27/08/2007

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية



شيوع الحريات الفردية والعامة لا يؤدي الى الفوضى ولا يؤدي الى التحلل من الضوابط الاخلاقية كما يجادل التقليديون. الانسان بطبعه ميال الى المسالمة والتعقل والتعاون مع اقرانه. وحتى في حال التنافس فانه مستعد للتوافق على ترتيبات تتيح له وللغير الحصول على حقوق أو مكاسب متساوية. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا ما ثبت من تجارب الامم التي آمنت بالحرية وطبقت مقتضياتها. وهي تجارب تكررت على مدى زمني طويل، مما يؤكد سلامة الاساس الذي قامت عليه. مجتمع المواطنين الاحرار اقرب الى المسالمة والمساومة والتعاون من مجتمع العبيد والمقهورين.
لكن الحرية في مجتمع مدني يحكمه القانون ليست مثل الحرية في مجتمع الغابة. فالمجتمع المدني يقوم على مبادئ وقيم وضوابط تجعل الحرية ممكنة وفعالة ومنزهة في الوقت نفسه عن الفوضى والتفلت. تلك المبادئ ليست قوانين قمع، بل تقاليد حياة وتوافقات بين الناس تشكل قاعدة لما يعرف في علم السياسة بالاجماع الوطني. من تلك المبادئ مثلاً
:
أ) توضيح الحدود الفاصلة بين المجالين الشخصي والعام. يتمثل المجال الاول في عدد من الحقوق الثابتة للفرد بغض النظر عن أي قانون أو تعاقد، وابرز هذه الحقوق هي حق الحياة، حرية الرأي، وحق التملك. في هذا الحريم لا سلطة لاي جهة على الفرد سوى سلطة ضميره. كما لا يجوز وضع قوانين مقيدة له، مثل تحديد ما ياكل الانسان وما يشرب وما يقرأ وكيف يفكر.. الخ. القانون الوحيد الذي يجوز اتخاذه في هذا الصدد هو القانون الذي يكفل ويحمي الحريم الشخصي ويمنع خرقه أو التدخل فيه.
 أما المجال العام فيتمثل في مساحة العمل والتفاعل المشتركة بين المواطنين، التي يحصلون فيها على حقوق اضافية (مدنية) تقابلها واجبات ومسؤوليات عليهم تجاه بقية اعضاء المجتمع. وهي الثمن الذي يدفعه الفرد مقابل التمتع بفضائل الحياة الاجتماعية. يلعب القانون وسلطة الدولة دورا هاما في تحديد وتنظيم هذا المجال. ويجب على المواطنين الالتزام بالحدود والضوابط التي يقررها القانون، لانها الوسيلة الوحيدة لكي يحصل كل منهم على حقوق متساوية مع الغير.
ب) لكل فرد حق ثابت في التعبير عن رأيه في مجتمعه وطريقة عمله واستراتيجياته وما يسعى اليه من اهداف، سواء جاء رأيه متوافقا مع الراي السائد أو مختلفا معه. ويكفل القانون لكل فرد حق التعبير عن ارائه تلك من خلال الاطر القانونية السلمية.
ج ) يتألف المجتمع من افراد متكافئين، ولا يوجد فرد في هذا المجتمع اعلى قيمة أو ارفع مكانة من الاخر، على نحو يتيح له سلطة الزام الاخرين برأيه أو قناعاته أو اخلاقياته أو القيم التي يؤمن بها أو طريقة العيش التي ينتهجها. جميع القيم تعتبر شخصية، يلتزم به من اراد، من دون فرض أو الزام، مالم تتحول الى قانون عام.
يقوم المجتمع المتسالم على قيم توافقية، بمعنى ان الالتزام بها قائم على الاقناع والرغبة الفردية وليس الالزام الخارجي من جانب الفرقاء الاقوى في المجتمع. وعلى هذا الاساس تقوم المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات ورفض الرق وعبودية البشر ورفض استغلال الغير أو حرمانه من ثمرات جهده.
د) مع احترام القناعات والمبادئ والاعراف السائدة في المجتمع، فان أي قيمة أو عرف أو فكرة أو مبدأ لا يكتسب قوة القانون ولا يجوز الزام الافراد به الا اذا جرى اقراره من خلال المؤسسات المكلفة بوضع القوانين والتشريعات، أي تلك التي لها حق قانوني في وضع الزامات أو قيود على حرية المواطن.
على انه لا بد من التذكير بان نطاق تطبيق القانون محصور في المجال العام، فلا يجوز فرض قوانين تنطوي على تدخل في الحريم الخاص للافراد مثل فرض رؤية محددةة، أو طريقة في الحياة أو اللبس أو المأكل، أو طريقة في التفكير والتعبير عن الافكار، أو تحديد لحق الملكية أو العمل أو التصرف العقلائي في الاملاك الخاصة.
بناء على هذا فليس من حق أحد أن يلزم عامة الناس بنظام قيم محدد أو قناعات معينة أو اجتهاد خاص أو منظومة من الاخلاق والقيم ولو كانت في رأيه فاضلة أو صحيحة. فهذه الامور كلها متروكة للافراد وهم يختارون ما شاؤوا ويتحملون المسؤولية عما تقود اليه خياراتهم الشخصية.

على ضوء هذه المبادئ الاربعة وصف المجتمع المدني المحكوم بالقانون بأنه مجتمع تعاقدي توافقي، يرتبط افراده بخيوط متينة من المصالح المشتركة والافهام المشتركة حتى لو تباعدوا في النسب أو المذهب. هذا النظام الاجتماعي هو اذن تعبير عن وحدة اختيارية بين افراد متكافئين وليس جبرا عليهم ولا سجنا لعقولهم وابدانهم. من هذه الزاوية فان النظام الاجتماعي هو ثمرة لمجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا، وبالتالي فان الهوية الاجتماعية، هي حصيلة اشتراك الافراد جميعا في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070827/Con20070827135158.htm
 عكاظ - الإثنين 14/08/1428هـ ) 27/ أغسطس /2007  العدد : 2262

13/08/2007

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

يقال احيانا ان اعظم الافكار قد يكون اكثرها بساطة اذا قيل في الوقت المناسب. والوقت المناسب هو الظرف الذي يحتاج الناس فيه الى جواب عن سؤال محدد او حل لاشكالية محددة. واظن ان مفهوم الحرية الذي عرضه ايزايا برلين في منتصف الخمسينات من القرن العشرين ، هو واحد من هذا النوع من الافكار التي قدمت اجابة بسيطة عن سؤال اكثر بساطة ، لكنها حظيت باستقبال حافل بين اهل الفكر والسياسة على السواء.

 هتلر يخطب في حشد ضخم في 1933 

لا بد ان جميع القراء قد سمعوا بالعبارة التي يكثر تردادها، وفحواها انه لا توجد حرية مطلقة، وانه لا بد من تقييد الحريات الفردية بالقانون او الاخلاق.. الخ. هذه الفكرة بذاتها كانت موضع انشغال الناس في اوربا في السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. قبل الحرب مال معظم مثقفي اوربا الى نموذج الدولة الليبرالية الكلاسيكية، التي لا تتدخل في حياة الناس ولا في السوق الا في اضيق الحدود. لكن هذه الفكرة تراجعت بعد الحرب الى حد كبير بالنظر الى عاملين:

 اولهما الدمار الهائل الذي شهدته مختلف البلدان، مما استوجب جهدا منظما وجمعيا لاعادة الاعمار، وهذا يستدعي بطبيعة الحال تخطيطا وادارة مركزية لتوزيع الموارد.

 اما السبب الثاني فهو تفاقم الاتجاه الى التخطيط المركزي في اوربا الشرقية والصين، وهو اتجاه حقق في تلك الحقبة المبكرة بعض النجاحات الملموسة على المستوى الاقتصادي لفتت أنظار الاوربيين. معظم المثقفين كان واعيا بجوهر المشكلة المطروحة. على احد الجانبين هناك بلد يحتاج الى اعادة بناء وبالتالي حكومة قوية وقادرة على التدخل.

 وعلى الجانب الثاني، كان ثمة قلق من ان القبول بتدخل الدولة في السوق وفي حياة الناس سوف يحولها الى «غول» عصري، يبتلع الحريات المدنية ويقيم نظاما تحكميا شديد الوطأة، شبيها بالغول السياسي الذي كتب عنه توماس هوبز في القرن السابع عشر.

ولم يكن كثير من هؤلاء المثقفين قلقا على حريته فقط، بل كان قلقا من ان منح الدولة سلطات غير محدودة، قد يدفعها الى الطغيان وربما الدخول في حروب جديدة، مثلما فعلت حكومة هتلر، التي استغلت سلطاتها المطلقة فورطت المانيا في حرب ضروس اكلت الاخضر واليابس. ولو لم يكن الامر على هذا النحو لاستطاع المجتمع الالماني معارضة اتجاه الحكومة العدواني واعاقة انزلاقها نحو الحرب. 

كان السؤال الذي شغل الناس يومئذ

هل نغامر بمنح الدولة سلطات مطلقة لاعادة تنظيم حياتنا وازالة آثار الحرب ؟. أي: هل نقدم المصلحة المادية الواضحة على الحريات المدنية، ام نحافظ على هذه الحريات ولو ادى الامر الى تعطيل الاعمار؟. من الواضح ان غالبية الناس سوف تميل الى الخيار الاول، لان ضغط حاجات الحياة اليومية اشد من ان يقاوم. لكن المثقفين وقادة الرأي نظروا الى نهاية المسألة وليس بدايتها. 

قدم ايزايا برلين حلا بسيطا، خلاصته التمييز بين مفهومين للحرية سلبي وايجابي. ينطبق المفهوم السلبي للحرية على المساحة الخاصة بالحياة الشخصية التي يتصرف الفرد فيها وفقا لقناعاته الخاصة ومن دون تدخل احد، سواء كان شخصيا او قانونيا. من ذلك مثلا حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وحرية الانسان في العيش والعمل كما شاء طالما لم يزاحم الغير. 

طبقا لرأي برلين فان هذا النوع هو التجسيد الابسط لمفهوم الانسانية، ويعد حرمان الانسان منه انتقاصا من انسانيته. ولهذا وجب ان يحمى بالقانون لا ان يحدد بالقانون. فلا يجوز اصدار قانون يحد من حريات الناس الشخصية التي اودعهم الله اياها يوم خلقهم. اما الحرية الايجابية فيتجلى تطبيقها في المساحة التي يشترك فيها الفرد مع غيره من ابناء المجتمع. 

بعبارة اخرى فهي منظومة الحقوق والحريات التي يحصل عليها الفرد بالاتفاق مع بقية اعضاء الجماعة، وهي لهذا السبب حرية يقررها القانون وتوضع حدودها بالتوافق والتراضي. قال برلين انه يمكن للمجتمع منح الحكومة حق التدخل في المجال الثاني شرط التزامها بحماية الاول والامتناع عن اختراقه. 

 قد يكون من العسير تحديد فاصل دقيق بين المساحتين، لكن ما يمكن قوله هنا هو ان لكل فرد شريحة من الحريات الاساسية التي ينبغي احترامها على الدوام وفي جميع الظروف، لانها شرط للانسانية. واظن ان هذا يوضح المجال الذي يجوز فيه تحديد الحرية من دون ان يعد التحديد طغيانا، وذلك الذي لا يجوز للمجتمع الاقتراب منه لانه حرم خاص للفرد يفعل فيه ما يشاء، ولا يخضع لغير رقابة ضميره ومن فوقه رب العالمين.

 عكاظ الإثنين 30/07/1428هـ ) 13/ أغسطس /2007  العدد : 2248

https://www.okaz.com.sa/article/124632              
مقالات ذات علاقة 

05/08/2007

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا



المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي هي اجمل احلام البشر وأعلى تطلعاتهم. لكنها في الوقت نفسه سابع المستحيلات، والسعي وراء المستحيل عبث لا جدوى وراءه. رغم انها مجرد حلم فانها غير ذات ضرر، بل ربما كان التأمل فيها مفيدا في المقارنة بين واقع الحال وبين المثال الاعلى. نحن بحاجة إلى نقد متواصل للواقع كي نستطيع تطويره. فالجمود والتخلف يبدآن في اللحظة التي يقرر الناس انه «ليس في الامكان ابدع مما كان» وانهم قد وصلوا إلى نقطة الكمال الكلي اي «نهاية التاريخ». إذا كان الامر كذلك فما هي اهمية الموضوع اذن؟.

تكمن اهمية المسألة في الصور الاخرى للدعوات المثالية، وهي صور موجودة في مجتمعنا وفي الكثير من المجتمعات الاخرى، دعوات تصور لاتباعها عالما افتراضيا، خياليا، لكنها تجعلهم يؤمنون بوجوده المادي أو إمكانية ايجاده. من ذلك مثلا كتاب الشيخ ابو بكر الجزائري «الدولة الاسلامية» الذي يصور مدينة خالية من العبث والاهواء وأسباب الفحش، هذه المدينة ليس فيها تلفزيون أو اذاعة بل ميكروفونات تبث القرآن الكريم طوال اليوم كي لا تفوت الناس فرصة الاستماع إلى كلام الله. وهي مدينة لا تدرس فيها البنات غير العلوم المتعلقة بتدبير المنزل وحسن رعاية الزوج والاطفال.

 اما الاعمال الاخرى التي تستدعي عمل النساء فتختص بها بنات الفقراء المحتاجات للعمل دون بنات الاغنياء. وهي مدينة لا يوجد فيها اجنبي أو غير مسلم، وربما لا توجد حاجة للاتصال بالاجانب والتعامل معهم. كتب الشيخ هذا الكتاب قبل ظهور القنوات الفضائية والانترنت، وقبل تبلور فكرة العلاقة الحيوية مع العالم. ولو قدر له ان يعيد كتابته اليوم فلربما غير الكثير. لكنه على اي حال نموذج عن تطلعات مثالية موجودة ولها اتباع في مجتمعنا وغير مجتمعنا.

. ليست المشكلة في وجود تطلعات من هذا النوع، بل في ايمان اصحابها بأنها (حق مطلق)، وان على الناس ان يأخذوا به والا وقعوا في الاثم والخطيئة. ويزيد الطين بلة تحول بعض اولئك من محاولة اقناع الناس باللين إلى التشنيع عليهم وجبرهم والتفكير في تدميرهم بل والعمل احيانا على تدميرهم. ولو قدر لهؤلاء ان يحصلوا على مصدر قوة فربما لا يترددون في اختصار الزمن. إن بطلقة واحدة أو قنبلة تنهي مهمة تحتاج الكثير من الوقت لو اريد انجازها من خلال الجدل والنقاش العقلاني. في العام 1981 أعلن الخميني ما وصف بالثورة الثقافية التي كان اول خطواتها إغلاق الجامعات من اجل (تطهيرها). وفي 1996 اغلقت حركة طالبان جامعة كابل ومحطة تلفزيونها الوحيدة وجميع مدارس البنات.

 وفي العام 2000 نسفت تمثال بوذا ضمن حركة استهدفت التخلص من الاثار التي تشير إلى عصور ما قبل الاسلام. وفي العام الماضي، سمعنا جميعا اعلان تنظيم القاعدة عن اقامة «الدولة الاسلامية في بلاد الرافدين» وتضمن ذلك الاعلان تجريما لكل من خالف هذه الدولة الافتراضية وهدرا لدمه باعتباره خارجا عن الدين واجماع المؤمنين. فكان اصحاب هذه الدولة يقولون للجميع البس ثوبنا والا فانت ميت. هذه الخطوات التي اكتشف اصحابها خطأها لاحقا، تشير إلى نمط من التفكير يزاوج بين الخيال والحقيقة، كما يزاوج بين الدعوة والجبر.

اشرنا في مقال سابق إلى ان المثاليين، سواء كانوا وعاظا أو سياسيين أو حركيين أو فلاسفة أو مفكرين أو اتباعا لهؤلاء واولئك، يتفقون على اعتبار أنفسهم «الفئة الناجية» أو «حلف المطيبين» أو «جماعة اهل الحق» وان قلوا، وان اراءهم تنطوي على وصف للحقيقة الكاملة. وهم يتحدثون عنها كواجبات ملزمة لعامة الناس. كما يصنفون الناس إلى صالح وفاسد، من دون ان يكلفوا انفسهم مشقة سؤال هؤلاء الناس عما إذا كانوا يريدون ذلك أم لا، وما إذا كانوا يقبلون به أم لا، وما إذا كانوا يفهمونه أم لا.

وكأن عامة الناس قطيع اغنام يساق من حظيرة إلى مرعى ومن مرعى إلى حظيرة، في اوقات محددة ولاغراض محددة، قررها صاحب القطيع لغاية في نفسه، أو فهم اتبعه، أو علم ظن انه يملك كماله. يريد المثاليون السعادة للانسان من خلال ايصاله إلى المجتمع-الحلم. وهذا يقتضي حسب رأيهم التزام الناس جميعا باستراتيجية العمل التي يفترض ان توصلهم إلى هذه الغاية.

 اما من عارض فيعتبر خارجا عن الاجماع ومثيرا للفتنة، ومستحقا للقمع والعقوبة. انها –بعبارة أخرى– سعادة جبرية يفترض حصولها في المستقبل، وعلى الانسان ان يقبل بها ويقبل بالوسائل التي توصل اليها حتى لو تحمل بعض الناس أو ربما جميعهم قدرا من التعاسة والالم في الحاضر. انها اذن سعادة في الحلم ثمنها تعاسة في الواقع.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070805/Con20070805130119.htm
عكاظ الأحد 22/07/1428هـ ) 05/ أغسطس /2007  العدد : 2240           

29/07/2007

شرطة من دون شهوات

المجتمع المثالي عند اصحاب اليوتوبيا او المدينة الفاضلة هو المجتمع المنضبط ، الذي يعيش اهله تبعا لتخطيط رسمي مسبق ، يشمل حتى غرف نومهم. انه مجتمع يخلو من العفوية ويخلو من الاهواء الفردية. لكننا نعرف ان مثل هذا المجتمع غير موجود في العالم الحقيقي. لذلك يقترح اليوتوبيون اعادة تركيب النظام الاجتماعي على نحو يشبه ما يعرف اليوم بالهندسة الاجتماعية. اي اعادة صياغة التراتب وتوزيع القوى في المجتمع على نحو يضع كل شيء في مكانه الصحيح ، كما يسهل الرقابة الصارمة والسيطرة شبه الاتوماتيكية على مسارات الحياة الفردية والعامة.

رسم تخيلي للمدينة الفاضلة لفنان غير معروف من عصر النهضة الاوربية-يحتفظ بها متحف بلتيمور

رأى افلاطون -مثلاً- أن على حراس المدينة الفاضلة (أي أفراد جيشها وشرطتها) ان يتخلصوا من شهواتهم ورغباتهم الشخصية ، فلا يملكون اموالا او بيوتا خاصة ولا ينشئون عائلات ، كي لا يكتشفوا اسباب الجشع والتنافس والانشغال بالذات. وتقترح «يوتوبيا» توماس مور ان لا يمنح مواطنو المدينة حرية السفر.

 من اراد الخروج الى الريف فعليه ان يحصل على رخصة من أمير المدينة تحدد وجهته ومدة سفره ، فاذا تجاوز ذلك عوقب بشدة ، واذا كررها خسر حريته واصبح عبدا. اما «مدينة الشمس» لتوماسو كامبانيلا ، فتقترح ان يشرف القضاة على العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء ، لضمان الحصول على نسل افضل. واقترح مابلي الغاء الملكية الخاصة كليا لانها اصل الشرور والحروب والكراهية في العالم.

هناك بطبيعة الحال فوارق وتعارضات بين نماذج اليوتوبيا المختلفة. نلاحظ ايضا ان نماذج اليوتوبيا المتأخرة قد تأثرت بالنزوع العام الى احترام الحريات الفردية ، كما لا بد من ملاحظة تأثير التطور العلمي والظرف التاريخي الذي كتبت فيه على منحى الكاتب وهمومه. لكنها جميعا تكشف عن ميل عام لتنظيم مركزي شبه حديدي.

 وقد لاحظت ماريا برنيري في «المدينة الفاضلة عبر التاريخ» عددا من السمات التي تشترك فيها النماذج النظرية للمدن الفاضلة في مختلف العصور ، الامر الذي يسمح بالقول ان هذه هي السمات الرئيسية المشتركة للتفكير المثالي او اليوتوبي. من ابرز تلك السمات تقديس الجماعة والرابطة الاجتماعية والتهوين من شأن الفرد وربما الالغاء الكلي لقيمته ككائن مستقل ، عاقل ، وكفء. ونادرا ما اهتم اليوتوبيون بما يعرف اليوم بالفروق الفردية ، اي الصفات الذهنية او الخلقية او البدنية التي تميز الافراد عن بعضهم ، وتمكنهم من تنظيم حياتهم على نحو قد لا يتطابق مع بقية الناس.

ويتسم التفكير اليوتوبي ايضا بالنخبوية. فالنظام الاجتماعي-السياسي الامثل عندهم جميعا هو ذلك الذي تتحكم فيه النخبة العليا ، وينعدم فيه دور عامة الناس او يتقلص الى اضيق الحدود. ذلك ان مشاركة الجمهور في السياسة ستؤدي حسبما رأى الفارابي في «السياسة المدنية» الى تحكم الرعاع في الرؤساء وسيطرة الاغراض الجاهلية على حياة الجماعة.

 واظن ان هذا التوجه ناتج عن اعتقاد مكين عند المثاليين بان قيم العمل وتعريف المصالح والمفاسد ، سواء على المستوى الفردي او العام ، ليس من الامور العرفية التي يحددها عامة الناس ، بل هي اعمال علمية تختص بها النخبة العالمة او الحاكمة. بعبارة اخرى ، فان هؤلاء الكتاب لا يرون الفرد عاقلا بما يكفي لتقرير ما هو صالح وما هو فاسد لنفسه او للغير.

كما لا يرون في اجتماع الناس سبيلا سليما الى تشخيص المصالح والمفاسد. بل يرجعون الامر الى جهة محددة تختص بتحديد وتعريف القيم والمعايير والمصالح ، وهي ايضا التي تضع القوانين وتلزم الناس باتباعها. هذه الجهة – التي يمكن ان تكون الحكومة او نخبة المجتمع – اكثر علما وعدلا وابعد عن الاهواء والشهوات من عامة الناس ، اي اكثر اهلية لاداء تلك الادوار.

يتطلب الامر اذن دولة قوية وقانونا يفرض من دون تسامح. ومن هنا فان المثاليين لا يعيرون فكرة الحرية الفردية كبير اهتمام. بل يرون ان سعادة الانسان الحقيقية تكمن في التزامه بالنظام الاجتماعي العام ، وان حريته تتحقق داخل اطار القانون مهما كان ضيقا. في الحقيقة فان مفهوم الحرية عندهم مقصور على طاعة القانون وليس الاختيار الفردي الحر. ولعل هذا من ابرز عناصر النزاع بين الدعوات المثالية والفلسفة السياسية الحديثة.

https://www.okaz.com.sa/ampArticle/121315
عكاظ - الاحد  15/07/1428هـ ) 29/ يوليو/2007  العدد : 2233
 

25/07/2007

اشتم اتاتورك او امدحه، عوامل النصر في مكان آخر

 لا بد ان السيد ايمن الظواهري واتباعه منشغلون الان في اعداد بيانات التنديد بالسيد طيب اردوغان وحزبه، لا سيما بعد تعهده بالمحافظة على النهج العلماني واشادته بمؤسس الجمهورية التركية كمال اتاتورك. حقق حزب العدالة والتنمية فوزا كاسحا للمرة الثانية على التوالي. واصبح اردوغان ثاني رئيس حكومة في التاريخ التركي المعاصر يحافظ على اغلبية برلمانية في دورتين متتابعتين. وسبقه الى هذا عدنان مندريس، ذي التوجهات الاسلامية ايضا، في مطلع الستينات.

ركزت الاحزاب العلمانية دعايتها الانتخابية على تخويف الجمهور التركي مما اسمته باجندة سرية لحزب العدالة والتنمية، تستهدف خصوصا الغاء العلمانية واحياء التراث العثماني المتخلف. بينما ركز حزب العدالة على ما حققه من انجازات فعلية على مستوى الاقتصاد والحريات العامة راهن العلمانيون على الطبقة الوسطى والعليا التي يفترض انها اكثر التزاما بالعلمانية، لكن هذه الطبقة اعطت اصواتها لحزب العدالة. قطاع الاعمال شهد خلال السنوات الخمس الماضية ازدهارا لم يسبق له مثيل في العقدين الاخيرين.

والاكاديميون والمثقفون وكبار الاداريين لمسوا للمرة الاولى الفارق بين العيش تحت سطوة الجيش والمخابرات والعيش بحرية في ظل نظام سياسي يحتضن الجميع. بالنسبة لهؤلاء واولئك فان الازدهار الاقتصادي وضمان الحريات المدنية والحصانة الشخصية ضد قمع السلطة هو المعيار الاساس لصلاح الحكم او فساده. ولعله من سوء حظ العلمانيين ان قادة الجيش قد وقفوا الى صفهم، وهو امر يذكر الطبقة الوسطى بسنوات الحكم العسكري السابقة.

خلال السنوات الثلاث الماضية كانت السوق التركية محطة بارزة للاستثمارات الخارجية، التي جاء معظمها من اوربا. وتحقق هذا بفضل ما فعلته حكومة السيد اردوغان لابعاد العسكر عن الحياة العامة، وتطوير النظام القانوني وبيئة الاستثمار كي تتوافق مع المعايير الاوربية. حين تولى حزب العدالة الحكم في 2002، كانت تركيا قد خرجت للتو من انهيار اقتصادي شامل، لكن الحزب نجح في اعادة احياء الاقتصاد وتوفير فرص عمل جديدة من خلال تشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي. ولهذا اصبح الحزب حليفا طبيعيا لقطاع الاعمال ولعامة الناس على السواء.

لم ينجح حزب العدالة بسبب طابعه الاسلامي. ولو كان الامر كذلك لنجح حزب السعادة، الاقوى تمثيلا للتيار الديني، والذي يضم ابرز الشخصيات الاسلامية التركية، ولا سيما رفاق نجم الدين اردكان وتلاميذه.

صوت الاتراك لحزب العدالة لانه نجح في تقديم حلول ملموسة لمشكلات حياتهم اليومية، ولانه نجح في تامين حرياتهم المدنية التي طالما خرقها النظام الامني الشديد القسوة. وليس من شك ان الطابع الاسلامي العام للحزب كان له دور مساعد، فالناس يقدرون الرجال المكافحين من اجل مبادئهم، والذين لم يكلفوا انفسهم عناء التزلف الى قادة الجيش كما اعتاد اسلافهم من رجال السياسة.

الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية درس بليغ للحركيين والدعاة الاسلاميين: الديمقراطية هي الطريق الامثل لخدمة الاسلام. خدمة الاسلام قد تتحقق بزيادة عدد المصلين في المساجد، لكنها ستكون اعمق وابلغ اثرا اذا اصبح قائدا لمسيرة مجتمع كامل كما هو الحال في تركيا. جرب الاسلاميون طرقا عديدة، مثل الثورة على الطريقة الايرانية، والانقلاب العسكري على الطريقة السودانية والحرب الاهلية على الطريقة الافغانية والعنف الاهوج على طريقة القاعدة وروافدها، ويظهر الان واضحا ان التجربة التركية هي الاكثر سلامة.

نجحت هذه التجربة لانها تخلت عن التقاليد القديمة وما يلحق بها من قيم ومعايير، والتزمت بالحداثة في قيمها المؤسسة ونظام علاقاتها واهدافها وادوات عملها ومعاييرها. الديمقراطية والقبول بالتعدد والمنافسة، والالتزام بالكفاءة والانجاز كارضية للمكانة، والتعويل على المصلحة المادية لمجموع الشعب كمحور للعمل، والانفتاح على العالم وتشبيك المصالح معه، والتطوير التدريجي للاهداف والوسائل، وقبول النقد.

 هذه كلها قيم الحداثة التي ينبغي لنا جميعا ان نتعلم درسها. سواء تعلق الامر بعمل سياسي او باصلاح اجتماعي فاننا نحتاج الى نموذج جديد، غير هذا الذي رافقنا طوال القرون ولم نفلح معه، ولم يفلح في اي مكان. التجربة التركية تشير بكل وضوح الى فضل نموذج الحداثة السياسية على سواه. وهي تدعونا الى الاعتبار ان كنا نرى في دروس التاريخ عبرة.

- « صحيفة عكاظ » - 25 / 7 / 2007م - 

 

22/07/2007

المدينة الفاضلة


لم يحفل مفكرو العرب كثيرا بنماذج المدن الفاضلة او اليوتوبيات التي عرفها الفكر الاوروبي في عصوره القديمة. ولعل الفيلسوف الفارابي هو الوحيد الذي كلف نفسه عناء التنظير لمثل هذا النموذج فكتب «المدينة الفاضلة» محتذيا مثال افلاطون في «الجمهورية». لكن التفكير في المجتمع المثالي لم يغب لحظة عن بال الفلاسفة والمفكرين والفقهاء.
وتجد هذا التطلع مبثوثا في زوايا كتاباتهم وآرائهم، بل وفي الكثير من الفتاوى والاحكام الفقهية. وللمناسبة ينبغي القول ان المجتمع المثالي او المدينة الفاضلة شكل في قديم الزمان وحاضره نقطة التقاء بين مفكري العالم اجمع. فالذين حاولوا وضع نموذج متكامل، مثل افلاطون والفارابي، والذين اقترحوا سياقات محددة مثل اخوان الصفا وكارل ماركس، بل وحتى الذين عارضوا هؤلاء واولئك، مثل جورج اورويل وكارل بوبر، اتفقوا جميعا على ان الوصول الى مستوى قريب من المثالية هو احتمال ممكن، اليوم او غدا او بعد قرون. وطبقا لماريا برنيري (المدينة الفاضلة عبر التاريخ – عالم المعرفة) فان كثيرا من الجوانب المشرقة في حياة البشر المعاصرين، كانت في اول امرها افكارا مثالية طرحها مفكرون حالمون، ورأوها ممكنة، ربما قبل سنوات طويلة من اقتناع بقية الناس بها وتحولها الى مواضع اجماع بين العامة.

دعنا نتذكر مثلا ان تحديد يوم العمل بثماني ساعات ومنح العامل اجازة اسبوعية مدفوعة، لم يكن معروفا في الماضي، وحين طرحه كامبانيلا في بداية القرن السابع عشر، قوبل بالسخرية والانكار. لكن العالم اليوم متفق على ان عدم ثبات ساعات العمل ينطوي على استغلال وظلم للاجير ولعائلته وتهوين من انسانيته ودوره كفاعل اجتماعي. يمكن الاشارة ايضا الى ان فكرة الغاء الرق والمساواة بين الجنسين ظهرت اولا في كتابات اليوتوبيين، في الوقت الذي كان نظام الرق عمودا راسخا في اقتصاديات العالم شرقه وغربه، وكانت الفكرة في اول امرها موضوعا للسخرية والتندر من جانب كثيرين. شهد القرن التاسع عشر نهاية ادب اليوتوبيا.

فمنذئذ رأينا كتابات في نقد التفكير المثالي، لكن لم نر محاولات جدية لوضع نموذج عن المدينة الفاضلة او دعوة اليها. لعل هذا الانحسار كان نتيجة التحول الجذري في اتجاه البحث العلمي من التأملات المجردة والميتافيزيقا الى الوصف والتجريب وتحليل الوقائع، وتركيز العلماء على فهم الطبيعة والانسان والجماعة ومسيرة حياتهما كما هي، ثم استنباط طرق الاصلاح من داخل هذه المنظومة وليس بانكارها. لم يعد اهل هذا العصر يبحثون – كما رأت برنيري – عن حلول جذرية ونهائية لشرور العالم، ولم يعودوا مؤمنين بامكانية انهاء الحروب واجتثاث الامراض او التصفية الكاملة للجريمة.

غاية ما يبحث عنه انسان اليوم هو تأجيل الحرب او تخفيف انعكاساتها واضرارها، وتخفيض معدلات المرض والجريمة والفقر. هل يعني هذا ان انسان اليوم أصبح عاجزاً عن حل مشكلاته؟ ام ان المشكلات قد تضخمت الى الحد الذي اصبحت معه عصية على العلاج؟. كلا الاحتمالين قد يكون صحيحا. لكن هل نجح اليوتوبيون في تطبيق اي من الحلول التي اقترحوها؟. ربما تفاقمت مشكلات العالم في العصر الحديث، لكن المثاليين لم ينجحوا حتى في العصور القديمة التي يمكن افتراض ان مشكلاتها كانت ايسر. بل ان السياسيين الذين ارادوا تطبيق بعض مقولات اليوتوبيا انتهوا الى القمع العاري، فتحولوا من مصلحين محتملين الى مستبدين فعليين.
يلتقي معظم اليوتوبيين عند نقطة محورية محددة هي القول بان سعادة الانسان تكمن في نظام اجتماعي شديد الانضباط. بعبارة اخرى فان هؤلاء يربطون بين الرفاه المادي والسعادة، ويقبلون قيام نظام استبدادي يلغي استقلال الفرد بذاته وهويته وعقله واختياراته، طالما ساعد هذا على تحقيق الانضباط المنشود. وقد رأينا تاثيرات هذه الفكرة عند السياسيين الذين تبنوا ايديولوجيات شمولية، مثل تجربة الرايخ الثالث في ظل ادولف هتلر وتجربة الاتحاد السوفيتي في ظل ستالين.

ونجد امثلة منها – ولو كانت اقرب الى الكاريكاتير منها الى الصورة الواقعية - عند بعض زعماء العالم الثالث الذين ظنوا ان الانضباط الحديدي هو السبيل لتحقيق حلول جذرية، مثلما فعل الجنرال سوهارتو، الرئيس الاندونيسي، وانور خوجه الرئيس الالباني في اوائل السبعينات من القرن العشرين، وكذلك صدام حسين، الرئيس العراقي في منتصف الثمانينات. تحول النظريات المثالية من الفكر الى الجبر، وصيرورتها قاعدة للنظريات السياسية الشمولية، هي ابرز اسباب فشلها وانكارها في عالم اليوم. هناك بالطبع اسباب اخرى، من بينها مثلا تعاظم قيمة الفرد، وتغير مسارات العلم والاقتصاد وما يترتب عليه من ادوار وقيم. لكن هذا حديث آخر نعود اليه في وقت لاحق.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070722/Con20070722126785.htm
 عكاظ - الاحد  08/07/1428هـ ) 22/ يوليو/2007  العدد : 2226

18/07/2007

العامل السعودي


اظن ان سفيرنا في اسلام اباد كان اشد الناس قلقا وهو يتابع بيانات الجيش الباكستاني عن عملياته حول المسجد الاحمر.  في العاصمة اسلام اباد. ربما لم نصرف قرشا على هذا المسجد او المدرسة الملحقة به، وربما لم نعرف احدا من القائمين عليه او الدارسين فيه. لكن ايدينا كانت على قلوبنا حين سمعنا بانفجار الصراع. وكذلك الحال كلما حدث تمرد في شرق الارض او غربها، خوفا من ظهور «العامل السعودي». 
المسجد الاحمر-لال مسجد
اظن ان كثيرين منا تابعوا الصراع على المسجد الاحمر، ليس اشفاقا على من فيه، بل خشية ان يظهر بينهم احد منا. بل ان بعض القنوات الاعلامية قد تبرع ابتداء بالقول ان «العامل السعودي» موجود، ظاهرا او خفيا في هذه المسألة، مثل كل مسألة اخرى مماثلة، من الفلبين الى افغانستان وكينيا والعراق الى اوروبا وامريكا مرورا بلبنان والاردن وغيرها.

فيما مضى من السنين كنا نأمل ان تكون المشكلة فردية : عشرة او عشرين رجلا سئموا الحياة هنا فبحثوا عن مغامرة يعيدون من خلالها اكتشاف ذواتهم وقدراتهم. لكن الحدث تكرر مرات ورأينا دماء شبابنا تسيل في بلاد لم نعرفها، لقضايا لم نسمع بها من قبل. في اواخر القرن الثامن عشر شهدت مجتمعات اوروبية شيئا قريبا من هذا: شعر مئات من الشباب بضيق الحياة في بلادهم وقرروا الهجرة لاكتشاف العالم. وقد اثمرت تلك الهجرات الفردية عن معظم ما يعرفه العالم اليوم عن البلاد البعيدة، من غابات الامازون الى مجاهل اسيا الشرقية، فضلا عن الصحارى العربية وغيرها.
وفي الربع الاخير من القرن العشرين ذهب عشرات من الشباب العرب، ومنهم سعوديون وخليجيون الى دول افريقيا الفقيرة يحفرون آبار المياه ويقيمون المدارس ويقدمون المساعدة، معتقدين أنهم –بهذا الاسلوب– ينشرون الدين الحنيف او يحققون اغراضه النبيلة. 
نعرف من هذه التجارب وغيرها ان الضيق بالاهل والوطن ليس شيئا غريبا. وان البحث عن الذات والبحث عن المكانة ليس معيبا. فكثير من الناس لا يحتمل مسارات المجتمع ونظام علاقاته ونظام القيم السائد فيه. وبعضهم لا يشعر بالقدرة على ان يكون شيئا ذا بال في ظل هذه المسارات والمعادلات، والشجاع منهم هو الذي يقرر التخفف من كل هذه القيود والسدود.
لكن ما الذي حدث حتى تركزت هجرات شبابنا على الحرب ولم يعد احدهم يرضى بغير ان يثير حربا او يكون وقودا في حروب الآخرين؟. معظم الذين كتبوا خلال الايام الماضية عن «العامل السعودي» في معركة نهر البارد بشمال لبنان، والذين علقوا على ما قاله عسكري امريكي عن «عدة آلاف» من السعوديين في العراق، اشاروا باصبع الاتهام الى مناهج التعليم في المملكة كسبب اول للمشكلة. واظن ان معظم الكتاب لديهم اسباب اخرى لكنهم ربما ترددوا في التصريح عنها. السنوات الطويلة التي مضت منذ اتضاح هذه الظاهرة، كشفت عن مكونات جديدة في البيئة التي تفرخ التشدد والارهاب، وكل منها جدير بالنقاش.
خلال الاسابيع الماضية سمعت تحليلات مثيرة للانتباه، لكنها للاسف لا تظهر في الصحافة. ضيق النظام الاجتماعي الذي يدفع بالافراد خارجه، ليس بذاته سببا بل هو خلاصة مكثفة لاسباب اخرى، لعل من ابرزها عدم اتضاح الهوية الفردية للمواطن السعودي كمقابل لهويته الاجتماعية. وربما يكون من اسبابها الخلط السائد في مفهوم العدالة الاجتماعية وتطبيقاته. ويجب ان لا ننسى بطبيعة الحال ضآلة اطارات النشاط العام التي تسمح للفرد بالتعبير عن همومه وتطلعاته بشكل فعال لكن ضمن اطار القانون.
 استطيع القول من دون تردد ان المشكلة اكبر من الحلول الامنية، واكبر من التنظيرات الفردية والاحكام المسبقة. صحيح اننا نراها على فترات متباعدة، وقد ننساها او نتغافل عنها فور ان ينشغل الاعلام بغيرها، وهو ما حدث حتى الان للاسف. لكن المشكلة موجودة في بيئتنا، وهي ربما تتفاقم من دون ان نشعر. ولهذا فاننا بحاجة الى رفع القيود الواقعية او الافتراضية على النقاش في مشكلة العنف وتفريخ العنف. ونحن بحاجة الى تشجيع هؤلاء الشباب على الكلام بصراحة وفي العلن، لعلنا نستطيع استنباط بدائل او حلول. ربما نستطيع تحويل «العامل السعودي» الى مسار اكثر ايجابية، مسار بناء في بلادنا وفي العالم، بدل ان يبقى مقترنا بتصدير العنف او تحريك العنف او المشاركة في العنف كما هو الحال اليوم.
عكاظ 18  يوليو 2007  العدد : 2222 
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070718/Con20070718125906.htm

لمعلومات عن احداث المسجد الاحمر في يوليو 2007، انظر الجزيرة.نت 
http://www.aljazeera.net/home/Getpage/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/f1b9bf1c-a2a1-4459-8ac9-2c869f2b4ef2


مقالات ذات علاقة

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

العامل السعودي

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...