10/10/2024

هويات متزاحمة


ليس معتادا أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية ، مهما كانت قليلة الاهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية ، تبنى الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الشرقي ، استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية والقومية والاقليمية ، واستبدالها بما أسموه "هوية سوفييتية واحدة". بعد اربعة عقود فحسب ، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة ، الى عوامل هدم للهوية الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول اخرى ، وثبت عيانا ان القهر الايديولوجي او القومي والديني ، لايفلح أبدا في تفكيك الهويات الصغرى او  قتل ثقافتها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتضن نسخة من القرآن الكريم، في مسجد النبي عيسى - غروزني، الشيشان

معرفتنا بهذه النتيجة ، لا تكفي لحل المشكل الواقعي ، اي الارتياب القائم بين المجموعات الاثنية المختلفة ، وهو ارتياب يتحول الى قلق مزمن ، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.  

لهذا السبب ، نحتاج لفهم ظاهرة التنوع والتعدد في الهوية ، سواء كان تنوعا عموديا كالاختلاف الديني والعرقي والجندري ، أو كان أفقيا كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي ، الخ. كما نحتاج لوضع الظاهرة في إطارها الصحيح ، كي نشخص المشكلات بدقة ، بدل ان نغرق في انفعالات اللحظة.

تلافيا للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل ، سأخصص هذه الكتابة لايضاح ان  التنوع قد يتحول الى تضاد وتنافر بين الهويات ، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم ، سببه مادي او ثقافي ، وقد يكون مؤقتا. هذه نقطة مهمة لأن كثيرا من الناس يغفلون الفارق الكبير بين الاثنين. سوف اعرض في مقالات قادمة جوانب اخرى ، إذا وفق الله.

هنا ثلاثة امثلة واقعية على التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الاول سياسي من ايرلندا الشمالية ، كان يتحدث للتلفزيون قائلا: انا ايرلندي ولست بريطانيا. فقال له المذيع: انت عضو في البرلمان البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني ، فيرد ذاك مرة اخرى "انا ايرلندي". وقد سمعت تكرارا لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريبا من أديب كردي – تركي ، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى انه كردي وليس تركيا. وسمعت شبيها لهذا من شخص مصري ، يقول انا اتحدث اللغة العربية لكني لست عربيا ، ولا اريد الانتساب الى العروبة. فالواضح ان هؤلاء الاشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة ، وان الزامهم بالاولى يؤدي بالضرورة الى الغاء الهوية الاخرى. الايرلندي لا يرى بريطانيا وطنا له ، ولو حمل جوازها ، وكذلك الكردي في تركيا.

وفقا لابحاث أجريتها في سنوات ماضية ، فان الشعور بالتنافر والتضاد محدود جدا ، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة. وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد ، ولعل اقرب مثال على هذا هو العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين ، من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي او الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع ، الا ان الميل السائد حاليا ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجريا وايرلندا وسيريلانكا ، على سبيل المثال.

تبدأ المشكلات حين يسعى أحد الاطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. واوضحها الفرص المتاحة في المجال العام ، كفرص الاثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم ان هذا حصل للاكراد في تركيا ، حين حظرت طيلة 40 عاما استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا وايران ، الأمر الذي أدى لتفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية ، وتبرير الحديث عن كردستان كوطن قومي.

بعبارة اخرى ، فان الوضع الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائما لأمد طويل ، طالما لم يتعرض اي طرف لعدوان يتصل خصوصا بمكونات الهوية. ولهذا فان أبرز عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية ، هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات الصغرى او محاولة تفكيكها ، أيا كان المبرر.

الخميس - 07 ربيع الثاني 1446 هـ - 10 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5069567

مقالات ذات صلة

الارضية النظرية لمفهوم المواطنة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

"عيش الحسين"

قانون حماية الوحدة الوطنية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

 كيف تشكلت الهوية الوطنية

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

الهوية المتأزمة

الوحدة الوطنية والسلم الاهلي هو الغاية

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

03/10/2024

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتاج أيضا للرابطة الشعورية ، اي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد ، كي تكون مواطنة صحية وبناءة؟.

لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجها لأشخاص اعرفهم ، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطنا مثلنا ، وانت تنكر كثيرا مما نؤمن به. وسمعت شخصا كان مشهورا في زمن سابق ، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت ب "فلان" لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلا: اننا لا ننتمي لذات المكان والمرجع. واعلم ان كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلا واسعا في وقتها. والحمد لله ان تلك الصفحة قد طويت ، وارتاحت بلادنا من اثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة الى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة الى مستوى الهوية الكاملة ، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين ، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن هذا ممكنا في الواقع. ولو قلنا انه ممكن ، فهو عسير المنال جدا. ولذا لا أرى داعيا للسعي اليه أو المطالبة به ، خشية تكليف الناس ما لايطيقون.

على اني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى ، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة ، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة ، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالاعراف الدينية/المذهبية ، من دون داع.

في الوضع الطبيعي يحمل الانسان هويات متعددة ، بدءا من انتمائه العرقي/القومي الى العائلي والقبلي والاقليمي ، وصولا لهويته المهنية والطبقية وميوله السياسية ، ودينه ومذهبه ولغته ، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية ، الى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات العديدة يمثل خيطا يشده الى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم ، اي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى فان هوية الانسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت ، كانت شخصية صاحبها اعمق تفكيرا وأوسع أفقا.

أزعم انه لا يوجد شخص واحد ، أحادي الهوية ، في العالم كله ، بمعنى ان ذهنيته تشكلت في اطار هوية واحدة ، او انتماء واحد فقط. ان شخصا كهذا ينبغي ان يكون منعزلا عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسنا. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الاطراف ، وبعضها فوق بعض ، وهكذا. افضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات ، اي حين يكون الانسان قادرا على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في اطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على ارض واحدة ، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة ، او مظلة حامية لكافة الانتماءات والهويات الاخرى.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشدا هائلا من الأفراد المستقلين ، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة ، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى ، اي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه "التنوع في اطار الوحدة". وهو ارقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة ، تسعى لتذويب كافة الهويات ، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه الا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية ان بعض الطغاة قد فكر في هذا او حاول فعله.  ونعلم ان تلك المشروعات فشلت في اول خطواتها ، لانها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول ان المواطنة الكاملة متحققة فعلا لكل من يحمل جنسية البلد ، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كاف تماما. فان حاولنا فيما يزيد ، فقد نتحول من بناء الوطن الى هدمه. التنوع إثراء للوطن ، والوطن لكل أهله ، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.  

الشرق الاوسط الخميس - 30 ربيع الأول 1446 هـ - 3 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5067178

19/09/2024

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

 وفقا لرؤية د. خالد الرديعان ، فان العقل المسلم في هذا العصر ، مهموم بعالم الغيب بدل العالم المشهود. والدكتور الرديعان عالم اجتماع وأستاذ جامعي بارز.

ينصرف هذا الرأي الى صورتين: الاولى: تجنب العقل للتفكير في الدين ، لأنه أمر الله الذي لا يمكن للعقل الانساني ان يدرك أسراره. والثانية: هي الاعتقاد بأن الغيب يساوي الجهل ، بمعنى ان مشيئة الله اقتضت بقاء الانسان جاهلا بجانب من الكون والحياة ، رغم تكليفه بقبول ما يقال عن ذلك المجهول.

والذي أرى ان هذا الفهم ، على كلا الوجهين ، يقود لاقصاء العقل وجعل الدين قرينا للجهل والسذاجة ، حتى وان تمظهر في ثياب القوة والعلو ، وحتى لو تصنع التواضع واللين.

فيما يخص الصورة الأولى ، فانه لا يمكن للدين ان يبقى خارج نطاق التفكير ، لسببين واضحين ، أولهما ان القرآن الكريم صرح تكرارا بأن خطابه موجه لأولي الالباب ، لقوم يتفكرون ، لقوم يعقلون ، الخ. فلا يمكن ان يوجه الخطاب للعقلاء والمتفكرين ، ثم يدعوهم لاقصاء عقولهم عن الموضوع. اما السبب الثاني فان الايمان لا يصح الا مع الاختيار ، إذ "لا اكراه في الدين". فكيف يختار الانسان ان لم يكن ثمة بدائل يفكر فيها ، وينظر في الاصلح من بينها. هذا تفكير في اساس الدين وجوهره وقضاياه الكبرى ، وليس في حواشيه.

وفيما يخص الصورة الثانية ، فان الربط بين الغيب والجهل ، أدى لفتح الباب امام الخرافة والاسطورة ، وسمح بالخلط بين الدين والفولكلور ، على نحو يعرف الجميع انه أثمر عن تشويه صورة الدين البسيطة النقية.

سوف اضرب مثالا على هذا بمفهوم "الرزق" الذي ورد في القرآن كفضل من الله ورحمة ، وانه سبحانه "يرزق من يشاء بغير حساب". نعلم ان الله يدعو الناس للسعي في طلب الرزق ، لكن جرى التشديد على ان السعي غير متصل بالنتيجة ، بمعنى انك قد تسعى ولا تكسب شيئا وان غيرك قد يأتيه الرزق وهو نائم. هذا التصوير الذي يحكي حالات استثنائية ، عرض للناس كما لو انه القاعدة في الرزق ، وان الله يفعل ما يشاء دونما سنة أو نظام أو مبرر يمكن للعقل ادراكه واستيعابه. مثل هذا التصوير الخاطيء فتح الباب امام السحرة والدجالين ومدعي الاتصال بالجن والقوى الخفية ، الذين يدعون القدرة على تغيير مقادير الناس والتحكم في حياتهم وارزاقهم. بل ان بعضهم فتح متاجر علنية ، واطلق على نفسه لقب "شيخ" للتأكيد على الجانب الديني في الموضوع.

في اعتقادي ان الايمان بالغيب لا يعني – اطلاقا – القبول بالجهل. الايمان بالغيب يعني ان تتيقن في اعماق نفسك بأن وراء العالم المشهود عوالم أخرى ، لم تتعرف عليها ، لأنك لا تملك الوسيلة اللازمة لادراكها. هذا هو بالتحديد ما آمن به المخترعون والمكتشفون الذين سعوا وراء المجهولات ، بعدما اقتنعوا في اعماقهم ، بأن وراء حجاب المشهود ثمة شيء ، لم يدركوا حقيقته ولا حجمه ، لكنهم واثقون من وجوده وامكانية بلوغه بطريقة ما. تخيل ماذا سيحصل لو أن توماس اديسون توقف عن محاولاته لاثبات امكانية توليد الضوء ، بعد فشل تجاربه الأولى والثانية والثالثة ، فهل ياترى كنا سننعم بالكهرباء؟. تخيل ان ويليس كارير لم يكترث حين شطح بخياله بعيدا ، فتراءى له جهاز يبرد الهواء ، تخيل انه قال لنفسه: هذه خيالات غير مفيدة ، وانه لو كان ممكنا لفعله الناس من قبلي. لو قال كارير هذا لنفسه ، هل كنا نجلس الان في غرفنا المكيفة؟.

كل كشف جديد ، وكل اختراق مدهش ، بدأ بالايمان بالغيب ، اي بوجود عوالم وفرص وراء جدران الواقع الذي يحيط بنا. ثم بالسعي في شق حجاب الغيب (بالعلم او بغيره) حتى يدرك تلك العوالم. العقل ضروري للدين إذا كانت الدنيا ضرورية. هذا هو جوهر الموضوع.

الخميس - 16 ربيع الأول 1446 هـ - 19 سبتمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5062445

مقالات ذات صلة

12/09/2024

لماذا يرفضون دور العقل؟

 

ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون دخالة العقل في نطاقات معينة ، دينية او أخلاقية او سلوكية. وحجتهم في ذلك ان العقل ليس ميزانا وافيا في هذه المسائل ، او انه ليس المصدر الوحيد للمعرفة او القيمة. وقد لاحظت مثلا ان الذين يتحدثون في أمور الشريعة الاسلامية ، يشددون على عقلانية الاسلام وتمجيده لما ينتج العقل من علوم ، بل واستحالة التعارض بين ما يسمونه العقل الصريح والنقل الصحيح. لكن هؤلاء انفسهم ، يتناسون هذه المقولة حين يصلون للنقاط الحرجة ، مثل التعارض بين المقولات العلمية الثابتة بالتجربة وبين ظاهر النص. وقد أوضحت في كتابات سابقة ، ان التعارض ثابت في الواقع ، وان النفي النظري لا يغير شيئا فيه. لكن دعنا نحاول فهم العوامل التي تقف وراء الارتياب في دور العقل او حتى رفضه.

سوف اركز على عامل واحد ، هو اختلاط الشريعة بالتاريخ الثقافي لاتباعها. وأحسب ان هذه المسألة واضحة عند معظم القراء. وهي تظهر بصورة مركزة في قناعة شاعت بين الاسلاف وانتقلت الينا مع تراثهم ، وفحواها ان الشريعة قد أسست عقلانيتها الخاصة ، بحيث لا يصح تطبيق احكام العقل العادي على مسائلها. ومعنى العقلانية الخاصة ان الشريعة انشأت ما يمكن وصفه بالعقل المسلم ، المتمايز عن العقل العام غير المقيد بالدين او الجغرافيا.

ترتب على هذه الرؤية نتائج عديدة ، من ابرزها انشاء علم الدين ، كمنهج مدرسي قائم بنفسه ، مستقل عن قواعد ومناهج العلوم الأخرى ، بحيث لم يعد ممكنا تطبيق قواعد الفلسفة او الطب او اللغة او التاريخ ومناهجها ، على المسائل التي صنفت كمسائل دينية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل تعداه الى ترجيح علم الدين ، من حيث القيمة ومن حيث الاعتبار العلمي على كافة العلوم الأخرى. ومن ذلك مثلا ان عددا من العلماء (القدامى خصوصا) صرحوا ان علم الدين "اشرف العلوم" اذا قورن بغيره ، حسب تعبير زين الدين العاملي.

اما على مستوى الاعتبار ، فقد سلموا بان الرأي الفقهي له مكانة تتجاوز ، بل وتلغي ايضا الآراء المستمدة من علوم أخرى. ومنها مثلا تحريم الفقهاء لتشريح جسد الميت ، حتى لتعليم الطب او كشف الجريمة المحتملة ، وتحريمهم لنقل الاعضاء وزرعها ، ولو كان ضروريا لانقاذ الأرواح. وكذا موقفهم - المتصلب نسبيا – من التجارات والعقود الجديدة ، ومن قضايا الحقوق الفردية كالمساواة بين الجنسين والمساواة بين المسلم والكافر في الحقوق والواجبات ، بل حتى مساواة الحضري مع البدوي والعربي مع الاعجمي ، والكثير من أمثال هذه المسائل ، التي يجمع بينها عامل مشترك واحد ، هو انها حديثة الظهور ولم تكن معروفة في زمن النص ، او انها كانت عنوانا لمضمون مختلف في ذلك الزمان ، ولم يستطع الفقهاء تحرير الفكرة من قيود التجربة التاريخية ، رغم قولهم بقاعدة ان "العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب" وأن ارتباط الحكم بموضوع في وقته لايعني انه خاص بهذا الموضوع.

غرضي من هذه المجادلة ليس الدعوة الى الغاء علم الدين ، فهي دعوة لا طائل تحتها. غرضي هو عقلنة هذا العلم ، اي التعامل معه كمنتج بشري مثل سائر العلوم ، وإعادة ربطه بتيار العلم الانساني ، لا سيما العلوم المؤثرة في مسائل علم الدين ، كعلم الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والمنطق والتاريخ واللسانيات والقانون وغيرها. المهم في هذا الجانب ليس اسم العلم ، بل الأرضية الفكرية التي تقوم عليها هذه الفكرة ، اعني بها تحرير علم الدين من قيود التاريخ والقداسات المصطنعة ، والاستفادة من المساهمات الباهرة لمختلف علماء العالم من مختلف التخصصات ، بالقدر الذي يساعدنا في تقديم رؤية للعالم ، تنطلق من روح القرآن وتستلهم – في الوقت ذاته – روح العصر وحاجات أهله.

الشرق الاوسط الخميس - 09 ربيع الأول 1446 هـ - 12 سبتمبر 2024 م    https://aawsat.com/node/5060106/

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

العقل المؤقت

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

 

 

29/08/2024

اليد الخفية التي تدير العالم

مهما قيل في التأثير الهائل لانظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم ، فلن تستطيع تحويل الانسان الى شبه آلة ، تحركها تلك الانظمة. بل أزعم ان التسليم المطلق بهذه الفكرة ، يناقض حكمة الله وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعا ان التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية ، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلا. تزيد العلوم التي ينتجها انسان اليوم في عام واحد ، عما كان ينتجه الاسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة ، ما لم يصل اليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

-         حسنا.. تأملوا معي في معنى التقدم ، أليس جوهره هو التمرد على الافكار السائدة والقناعات المعتادة والاعراف المعهودة.

تخيل أن "نيكولاس كوبرنيكوس" لم يتمرد على المبدأ الموروث ، القائل بان الارض مركز الكون وان الشمس تدور حولها ، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم ، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الانتاج الزراعي.. الخ؟. في تلك الايام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس ، وفحواها ان الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير ، فتردد كثيرا في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة ، حتى الاشهر الاخيرة من حياته.

تخيل أيضا ان "آلان تورينج" لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طورها في 1938 رغم اخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله ، فهل سيكون لدينا الكمبيوتر والانترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟. هذا وذاك ، بل تاريخ البشرية كله ، دليل على ان فطرة الانسان الاولية ، هي التمرد على السائد والمتعارف ، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم اني – مثلكم – انظر للحياة الواقعية الماثلة امامي ، فأرى غالبية الناس ، تتأثر – كثيرا أو يسيرا - بتوجيه "الأيدي الخفية" التي تدير المسرح من وراء الستار.

-         كيف نوازن اذن بين الاستنتاج المثبت علميا ، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الانسان وسلوكه ، وبين رفضنا للتسليم بهذا القول على نحو مطلق؟.

لاستيضاح المفارقة ، دعنا نستعين برؤية ايمانويل كانط ، رائد الفلسفة الحديثة ، حول الفارق بين حقيقة الاشياء وصورتها في الذهن.

ادرك قدامى الفلاسفة ان صورة الاشياء في الذهن ، لاتطابق دائما حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق ، فربما تتخيل صورة اجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع ، ستجده مختلفا عن صورته في ذهنك.

اولئك الفلاسفة قالوا ايضا ان معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية ، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديما "فما راء كمن سمعا". لكن ايمانويل كانط وجد انك حين تنظر للشيء فانك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك ، والتي غالبا ما تخالف الواقع قليلا او كثيرا. اي ان الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع

 عمل الدعاية ، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الاشياء ، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول ايضا – وهو بالتأكيد صادق تماما – ان عقل الانسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية ، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الاشياء ويفكك معانيها ، باحثا عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه ، فيتحرر من الحاجة اليه ، او يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلا – كان شعور الناس بان السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا ، مع ان احدا ربما لم يتخيل يومذاك امكانية ان يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تاثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف اعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع ، اي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس ، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأول يكرس النظام والراحة النفسية ، والثاني يؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الانساني.

الشرق الاوسط الخميس - 24 صفَر 1446 هـ - 29 أغسطس 2024 م   https://aawsat.com/node/5055340/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

اول العلم قصة خرافية

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

حول الفصل بين الدين والعلم

الرزية العظمى

العقل المؤقت

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي


 

15/08/2024

في مسألة الجبر والاختيار: هل حقا نملك اراداتنا؟


بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا. وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بارادة الله وعلمه المسبق ، فانه ليس مسؤولا عن افعاله ، وبالتالي لايصح عقابه. فكيف يقدر الله شيئا ويريده ، ثم يعاقب عبده اذا فعل ما أراده؟.

أقول هذه مسألة معروفة في التاريخ الاسلامي. وقد حسمت في القرون الأخيرة ، لصالح فهم موسع ، يربط الاثم بكون الفاعل قاصدا متعمدا ، وكونه عارفا بحقيقة ما يفعل. وتوصل الناس الى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين: القدرة على الفعل وارادة القيام بالفعل. فانت قادر على العيش في الغابة مثلا ، وانت قادر على التبرع بكل أموالك ، لكن القليل من الناس سيفعل هذا. أما الأكثرية الساحقة فهي "تريد" خيارات بديلة. هذا يعني انك تستطيع فعل أشياء ، لكنك لا تريدها ، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى ان تكون مختارا وصاحب إرادة. وبناء عليه قيل ان الانسان مخير في الاعم الاغلب من افعاله.

يبدو هذا الكلام معقولا ولا غبار عليه. لكن تعالوا نناقش القول السائر ، الذي فحواه أن انسان اليوم ، واقع – من حيث يشعر او لايشعر – تحت سيطرة انظمة الاعلام والدعاية الهائلة القوة ، او انه خاضع لاعراف المجتمع وقوانينه وثقافته ، التي تجعله يفعل ما تريده هي وليس ما يريده هو.

يقول اصحاب هذا الرأي ان انسان اليوم لم يعد صاحب إرادة ، لأنه لا يختار ما يريد. اجهزة الدعاية والاعلام تتلبس عباءة العلم حينا والسياسة حينا آخر ، والاقتصاد في طور ، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض الأحيان. يقولون ايضا ان الذي يختار الرئيس الامريكي مثلا ، ليس الناخبين الافراد الذين يأتون الى صناديق الاقتراع ، بل اجهزة الدعاية التي تبارت في اقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته ، فجاؤوا للصناديق وقد اقتنعوا بما اريد لهم ان يقتنعوا به.

كذلك الحال في السلوك الغذائي للافراد ، فهم لا يأكلون الطعام الذي الفه آباؤهم ، والذي ربما يعبر عن حاجات البيئة المحلية ، بل يأكلون ما روجته اجهزة الدعاية ، اي ما عرضته عليهم باعتباره رمزا للسعادة او العظمة او الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها ، والخيارات الثقافية التي نميل اليها ، وانظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا ، وغيرها. نحن نعيش – كما يقول هؤلاء – مسيرين لا مخيرين. صحيح انه لم يضربنا احد على أيدينا ، وليس في طرقنا حواجز مادية تمنعنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكننا مع ذلك لا نسير كما نختار ، بل نسير وفق هوى الدعاية او هوى المجتمع ، او تبعا للفضول الذي حفزه هذا او ذاك.

هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل الانسان ، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة ، يظن انه يختارها بحرية ، لكنه - في واقع الامر - لا يرى غير خيارات محددة سلفا. وبالتالي فان اختياره مرسوم ، وليس خيارا حرا ، حتى لو توهم - في الوهلة الاولى - انه حر.

احتمل ان المفكر الفرنسي جان جاك روسو هو اول من أثار هذه المفارقة ، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع الطبيعي السابق للدولة ، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون ، اذ يقول ساخرا: "يا لغباء هذا الانسان الذي مشى الى سجن القانون بقدميه ، وكان في وسعه ان يبقى حرا الى الأبد"!.

اراد روسو كشف المفارقة ، بين حياة فيها حرية مطلقة لكنها غير آمنة (في الغابة مثلا) وحياة بنصف حرية ، لكنها آمنة ومريحة (في ظل القانون). قال هذا كي يوضح للقاريء لماذا اختار الانسان ان يتنازل عن حريته الأولى ، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟.

الشرق الاوسط الخميس - 10 صفَر 1446 هـ - 15 أغسطس 2024 م     https://aawsat.com/node/5050790/

مقالات ذات صلة

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

بقية من ظلال الماضين

بماذا ننصح أينشتاين؟

التعصب كمنتج اجتماعي

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات

 القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

08/08/2024

كم تدفع لفاتورة الهاتف؟

مفهوم "الحكومة الالكترونية" بات الهدف المشترك لكل مخططات الاصلاح الاداري في عالم اليوم. ولذا فهو عنصر ثابت ، في كافة البيانات والتقارير السنوية التي ترصد تطور السوق والادارة الحكومية ، في مختلف بلدان العالم. تركز هذه التقارير على توفر الخدمات الحكومية رقميا ، بمعنى امكانية انجازها كليا او جزئيا ، من خلال شبكات الهاتف والانترنت. كما ترصد قابلية السوق المحلي لاستيعاب التطور في مجال الاتصال والمعلوماتية ، أي  إمكانية انجاز الاعمال وخدمات القطاع الخاص من خلال الشبكات أيضا.

المؤكد ان جميع الناس او ربما غالبيتهم ، يريدون جعل الحياة والسوق على هذا النحو. فهو يقلص من كلف المعيشة ، ويسهل الاعمال ، ويقلل من تأثير الفوارق الطبقية على مستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لكن ثمة سؤال لابد ان يواجه الذين اختاروا هذا الطريق: هل يأتي التحول الى نمط الحياة هذا من دون ثمن؟..

كنت قد وجهت هذا السؤال الى بعض الزملاء في مجلس ، فأجابني أحدهم بما يشبه النكتة: قال اننا جميعا نعرف الثمن ، وهو فاتورة الهاتف والانترنت الشهرية!.

-         هل حقا يقتصر الثمن على فاتورة الهاتف؟.

-         بالطبع لا.

ثمة ثمن ثقافي وآخر اجتماعي ، ربما لا يشعر به الانسان حين تعرض عليه الفكرة للمرة الأولى. لكنه – بالتأكيد – سيرى انعكاساته الواسعة بعد زمن يسير ، في نفسه وفي محيطه العائلي والاجتماعي.

"الحكومة الالكترونية" تجسيد بارز للادارة الحديثة الشديدة العقلانية ، أي التي تقوم على انظمة مكتوبة ومحددة ، على نحو يختصر الدور الشخصي للمدير ، ويحيل كثيرا من الاعمال الى الآلات ، التي لا تفرق بين زيد وعبيد ، حتى لو اختلفت مكانتهم الاجتماعية. لا نريد – بطبيعة الحال – المبالغة باظهار الامر مثاليا ، فثمة على الدوام خطوط مستقيمة وأخرى متعرجة ، لأننا ببساطة بشر يتعاملون مع بشر آخرين ، ولكل منهم خصائص نفسية وذهنية ، تختلف عن غيره ، ولا يمكن التعامل مع الجميع كما لو كانوا "روبوتات".  كذلك فان مستوى النمو التقني والاقتصادي ، يتفاوت بين بلد وآخر. وهو ينعكس على العلاقة بين الدولة والمجتمع ، وطبيعة التفاعل بينهما في كل مجال ، بما فيها المجالات التقنية البحتة. نحن اذن لا ندعي ان الاوصاف المذكورة تأتي كاملة او قريبة من الكمال. الذي يهمني في الحقيقة ، هو توضيح الاتجاه العام والرسالة الداخلية ، التي ينطوي عليها التحول نحو الحكومة الالكترونية.

لو اردنا تلخيص هذا التحول ، فسوف اجمله في نقطتين: سيادة القانون ، والمساواة بين الجميع. سيادة القانون هي ابرز تجسيدات الحياة الحديثة وهي احد الفوارق الرئيسية بينها وبين النظام القديم. وهي تقود – بالضرورة - الى النقطة الثانية اي المساواة ، حيث يتقلص ، نسبيا على الأقل ، تأثير الانتماء الاجتماعي على نوعية ومستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لا أحد – على الأرجح - سيجد القراء مشكلة في هذا. لكني أدعوهم الى التعمق أكثر في معنى المساواة ، التي تشمل أيضا تقليص الفوارق بين الرجال والنساء في مجالات عديدة ، اجتماعية وقانونية. أعلم ان شريحة من المجتمع ترحب بهذا التطور ، وهي الشريحة التي تميل – عادة – الى نمط الحياة الحديثة. لكن ثمة شرائح اخرى ، أظنها أوسع حجما ، تشعر بالقلق حين ترى الشباب والفتيات ، قادرين على اختيار أنماط عيش جديدة ، مختلفة جدا عما ألفه الجيل الأكبر منهم سنا. حين تتحول الانترنت الى جزء محوري من حياتنا اليومية ، فان مصادر ثقافتنا وطريقة تفكيرنا في الحياة ، تتغير بالتدريج. وبالنسبة للجيل الجديد فان تأثير الآباء سيكون في حده الأدنى ، وسوف تتشكل هويتهم على ضوء الصلات الجديدة التي تربطهم مع العالم ، وتوفر لهم المعلومات التي يحتاجونها.

هذا اذن مثال واحد على ما قلته في مقال سابق ، وخلاصته ان الانتقال الى الحداثة ليس اختيارا ، ولن يكون محدود الأثر.

الخميس - 03 صفَر 1446 هـ - 8 أغسطس 2024 م    https://aawsat.com/node/5048456/

 

مشكلة الثقافة الدولتية

لو سألت رأيي في رعاية الحكومة للشأن الثقافي ، بل أي تدخل لأي حكومة في الشأن الثقافي ، لترددت طويلا قبل الاجابة. واظن السبب واضحا. فدخولها في الحياة الثقافية يعني تعيين احد التيارات الثقافية ، كخطاب رسمي تعتمده اجهزة الدولة ورجالها. ونعلم ان اتخاذ خطاب رسمي ، سيؤدي – شئنا أم ابينا – لإقصاء الآراء المختلفة عنه ، وتهميش الآراء المعارضة له. نعلم أيضا ان ازدهار العلم رهن بتنوع الآراء المتاحة في المجال العام ، والاقرار بحق صاحب الرأي في مخالفة الآراء الأخرى ، بما فيها المتبناة رسميا. ان الجدل الحر هو الوسيلة الاكثر بساطة والأيسر كلفة لانتشار العلم ، وتحوله من حرفة نخبوية الى مضمون للتبادل بين عامة الناس.

لكن هذي قصة ناقصة. واستكمالها يقتضي القول ان بعض مجالات الاصلاح الثقافي ، لا يمكن إنجازها دون مساهمة واسعة للدولة ، على المستوى السياسي والقانوني خصوصا. دعني أذكر مثلا مفهوم "سيادة القانون" الذي يعد من أعمدة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث ، وبالتالي فهو من المسارات الهامة للانتقال نحو الحداثة. سيادة القانون لا تعني وضع العديد من القوانين واللوائح ، بل التخلص من الطابع الشخصي في الادارة ، وجعلها تجسيدا كاملا للقانون. يظهر الفارق بين الحكم الشخصي وحكم القانون في مضمون ومعايير العلاقة بين المجتمع والجهاز الاداري للدولة.

بيان ذلك: لعل القراء يذكرون نقاشات الصحافة في سنوات سابقة ، حول اختلاف القضاة في الحكم على المسائل المتشابهة. ونعرف ان السبب وراء هذا ، هو اعتبار القاضي مجتهدا يحكم برأيه. وهذا من التقاليد المأثورة في الفقه الاسلامي القديم. نعرف أيضا ان هذا الاختلاف يؤدي الى ما يسمى "عدم استقرار القانون" بل عدم استقرار المعاملات ، نظرا لان الناس لا يعلمون بما يواجههم حين يضطرون للتقاضي. هذا مثال على نوع الحكم الشخصي. لكن لو كان السائد هو حكم القانون ، فان كل شخص يعرف سلفا ما الذي سيواجه لو قام بهذا الفعل او ذاك. وان لم يكن خبيرا ، فان محاميه يستطيع اخباره بما سيجري له لو وصل الأمر الى المحكمة. حين يكون القانون حاكما ، فان الافعال الممنوعة تعرف وتحدد عقوباتها ، في نص قانوني واضح. وبناء على هذا سوف يصدر كل القضاة حكما واحدا في القضايا المتماثلة ، وان المتقاضين سيحصلون على نفس النتائج ، لو وصل امرهم الى المحاكم او حتى الادارات التنفيذية المخولة باصدار احكام. يطلق على هذه الميزة اسم "القابلية للتنبؤ" وهي من العناصر المؤثرة في تكوين البيئة المواتية للاستثمار. ولن تكون ممكنة الا اذا كان القانون هو المرجع الوحيد للجميع ، وليس الرأي الشخصي للمدير أو الوزير ، مهما علا شأنه او علمه.

أظن ان جميع الناس يريدون شيئا كهذا. لكننا نواجه مشكلة حقيقية ، تتمثل في ميل بعض الناس للالتفاف على القانون ، واعتماد العلاقة الشخصية او التأثير الخطابي على المدير ، وقبول المدير لهذا النوع من التعاملات ، التي تؤدي – بالضرورة – الى تقديم الأقوى شخصية او الأقرب علاقة ، على غيره ، ولو كان الحق لهذا الغير. واذكر مديرا بارزا اشتهر بعبارة يقولها تكرارا: "اشفع تشفع" وهي دعوة مفتوحة للوسطاء والمحتاجين لوساطة. وقد برر المدير الهمام دعوته بان القانون لا يلحظ كل القضايا. وهذا تبرير معقول أحيانا. لكنه سيؤدي – في نهاية المطاف – الى الغاء القانون واستبداله بالعلاقات الشخصية.

المجتمع التقليدي يثق في الأشخاص ويعول على "كلمة الرجال" اكثر من القانون. وأصحاب السلطة والنفوذ لا يتمنعون من التعامل مع هذا النوع من المحاولات الاجتماعية ، حتى لو أدت لتجاوز القانون في بعض الأحيان. مثل هذه الحالة لا تعالج باصدار المزيد من القرارات والقوانين والممنوعات ، بل بالتثقيف الواسع النطاق وعلى كل المستويات ، حول القانون وضرورته ، وكونه أساسا للمساواة بين الناس وحاميا لحقوقهم. فهل يمكن لجهة أخرى – غير الدولة – ان تقوم بهذه المهمة؟.

مقالات ذات صلة

 

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

حداثة تلبس عباءة التقاليد

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...