الغرض الرئيسي للتعليم العام هو صياغة شخصية الطالب ، للانتقال به من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج ، وثمة عدد من المعايير يؤخذ بها لتقدير مستوى النجاح الذي حازه الطالب والهيئة التعليمية عند انتهاء حياته الدراسية ، من بينها مدى ما يتمتع به الطالب من تفكير نقدي وابداعي ، وقدرته على الانسجام والتوافق مع البيئة الطبيعية والمحيط الاجتماعي ، وكفاءته العملية في المهنة التي أعد نفسه للعمل فيها ، فلنذهب إلى المعيار الاول :
ان ما يحدد النجاح أو الفشل في تطبيق
هذه المعايير ، هو طريقة توصيل المعلومات إلى الطالب ، ومن بين أجزائها ما اشتهر
الكلام فيه في السنوات الاخيرة ، أي
التحول من طريقة التلقين والتحفيظ إلى الحوار بين المقرر العلمي وعقل الطالب ، حيث
يتركز دور المعلم في مساعدة الطالب على التوصل إلى القاعدة التي يريد المقرر
الدراسي ترسيخها في ذهنه ، وفي هذا المجال فان الجهد الأكبر ينصب على تنشيط عقل
الطالب وتشجيعه على التامل والتفكير ، بدل استنزاف قواه في حفظ نصوص القواعد أو
المعلومات.
لكي نصل إلى هذا المستوى ، فقد نحتاج
إلى تخصيص وقت أكبر للاعمال ، ولنأخذ مثلا من مادة الرسم والفنون ، التي تعتبر ـ
حسب النظام القديم ـ هامشية ، فهذه المادة هي حجر الرحى في تكوين ذهنية الطالب ،
حين تكلف طالبا برسم بيت أو منظر طبيعي ، فانك في حقيقة الامر تساعده على تجربة
التخيل أي تحويل الملموس والمنظور إلى صورة ذهنية.
ويختلف الاشخاص المفكرون عن غيرهم ، في القدرة
على ضخ أكبر عدد من تفاصيل الصورة الواقعية في اطار الصورة الذهنية ، الطفل الصغير
يرسم خطوطا محددة توحي بالمشهد لكنها لا تعكس حقيقته ، ويضيف الاكبر منه خطوطا
أكثر تفصيلا ، حتى يصل إلى نقل الصورة الواقعية ، لكن الاكثر تقدما منه ، هو ذلك
الذي يضيف خطوطا غير موجودة في المشهد الواقعي ، لكنها موجودة في المركب الجمالي
أو الثقافي الذي يوحي به المشهد ، أو يتدخل لتغيير بعض الخطوط بالاضافة أو الحذف ،
لتكوين صورة أجمل من الأصل ، درس الرسم يمكن ان يساعد عقل الطالب على التامل في
الموجودات والبحث عن الاجزاء الصغيرة فيها ، ونقد عيوبها ، واكتشاف ما يوحي به
المشهد ، وان كان لا يرى في الواقع .
مادة الرسم يمكن ان تدرس ـ كما هو قائم حتى الآن ـ باعتبارها مقررا لا
يرسب فيه أي طالب ، أي مجرد إضافة تكميلية ، يمكن حذفها احيانا إذا
تزاحمت مع غيرها من الدروس ، ويمكن ان تدرس باعتبارها مادة تستهدف تكوين ذهنية الطالب
، لكي ينظر في الاشياء من حوله بعمق ، ينظر في الخطوط الكبرى والتفاصيل ، وينظر في
المعاني التي تخفيها الحدود الضيقة للواقع المادي ، ويمارس النقد على ما حوله
ويقترح البدائل .
فلنذهب إلى مادة أخرى قليلة الاهمية
أيضا مثل التعبير أو الانشاء ، فهي تذكرني بزميل لي في المرحلة الابتدائية كان
مغرما بالكتابة عن النخيل ، وكان المعلم يغضب من إصراره على الكتابة في هذه المادة
تحديدا ، ولذلك فقد حصل على اقل العلامات في المادة ، لكن هذا الزميل أصبح اليوم
طبيبا يشار له بالبنان ، وله أبحاث منشورة في مجلات علمية متخصصة.
ولا زالت حتى هذه اللحظة غير مدرك للاسباب التي
أزعجت معلمنا من ذلك الزميل ، لكن ما يهمني هنا هو ان مادة التعبير هي القاعدة
الاساس لما نسميه اليوم بالبحث العلمي ، وربما اعتبر المعلم ان غرض المادة مقصور
على تحسين القدرات البلاغية وتذوق جماليات البيان ، لكننا نستطيع اليوم الانتقال
إلى مرحلة أرقى ، بجعل مادة الانشاء اختبارا يوميا لمدى استيعاب الطالب لما يدرس
في المقررات الاخرى ، أي احلالها محل
الامتحان الاسبوعي والشهري في كل مادة من المواد ، فهذه تحقق غرض الامتحان أي دفع
الطالب للاهتمام بالدراسة ، وتحقق الغرض العلمي الاساسي ، أي توجيهه إلى البحث
والتفكير في تطبيقات المنهج خارج إطاره.
وأذكر هنا للمناسبة ان استاذي الذي
علمني الكتابة كان يصر على التمييز بين الاغراض المختلفة للدرس ، فمرة كان يركز
على جماليات اللغة ، وكان يلزمنا بالبحث عن مرادفات الالفاظ لاختيار اجملها
واقواها تعبيرا ، ومرة كان يصر على الاستدلال ومناقشة كل دليل ، وثالثة كان يشكك
في صدقية ما كنا نعتبره في العادة بديهيا ، ويطلب اثباته اولا ، ولست واثقا هذا
اليوم من نجاحي في بلوغ ما كان معلمي يريد ايصالي اليه ، لكني واثق تماما من ان
اهتمامي بالبحث والدراسة واستقصاء المعلومات ، هو ثمرة لدروس ذلك الاستاذ .
تعويد الطالب على التفكير النقدي في أمور الحياة
المادية والنظرية ، ومنحه الشجاعة لاقتراح الافكار والبدائل ، هو الركن القوي
لصياغة شخصية المبدع الطموح .