اختار ايزايا برلين "ضلع الانسانية الاعوج" عنوانا لمحاضرة نالت شهرة عريضة. ثم استعمله عنوانا لكتاب اشتهر هو الاخر. ويقول برلين انه اراد الاشارة لاستحالة الكمال الذي طالما تغنى به قدامى الفلاسفة وأهل الاديان. فهل يبلغ الكمال من طبعه العوج؟. (برلين : الحرية ترجمة معين الامام ص 285)
مما يثير الدهشة انه كلما تقدم البشر ، واتسعت معارفهم وتحسنت معايشهم ، قلت حماستهم لبلوغ الكمال ، سواء على المستوى الفردي ام المستوى الجمعي. لم يعد احد في وقتنا الحاضر يكتب عن العالم المثالي ، على النحو الذي اقترحه افلاطون في "الجمهورية" وابو نصر الفارابي (874-950) في "آراء اهل المدينةالفاضلة" او توماس مور (1478-1535) المفكر الانجليزي الذي ينسب اليه ابتكار مصطلح "يوتوبيا" او المدينة الفاضلة ، وهي عنوان الكتاب الذي بشر بالفكرة.
على العكس من ذلك ، فان كتاب "ضلع الانسانية الاعوج" الذي افتتحنا
به المقال ، ضم فصلين في نقد هذه الفكرة ، حمل الاول عنوان "انحسار الافكار
الطوباوية في الغرب" والثاني "تمجيد الارادة الرومانسية: الثورة ضد
خرافة العالم المثالي". وعلى نفس المنوال ، خصص الفيلسوف كارل بوبر جزء كبيرا
من كتابه الشهير "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد اليوتوبيا ، لا سيما رؤية
افلاطون المثالية.
نستطيع القول اذن ان البشر يزدادون
تواضعا ، كلما ازدادوا معرفة بالكون وقدرة على استثمار الطبيعة. فقد تحدثوا كثيرا في الماضي عن "حلم المدينة
الفاضلة" التي يتحرر الانسان فيها من الحاجة ، ويتحرر المجتمع من الخوف
والجهل. اما اليوم فهم يرونها فكرة مستحيلة ، بل ربما تنقض أصل العدالة.
يبدو ان ميل البشر الى افتراض امكانية الكمال مرتبط بعقيدة قديمة جدا ، ولعلها
من اوائل قضايا الفلسفة ، وتتلخص في فرضية ان كل سؤال صحيح/حقيقي ، له جواب صحيح
واحد. فاذا تعدد الجواب كان احدهما باطلا. وظهرت هذه الفكرة في مختلف العقائد.
واشتهرت عند دارسي العلوم الدينية مقولة ان الحق واحد ولا يمكن ان يكون متعددا.
وتوسع بعضهم في استعمال المقولة ، فاعتبر رايه مطابقا للحق الواحد ، وان كل راي
عداه باطل.
والواضح ان غالبية الامم ومفكريها ، في الماضي والحاضر ، يتبنون هذه الفكرة
الاحادية او نسخة منها. الذين يقولون بان الليبرالية هي نهاية التاريخ والحل
الحاسم ل "كل"مشكلات العالم ، مثل الذين سبقوهم الى القول بان الدين ،
اي دين ، هو الحل الوحيد ل "كل" مشكلات البشر ، ونظرائهم الذين قالوا بالحتمية
التاريخية لانتصار الطبقة العاملة وقيام مجتمع المساواة الشيوعي.
ما يتبناه اي واحد فينا هو فهمه الخاص ، الذي ربما توصل اليه من خلال
الدراسة والبحث ، او استقاه من البيئة الاجتماعية. وهو قد يكون حقا بدرجة 90
بالمائة او 60 بالمائة او 20 بالمائة. لا
يوجد دين او مذهب او ايديولوجيا دنيوية ، تخلو من كل خير او تقدم اجابات خاطئة على
كل سؤال. هناك على الدوام قيم ومفاهيم نعتبرها صحيحة مطلقا ، لانها نتيجة متكررة لتجارب
البشر خلال تاريخ طويل ، وهي تشكل ما يسميه الاصوليون "عرف العقلاء"
واستطيع تقريبه الى مفهوم العرف العام common senseالرائج في الغرب. وكلا المفهومين محل
احترام عند الجميع ، ففيهما زبدة الخبرة التاريخية للانسان.وهذه المفاهيم والقيم
مبثوثة في كل المعتقدات ولا يخلو منها اي معتقد سماوي او ارضي على الاطلاق. ولهذا
يمكن ان تمثل معيارا مشتركا حين يختلف الناس.
هذه لمحة عاجلة عن مبدأ تعددية القيم. وسنعود لتفصيل الفكرة في قادم الايام.
الأربعاء -
13 صفر 1442 هـ - 30 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15282]
https://aawsat.com/node/2536891
مقالات ذات صلة