02/03/1997

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

عند مطلع القرن العشرين شهدت ايران انتفاضة شعبية ، استهدفت تحديد سلطات الشاه مظفر الدين القاجاري ، وعرفت تاريخيا باسم ثورة الدستور ، وشهد الجدل حول صورة الحكم ، ظهور فكرة الدولة الاسلامية التي طرحت يومها تحت عنوان (الدستورية المشروعة) واراد اصحاب هذه الفكرة وضع السلطة تحت وصاية الفقهاء ، الذين يصنفون في الفقه الشيعي باعتبارهم الحكام الشرعيين ونواب الامام المعصوم، لكن الثورة الدستورية فشلت بعد سنوات قليلة فحسب، ولم يتحقق اي من اهدافها، لا تحديد سلطات الشاه ولا اخضاعه لوصاية الفقهاء.

ومنذئذ اختار المجتمع الديني اعتزال السياسة ، وتعزز هذا الاتجاه اثر الحرب العالمية الاولى ، وسقوط الخلافة العثمانية ، الرمز الوحيد الباقي من رموز الدولة الاسلامية القديمة ، وخلال نصف القرن التالي لم تطرح فكرة الدولة الاسلامية كمطلب تتبناه جماعة سياسية ، حتى لقد تشكك كثـير من الناس ـ حينما طرحت لاول مرة ـ في قدرة الاسلام على تاسيس دولة او قدرة الجماعات التي تصنف باعتبارها اسلامية على ممارسة السلطة ، وقد اشار الاستاذ محمد جلال كشك في سلسلة مقالات نشرها عام 1979 الى جدل دار احيانا بين المرحوم حسن البنا وتلاميذه حول قدرة الاسلاميين على ممارسة الحكم فيما لو اتيحت لهم الفرصة .

لكن الامر لم يبق هكذا ، فمنذ أواخر السبعينات دخل المشروع الاسلامي طور التطبيق في الحياة السياسية مضمونا لأنظمة حكم ، أو لتيارات تسعى علنا الى الحكم ، شأنه في ذلك شأن اي تيار اجتماعي او سياسي ، يسعى لاكتساب القوة المادية وممارسة القيادة ، بغض النظر عن مثالية الأفكار التي يعبر عنها او يتبناها .
ومنذ بواكير الصحوة الجديدة ، جرى عرض المشروع الاسلامي باعتباره بديلا عن الانظمة القائمة ، غير قابل للنقاش او التجزيء ، فلم يوضع على طاولة واحدة مع المشروعات الاخرى المنافسة لكي يختار الشعب ما يشاء ، ذلك ان الاسلام لم يكن ـ في نظر الاسلاميين ـ خيارا للناس ، بل ضرورة  يتوجب عليهم قبولها باعتباره رسالة الله للانسان ، وباعتباره البديل الوحيد الذي يتمتع بالمشروعية عند العرض وعند التطبيق .

ويبدو لي ان اسلوب العرض هذا ، قد تسبب ـ رغم قيامه على مبررات نظرية مقبولة ـ في تعطيل المشروع الاسلامي ، فقد أبقته وحدانيته ونفوره من المنافس ، سجين العناوين العامة ، لقد تحاشى التفاصيل ، من اجل المحافظة على قدر اكبر من الالتفاف الشعبي حوله ، فاذا تجاوز الكليات الى الجزئيات ، تحول الى موضوع اختلاف بل تنازع في بعض الاحيان ، والسر في هذا التحول ، يكمن في حقيقة ان الاسلاميين مختلفون في فهم القواعد والنصوص والاساسات ، التي تشكل المصـادر الفكرية لهذا المشروع .

وبسبب هذا الاختلاف فان الجماعات الاسلامية التي تتبنى مشروعات للتغيير ، تزيد عددا عن معظم الجماعات الاخرى غير الاسلامية ، ولا تخطيء العين ، مظاهر الاختلاف الوسيع ، بل التناقض احيانا ، بين هذا المشروع وذاك ، مع انها جميعا تدعي الصدور عن الاسلام والوفاء لاراداته ، واذا لم يكن هذا الاختلاف مدعاة للقلق ، من حيث انه تعبير عن حيوية في التفكير واتساع لنطاق الاجتهاد ، فان المقلق حقا هو اعتبار كل جماعة ان مشروعها مجسد لحقيقة الاسلام ، تجسيدا وحيدا منفردا ، لا يدع محلا لفصيل آخر كي يقول رايه او يعلن مشروعه ، فهي مشروعات متباينة وليست متكاملة ، مشروعات تحكم على بعضها بالابتداع والمروق من الدين ، ولاتقبل كونها صادرة عن جهد عقلي كما كل مشروع او فكرة ، فكأن كل فريق استعار ـ من حيث لا يدري ـ صفة الخالق العالم  بالحقيقة الكاملة ، وجلس في كرسي المشرع الذي لا يخطيء حين يقول الحكم .

على انه لا ينبغي الاسراف في توجيه الملام ، فثمة جماعات وثمة علماء وثمة سياسيون يطرحون مشروعاتهم باعتبارها اجتهادا ، يحترمونه قدر ما يحترمون غيره ، ويقدمونه باعتباره اصوب الخيارات ، في الوقت الذي لا ينفون بالمطلق احتمال صواب الغير ، واجد ان هذا التيار السليم يتسع تدريجيا ويحتل مكان التيار الاول ، وهو يميل الى اقناع الناس بمشروعه لا الى فرضه عليهم ، باعتبار الدعوة تبشـيرا وانذارا ، لا منهج سيطرة وتحكم في العقول او الرقاب .
وعلى أي حال فانه ينبغي للاسلاميين ، الانطلاق من وجوب الاحسان والحكمة في الدعوة الى الله ، والصبر على الناس ، حتى يأذن الله فتنفتح القلوب وتقبل النفوس  .

فاذا وافق حملة المشروع السياسي الاسلامي على طرح مشروعهم هذا أمام الشعب ، وعرضه للمقارنة مع المشروعات الأخرى ، فينبغي ان لا تضيق صدورهم حينما يتوجه النقد الى المشروع ، اساساته او تفصيلاته ، إن عليهم التحلي بالكثير من الصبر ، لأن النقـد سيكون موجها في حقيقة الأمر الى كل شيء لديهم ، بما فيه فهمهم للاسلام  .

تستمد الدعوة الى فتح الابواب امام النقد اهميتها ، من ارتباطه الوثيق بموضوع الاجتهاد ، حيث يشعر الجميع  بان حاجة المسلمين اليوم ، تدعو الى تجاوز شجاع لظروف الحقب السابقة ، بكل ما فيها من معوقات ثقافية واجتماعية ، جعلت القكر الاسلامي محصورا في اطار ضيق ، دفاعي او تبريري في الغالب ، اننا بحاجة اليوم الى اجتهاد يجـيب على حاجات عصرنا ، ويتناول خصوصا الامور العامة ، ذات التأثير المباشر او غير المباشر على معظم الناس ، في الشان السياسي وفي غيره من الشؤون ، التي لا تتعلق بفرد واحد او عدد معين من الافراد ، بل بعامة المسلمين ، او على الاقل بعامة المسلمين من اهل قطر معين من الاقطار الاسلامية ، لا سيما في المرحلة الحالية ، التي تشهد تناميا في شعور المسلمين بقدرة دينهم وكفاءته ، كمشروع لادارة المجتمع وتنظيمه ، بالمقارنة مع المشروعات الاخرى .

ان الحركة المستقيمة والمتنامية للاجتهاد ، لا تقوم بغير قبول النقد وأدواته ، كواحد من المدخلات الرئيسية للمعرفة الجديدة والتفكـير الجديد ، النقد لما ابدعته عقولنا من تصورات عن  الشريعة ، او لما ورثناه من تصورات الاسلاف .

 لقد تراجعت حرية الرأي في المجتمع الاسلامي مع اغلاق باب الاجتهاد ، ثم انكفائه على  نفسه وافتصار مجال اشتغاله على اعادة انتاج تحليلات علماء الازمنة السالفة ، دون ابداع او تجديد ، حتى انتهى به الامر الى اضفاء رداء القداسة على تلك الاجتهادات والتحليلات وعصمها عن النقد ، ان الاجتهاد الكامل هو الممارسة المثلى لحرية الرأي والنقد ، المنتجة للافكار الجديدة والخلاقة .

ان فتح الأبواب أمام النقد ، يساعد على حل معضلة التوقف امام تراثنا التاريخي ، الذي يمثل اليوم قاعدتنا الثقافية ، فقيام تقاليد متكاملة في نقد الفكر ، يعين على ارساء معايير للتعامل مع هذا التراث الضخم ، ولاسيما في وضع سلم للتناسب بينه وبين الفكر المعاصر ، الناتج عن اجتهادات لعلماء ، او عن ظهور حقائق علمية لم تكن معروفة في الماضي ، ثمة من ينظر الى التراث الاسلامي كما لو كان دينا ، ويعتبر التعرض له بالنقد والمناقشة تجاوزا للمقدسات ، كما لو كان الفكر والتفكير الاسلامي ، نهرا آسنا جف نبعه وتوقف عن الجريان ، مع انقراض اهل القرون المفضلة .

 ان تعاملا علميا وصحيحا مع التراث التاريخي للامة الاسلامية ، سيعين على حل المعضلة ، بعد تاخير انتج اشكالات اساسية ، في العلاقة بين الثقافة والنهضة ، وبينها وبين الهوية ، وبالتالي بين الجمهور المسلم وعصـره وبينه وبين توجهاته المستقبلية .

 وعلى الصعيد الاجتماعي فان التوصل الى ثوابت اطارية في الممارسة النقدية ، يساعد على تكييف صحيح ، للتعامل مع التيارات الاخرى في المجتمع المسلم ، التي تتبنى تفسيرا للاسلام يقدم وجهة نظر تخالف ما نتبناه ، والتي لا تتبنى الاسلام كمشروع نهضوي ، فضلا عن تلك التي وقفت على جانب العداء للمشروع الاسلامي ، او اعتبرت نفسها محايدة في الصراع بين المشروع الاسلامي ومخالفـيه ، ان كثيرا من الاسلاميين ما زالوا غير واثقين من صحة التعامل مع التيارات الاخرى ، الاسلامية المخالفة او غير الاسلامية ، فثمة من يدعو الى حوار من أجل علاقة متينة ، وثمة من يعارض ما يعتبره تشريعا لوجود الفكر المتناقض مع الاسلام ، وعلى كلا الجبهتـين يوجد من ينتـقـد الاخرى ، مقيما رايه على حجج دينية أو غير دينية .

لقد اثار ظهور الاسلام السياسي اسئلة كثيرة ، لا بد من الاجابة عليها ، لان المسلمين ـ لا سيما عامتهم ـ لا يعرفون من الاسلام المعاصر ، غير كونه املا في تطبيـق الاسلام الذي جاء به رسول الله ، فجاء في رحاله العـدل الاجتماعي والأمان والتقدم والقوة ، وهم اذ يهتفون له ويستبشرون بقدومه فانما يرحبون في حقيقة الامر بالمثال الذي في اذهانهم ، والا فان ما هو معروف من المشروع الراهن ، نادر الى درجة يصعب على المثقف ، فضلا عن الانسان العادي ، اعتباره مدعاة للاستبشار .

 لقد جرت العادة على اعتبار النقد الموجه الى الاسلاميين ، كتيار ثقافي او كحركة سياسية ، نقدا للاسلام ، ووُصف الناقدون في معظم الأحيان باعتبارهم علمانيين ، وهو وصف مرادف ـ في عرف المؤمنين ـ للالحاد ، وبغض النظر عن دوافع الناقدين ، فإن من البديهيات عند طرح ايديولوجيا معينة ، كمضمون لمشروع سياسي او اجتماعي ، القبول مبدئيا بوضعها على مائدة المقارنة مع المشروعات الأخرى ، ليختار الناس ما يرونه الأفضل ، سيما اذا اراد اصحاب هذا المشروع ، ايصاله الى مستوى الحاكمية عن طريق التعبئة الشعبية ، وليس على متن الدبابات .

 لكن هذا الظرف ليس هو الوحيد ، الذي يدعو اصحاب المشروع الاسلامي ، لتفهم النقد الموجه اليهم والى طروحاتهم ، إن تحولات العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين ، توجب اعادة تقييم للكثير من الطروحات ، ومضامين الخطاب الاجتماعي للاسلام المعاصر ، الاسلام بوصفه حركة اجتماعية ومشروعا للمستقبل ، النقد اذن هو الطريق الوحيد للانتقال بالاسلام من التاريخ الى الحاضر ، وما لم يتمكن المشروع الاسلامي من تجاوز حاجز المعاصرة ، فان الامل في ان يكون سفينة الانقاذ ، لن يكون غير طريق لاحباط جديد يضاف الى قائمة الاحباطات .

الراي العام 2 مارس 1997

مقالات  ذات علاقة
-------------------


23/02/1997

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة


حين بدأت بالكتابة عن قضايا الحركة الاسلامية المعاصرة في هذه الجريدة ، ان لا يرتاح اليها بعض القراء ، سيما الذين يتوجسون خيفة من الجدل في الامور التي يعتبرونها مقدسة او فوق مستوى التناول في الصحافة العامة ، لكني اشعر الان بالارتياح لان بعض الذين اعتادوا على اصدار الاحكام قبل القراءة تعاملوا هذه المرة بلطف بالغ ، فكتب بعضهم الي ناقدا ما عرضته من افكار ، اومدافعا عن مواقف كنت قد تناولتها بالنقد ، وتحدث بعض عاتبا علي تناول الحركة الاسلامية والمشروع الاسلامي كما لو كان نطيحة ، في الوقت الذي اصبح هذا المشروع هدفا لسهام الاعداء شرقا وغربا.

ومع اني واثق تمام الثقة في ان اي كاتب لا يمكن ان يكون بلا اخطاء ، ولا بد اني قد ارتكبت اخطاء في مكان ما ، الا اني أجد ان هذه المقالات قد ادت بعضا من اغراضها ، فهي على الاقل شجعت قليلا ممن اتجه الحديث اليهم ، على اعادة النظر في مفاهيم ، كانوا يحسبونها من قبل في عداد المسلمات .

كان ينبغي ان يكون المقال الذي بين يدي القاريء ، هو الاول في سلسلة حول مشروعية نقد الفكر الاسلامي والمشروع الاسلامي ، وكنت ازعم ارساله الى الصحيفة قبل اي مقال آخر ، فاخترت له عنوان (نقد المشروع الاسلامي) لكن احد الزملاء الذين اعتدت تبادل الراي معهم ، وجد ـ حين عرضت عليه المقالة ـ ان  العنوان ينطوي على قدر كبير من الفجاجة ، ذلك ان معظم القراء لا يوافقون على نقد المشروع الاسلامي ، وسيظن بعضهم ان المقصود هو نقد الاسلام بذاته ، فمعظم الناس لا يفرق بين الاسلام في صورته النظرية الاصلية ، وصورته بعد ان يعمل فيه المجتهدون عقولهم ، فيحولونه الى مشروع للتطبيق مرتبط بالزمان والمكان ، وقد دعاني ذلك الى عرض الفكرة مجددا على زملاء آخرين ، وجدت عندهم نفس الانطباع ، الامر الذي دعاني الى تأخير ارساله للنشر ، مع انه اكد لي اهمية الدعوة الى طرح المشروع الاسلامي في صيغه التطبيقية ، بعد ان بقينا ردحا طويلا من الزمن نعرضه للناس كاقوال مجردة ، مثالية تنحو صوب الامنية ، ويسيطر عليها المضمون الاخلاقي ، وتخاطب الفرد ، اكثر مما تتجه الى صور التطبيق في اطار القانون الموجه الى الجماعة السياسية ، ان طرح المشروع الاسلامي في صيغته القابلة للتطبيق ، يستوجب ابتداء اعتباره مشروعا بشريا متاحا للنقاش ، لا كلاما منزلا من عند رب السماء .

منذ ان وجد البشر على هذه الارض ، وهم يسعون لوضع المنهج الذي ينظم امور حياتهم ويشكل سبيلهم الى التقدم والمدنية  ، وشهدت العصور الحديثة ظهورا متزايدا للعقائد والايديولوجيات ، التي تدعي القدرة على القيام بهذه المهمة ، لكن ايا من هذه الايديولوجيات لا يدعي قدرته على تجاوز زمنه ، ولو ادعى هذا لما اخذ على محمل الجد ، ذلك ان الذين وضعوها متأثرون ـ قهرا ـ بخلفيتهم الثقافية ، التي تتشكل في ظروف الزمان والمكان المعين ، وهي لهذا السبب غير قادرة على معالجة الموضوعات المماثلة في الظروف الزمانية او المكانية المختلفة  ، خاصة بالنظر الى اختلاف المبررات التي تقوم عليها الايديولوجيا البشرية ، المبررات التي تشكلها حاجات المحيط المحدود زمانيا او جغرافيا .

اما بالنسبة للاسلام فان كل مسلم يعتقد ان الدين كما انزله الله ، قادر على عبور الزمان والمكان ، ذلك ان الذي ابدعه ليس متأثرا بظروف معينة او اوضاع معينة ، فهو خالق الكون والمكان والمهيمن على الحياة والازمان  .

ويتمتع الدين الاسلامي بقايلية عظيمة للتجدد والبقاء شابا فعالا ، مهما تطاول الزمن او بَعُد زمن الوحي ، وبهذه القدرة على التجدد ، فانه مؤهل للتعامل مع مشكلات الانسان المعاصرة ، بذات الكفاءة والفاعلية التي عالج بها حاجات الانسان قبل اربعة عشر قرنا من الزمان .

ان السر في هذه القدرة يكمن في تعالي النص الديني على الافهام البشرية ، المرتهنة ـ بالضرورة ـ لظروف الزمان والمكان ، فاذا ابقينا النص في تجريده ، فانه سيتيح لنا امكانية الفهم المتجدد في كل زمن ، اما اذا قيدناه بقيود البيئة فسيكون ـ كسائر الايديولوجيات البشرية ـ مؤقتا ومحدودا ، ومرتهنا للشروط الخاصة بتلك البيئة ، وفي هذا يروى عن عبد الله بن عباس الذي اشتهر بلقب ترجمان القرآن  قوله ( لا تفسروا القرآن فان الدهر يفسره)  وفي هذا القول اشارة ذكية الى الحقيقة التي لا يمكن انكارها ، حقيقة ان فهم الاجيال المتاخرة للقرآن ستكون اعمق واشمل من فهم الاجيال المتقدمة ، على الرغم من قرب هذه لزمن النزول وبعد الاخرى عنه .




ان فهم القرآن في زمن سيكون مشروطا بمستوى العلم والعقول في ذلك الزمن ، ونعلم ان تقدم الزمان يتوازى غالبا مع تقدم العلم ونضج العقل البشري ، واذا كان الاولون اقدر على فهم المؤدى المباشر للنص في احكام العبادات ذات الطبيعة الثابتة ، فان معظم توجيهات القران واحكامه لا تتعلق بالعبادات ، بل تتعلق بمجمل نواحي الحياة ، وفهمها محكوم بمستوى حياة الناس وعقولهم في كل حقبة ، ويتفق الاصوليون على ان الايات التي تتضمن احكاما مباشرة لا تتجاوز 500 آية ، تعادل نحو  ثمانية بالمائة فقط من مجموع القرآن الذي يحوي 6666 آية ، وقد روى البيهقي بسنده عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قوله في شأن القرآن (أن الله تبارك وتعالى لم يجعله لـزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعنـد كل قـوم غض إلى يـوم القيامـة) ومنه يتضح ان كل عصر يفهم القرآن فهما جديدا ، يتجاوز ما فهمه العصر السابق ، فيبقى القرآن موردا غضا في كل عصر .

ويبدو لي ان هذه النقطة هي محط الجدل بين علماء الاسلام ورجاله ، طوال الازمنة التالية لظهوره ، فنادرا ما وجدنا جدلا في النص ذاته ، جدل ينطوي على انكاره او انكار فائدته ، وفي الحالات التي بادر احدهم الى تشكيك من أي مستوى في النص ، فقد جرى طرد مادة الجدل من التيار واعتبرت اجنبية أو شاذة ، ونتيجة لهذا الحفاظ الشديد ، فقد بقي النص الديني (القرآن والسنة) محافظا على مكانته ، كمصدر اول للتشريع وميزان يرجع اليه عند الاختلاف .

لكن في المقابل فقد دار الكثير من النقاش واحيانا النزاع حول فهم النص ، وفي بعض الاحيان قام بعض الاسلاميين ، رجال علم او رجال سياسة ، بنفي غيرهم او محاربة رايه انطلاقا من ان فهمهم للنص هو الفهم الوحيد الصحيح او الصالح ، وانه الوحيد المعبر عن مراد الخالق والمتمتع بالشرعية المطلقة .

ان ادعاء التفرد بمعرفة النص الشرعي او ادراك مراد الخالق ، هو نوع من التجاوز على مقام الخالق سبحانه ، فهو يفرغ المراد الرباني في سلة الفهم البشري القاصر ، او يجرد الحكم من مجاله التطبيقي الواقعي ويجعله متعاليا مستحيل التطبيق ، واجد من المناسب هنا استحضار الاشارة القوية للامام على بن ابي طالب ، الى هذا المعنى في رده على قول الخوارج ، حين قالوا بان (لاحكم الا لله) ونادوا برفض تحكيم الرجال في دين الله ، فرد الامام عليهم بالقول ( كلمة حق يراد باطل . نعم إنـه لاحكم إلا للـه ، ولكن هـؤلاء يقـولـون لا إمـرة إلا للـه ، وانه لابد للناس من أمير بـر أو فاجـر  يعمل في إمـرتـه المـؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الاجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العـدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بـر ويستـراح من فاجـر )  فميز امير المؤمنين بين الحاكمية العليا الثابتة لله سبحانه ، وبين الحكم المباشر في ميدان الحياة ، المتروك لاجتهاد اهل الاجتهاد ، ان هذا التمييز ضروري لوضع الحد بين ما يقبل على اطلاقه وما هو قابل للنقاش او الرد .

الثـــــوابت والمـتـغيرات

ثمة احكام تفصيلية منصوصة ، يتعلق معظمها بالعبادة واحكام الاسرة ، او ما يسمى اليوم بالاحوال الشخصية ، وفي هذه فان مجال الاجتهاد محدود ، على الرغم من ان معظم العمل الفقهي ، منذ تاسيس علم الفقه في اواخر القرن الثاني الهجري  والى اليوم ، قد دار غالبا حول محور العبادات والاحوال الشخصية ، بخلاف جانب المعاملات الذي ينتظم تحت عنوانه الجزء الاعظم من امور الحياة ، فقد تركه المشرع لاجتهاد اهل الاسلام في مختلف عصورهم ، بعد ان وضع قواعد عامة ، منطقية ومنسجمة مع العقل الطبيعي لاعتمادها في عملية الاجتهاد .

ومع اعتبار امكانية الاجتهاد المستند الى النصوص والقواعد الشرعية ، فان بوسع المسلمين الاطمئنان الى رحابة افق التشريع واتساع امكاناته .

على ان الامر لم يبق كما اراد له المشرع ، فمع التطورات السلبية التي مرت بها دولة الاسلام ، ولاسيما مع انحسار الشورى ، التي تمثل التجسيد الاوسع والاعلى للاجتهاد في الشأن العام ، فان الاجتهاد قد انكمش الى حدوده الدنيا واصبح متمحورا حول العبادات والاحوال الشخصية ، التي لا تتيح  كثرة المنصوص فيها فرصا واسعة للاجتهاد ، بل ان تكلف الاجتهاد فيها قد ادى الى تضخم فقه الثوابت بموازات انحسار شبه كامل لفقه المتغيرات ، الامر الذي ادى بالنهاية الى تجميد المعرفة الدينية وتاخير الفقه عن زمنه ، لا سيما في الامور غير العبادية .

من ناحية اخرى فان انعدام الشورى ، وغياب حرية التعبير عن الراي منذ نهاية الخلافة الراشدة ، قد غيب الجدل الفقهي في الامور العامة ، واصبح فرض الراي الواحد متعارفا ومن ثم مقبولا ، وشهدنا في اوقات مختلفة في العصر الاموي والعصور التي تلته ظهور تحالفات بين علماء وسياسيين ، تعمل على فرض راي واحد وقمع ما عداه ، وبالتالي فان تداول الراي الذي هو اساس النقد ، قد اصبح ممنوعا بل وسببا لتعريض صاحبه لافدح الاخطار .

وفي الوقت الراهن فان هناك الكثير من الاسلاميين ، من الجيل السابق او من الاجيال الجديدة يقبلون ، بل ويمارسون قمع الراي الاخر ويمنعون تعرض الاخرين لارائهم بالنقد والمناقشة ، باعتبار هذه الاراء مجسدة لصحيح الدين وحقيقـته ، وباعتبار نقدها انحرافا عن الدين او تحديا له ، ويبدو ان الامر جدي الى درجة ان احدا من الاسلاميين لا يجرؤ على طرح راي جديد او اجتهاد غير مسبوق ، خشية ان يرمى بالابتداع أو الانحراف عن الطريق القويم  .

ولهذا فانه من الضروري التاكيد دائما ، على ان فرض راي او اجتهاد او فهم محدد للنص على الاخرين ، باعتباره دينا ، سوف  يؤدي بالضرورة الى سجن النص الديني الواسع الافق والعابر للزمان والمكان ، في قفص الفهم البشري المحدود الافق ، والمرتهن لشروط الزمان والمكان .

ان التاكيد على التمايز بين الدين وفهم الدين ، بين النص وتفسير النص ، بين الحقيقة المجردة التي لا يعلمها غير الخالق  والاجتهاد الذي تتكلفه عقول البشر ، هذا التاكيد يبدو ضروريا لتخليص الدين من قيود البيئة والزاماتها ، كما انه ضروري لاتاحة الفرصة دائما لتجديد الدين ، وجعله فعالا في مواجهة الحاجات المتجددة مع الزمن .

هذا التمايز الضروري يعني اعتبار التفسير والمعرفة القائمة على الاجتهاد وعمل العقل موضوعا ثابتا للنقد والجدل ، بكلمة اخرى فان النقد الذي نتحدث عنه لا يتجه الى الدين ، بل الى فهم البشر له ، وهو لا يتجه الى النص بل الى تفسير المفسرين له .

الراي العام 23 فبراير 1997

مقالات  ذات علاقة
-------------------


08/12/1996

الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة (3 من 3 )


بين الدعاية والتحليل

يكشف التأمل في موقف الاسلاميين من الغرب ، والموقف الغربي من الحركة الاسلامية ، ان ثمة خلط بين ما هو اعلامي يستهدف استقطاب الساحة السياسية ، وما هو تحليلي يستهدف تكوين تصور دقيق للعمل ، وقد ادى هذا الخلط في معظم الاحيان الى سيطرة الاعلامي على التحليلي ، حتى اصبحت الحاجات الدعائية بوصلة للسياسة اليومية وليس العكس كما هو المفترض .
يستهدف الاعلام العدواني تعزيز مشروعية السياسات التي تختارها النخبة السياسية ، وبالطبع تعزيز نفوذها ، لكن هذه النخبة تصبح فيما بعد اسيرة للتوجه الذي صنعه الاعلام ، وتؤكد دراسة لكارلا كونينجهام ود. حسن جوهر نشرتها مجلة السياسة الدولية ، على ان التفكير السياسي الامريكي لايزال ـ بعد مرور ثلاثة عقود ـ محكوما بنظرية الدومينو ، التي جرى تطويرها خلال الحرب الفيتنامية ، لتبرير التدخل العسكري الاميركي في شرق وجنوب شرق اسيا منتصف الستينات ، ووجد الباحثان ان الموقف الامريكي من الاسلام السياسي المعاصر ، متأثر الى حد عميق بهذه النظرية التي لم يثبت صحتها في اي وقت في الماضي ، وحين تقرأ تصريحات الساسة الغربيين ، او تقرأ تحليلات الصحافة الغربية عن الحركة الاسلامية ، ستجد انها جميعا تنطلق من فهم واحد ، فحواه ان سيطرة الاسلاميين على بلد يعني ان البلد المجاور سيكون المرشح التالي ، وان هذه السيطرة تنطوي ـ بالضرورة ـ على تهديد فعلي للمصالح والسياسات الغربية .
في هذا النطاق يمكن الاشارة ايضا الى تحليلات مماثلة لدراسة صمويل هنتينجتون الشهيرة عن صراع الحضارات ، التي تدعو الى تسخين جبهة الصراع مع العالم الاسلامي ، لتعويض الصراع الذي خبا مع انهيار المعسكر الاشتراكي ، فاستمرار الغرب في تصاعده يحتاج الى عدو حقيقي او مصطنع ، يستعمل في اثارة الحماسة بين الجمهور واهل السياسة ، وعلى الصعيد الاعلامي المباشر ، نشير الى افلام من نوع (الرجل الذي رأى المستقبل) الذي يستند الى تنبؤات لكاهن قديم ، وينتهي برسالة فحواها ان العالم موعود بحرب شاملة بين الشرق والغرب ، تبدأ حين يقرر زعيم اسلامي من سلالة النبي محمد (ص) شن هجوم صاروخي على كبريات المدن الاميريكية ، مع انه ينتهي كالعادة بانتصار البطل الامريكي .

على صعيد المسلمين يجري باستمرار تطوير تحليلات وامثلة وشعارات من نفس النوع ، تؤكد على عدوانية الغرب وضرورة الاستعداد لحربه ، وقد استعملت هذه الوسائل بنجاح في تعزيز السلطة في اكثر من بلد ، كما استعملت كوسيلة لشحذ همة المواطنين وتعزيز الروح الاستقلالية في بلدان اخرى ، وتركز الجماعات السياسية في العالم الاسلامي على الدور العدواني للغرب ومخططاته الخطرة ، لتعزيز الثقة بالايديولوجيا التي تتبناها ، او لتوجيه اللوم الى الحكومات المحلية التي تعارضها ، باعتبارها حليفة للغرب .

على ان هذا النوع من التوجيه ساعد في كثير من الحالات على حجب الحقائق عن الجمهور ، واثر على قناعات السياسيين ، ان كثيرا من السياسات الغربية تجاه الاسلام وتجاه الحركة الاسلامية تنم عن سوء تقدير للحقائق الميدانية ، كما ان كثيرا من سياسات الاسلاميين تجاه الغرب تدل على الارتجال في تحديد المصالح . واعتقد ان الولايات المتحدة واوربا الغربية فوتت بعض مصالحها ، عندما تجاهلت او اساءت تقدير التحولات التي حدثت في العالم الاسلامي ، والتي يمثل ظهور الحركة الاسلامية الحديثة ابرز تجلياتها ، ومن المؤكد انه سياتي اليوم الذي تتعامل فيه مع هذه الحقيقة ، التي كان ينبغي لها ان تتفهمها قبل فوات الاوان .

ومن ناحية الحركة الاسلامية فان اعترافها بحقائق الساحة ، شرط مهم لنجاح مشروعها السياسي ، ان اتجاهات التغير في ميزان القوى هو بوصلة السياسة ، ولا شك ان النفوذ الغربي يشكل ثقلا بارزا واساسيا في الكفة الاخرى من الميزان ، ولذلك فليس من الحكمة تجاهله او استبدال المعالجة المنطقية له ، بشعارات التحذير منه .

صراع ارادات

يراهن بعض الاسلاميين على تعديل قهري في ميزان القوى على الساحات القطرية ، بتعبئة الجمهور خلف الحركة وسياساتها ، مما يمكنها من حسم الامور بغض النظر عن موقف الغرب واراداته ، وقد حقق السيد الخميني نجاحا باهرا في هذا المجال ، واثبت انه بالامكان دائما تجاوز ارادة الغرب ، حتى في بلد مثل ايران التي كانت عمودا راسخا للنفوذ الغربي في غرب آسيا ، لكن السؤال الذي يظل قائما ، هو مقدار الثمن الذي ينبغي دفعه للبدء بمشروع كهذا ، وثمن المحافظة عليه ، ويتضح من متابعة السياسة الايرانية ان الثمن كان غاليا جدا ، وهو ما دعا القيادة الايرانية الى اعادة النظر في بعض سياساتها المصنفة ضمن هذا المشروع ، ومنذ عشر سنوات نلحظ توجها ايرانيا نشطا لفتح حوار مع الغرب وحلفائه للحد من خسائر الانقطاع السابق .

من جهة ثانية فان التركيز على المؤامرة الغربية ، قد يكون تبريرا للعجز او الانسحاب من ساحة المواجهة الواقعية ، ولهذا السبب فقد ادى الى تثبيط العزائم وهدر الطاقات ، التي كان يمكن ان تكون مفيدة لو وضعت في الاتجاه الصحيح ، يقول محفوظ النحناح في هذا الصدد (اعتدنا على اصطناع شماعات نعلق عليها مشاكلنا ، ولم نجد في اعراف المسلمين حاليا من يقول ان العيب فينا وليس في غيرنا ، الا ما شذ وندر ، نحن نقول دائما بالتفسير التآمري على امتنا . . . لكن ليس لدينا من الجرأة ما نفجر به القدرات الذهنية التي لدينا .. ).

 وعلى اي حال فان معظم الحركيين يعتقدون الان ، بان في وسع الاسلام ان يفرض ذاته ، بغض النظر عن وجود مؤامرة غربية في الواقع او عدم وجودها ، وهم ـ مؤيدو نظرية المؤامرة ومعارضوها ـ يعملون بناء على هذه الرؤية .  على ان التطور البارز هو تاكيد بعض الكبار على ضرورة الحوار مع الغرب ، مثل الشيخ القرضاوي الذي يقول (لاغنى عن الحوار مع الغرب ، فهو لايزال مؤثرا في بلادنا ،  في صنع القرار فيها ، وعلى عقول حكامها واراداتهم . . . الحوار مع الغرب فريضة وضرورة لنا حتى يفهم ماذا نريد لانفسنا وللناس ) ويؤكد السيد محمد حسين فضل الله على هذا التوجه ، حتى لو توقف الامر على تقديم بعض التنازلات من جانب الحركة الاسلامية (الحركة الباحثة عن امكانات الوصول الى اهدافها السياسية والفكرية تحتاج الى الآفاق المنفتحة ، التي تطل بها على ساحات الآخرين  . . . ان الانغلاق يعني عدم التواصل مع الآخرين الا من خلال خط المواجهة ، التي قد تربح جولة او اكثر لكنها لن تربح حربا على مستوى قضايا الروح والحياة ) .

تشير النوايا المعلنة اضافة الى التجربة الفعلية الى ان الغرب ـ الولايات المتحدة خاصة ـ عازم ، وقادر ايضا ، على اعاقة وصول الاسلاميين الى السلطة في البلدان التي ينشطون فيها ، لكن هذه القدرة ليست مطلقة ، وتأثيراتها في بعض الدول لا تزيد عن الازعاج والتضييق ، ولا تصل الى درجة تقرير السماح او المنع ، كما هو المثال القائم في السودان منذ 1989 وايران منذ 1979  ، ومثال لبنان واليمن والكويت ، وفي اعتقادنا ان وصول الاسلاميين الى السلطة في اي بلد ، مرهون بقدرتهم على فرض انفسهم ، من خلال تعبئة الشارع وراء مشروعهم ، والمؤكد ان الدور الغربي سيعتمد على ادوات محلية لاعاقة طموح الاسلاميين ، وهذا يأخذنا الى موضوعين آخرين ، هما موقع الاسلاميين وحصتهم من ميزان القوى المحلي ، وعلاقاتهم مع الفاعليات والقوى السياسية في البلد الذي ينشطون على ارضه ، فهذه القوى قلقة من طموحات الاسلاميين بمثل ما الغرب قلق ، وفي غياب التفاهم والحوار الجاد فان ثمن الطموح سيكون غاليا ، وقد يكون سببا لتحميل البلاد والعباد اعباء اضافية ، اذا قرر الغرب فرض عقوبات كما حصل الان في السودان ، ولهذا فلا محيص من التوصل الى صيغة للتفاهم تقوم على الاعتراف المتقابل بحد ادنى من الحقوق والمصالح ، بغض النظر عن كون هذه المصالح مشروعة او غير مشروعة ، عندما ينظر اليها مجردة عن شروطها الموضوعية .

01/12/1996

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )


يتفق الحركيون الاسلاميون على ان الموقف الغربي من طموحاتهم السياسية يتسم اجمالا بمضمون عدائي ، مع انهم يتفاوتون في تحليل اسباب هذا العداء والطريقة المثلى لعلاجه ، على انه يمكن ملاحظة التباين بين المواقف العملية والمواقف النظرية بدرجة قد تثير الارتباك ، بالنسبة لايران مثلا فانها تسعى ـ لاسيما منذ نهاية الحرب مع العراق ـ الى تطوير علاقاتها مع الغرب ، بشرط احترام خياراتها الخاصة ، وهي لهذا السبب تميز بين الدول التي تستهدف الاضرار بالسيادة الايرانية ـ ويشار بهذا الى الولايات المتحدة عادة ـ وتلك المستعدة لعلاقات متكافئة ، مثل اوربا الغربية واليابان ، وكان التوتر الاخير في العلاقت الايرانية الالمانية مناسبة للزعيم الايراني خامنئي للتاكيد على الفارق بين الموقف من واشنطن  والموقف من اوربا الغربية . ومع التعثر في علاقاتها السياسية ، فانها نجحت في تطوير علاقاتها الاقتصادية بصورة ملفتة .

 ان اهمية الموقف الايراني تكمن في حقيقة ان ايران كانت تمثل منذ نهاية السبعينات ، راس الحربة في الصراع بين الاسلام السياسي والسياسات الغربية ، حيث حملتها العواصم الغربية الجانب الاكبر من المسؤولية ، عن تحول الحركات الاسلامية  الى العنف، وتوجيه هذا العنف ضد المصالح والسياسات الغربية بصورة خاصة .

ويبدو اجمالا ان موضوع العلاقة مع الغرب ليس محسوما وسط الحركة الاسلامية، ويتاثر تحليله بخطوط تاثير مختلفة من بينها المفاهيم الدينية المجردة في الجواز او عدمه ، حيث تدخل على الخط الافهام المختلفة للنص الديني ، كما يتاثر بالضرورات العملية ، وهي الاخرى مختلفة بحسب الوضع القائم في كل ساحة من ساحات الصراع ، ان كثيرا من الحركيين الذين يتخذون موقف العداء للغرب ـ اقله على المستوى النظري ـ يعيشون في الغرب ويحتمون بالنظام القائم فيه ، وقد كان هذا الامر مثيرا للجدل ، لاسيما في الحدود الفاصلة بين الضرورات العملية والاحكام الشرعية المجردة .

تصاعدت نبرة العداء للغرب بين الاسلاميين منذ اوائل الثمانينات ، حيث اصبح الموقف الغربي من العالم الاسلامي وقضاياه موضوعا للتعبئة واكتساب الشرعية عند الجمهور  ، ومن جانبه فان الغرب ولاسيما الولايات المتحدة التي فوجئت بتطورات الثورة الايرانية اصبحت شديدة القلق من نوايا الاسلاميين ، واتخذت سياسة لا يمكن وصفها بالحصافة في مواجهة توسع نفوذهم ، لذلك ينظر اليوم الى المواقف التي تصدر عن مفكرين او سياسيين غربيين في الدعوة الى تفاهم اسلامي - غربي ، كما فعل ولي عهد بريطانيا ، باعتبارها استثناءت بارزة .

نستطيع تلمس اتجاهين في تحليل الحركة الاسلامية للموقف الغربي من مشاركتها في العمل السياسي  :
الاتجاه الاول : لا يرى الغرب الا معاديا للمشروع الاسلامي ، سواء كان اصحاب هذا المشروع خارج السلطة او كانوا شركاء فيها ، ويميل هؤلاء الى الاخذ بالنظرية المعروفة بنظرية المؤامرة ، التي تراجعت قليلا في السنوات القليلة الماضية ، لتستعيد بعض زخمها المفقود من جديد ، مع اجتياح القوات العراقية لاراضي الكويت في اغسطس 1990 .

الاتجاه الثاني : يرى ان الموقف الغربي من الحركة الاسلامية ، معلل بقلقه من تراجع نفوذه في العالم الاسلامي  ، اذا ما تفاقمت القوة الاسلامية ، وهذا لا يتعلق بالحركة الاسلامية بصورة خاصة الا حين تكون في موضع المقارنة مع منافسيها المحليين ، والا ففي حالة الباكستان فان الولايات المتحدة عملت بجد لمنعها من تطوير سلاحها النووي ، على الرغم من ان السلطة لم تكن في يد الاسلاميين .

ويفلسف اصحاب هذا الاتجاه حالة العداء التي تطبع العلاقة بين الاسلام والغرب ، بالانقطاع الثقافي بين الطرفين والانعدام شبه الكلي للحوار ، في عالم تتأثر مصالح كل دولة فيه باي تغيير في دولة اخرى ، بدرجة تتناسب واهمية مصالحها فيها او حواليها ، اخذا بعين الاعتبار ان الغرب يحتفظ بمصالح مهمة ، في معظم بلدان العالم الاسلامية لا سيما الرئيسية منها .

الخلفية الدينية

وفي الماضي كان معظم المحللين في التيار الإسلامي ، وكثير من غير الاسلاميين ايضا ، يعتقد ان لدى الغرب مخططا تاريخيا ، يستهدف دحر الاسلام وابعاده عن الحياة العامة ، كتمهيد ضروري للسيطرة على العالم الاسلامي ، وشهد عقد السبعينات صدور عشرات من الكتب التي تؤكد على هذا التحليل ، وتعرض ادلته ، وثمة كثير من التحليلات يعرضها اسلاميون لوقائع معاصرة او من التاريخ القريب ، تحاول اثبات ان معظم ما يجري في العالم الاسلامي ، هو حلقات متصلة في مؤامرة يقودها الغرب ضد الإسلام والأمة الاسلامية ، لكن نظرية المؤامرة تراجعت بصورة ملحوظة في السنوات الاخيرة مع تصاعد قوة الحركة الاسلامية .

معظم انصار نظرية المؤامرة يرجعون الخلل القائم ، في العلاقة بين الاسلام المعاصر والغرب ، الى اسباب دينية بعيدة الجذور في التاريخ ، فهم يرون الغرب ممثلا لدور جديد ، من ادوار المسيحية او اليهودية ، ويستدلون بالاية المباركة التي تقرر استحالة قيام العلاقة معها على اساس الاعتراف المتقابل  (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وفي هذا السياق يفسرون العلاقة التاريخية بين الحروب الصليبية والاستعمار ، الذي اعاد انتاج نفسه بصور اخرى من خلال نظام العلاقات الدولية ، الذي ساد بعد نهاية الحرب الكونية الثانية ولايزال قائما بامتداداته حتى اليوم .
وحسب اعتقادهم فان الغرب الذي يبني مواقفه على قاعدة الصراع بين المسيحية والاسلام ، كان واعيا لما يقوم به ، حينما ركز صراعه الايديولوجي ضد الاسلام ، على محور فصل الدين عن الدولة ، وتاليا الفصل بين الاسلام والحياة الاجتماعية ، وفي هذا السياق ، فانه لن يتهاون مطلقا في ترك الاسلام يعود الى الحياة ، ولاسيما الى الحكم ، بعد ان نجح في عزله وتحويله الى الهامش ، يقول الاستاذ أحمد بن يوسف في ندوة عن اوضاع الحركة الاسلامية بعد ازمة الخليج (ان التفسير المقنع لما يردده الساسة الاميركيون حول الالتزام الاخلاقي والادبي بدعم اسرائيل ، انما هو تاكيد على ان ديانة هذه البلاد هي في جذورها ديانة توراتية ، وضعت شروحها في قوالب عبرانية ... وقد ادى تاثير الكنيسة المسيحية الاصولية في الثقافة العامة للامريكيين ، الى تصوير الصراع العربي ـ الاسرائيلي في الخيال الامريكي وثقافته ، على انه امتداد للصراع التوراتي بين داود وجوليات ، وقد شكلت التوراة نتيجة لذلك مصدرا للايمان في التقاليد الامريكية ، وقوة مهمة في طموحه الوطني) .

وبناء على هذا التحليل ، فإن الغرب لن يسمح للحركة الاسلامية ، بالوصول الى السلطة عن اي طريق ، الا اذا استطاعت هي فرض نفسها كامر واقع ، اي ان مشاركة الحركة الاسلامية في السياسة لا يتوقف على التفاهم مع الغرب ، أو ان هذا التفاهم سيكون عديم الفائدة ، فهو في كل الاحوال لن يؤدي الى تغيير في موقفه التاريخي .

ان التجارب التي خاضتها الحركة في محاولتها للوصول الى الحكم ، او المشاركة فيه عبر القنوات الديمقراطية ، او عبر الاساليب الاخرى ، تدل ـ حسب اصحاب هذا الراي ـ على ان الغرب لن يدخر جهدا في اعاقة هذا التطور حيثما استطاع ، فمشروع الولايات المتحدة الامريكية كما يرى رئيس حركة الجهاد الاسلامي (يضع على راس مهامه في المرحلة الراهنة ضرب الحركة الاسلامية في المنطقـة وتصفيـة قضيتها المركزية)  وعلى هـذا ، يضيف د. رمضان عبد الله ، فان (الخيار المفروض على الحركة الاسلامية هو خيـار الصدام والمواجهـة ، بحيث اصبح التحدي الذي يواجهها الان هو ان تكــون او لا تكون) .

وبناء على هذا الرأي ، فان التفكير في امكانية ان يعود الغرب لاقامة نظام جديد للعلاقة مع الاسلام ، اساسه التفاهم ونبذ العداوة ، هو تفكير تنقصه الرؤية التاريخية .

علاقة اساسها المصلحة

اما التحليل الثاني فيرى ان المصالح الراهنة ، وليس الموقف التاريخي ، هي الاساس في صناعة السياسة الخارجية للغرب ، وهي تنطلق من ثوابت تمثل حاجات الحضارة الغربية ، من بينها على سبيل المثال ، محورية الدور الامريكي والاوربي في نظام العلاقات الدولية ، باعتباره الثابت الاساس لاستمرار قوة الغرب ورفاهية شعوبه ، ولهذا  فان السياسة الدولية للمعسكر الغربي ، هي نظام عالمي للسيطرة ، يتعامل مع بقاع العالم الاخرى من زاوية كونها ميدانا لمصالحه الاقتصادية ، ان النفوذ السياسي مكرس هنا لخدمة هذه المصالح التي تكفل له التفوق والإزدهار وبالتالي العظمة ، وعليه فان علاقته بالاسلام تتحدد من ذات الزاوية ، فحيثما كان الاسلام متساهلا ، لينا في مواجهته لنفوذ الغرب ، فان علاقة الغرب معه ستكون طبيعية وربما ودية ، وحيثما كان الاسلام عائقا لهذا النفوذ ، او مهددا لتلك المصالح فسيكون الغرب شرسا في مقاومته ، ومحاربا له على كل صعيد .

والاسلام في هذا الحال ، لا يختلف عن اي منهج ايديولوجي او سياسي آخر ، فالغرب مستعد للتضحية باقرب حلفائه اليه ، اذا بدر منه ما يشي بامكانية تحوله الى عقبة في طريق نفوذه ، وهم يضربون على ذلك امثلة من نوع اعلان الحرب على بناما في ديسمبر 1989 واعتقال حاكمها الجنرال نورييغا ، الذي كان حتى وقت قريب فتى واشنطن المدلل ، قبل ان يتمرد على على سياساتها ، وفي الخمسينات عملت واشنطن ولندن سويا لاسقاط رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق بعد ان قرر تاميم مصالح البترول الغربية ، مع ان مصدق لم يكن اسلاميا ـ بحسب التصنيف المتعارف ـ بل كان قوميا ليبرالي الاتجاه ، وقد وصل الى الحكم بطريقة ديمقراطية تماما ، وضمن الاطار السياسي والقانوني القائم في البلاد .

ولم يكن الاسلاميون استثناء من سياسة الدوران حول المصالح هذه ، فقد حاولت الولايات المتحدة دون جدوى اقناع (حماس) الفلسطينية بالمشاركة في عملية السلام ، وقبلها دعمت المقاومة الافغانية بالمال والسلاح ، عندما كان الغرب بحاجة الى اضعاف النفوذ الشيوعي في افغانستان ، ثم اوقفت دعمها المالي والعسكري ، عندما زال خطر التوسع السوفييتي ، وفي كلا الحالتين فان الثورة الافغانية ، كانت ثورة اسلامية تقودها حركات دينية .

وكما دعم الغرب حركة اسلامية ثورية ، فهو في حالة اخرى دعم ولا يزال الانظمة التي تتبنى نمطا من الاسلام محافظا ، مثل حكومات مجلس التعاون الخليجي ، رغم انها لا تتبنى الاتجاه العلماني المفتوح في الحياة السياسية والاجتماعية ، المفضل لدى الغرب ، كما هو حال دول اسلامية اخرى حليفة ، مثل تركيا .

وهذا يظهر ـ حسب راي هذا الفريق ـ ان السياسات النقيضة للمصالح الاقتصادية الغربية ، وللنفوذ الذي يحتاجه الغرب لضمان قوته الاقتصادية ، هو الذي يصنع الموقف الغربي من الاسلام . ان ظهور الاسلاميين في كل مكان ، بمظهر من يعد العدة للانتقام من الغرب وتصفية مصالحه ، هو الذي يجعل الغرب قلقا من تنامي الحركة الاسلامية الجديدة ، ووصولها الى مراكز القرار ، وهذه المعادلة تمثل رد فعل راهن ، على فعل راهن ايضا ، وليست تعبيرا عن تاريخ مضى او استيحاء لتجربته .
ربما كان الموقف الغربي مستلهما من ثجربة تاريخية ، وربما كان تعبيرا عن قلق عن المصالح ، في كلا الحالتين فان جوهر المسالة يكمن في القدرة على احداث تغيير مناسب في توازن القوى ، فصناعة الحقائق الميدانية هو الوسيلة الوحيدة لتعديل السياسات ، او على الاقل ايجاد الارضية المناسبة للتفاهم ، ولهذا حديث اخر نعود اليه الاسبوع القادم .

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...