12/03/2013

المؤامرة والسياسة

|| التسليم بنظرية المؤامرة مثل الايمان بالسحر والعين وتحكم الجن في البشر.. مصدرها ميل لفصل الحوادث عن أسبابها المادية القابلة للإدراك، وربطها بعوامل تتجاوز قدرات البشر المادية والعقلية||

النقاش حول ''المؤامرة'' يكشف أن الكثير من الناس مقتنع بها، ومؤمن خصوصا أن المسلمين يتعرضون لمؤامرة عالمية، هي التي أدت إلى تخلفهم في مجالات العلم والتكنولوجيا، وعجزهم عن مواجهة أعدائهم، وفقر كثير من دولهم. وكتب لي أحد القراء مستنكرا: ''كيف تستهين بالمؤامرة الدولية وأنت ترى الفارق بين مصر واليابان، مع أن الأولى بدأت نهضتها الصناعية قبل الثانية.. أليست إرادة الغرب هي التي حملت اليابان إلى القمة ودفعت مصر إلى الحضيض؟ ''. وقال آخر إن انفصال جنوب السودان في العام الماضي حلقة ثانية بعد احتلال الحبشة ''المسيحية'' لإريتريا ''المسلمة'' في 1952، وكلاهما تم بدعم غربي.

لاحظت أن المقتنعين بالمؤامرة الدولية يخلطون بينها وبين السياسة العادية. فحوى ''نظرية المؤامرة'' هو أن هناك قوة خفية تدير مجريات الأمور في العالم. وأن معظم الحوادث التي نظنها اعتيادية، هي في واقع الأمر، أجزاء في مخطط واسع النطاق، طويل الأمد. وأن مصائر الدول تتقرر حسب ذلك المخطط، وليس بإرادة أهلها وعملهم. نظرية المؤامرة تفترض إذن وجود قوة خفية، وخططا خفية، نجحت فعلا في تحديد مسار العالم ومصيره.

أما السياسة العادية، والتي نعلم أنها قد تنطوي أحيانا على تآمر، فهي أمر مختلف. اتفاق حكومتين أو أكثر، واتفاق حزبين أو أكثر، على خطة أو عمل سياسي ما، لا يعتبر مؤامرة، أو أنه ـــ على أقل التقادير ـــ ليس من جنس المؤامرة الدولية التي ننكرها.

في الحقيقة فإن الجانب الخفي من السياسة ليس له أهمية كبيرة، طالما وجدت حياة سياسية مفتوحة ومجتمع تعددي، تعبّر فيه التيارات المختلفة عن تطلعاتها وإراداتها. يضمن المتآمرون الفوز، إذا كان الجميع جاهلا بما يجري، أي إذا كان المجال العام مغلقا، أو محتكرا من جانب تيار واحد. ونعلم أن هذا لا يحصل حين تكون الحياة السياسية تعددية متحررة من القيود.

وأظن أن دوافع التسليم بنظرية المؤامرة لا تختلف عن دوافع التسليم بتأثير السحر والعين وتحكم الجن في البشر... إلخ.. هذه مثل تلك تستبطن نزوعا لفصل الحوادث عن أسبابها المادية القابلة للإدراك، وربطها بعوامل تتجاوز قدرات البشر المادية والعقلية. ربما كانت تجسيدا للقلق على الوجود والمصير، وهو قلق كامن في نفوس معظم الناس. أو ربما استعملت كتبرير للفشل في إدارة الحياة، أو الهروب من مواجهة التحديات الكبرى.

زبدة القول أن ''المؤامرة الدولية'' شيء لا وجود له في العالم الحقيقي. إنسان اليوم يزداد إدراكا لعالمه وسيطرة على مساره ومصيره، ولا تستطيع أي مؤامرة تغيير هذا المسار. وهذا هو جوهر المسألة.

12/02/2013

توفيق السيف... جدلية العلاقة بين الواقع المتغير والعقل الفلسفي

بقلم أمين الغافلي
الثلاثاء ١٢ فبراير ٢٠١٣
الجامع عند الباحث توفيق السيف هو الاشتغال على جدلية الديني - السياسي في صورتيها التراثية والحديثة. ولئن اتخذ العلاقة بين الإسلام السياسي والديموقراطية في صيرورتها التاريخية موضوعاً في جملة مؤلفاته وكتاباته المتعددة، فإنه اعتبر التسعينات من القرن الماضي نقطة ارتكاز سياسية مهمة في إطار الدائرة الإسلامية الكبرى، تمثلت في المقاربة التحليلية - النقدية لصعود الإسلام السياسي إلى السلطة في أكثر من بلد إسلامي، مع التركيز على التجربة الإسلامية الإيرانية، كونها تجسّد نموذجاً سياسياً جديداً في المدونات الفقهية الشيعية (ولاية الفقيه)، استدعت مزاحمتها للدولة في الفكر السياسي الحديث تنظيرات قانونية وفقهية، صاغتها النخب الإيرانية بكل أطيافها والمنقسمة اجتماعياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً.

استعان السيف في كتابه «حدود الديموقراطية الدينية» بنظرية الفيلسوف الأميركي توماس كون في كتابه «بنية الثورات العلمية»، خصوصاً ما يتعلق منها ببارادايم التطور المعرفي - السياسي لاختبار فرضياته البحثية - الاستنتاجية من واقع ملاحظته الدقيقة لسياق التجاذبات والاصطفافات والصراعات السياسية - الدينية التي رافقت الثورة الإيرانية، وصولاً إلى التناقض الكلي الحاد بين التيارين التي أفرزتهما تلك التجربة الثورية، وهما الإصلاحي والمحافظ وانعكاس ذلك التناقض على وضعية المواطن الإيراني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية ودور ومكانة إيران الإقليمي والدولي.
يعمد السيف إلى التذكير بركائز «البارادايم» الثلاثة، وهي النظام الإطاري شبه المغلق الذي يمنح إتباعه هوية جماعية خاصة تميزهم عن غيرهم، والخط الانكساري الداخلي الذي يرافق النظام الإطاري في تحولاته الفكرية والاجتماعية المهيمنة، والمسار التقدمي المستولد من السقوط المريع للباراديم الأول، نتيجة فائض الإحساس الذي يغمر أتباعه بعجز ذلك «البارادايم» عن حلّ كثير من الإشكالات القائمة.
السيف - في اعتقادي- على قناعة كاملة أن مقومات «البارادايم» أنجع في مقاربتها لجدلية الإسلام السياسي وفلسفة الديموقراطية من الديالكتيك الهيغلي ونتائج الفرضيات السياسية التي توصل إليها في كتابه المذكور دالة على فاعلية تلك المقومات «البارادايمية» في قراءة المشهد الاصطراعي السياسي الإيراني، كما هو متحقق في الواقع الاجتماعي.
لم يكتف السيف بتحديد إمكان تطبيق الآلية «البارادايمية» - وهي التجربة السياسية الإيرانية - بل حدد إطارها الزمني، وهو فوز التيار الإصلاحي بالانتخابات 1997 - 2004م، وبعد تأملي في جوهر «البارادايم» كما فصّله السيف، أعتقد أن لدي مجالاً أن أوسّع استعماله مكانياً وزمانياً، بحيث يغطي دافعية البروز المفاجئ للإسلام السياسي في التسعينات على مسرح الأحداث الشرق أوسطية، واستكمالاً بفوز القومي الإيراني محمد مصدق بالانتخابات الإيرانية 1951، وانتهاء بالمفهوم الجديد والصادم للإمامة، كما صاغته النخبة الشيعية في القرون الأولى، والمرتكز على اندفاعة تفكيكية لللاهوت الشيعي، لجعله أكثر استيعاباً باحتمالية المعنى الروحي للإمامة، وليس الزمني كما جاء في كتاب السيف «نظرية السلطة في الفقه الشيعي».

الاستيعاب المطلق لبارادايم

بالعودة إلى التجربة الإيرانية، فإن الاستيعاب المطلق «للبارادايم» يتطلب رصداً دقيقاً لتطور البنى المعرفية داخل الهياكل التأسيسية للمسار التقدمي - الإحيائي، كونها تمثّل وسيلة في نقد وتعرية الإطار «البارادايمي» الهوياتي - الإيديولوجي المغلق، تمهيداً لكسره عبر تقديم قائمة بأبرز الإشكالات المحورية التي تمسّ الجوانب الحياتية كافة للشعب، والتي فشل ذلك الإطار بحلها، وهذا ما جهد السيف لفعله، فهو يسلّم بأن الفوز الساحق للتيار الإصلاحي في انتخابات 1997م عائد إلى أمرين متلازمَين، هما: فشل نموذج الحكم التقليدي الثوري الذي ساد في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية أولاً، ووجــــود نخبة سياسية في التيار الإصلاحي، أسست لفلسفة سياسية شاملة مستوحاة من الفــكر الــفـلسفي الــسيــاســي الغربي الحديث، تتركز وظيفتها في القطع المعرفي مع كل ما يمت بصلة «للباراديم الثوري» التقليدي المنغلق على ذاته في حيز فقهي ضيق، لم يميز بين الديموقراطية كإجراء والديموقراطية كفلسفة، ذهاباً إلى تفعيل التيار الإصلاحي رهانهم للمشاركة الشعبية، عبر تجذير مؤسسات الدولة في الواقع السياسي - الاجتماعي.
كما يعود جاذبية «باردايم التيار الإصلاحي الجديد» إلى ميزتين جوهريتين افتقدهما «البارادايم الثوري القديم»، تمثّلت الأولى في اتساع حجم الشريحة الاجتماعية المتضررة من «البارادايم الثوري القديم»، وهذا خاص في الشأن المحلي، وتمثّلت الثانية في اشتماله على خطاب سياسي متناغم مع الخطاب السياسي الإقليمي والدولي.
تغييب «البارادايم الثوري القديم» مناقشة قضايا حساسة للجمهور الإيراني كقضية سيادة الشعب (فلسفة الديموقراطية)، وإمكان الاستفادة من العلمانية وتحديد دور الدين في الحياة العامة، وتجذر القانون وعموميته وشكل الاقتصاد الناجع للبلد، أزّم الوضع السياسي الإيراني الداخلي، وزاد من الاحتقان الاجتماعي، فاستثمر نخبة التيار الإصلاحي هذا الوضع، فشرعوا في استيلاد نموذجهم «البارادايمي الجديد»، بشكل يكون قادراً على إعادة بناء العلاقة مع الجمهور السياسي أولاً، لترغيبه في المشاركة الفعالة في الشأن السياسي كضمانة إحيائية لفلسفة الديموقراطية.
تآكلَ «البارادايم الثوري القديم» على قاعدة الاستبداد والاستفراد بالسلطة، والإقصاء الممنهج للخصوم، والفشل في وعوده الكثيرة للجمهور، فبات انكساره حدثاً متوقعاً، فوضعه البائس كان شبيها بوضع الإيديولوجيات الثورية الاشتراكية والقومية التي سادت الأقطار الإسلامية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي التي أصرّت على استبعاد أهم قضية تمسّ حياة الناس ومستقبلهم، وهي الديموقراطية، ما فتح المجال لصعود التيار الإسلامي - السياسي إلى واجهة المسرح السياسي في الثمانينات والتسعينات من القرن ذاته، وإن كان هذا الصعود للتيار الإسلامي موقتاً، كونه حاملاً بذرة انكساره هو الآخر لممانعته العتيدة في القبول بالتعددية والقواعد الديموقراطية.
انطلق السيف من اعتبار النسبة العالية التي حصل عليها التيار الإصلاحي بزعامة خاتمي من أصوات الناخبين في انتخابات 1997م دلالة يقينية واضحة على تحقق ميلاد «البارادايم الإصلاحي»، والأهم أنه - السيف - رصد جدية وصدق ذلك التيار في تلبية المطالب الشعبية والوفاء بالتزاماته التي قطعها على نفسه، فأصبح الشعب يعاين بنفسه تفعيل نخبة التيار الإصلاحي لآلية الاشتغال التأسيسية للقواعد المؤسساتية المتعددة في المجتمع الإيراني، كضمانة لتجذر الفلسفة الديموقراطية الحديثة في المجتمع الإيراني.
ما كان للتيار الإصلاحي أن يفوز بدورتين، لولا قدرته على تجاوز إشكالات سياسية واقتصادية واجتماعية، ورثها من «البارادايم الثوري القديم»، ظلت معطلة ومغيبة لإصرار نخبة «البارادايم» على معالجتها بأساليب قديمة عفى عليها الزمن، إذ بات الشعب بعد فوز التيار الإصلاحي يتداول ويتعايش مع جملة من المفاهيم السياسية الحديثة، كالعدالة الاجتماعية وحرية الصحافة وتشكيل الأحزاب وسيادة القانون واعتماد خطاب سياسي عقلاني داخلي وخارجي.

العنف الرمزي

لم يكن أمام «البارادايم الثوري التقليدي» لتعطيل اندفاعة مشروع التيار الإصلاحي إلا العنف الرمزي والجسدي، فجرى استغلال القضاء لشرعنة هذا العنف الممنهج ضد رموز التيار الإصلاحي من اعتداء جسدي واعتقالات وإغلاق عشرات الصحف والمجلات بدافع إيديولوجي زائف، هو الرغبة في الحد من الانقسامات الاجتماعية والتناقضات السياسية، تحقيقاً للشكل الاندماجي السياسي الديني القسري بولاية الفقيه (الثيوقراطية) الذي يعدّه الباحث ناصيف نصار من أسوأ أشكال الاندماجات السياسية القديمة والحديثة. إنه شكل من أشكال التنظيم اللينيني العنفي المنظم الذي عرفته الأحزاب والقوى السوفييتية المستقلة أبان حكم لينين، هذا الشكل التنظيمي المرعب استدعته الأحزاب الأشتراكية - الثورية والأحزاب القومية - البعثية في الوطن العربي، لتصفية خصومها وبثّ الرعب في المجتمع للاستفراد بالسلطة عبر مأسسة الاستبداد، هذه المأسسة مسؤولة عن انكسار عزة المسلمين وكرامتهم أمام العالم المتحضر.
والسؤال الملح: كيف نجح «البارادايم الثوري التقليدي» في الإطاحة بالتيار الإصلاحي والسيطرة على الوضع السياسي - الإجتماعي مع اقتراب نهاية الفترة الرئاسية الثانية 2004؟ لعل من المفيد أن نستحضر رأي الباحث الفرنسي تري كوفييل في كتابه «إيران الثورة الخفية»، فهو يعتقد أن نجاح الإطاحة بالتيار الإصلاحي عائد إلى سيطرة المحافظين على أقوى الوزارات، وهي الداخلية والاستخبارات والدفاع والمالية، إذ تم تسخير كل إمكانات تلك الوزارات، لتحطيم دعائم التيار الإصلاحي، ويأتي على رأسها البُنى المؤسساتية السياسية الفاعلة. علامات انكسار «البارادايم الثوري التقليدي» عند السيف واقع، تعود إلى اللحظة التأسيسية الأولى للجمهورية حين تخيّل الخميني أن الجمهورية الإسلامية لا تحتاج سوى حكومة إسلامية صغيرة الحجم وبسيطة التنظيم، وأنه لا داعي للمؤسسات التشريعية والقضائية الضخمة، وهذا ما اعترض عليه السيف بكل قوة، كونه يرسخ عبادة رئيس الدولة، ويهمل الدور المتعاظم لمؤسساتها، والدليل على ذلك – بحسب رأيه - هو النقد الحاد الذي وجهه الإصلاحيون بعد وفاة الخميني إلى المحافظين لفائض القهر والاضطهاد الذي وقع عليهم في ظل غياب شبه كامل للمؤسسات التشريعية والقضائية الحيادية الضامنة لحقوقهم المشروعة.
فازت تيارات الإسلام السياسي في التسعينات بمقاعد برلمانية في أكثر من بلد إسلامي، واليوم تفوز بالرئاسة في تونس ومصر، وسيظل الاستبداد المحور الذاتي الفاعل في تفكيك بنية السلطة وكسرها، إذا لم تأخذ تلك التيارات موضوع فلسفة الديموقراطية بكل مقوماتها بجدية تامة.
وظّف السيف (بارادايم توماس كون) في مقاربة التجربة الإيرانية، وأستطيع أن أوظفها في وضعيته الثقافية الذاتية، فكما انكسر «بارادايم التيار الثوري التقليدي» الإيراني بضغط التطور المعرفي العلمي، انكسر «باراديم التيار التقليدي الشيعي» في الخليج للسبب المعرفي نفسه، فلم يعد باستطاعة السيف ومَن سار على خطه من المثقفين القبول بالأدبيات التنظيرية - المعرفية التقليدية التي صاغتها نخبة دينية - فقهية والمشحونة برمزية قداسة ولي الفقيه المطلق لقضايا سياسية معاصرة، وعلى رأسها حدود الديموقراطية، ونوع العلاقة بين الدين والدولة، وموقف السلطة من الحرية الشخصية والقيم الاجتماعية. فالسيف متأكد من كون الإسلام الحركي الشيعي - الذي ينتمي هو إليه - أقدر على فهم جدلية العلاقة بين الواقع المتغير والنص الديني والعقل الفلسفي. تبقى فرضية المشاركة الشعبية الواسعة في القرار السياسي الرهان الأكثر حضوراً في منهجية الفكر الفلسفي السياسي للسيف، كقاعدة استقرارية للدولة، ولعل إصبع سبابة المرأة الحسناء التي وُضعت على غلاف كتابه «حدود الديموقراطية الدينية» تجسّد أفضل تجسيد، مصداق راهنية السيف على تلك الفرضية.

الحياة : الأحد 12 فبراير  ٢٠١٣
http://alhayat.com/Details/482085

مقالات ذات علاقة

المضمون السياسي للجدل حول حقوق المرأة السعودية


لا أظننا سننتهي من الجدل حول موقع المرأة في النظام الاجتماعي ، طالما يواصل فريق من المجتمع إصراره على أنه ليس مجرد شريك في هذا النظام مثل سائر المواطنين ، بل هو صانع السوق وقسيم الحصص والقيم والأدوار.

لا يختلف هذا الجدل عن نظائره في البلدان العربية  الأخرى ، فهو ينطوي على أبعاد ثلاثة رئيسة:
البعد الأول: فقهي، يتناول تكييفات وأحكاما شرعية، نعرف اليوم أنها محل اختلاف بين الفقهاء. إذا أخذنا تولي النساء المناصب العامة مثالا، فقد اتفق قدامى الفقهاء على تحريمه بالجملة، بينما نجد كثيرا من فقهاء اليوم يجيزونه بالجملة، أو يجيزون بعض صوره، هذه إذن مسألة خلافية.

البعد الثاني: يتعلق بحقوق الإنسان، فالدعم القانوني للحكم بتحريم أو إجازة عمل النساء، يقود بالضرورة إلى إقرار أو حجب حقوق لنصف المجتمع. البلد - كما نعرف - ملك لجميع أهله، وحجب حقوق النساء يعني استئثار نصف الشركاء بالحقوق المشتركة بين الجميع.
كثير من النساء حرمن من حيازة حقوقهن أو من التصرف فيها، نتيجة لعدم حسم المسألة على المستوى القانوني. من ذلك مثلا التعقيدات الخاصة بالسفر ومراجعة الدوائر الحكومية، والتقاضي، فضلا عن القيود الاجتماعية. الجدل حول مكانة المرأة ودورها يتناول إذن، وبالضرورة، الإقرار الواقعي أو الحجب الواقعي لحقوق مقررة ومعترف بها.
البعد الثالث: يتعلق بتوازنات القوى الاجتماعية، فالنزاع حول عمل النساء والدعوة إليه يدور بين شريحتين في المجتمع العربي تحملان سمات ثقافية وهموما وانشغالات متناقضة.
كل من هاتين الجبهتين تدعو لرؤية حول حقوق النساء والتنظيم الاجتماعي، مغايرة تماما للرؤية الثانية، مثلما تحمل الجبهتان أهدافا وتطلعات ورؤية عامة للحياة، تتعارض مع رؤية الأخرى. هذا الجدل، يمثل إذن، أحد تمظهرات الصراع حول المساحة الاجتماعية التي يشغلها أو يؤثر فيها كل من الاتجاهين.
هذه الأبعاد الثلاثة توضح أن الجدل القائم حول عمل النساء وحقوقهن، لا يتعلق فقط برأي فقهي، بل هو جزء من جدل أوسع حول الأدوار والمكانة الاجتماعية ونطاقات التأثير، أي النفوذ الاجتماعي لفريقين يتصارعان: فريق سائد يستمد قوته من تقاليد موروثة وأعراف مستقرة، وفريق يستمد قوته من متغيرات تعرف عليها المجتمع في سياق حركة التحديث.
إذا نظرت للمسألة من جانبها الفقهي البحت، فستضطر للتركيز على تفاصيل المسألة. وإذا نظرت إليها من جانبها السياسي فستحتاج إلى تحديد مكانك في الجدل، في هذه الجبهة أو تلك. وأظن أن البعد الأخير هو ما يجعل الجدل ساخنا واستثنائيا.
الاقتصادية 12 فبراير 2013

http://www.aleqt.com/2013/02/12/article_731141.html

22/01/2013

فلان المتشدد

لا نستطيع التعويل على وصف الناس لأنفسهم ، في الحكم عليهم بالتسامح أو التشدد. كما لا نستطيع الاتكال على وصف أعدائهم لهم. علمتني التجربة أن أحكام الناس على بعضهم تنطلق في أغلب الأحيان من مواقف شخصية أو سياسية. صديقك سيرى شخصك وفعلك بعين الرضا، وعدوك أو منافسك سيراك بعين البغض أو الارتياب.


معيار التشدد والتسامح ليس وصف الإنسان نفسه وليس تقييم أصحابه له، وليس بالتأكيد تقييم المنافسين له ولأعماله. لا يمكن أيضا الركون إلى الأوصاف المتداولة في المجال العام، فهي انطباعية في الغالب، روجها شخص ما وتداولها الآخرون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التساؤل عما إذا كانت تحليلا محايدا أو مجرد تنميط سطحي.

هذا يجعل الأمر أكثر صعوبة، لكنه يضطرنا، وهذا هو الجانب المشرق في المسألة، إلى البحث عن معايير أكثر موضوعية قبل أن نحكم على الآخرين. وأود هنا اقتراح معيارين يتصفان - في ظني - بالموضوعية، هما معيار التسامح ومعيار الليونة أو الشدة في التعبير:

1- جوهر مبدأ التسامح هو الإقرار بحق الآخرين في مخالفتك: كل منا يعطي لنفسه الحق في اختيار فكرة أو عقيدة أو منهج حياة أو طريقة عمل يراها حقا، وربما استشهد لأجلها بالكتاب والسنة... إلخ، وهو بالتأكيد سيدافع عن هذه الخيارات إذا تعرضت للنقد أو طولب بالتخلي عنها.

الحق الذي أعطيته لنفسك، هو ذاته الحق الذي يجب أن تقر به للآخرين. طبقا للمأثور عن الإمام علي بن أبي طالب- عليه السلام- فإن الحق ''لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري على أحد إلا جرى له''، فالمتشدد هو من ينكر على الآخرين حقوقا أعطاها لنفسه، أو يعاقبهم لو طالبوا بحقوق كالتي أقرها لنفسه، هذا معيار عام ومطلق في كل الأحوال.

2- لأن الإنسان كائن اجتماعي، فإن علاقته مع الآخرين تشكل معظم نشاطه الحيوي. المتشدد هو الذي يتعامل مع الآخرين بخشونة، ويخاطبهم بخشونة، أو يتحدث عنهم بخشونة. بخلاف المعتدل الذي يتبع اللطيف واللين في كل الأحوال. سلوك المتشدد يتسم بالخشونة، حتى في معاملة أصدقائه ومناصريه إذا اختلفوا معه، بينما يلتزم المعتدل سلوكا لينا حتى مع أعدائه. هذا معيار نسبي يرتبط بالعرف الاجتماعي السائد. نحكم على سلوك معين بالخشونة أو الاعتدال رجوعا إلى عرف المجتمع أو الزمن الذي نحن فيه، وهذا قد يختلف من مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر.

الاقتصادية 22 يناير 2013
http://www.aleqt.com/2013/01/22/article_726541.html

مقالات ذات علاقة

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

العامل السعودي 

غلو .. ام بحث عن هوية

16/01/2013

في كمال الاسلام وشموله


"مقتطف من كتاب الحداثة كحاجة دينية"

قال لي صاحبي: الذين دعوا بتلك الدعوات ، انطلقوا من حمية دينية وحرص على الدين. وهم يقيمون دعواهم على قاعدة ان الدين كامل شامل ، وان كتاب الله سبحانه قد احاط بكل شيء ، وما ترك شيئا الا بينه واوضحه ، قال تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء – الانعام 38).
قلت لصاحبي: سؤالك هذا يقودنا الى مناقشات كثيرة ، غير ما نحن بصدده. لكني اجيبك على سبيل الاختصار الشديد على فكرة كمال الدين وشموله. فالذي نتفق عليه هو كمال الدين. والكمال وصف للكيف "الكمال يقابل النقص". فلا شك ان الاسلام ليس بناقص.
اما الشمول فهو وصف كمي. ولو افترضنا ان شمول الاسلام منصرف الى معنى ان فيه حكما لكل شأن من شؤون الحياة ، فلا شك ان هذا غير صحيح. اذا لا يطلب منا اسلامنا ان نعود اليه في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة. الا ترى اننا نقوم يوميا بعشرات من الاعمال التي لا نرجع فيها الى الفقيه ، بل الى عقولنا او الى اهل الاختصاص ، كالمهندس والطبيب وغيرهم. فهذه الامور ليست ضمن مجالات اشتغال الدين ، بل هي امور عقلية لا تكليف فيها ولا الزام ، ولا تدخل ضمن دائرة الثواب والعقاب او الواجب والمحرم.
 وبالمناسبة فهذا النقاش ليس جديدا ، فقد تطرق اليه بعض قدامى الفقهاء. وقد احتج بنفس المقولة الشيخ يوسف البحراني (ت-1772م) ، مستدلا بالاية السابقة وبقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين-النحل 89)، ورد عليه الشيخ احمد النراقي (ت-1828م) بان المقصود هو ما يقتضي شأنه ووظيفته بيانه ، لا كل شيء على نحو الاطلاق. فالبديهي ان كثيرا من الامور لم تبين في الكتاب ، سواء الكتاب في معنى القرآن او في معنى الشريعة. وذلك لانها ليست مما هو مطلوب من الكتاب بيانه. كما ان عدم البيان لا يوجب الظن بالنقص فعدم بيان ما ليس مطلوبا ليس مظنة نقص. بل لعل بيان غير المطلوب يعد تكلفا. والتكلف مما يعاب على الكامل [1]. اما حمية اولئك الدعاة وحرصهم على دينهم ، فهي شعور مشكور ودليل على صلاح نيتهم ، ونسأل الله ان يثيبهم عليها. لكن صلاح النية شيء وصلاح العمل شيء اخر. الا ترى ان بعض الاباء يضربون ابناءهم بقصد التهذيب ، فيؤدي ذلك الى كراهية الابناء للاباء. بل الا ترى ان تشدد بعض قومنا في الزام غيرهم بطريقة تدينهم الخاصة ، قد ادى الى نفور هؤلاء من الدين كليا. فهذا وذاك دليل على ان النية الصالحة غير العمل الصالح. وقد كان حديثنا عن العمل وليس عن النية.

وعطفا على حديثنا السابق. اقول ان ذلك التكلف في ربط كل شيء بالاسلام ، قد عمق التفارق بين العلم والهوية الذي اشرنا اليه. كل مسلم في هذا اليوم ، يريد المحافظة على هويته ، ويريد في الوقت نفسه الحصول على العلوم الحديثة التي تطورت عند الغرب. نحن نعلم ان لا سبيل للحصول على العلم سوى بالتعلم من اهله. لكن بالنظر لما قلنا من تفارق ، فقد اصبحنا نعيش حياة مزدوجة: نرغب في ان نكون مثل الغرب في علمه وتقدمه وقوة مجتمعه ، وفي الوقت نفسه نعتبرها غير سليمة وغير مشروعة. وقد ادت هذه الازدواجية ، الى التضحية بجوهر مطلبنا ، اي التعلم واعادة انتاج العلم ، واستبدالها باستهلاك منتجات ذلك العلم. ترى دعاتنا مثلا ، بل جميع قومنا ، يتبارون في استخدام احدث التجهيزات التي انتجها العلم الغربي في كل مجال من مجالات الحياة. لكنهم لا يتوقفون عن شتم الغرب الذي انتج لهم هذه الاشياء.
ولو اقتصر الامر على الشتيمة لهان الامر.  لكن وراء هذا التركيز على التمايز والعداوة يكمن خلط رهيب بين فكرتين مختلفتين تماما: فكرة الاستقلال عن الغرب ، وفكرة الانفصال عنه. وقد كان الجدير بهم ان يركزوا على الاولى. اما الثانية فمستحيلة ، ومآلها تكريس الحاجة الى الغرب ، والبقاء متكلين عليه. 
فكرة الاستقلال تعني بالضبط: السعي للاكتفاء الذاتي في كل مجال ، في العلوم والاقتصاد والثفافة وغيرها. واول هذا السعي هو الانفتاح على الغرب للتعلم منه ، ثم اعادة انتاج ما تعلمناه ضمن اطارنا الثقافي الخاص. فاذا نجحنا في هذا المسعى ، فسوف نكون اندادا للغرب ، قادرين على الاستقلال عنه. ولا يضيرنا يومئذ الاتصال به او التعاون معه ، لان القوي والمكتفي لا يتاثر سلبيا بالتعاون مع منافسيه.
 اما فكرة الانفصال فان تطبيقها الفعلي هو التناكر مع الغرب ، اي الغاء القيمة المعنوية للعلم الذي نحصل عليه منه. ومآل هذا هو كسر السلسلة الطبيعية المفترضة لتطور العلم ، اي الانتقال من التعلم الى اعادة انتاج العلم ، ضمن الاطار الثقافي الخاص. وهذا ما نجده اليوم واقعا يمشى على قدمين. لقد تعلم عشرات الالاف من المسلمين في الغرب. لكن تلك العلوم لا تحصل على التقدير والقيمة التي تليق بها بين قومهم. ولهذا فان الاغلبية الساحقة من هؤلاء المتعلمين ، تكتفي بما تعلمته ولا تسعى الى تطويره ، اي لا تتعامل مع المرحلة الاولى كبداية لسلسلة ، بل هي بالنسبة اليها بداية ونهاية.





[1] قال البحراني بان الاخبار مستفيضة في ان كل حكم مبين في الكتاب والسنة حتى ارش الخدش. يوسف البحراني: الحدائق الناضرة (بيروت 1993) ، دار الاضواء ، ج. 24 ، ص. 382.  وعقد الكليني بابا خاصا عنوانه (باب الرد إلى الكتاب والسنة وانه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس اليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة) انظر الكليني : الكافي 1/113.
وهوّن النراقي من شأن الروايات الواردة بهذا الشأن واصفا اياها باخبار الاحاد ، وقال ان معناها بالتحديد هو ان ما كان فيه حكم ، فقد بين القرآن أو السنة ذلك الحكم ، لا انهما قد بينا الحكم في كل موضوع. احمد النراقي: عوائد الايام ، (قم 1408) ، مكتبة بصيرتي، ص. 123
ومن المحتمل ان راي النراقي كان يستهدف التاكيد على وجود دائرة من الاعمال خارج حدود التكليف ، ضمن الجدل القائم حول تعريف الاباحة وما اذا كانت حكما ام لا ، ومن المتفق عليه ان هناك موضوعات كثيرة لم ترد فيها احكام في القرآن والسنة ، وابرزها الموضوعات التي ظهرت بعد انتهاء عصر النص ، لكن البعض يجادل في ان هذه الموضوعات قابلة للتكييف ضمن احد الاطارات التي تندرج تحت القواعد الشرعية العامة ، واقترح المرحوم الصدر دائرة موضوعية للمستجدات اطلق عليها اسم منطقة الفراغ التشريعي ، وذهب إلى ان كثيرا من احكامها يستنبط استنادا إلى القواعد العامة والترجيح بين المصالح.

(كتاب) الحداثة كحاجة دينية

هذه مرافعة على شكل حوار بين عقلين حول واحد من اهم الاسئلة في واكثرها اثارة للحرج في ثقافتنا الدينية المعاصرة ...
 سؤال: كيف ينهض المسلمون من سباتهم المزمن ، وكيف يعودون الى قطار الحضارة بعدما نزلوا او انزلوا منه.
هي سلسلة من التساؤلات يتلو كلا منها ما يشبه الجواب ، لكنه جواب مؤقت ، اذ لا يلبث ان يثير سؤالا اخر يتلوه جواب اولي وهكذا. فالغرض اذن ليس تقديم اجوبة نهائية. ... هذه المرافعة تحاول اثارة ذهن القاريء ومجادلته ودفعه للتفكير في السؤال.
 في ظني ان تفكيك وتفصيح سؤال النهضة هو بذاته الجواب عليه .

للقراءة براحة اكثر اضغط هنا

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...