اليوم يمكن تجاوز الكثير من السلبيات التي تعج بها حياتنا. وللحقيقة يعد كتاب د. كمال عبد اللطيف الأخير من أفضل ما نُشر في هذا المجال. وكما لاحظ د. عبد اللطيف أنه في «أغلب الدول العربية الإسلامية لاتزال علاقة الحاكمين بالمحكومين تتم بتوسط لغة الآداب السلطانية» (6) ، خاصة وأن الكتابة السياسية في نظام الآداب السلطانية: «كتابة تنتصر لتدابير واختيارات السلطة السائدة، وتحذر العامة من مغبة نقد السلطة أو الخروج عليها. كما تنشر أخلاق الطاعة والصبر، بحجة المحافظة على النظام، والتغلب على أزمنة الفتن التي تزهق فيها الأرواح، وتُمتحن فيها الرسالة التي تحملها الأمة وترعاها السلطة» (7) .
وهذه الكتابة هي المَعين الأساسي للفكر السياسي الإسلامي المعاصر. لذلك فإعادة قراءة الآداب السلطانية مهمة آنية لاغنى للمتتبع للفكر الإسلامي المعاصر من إنجازها، ودون ذلك لايستطيع فهم الكثير مما يروج في هذه الساحة.
تبقى مسألة أخيرة لابد من الاتيان عليها والتي حظيت في تقديرنا بالتحليل القيم من طرف الأستاذ توفيق السيف، وهي مسألة التكفير والتي يعتبرها في صورتها الحديثة «هي انعكاس لضيق إطارات التعبير عن الذات، أو اليأس من تحقيق الأهداف بالطرق السلمية، أو القلق من العجز عن الجدل المفتوح»، ولكن لابأس هنا من إضافة بعض الأسباب الدافعة لظهور هذه الموجة والتي أجملها د. رضوان السيد في (8) :

1ـ القلق الشديد على الهوية ورموزها من الحداثة العصرية اللادينية.
2ـ سرعة تحول أولئك الإسلاميين إلى الحزبية والسرعة النسبية لتبلور الإسلام السياسي.
3ـ الصراع على المرجعية.

بينما يرى د. صالح كركر بأن كثيراً من الخلل القائم في تصورات الإسلاميين يعود إلى عاملين أساسيين:
1ـ التنظيم الذي هو للتنفيذ لا للتفكير والبحث والتنظير.
2ـ الصفة السياسية والحزبية.
وفي هذه الأخيرة يقول كركر: «والحزبية على أساس الصفة الإسلامية قسّمت أفراد نفس المجتمع المسلم بين إسلامي وغير إسلامي، ولا يخفى ما لهذه الإزدواجية من سلبيات شديدة الخطورة. فقد قسمت المجتمع إلى فريقين وعمقت الهوة وجذرت القطيعة بينهما في وقت تجد فيه مجتمعانا نفسها فيýأشد الحاجة إلى رص الصفوف ولمّ الشتات وتوحيد الأرضية الفكرية التي تقوم عليها. وقد ساهمت هذه الحزبية في مزيد عزل غير الإسلاميين عن الإسلام وفي مزيد تشنّج النخبة المثقفة العلمانية ضد الإسلام وفي مزيد البعد عنه ومعاداته» (9) .

وتبقى الأسئلة التي تثيرها مقاربة الأستاذ توفيق السيف مفتوحة وتبقى الحاجة إلى إعادة قراءته ومعاودتها ضرورة ملحة.

* كاتب من تونس.

الهوامش:
1)ـ ابن عاشور، محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس، الشركة التونسية للتوزيع. د. ت. ص170.
2)ـ السيف، توفيق، الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق، بيروت، دار الجديد، ط1، 2000، ص126.
3)ـ كركر، صالح، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، فرنسا، 1998، ص19.
4)ـ المصدر نفسه، ص16.
5)ـ في هذه المسألة انظر، صافي، لؤي، إعمال العقل، دمشق، دار الفكر، ط1، 1998، خاصة الفصل الثالث من الباب الثاني.
6)ـ عبد اللطيف، كمال، في تشريح أصول الاستبداد، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1999م، ص270.
7)ـ المصدر نفسه، ص266ـ267.
8)ـ السيد، رضوان، قراءة النص وتوظيفاته السياسية والثقافية (1)، في «السفير» يوم 7/10/99، ص19.
9)ـ كركر، صالح، مصدر سابق، ص22.

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...