18/07/2018

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي


الروائي المعروف عبد الله بن بخيت خصص مقاله هذا الاسبوع لنقد ما اعتبره افراطا في الاهتمام بالعلوم الطبيعية والتجريبية ، واغفالا للعلوم الانسانية. ويقول ان الحضارة الاوربية لم تبدأ بدراسة العلوم الطبيعية  "إنما قامت على التفكير العلمي والوعي والفكر... قامت على الرجال الذين ألفوا في التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وفرضوا التنوير". ويستنتج ان تركيزنا الحالي على العلوم البحتة ، سيعين الشباب على ضمان وظائفهم ، لكنه لن يقودنا للتقدم (جريدة الرياض 16 يوليو).
عبد الله بن بخيت

الوضع الذي انتقده بن بخيت هو السائد في المشهد الاجتماعي. فالاتجاه العام بين الناس وفي الادارة الرسمية يربط التعليم بالوظيفة وليس بانتاج العلم او نشره. وفي العام الماضي ابتكر وزير التعليم برنامجا اسماه "بعثتك-وظيفتك" يربط بين التخصص الدراسي ومتطلبات الوظيفة المنتظر ان يشغلها الطالب بعد التخرج.
هذا يحملني على الظن بان دعوة بن بخيت لن تجد مستمعا. ليس فقط لأن دراسة العلوم الانسانية “ماتوكل عيش” كما يقول اشقاؤنا المصريون ، بل لأنها أيضا لا تؤدي – وفق فرضيته - الى النهضة ، ولا تسهم في ترسيخ الفكر العلمي.
شيوع الاهتمام بالتخصص في العلوم البحتة لا يؤدي - في اعتقادي – الى انتشار العلم او انتاجه ، فضلا عن النهوض الحضاري. كما ان التركيز على العلوم الانسانية لا يؤدي الى هذه النتيجة ، ولا الى انتشار الادب والعلوم الاجتماعية والنظرية. ولدينا تجربة متكررة على مدى زمني طويل ، تؤكد هذا الادعاء. لقد مضى على بداية التعليم الجامعي نحو 60 عاما ، تخرج خلالها عشرات الالاف من الطلبة في تخصصات علمية وانسانية وشرعية. كما تخرج من الجامعات الاجنبية خلال الفترة نفسها ، ما يزيد - وفق تقديرات منشورة - عن نصف مليون طالب. وطبقا لبيانات نشرتها مصلحة الاحصاءات العامة في نوفمبر 2016 ، فان عدد السعوديين الذين يحملون شهادات جامعية قد بلغ 2.8 مليون ، بينهم 44,792 يحملون شهادة الدكتوراه.
تخيل ان كل حامل دكتوراه قد نشر بحثا واحدا في السنة. تخيل ايضا ان حملة البكالوريوس الذين يزيد عددهم عن المليونين ، هم قراء هذه الابحاث. لو حدث هذا في الواقع لكان لدينا اليوم ما يصح وصفه بحياة علمية نشطة ، اي انتاج متزايد للعلم ونقاشات علمية واسعة وانتشار افقي وعمودي لمختلف العلوم.
لكننا نعلم ان هذا لم يحصل ابدا. فلماذا؟.
لقد كتب بعض الزملاء في اوقات سابقة عن ندرة مراكز البحث العلمي ، وندرة المجلات العلمية المتخصصة ، رغم وضوح الحاجة اليها والرغبة فيها.
السبب الاجمالي في اعتقادي هو ضعف الرغبة في التغيير ، بين النخبة وشريحة معتبرة من ابناء الطبقة الوسطى الذين تفترض الدراسات الاجتماعية انهم – في العادة – خزان التغيير. الرغبة في التغيير هي اول عوامل النهوض العلمي والثقافي. وهي ليست برنامجا او خطة عمل او قانون ، بل هي اقرب الى شعور عميق عند نسبة معتبرة من المواطنين فحواه التشكك في القيم السائدة والسلوكيات وانماط المعيشة والانشغالات العامة. يتأسس بناء عليه تطلع نحو واقع مختلف ، وايمان بالقدرة على بناء الواقع الجديد. نقطة الانطلاق هي الايمان بالذات ، اي باننا نستطيع ان نصنع اقدارنا ، ثم من الجرأة على نقد الماضي والتحرر من قيوده الثقافية.
روحيةالنهضة لا تتوقف على تخصص محدد ، بل على اقتناع القادرين على توجيه الجمهور بان هذا الجمهور واياهم يستطيع ان يغير التاريخ ، ثم تحديد معنى التغيير الذي نريده واتجاهاته.
الشرق الاوسط الأربعاء - 5 ذو القعدة 1439 هـ - 18 يوليو 2018 مـ رقم العدد [14477]

11/07/2018

شرع العقلاء


يفخر المسلمون عادة بأن دينهم اختص العلم بمرتبة عالية ، كما احترم العقل ومجد "اولي الالباب" وخصهم دون بقية الخلق بجانب من الخطاب القرآني.

 لكن لو أردنا الغوص في معنى هذا الكلام ، أي مكانة العلم والعقل في حياة المسلم وفي التشريع الديني ، فربما نجد ان ما نفخر به لفظيا ، نتحاشاه او حتى ننكره ونرفضه على مستوى العمل.
اذا كنا نقبل بمكانة سامية للعقل وما ينتجه من علم ، فالمفترض ان يظهر برهانه في نقاط الاشتباك وموارد التنازع ، وليس في تدبيج الكلام. ونقطة الاشتباك الأولى هي تحديد مكانة العقل مقارنة ببقية مصادر التشريع ، ثم الموازنة بين دور العقل ودور المصادر الاخرى في وضع او اختيار الاحكام.
ويذكر ان فقهاء المسلمين متفقون على مصدرين للتشريع هما القرآن والسنة. لكنهم اختلفوا في العقل والاجماع. والميل الغالب يتأرجح بين انكار كون العقل مصدرا للتشريع ، وبين اعتباره ملحقا بهما ، وان دوره هو الكشف عن الحكم الذي يفترض ان يحويه النص ، وليس اصدار الحكم بشكل مستقل عن النص.
الفرق بين الاثنين يتضح في الأمثلة التالية: يأمرنا النص باقامة حد القتل ، ويخبرنا العقل بناء على معطيات علمية بحتة ، بان هذا الحكم لا يؤدي غرضه الرئيس اي استئصال الجريمة ، او ان تطبيقه يسيء لصورة الاسلام او مجتمع المسلمين.  مثال ثان: يخبرنا النص بالصوم اذا شهد شهود بانهم رأو هلال رمضان ، ويخبرنا العلم ان الرؤية مستحيلة في ذلك اليوم. مثال ثالث: يخبرنا النص بان الفائدة على القروض حرام مطلقا ، ويخبرنا العقل بان الاقراض والاقتراض ، سبيل لازم للنمو الاقتصادي وتحسين معيشة الناس.
الغالبية العظمى ممن واجهوا هذا التعارض ، قرروا تقديم ما فهموه من النص على حكم العقل المستقل. ولهم في ذلك حجج معتبرة ، كالقول بان الخطأ محتمل من العقل وغير محتمل من النص ، فلا يقدم المحتمل على المؤكد. وان الشارع امرنا بالرجوع الى أمره ، اي النص. وان الانسان يريد ابراء ذمته أمام الله ، واتباع كلام الشارع محقق لبراءة الذمة.
هذه الحجج التي يبدو ظاهرها معقولا ، تضعنا – في بعض الاحيان على الاقل - امام مفارقات غير معقولة. من بينها مثلا تعارض الحكم الشرعي مع الواقع ، ومن بينها انفصال الحكم عن علته او حكمته ، او المصلحة المنظورة فيه. في المثال الثالث نعرف ان علة تحريم الفائدة على القرض هي منع الاستغلال. ونعرف ايضا ان الاستغلال غير مؤكد في كثير من القروض المعاصرة. كما نعرف ان اقتصاد المجتمعات ومعايش الناس لا تقوم الا بالقرض والاقتراض. هذا امر واقع يعيشه جميع الناس.. فما الذي نختار؟.
وفي المثال الثاني: نحن نأتمن الحسابات الفلكية على حياتنا ، حين نسافر بالطائرة او السفينة ، ونعتمدها في مختلف جوانب حياتنا. اي انها ليست مجرد احتمال نظري. فما العمل حين يقول لنا النص: اتركوا هذا الدليل الذي يعتبره كافة العقلاء حقيقة موضوعية ، واعتمدوا مفاد النص المعارض؟.
هذه الأمثلة والعشرات من أمثالها تستدعي مراجعة معمقة لفلسفة التشريع ، ولا سيما مكانة العقل ودوره في إنشاء الاحكام الشرعية. صحيح اننا نطيع أمر الله كي نبريء ذمتنا. لكن الأصح هو ان غرض الدين هو مساعدة المؤمنين به كي يحيوا حياة طيبة. وهذه ليست ممكنة مالم يكن الحكم الشرعي متصلا بالواقع ومنبعثا من حقائقه ومتفاعلا معها.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوال 1439 هـ - 11 يوليو 2018 مـ رقم العدد [14470]
http://aawsat.com/node/1327286

مقالات ذات علاقة


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...