05/06/2008

في مبررات العودة الى التاريخ

انتماء الفرد الى تاريخه ليس خيارا ، بل هو منطق الامور. هذا التاريخ ليس سيرة حياة شخصية ، بل مجموع ما استخلصه المجتمع من تجارب حياتية ، تواصلت لزمن طويل . وتتمظهر تلك المستخلصات في الحياة الاجتماعية ، على شكل قيم واعراف ومسلمات وطرق في ادارة الحياة ، اي ثقافة عامة او خلفية للتفكير في الذات والاشياء ، تحكم السلوك العفوي لافراد الجماعة .

يبدأ المجتمع في نقل ثقافته الى اعضائه الجدد منذ ولادتهم ، من خلال المعايشة واللغة والترميز وتعريف الاشياء والثواب والعقاب ، وتتواصل تلك العملية حتى يشب الفرد ويصبح عنصرا متفاعلا ، اي مستهلكا ومنتجا للعرف والثقافة الاجتماعية.

تختلف المجتمعات في المساحة التي تتركها للفرد ، كي يعيد تشكيل ثقافته – وبالتالي هويته الخاصة – بعد ان يشب عن الطوق. فالمجتمعات الاشد ترابطا هي الاقل تسامحا في هذا الجانب ، وهي تتوقع من الفرد ان يقبل بالثقافة الموروثة ، ويعيد انتاجها من دون تعديل جوهري. وفي المقابل فان المجتمعات المفككة ، تفتقر الى وسائل فعالة لالزام الافراد بموروثها الثقافي.

لكن لا ينبغي الظن بان هذه المجتمعات متحررة ، او قليلة الاهتمام بأدلجة ابنائها. فهي تقوم بذلك من خلال قنوات كثيرة ، مثل التربية العائلية والمدرسة والعمل ووسائل الاعلام ، اضافة الى نظام العلاقات الاجتماعية ، القائم اساسا على منظومة قيم واعراف مثبتة سلفا. وتلعب اللغة دورا محوريا في هذا السياق. فاللغة ليست مجرد اداة للتواصل ، بل هي ايضا اداة لتعريف الاشياء وتحديد قيمتها. وهي اضافة الى ذلك اداة لحفظ واعادة انتاج مصفوفات الرموز والقيم الاساسية ، التي يرجع اليها العقل عندما يفكر في الاشياء وعندما يتخد موقفا. وهي اخيرا اداة لتعريف الاولويات والمسلمات والمشكوكات والاشياء المألوفة والمستغربة. ولهذه الاسباب جميعا يختلف الشاب الذي ولد لعائلة امريكية ، عن ذلك الذي تعلم اللغة الانكليزية كلغة ثانية ، والامر نفسه بالنسبة للفرد المولود لعائلة عربية ، حتى لو تحدث اللغة الاجنبية مثل اهلها.

ثقافة الفرد – وتبعا لها هويته – هي تكثيف لتاريخ مجتمعه ، وما تشكل في طياته من ثقافة.  ومن هذه الزاوية لا تختلف المجتمعات الناهضة ، عن نظيرتها الساكنة او المتخلفة. انما تختلف هذه عن تلك في وعيها بهذه الحقيقة او غفلتها عنها. من يعي تاثير التاريخ على ثقافته وتفكيره ، يستطيع التخلص من قيوده او الموازنة  بين ضرورات الثقافة وضرورات العصر. ومن يجهل ذلك يعيش بجسده في الحاضر ، وعقله سجين في تاريخ مضى ومات اهله.

المجتمعات الناهضة قليلة الاهتمام بالماضي واحداثه ، لانها منشغلة باستثمار الحاضر وامكاناته. وهي اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين. وفي المقابل ترى المجتمعات الهامشية والضعيفة مأخوذة بالماضي . فهي تهرب اليه من صعوبات الحاضر ، وتلجأ اليه كي تتقي مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها. وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، يجري تعديلها بين حين واخر ، كي تخدم غرضا محددا مثل تبرير الفشل او تسويغ التفلت من المسؤوليات. ونجد بين المتحدثين من يغرق في اضفاء صور اسطورية على شخصيات تاريخية معينة  ، والباسها رداء القوة الخارقة ، كي تنتج رسالة محددة فحواها ان الوضع البائس غير ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق .

المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ هنا لا يعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .

وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، كرد على محاولات الغاء الهوية من جانب المحيط الاقوى. في المجادلات التي نشهدها اليوم حول التطرف الديني والمذهبي وتفاقم النزعات القبلية والقومية امثلة  كثيرة على هذا التوجه.  التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر.

الايام 5-6-2008

http://www.alayam.com/Category.asp?CategoryId=5   

مقالات ذات علاقة 

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

 الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟


14/05/2008

في أصالة التيسير ومشكلاته



ذكرت في مقالين سابقين ان التيسير اصل في سلامة الحكم الشرعي. بمعنى ان الحكم المؤدي للعسر او الحرج قابل للطعن من جانب المكلف. وهذه قاعدة جارية في الفقه وفي القانون كما في الاخلاق. هناك بطبيعة الحال اناس يرغبون في التشديد على انفسهم تطوعا او رياضة.
 وتنقل كتب السير عن رجال روضوا انفسهم بخشونة العيش وترك اللذائد ، حتى تعتاد الانس بطريق الذاكرين. نعرف ان هذه الممارسة تجربة ذاتية ، يأخذ بها القليل من الناس ويستصعبها الكثير. وقد يوصي بها الفقيه حوارييه او خلص اصحابه، لكنه لا يأمر بها عامة الناس. فالاصل في الدعوة وتبليغ الرسالة هو الامر بالعرف، اي الحد المتعارف والمقبول من عامة الناس، وهو فحوى الرواية التي تنقل عن الامام علي بن ابي طالب.
التيسير في الفتوى واجتناب ما يؤدي الى العسر والحرج من القواعد الراسخة في الشريعة وهي مؤيدة بنصوص صريحة في القرآن والسنة النبوية الشريفة، اضافة الى الادلة العقلية. ولهذا تبدو الفكرة واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن الامر الذي يبدو غامضا هو طبيعة العسر والحرج الذي نتحدث عنه ومن هو المرجع في تشخيص ما اذا كان حكم معين سببا في عسر ام لا. فهل نتكلم عن الحرج النفسي، او المادي، او الاجتماعي ؟. وهل يا ترى نرجع الى الفقيه في تشخيص الحالة، ام نرجع الى العرف الاجتماعي، ام نترك للمكلف ان يشخص حالته؟.

بعض الناس قد يرى الخيار الثالث اقرب الى روح الدين فالشخص اعرف بظروفه واوضاعه الخاصة. كما ان تطبيق الحكم الشرعي منظور فيه نية التقرب الى الله، والنية مكانها القلب فلا يعرفها غير المكلف نفسه. لكن الخيار الاول هو الخيار السائد بين الدعاة والفقهاء. وهو امر متوقع، فهم يرون انفسهم اعرف بالحكم وموضوعاته وانهم الامناء على سلامة تطبيق الشرع. وذهب كثير من اهل العلم الى ان العرف هو المرجع في تشخيص موضوعات الاحكام. وامتدادا له يمكن القول ان تشخيص موارد العسر والحرج راجع ايضا الى العرف العام.

لا يخلو اي من الخيارات الثلاثة من اشكالات نظرية وعملية. فالتعويل على تشخيص الفرد معقول اذا كانت حدود انطباق الحكم محصورة في شخصه. لكنه غير معقول اذا ترتبت عليه الزامات او تصرفات تمس الغير. والتعويل على تشخيص الفقيه فيه احتمال الانحياز، خاصة مع اختلاف نمط المعيشة ومصادرها واختلاف الثقافة بينهم وبين عامة الناس. وقد رأينا امثلة لذلك في موقف اكثرية الدعاة من تحريم اقتناء اجهزة استقبال القنوات الفضائية رغم ميل الاكثرية الساحقة من الناس اليها، ونسمع اليوم عن الجدل حول تجويز او منع اقتناء اسهم شركات معينة لانها تتعامل مع بنوك تتهم بالربوية.

 وثمة حوادث نشرتها الصحف في الايام الماضية تشير الى ميل كثير من الدعاة الى التشدد في امور ليس فيها نص وليست من مواضع الاجماع، وهو خلاف التيسير. فهذه وتلك تشير الى ان العرف السائد بين الدعاة مختلف عن عرف عامة الناس، بغض النظر عن الرأي في سلامة هذا العرف او ذاك.

وعلى نفس الخط فان الرجوع الى العرف العام، اي رأي عامة الناس، يثير اشكالات غير قليلة، خاصة مع قلة الادوات العلمية المعتبرة لكشف الرأي العام. لعل ابرز تلك الاشكالات هو تحديد نطاق العرف المقصود. فلو كنا نتحدث عن قرية معزولة لامكننا اكتشاف العرف الخاص بها. لكن ماذا نفعل في دولة او مدينة كبيرة يهاجر اليها الناس من شتى بقاع الارض، وتجد فيها اعرافا عديدة بعدد المجتمعات التي ينتمي اليها سكانها.

ثم ان العرف ليس قيمة ساكنة، فهو يتغير مع تغير الثقافة والظروف المعيشية ونظام المجتمع. فبعض الاعراف التي كانت راسخة قبل عقدين او ثلاثة لم تعد اليوم سوى ذكرى قديمة. بعض ما كان مرغوبا اصبح اليوم متروكا وبعض ما كان مستغربا اصبح اليوم اعتياديا مألوفا. خذ مثلا الحرف اليدوية التي كان ابناء القبائل يعتبرون الانشغال بها عيباً، لكنها اليوم حرف محترمة ومرغوبة. وخذ مثلا إعراض رجال الامس عن الزواج من المرأة العاملة، فاذا بها اليوم مقدمة على تلك القاعدة في البيت. فهذه وتلك اعراف متحركة ومتغيرة بتأثير الثقافة والمعيشة فضلا عن السياسة.
عكاظ 14 مايو 2008    https://www.okaz.com.sa/article/184679

مقالات ذات علاقة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...