09/10/2025

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

 

في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خمس دقائق على فحصها ، فتدفع له ما يكسبه زوجها من عمله في أسبوع عمل كامل. ثم يستدرك ان هذا عمل تستحي منه الإنسانية. ولهذا قرر جعل فحص الفقير والطفل اليتيم مجانيا. وقد حصدت الرسالة تفاعلا استثنائيا ، من جانب رواد منصة التواصل الاجتماعي "اكس".

قبل هذا ، في 26 فبراير الماضي ، عثر عامل صيانة ، بمحض الصدفة ، على جثة الممثل الشهير جين هاكمان ، الذي توفي بعد أسبوع تقريبا من وفاة زوجته في الغرفة المجاورة. يرجح ان الزوجة توفيت في 11 فبراير وتوفي هاكمان ، الممثل الحائز على جائزة الاوسكار مرتين ، في 17 فبراير. الجيران الذين تحدثوا للصحفيين ، قالوا ان الزوجين كانا منعزلين ، نادرا ما يزورهما أحد ، رغم ان هاكمان لديه ثلاث بنات من زواج سابق ، وبالطبع ، الكثير من زملاء وأصدقاء العمل. لكن أيا من هؤلاء ومن الجيران ، لم يفتقد الزوجين ولم يسأل عنهما طيلة أسبوعين على الأقل.

جين هاكمان

سيدة على صلة بالزوجين ، قالت فيما يشبه رثاء الذات ، ان حياة الناس تحولت الى ركض وراء المال. حتى العلاقة مع الاهل والأصدقاء باتت تقاس بالعائد او الفاقد المالي ، وكذا الخدمات البسيطة التي اعتاد الناس تقديمها لبعضهم ، تأكيدا للمحبة او الشفقة. فاذا بلغ الشخص خريف العمر ولم يعد مفيدا تجاريا ، فسوف تنتهي حياته الاجتماعية ، وسوف ينتقل الى هامش الحياة ، مثل سيارة قديمة تنقل بعد سنين من الاستعمال ، الى ساحة التشليح او حاشية الطريق.

الذي يجمع بين قصة الطبيب النجار وقصة الممثل هاكمان وامثالها ، هو ان الوقت الاجتماعي بات سلعة. أناس كثيرون باتوا يأبون إنفاق وقتهم في أشياء ضرورية جدا لأشخاص آخرين. يمكن ان يكون هؤلاء الاخرون أبا او اخا او صديقا او مريضا فقيرا او طفلا ، او أي شخص وضعته الحياة في طريقنا ، فهل نحن مستعدون لابطاء حركتنا ، او حتى التوقف من أجل ان نتعرف عليه او نساعده او نعطيه أملا؟.

يعتقد البروفسور مايكل ساندل ، وهو فيلسوف أخلاقي معاصر ، ان المشكل ليس البخل او قلة الأدب او قلة الاكتراث ، بل الانزلاق الذي لا نلاحظه بدقة ، من شعار "اقتصاد السوق" الى واقع "مجتمع السوق".

خلال الخمسين عاما الماضية ، بات اقتصاد السوق قرينا للازدهار والرفاهية. بل ان الفيلسوف المعاصر روبرت نوزيك ، اعتبره سبيلا وحيدا لاقامة العدالة في توزيع الثروة والفرص. وبشكل عام ، ورغم كل عثرات هذا النموذج ، فان التجربة العملية تؤكد فرضية انه الآلية الأكثر كفاءة لتنظيم الإنتاج والتوزيع ، والعون الأكبر لتحويل الأفكار الى محرك للابتكار والثروة.

معظم الناس يدعمون هذه الفكرة. لكن بعضهم أشار دائما الى مجال لا يمكن لاقتصاد السوق ان يعالجه بشكل جيد. خذ مثلا ظاهرة المشردين الذين تعج بهم المدن الكبرى في القارتين الامريكية والأوروبية ، الذين يعيشون في الخرائب او ربما على الرصيف ، لأنهم لا يملكون سكنا ولا المال اللازم لاستئجار مسكن. وخذ أيضا رفض المستشفيات الخاصة علاج حالات طارئة لان المريض ليس مسجلا في نظام التامين الصحي ، حتى ان بعض الناس توفوا في انتظار الموافقات وتأمين الأموال..

يتحول المجتمع الى سوق ، وتمسي الحياة الاجتماعية امتدادا للسوق ، اذا بات كل شيء يشترى بالمال ، بما فيه الصداقة والمحبة والتعاطف والوقت الاجتماعي والكرامة والفرح والحزن والألم والسعادة. قد يبدو هذا الكلام مبالغا نوعا ما. ولحسن الحظ فلازال المجتمع العربي بعيدا عن هذه الحالة. لكن انظر لما تنشره الصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي ، من امثلة شبيهة لما ذكرته في السطور السابقة ، ثم سائل نفسك عن مصدر هذه الحالات واسبابها.. سترى الجواب واضحا تماما.

الشرق الاوسط - الخميس - 17 ربيع الثاني 1447 هـ - 9 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5195279

 

02/10/2025

العقل في المرحلة الأوروبية

العقل المعاصر نتاج لعصر النهضة الأوروبية. لكنه لم ينحصر في أوروبا ، بل بات أقرب الى نموذج كوني ، يمثل حقيقة الانسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. أعلم ان غير الأوروبيين لا يرتاحون لهذه النسبة. فهي تقلل - ضمنيا - من قيمة اسهامهم  في انتاج الفكر الإنساني والتجربة التاريخية للبشر بشكل عام. وقد يظن بعض المسلمين ان الفارق الديني هو المحرك لكلا الموقفين ، الاستهانة الغربية والرد عليها. لكني وجدت مفكرين من خارج هذين السياقين يعبرون ، صراحة او ضمنيا ، عن موقف مشابه. من يقرأ اعمال امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل ، سيلاحظ ان الثقافة الهندية حاضرة بكثافة في كل كتاباته تقريبا ، رغم انتمائه للتقليد العلمي الأوروبي.

أمارتيا سن

أردت البدء بهذا التمهيد تنبيها للقاريء الى حدود التعميم الذي سيظهر في ثنايا المقال. والحق اني انظر لتطور مفهوم العقل وانتسابه للحضارات المتعاقبة ، من زاوية لاتتصل ابدا بتقييم تلك الحضارات والمراحل. اعتقد ان تاريخ البشر تجربة واحدة ممتدة ، تتنوع وتتصاعد باستمرار ، وتتشكل في إطارات مختلفة ، لغوية او جغرافية او دينية ، بحسب مايتوفر من عوامل بعث أو خطوط انكسار. من هنا فان الأديان والحضارات والحروب والتجارب العلمية ، تشكل كلها طبقات في بناء واحد. لا شك عندي ان جانبا مهما من نضج الثقافة الإسلامية القديمة وعمقها ، ثمرة لاتصال المسلمين بالثقافات السابقة ، كاليونانية والصينية والهندية والفارسية والافريقية وغيرها. وبالمثل فان الثقافة الاوربية المعاصرة امتداد لتلك الثقافات ومنها الإسلامية. نعلم أيضا ان قابلية الثقافة للتطور ، رهن بقدرتها على التفاعل مع الثقافات المختلفة وإعادة انتاج مفاهيمها ضمن نسيجها المحلي. ولهذا السبب خصوصا ، ذكرت في كتابة سابقة ان ضعف النشر العلمي باللغة العربية ، يرجع في جانب منه ، الى ما أظنه تعقيدا مبالغا فيه للشكل اللغوي والقواعد النحوية والبلاغية ، بحيث باتت فرصة الكتابة العلمية بالعربية ، قصرا على من يجيد قواعدها النحوية والبيانية اجادة تامة.

بالعودة الى صلب الموضوع ، فان العقل المعاصر  يمتاز بسمات أساسية يشكل مجموعها خطا فاصلا عن عصور العقل السابقة. أذكر هنا ثلاثا من تلك السمات:

1-     الفصل بين المعرفة والقيمة. اذ لم يعد التفكير في القضايا ، متقيدا بقيمتها المستمدة من موقعها الاجتماعي او التاريخي او الديني. ربما يتقيد الباحث بقيمه الخاصة في مرحلة مابعد الاستنتاج ، لكنه في مرحلة الملاحظة والبحث وصناعة الفكرة ، ينبغي ان يتحرر من كل قيد. تتعاضد هذه المقولة مع قاعدة ان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ، جزء أساسي في مفهوم كرامة الانسان وقيمته كموجود عاقل.

2-     العقل نفسه ينظر اليه الآن ككون مستقل عن الأرضية الثقافية التي ولد فيها (او بالأحرى ينبغي ان يكون هكذا). لكن نتاج العقل لا يعد مطلقا ولا مستقلا. بات متفقا عليه ان العقل يتشكل بتأثير تجربة الانسان الحياتية ، التي تعكس الى حد كبير شروط بيئته وما يتجاذب فيها من تيارات. من هنا فان نتاج العقل لم يعد تعبيرا عن الحقيقة ، بل هو معرفة مؤقتة او رأي شخصي ، قد يتحول الى توافق عام اذا عبر القنوات الخاصة بتعميم الأفكار ، كمؤسسات الصناعة والبحث العلمي والهيئات التشريعية.

3-     التمييز بين استقلال العقل في الأصل ، وتبعيته الواقعية لشروط البيئة الاجتماعية ، تظهر أهميته في التمييز الضروري بين دورين يقوم بهما ، دور يسمى "العقل العملي" ووظيفته فيه هي ربط الانسان بما حوله وتيسير حياته ، أي ادراجه في شبكة الأعراف السائدة ، ودور يسمى "العقل النظري" ووظيفته نقد اعراف وتقاليد البيئة والثقافة ، ومحاولة تحرير الانسان من قيودها بإنتاج بدائل لها ، تتحول بالتدريج الى تقاليد في دورة اعلى ، وهكذا. العقل اذن تابع في مرحلة ومتمرد في مرحلة تالية.

 هذا ما اتسع له المقام. ولعلنا نعود للموضوع في قادم الأيام.

 الشرق الاوسط الخميس - 10 ربيع الثاني 1447 هـ - 2 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5192734

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الثقافة كصنعة حكومية
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
اليد الخفية التي تدير العالم

25/09/2025

العقل الناقص .. العقل المخيف

 بعض القراء الأعزاء افترض ان ما ورد في مقال الأسبوع الماضي ، يدحض حجة الذين انكروا دور العقل في صناعة القيم ، سواء كانت دينية او غير دينية. وقد ذكرت هناك ان العقل هو الذي مهد للإنسان طريق الايمان ، حين اكتشف التوحيد وانطلق منه لفهم الكون والطبيعة. فكيف اتكلنا على العقل في اعظم القيم واعلاها ، وانكرنا دوره في الفرعيات وتفاصيل الحياة؟.

مايكل ساندل

ان التأكيد على محورية العقل وأهمية دوره ، لا يعني ان منكري هذا الدور جهلة او متنطعين. فهم كغيرهم من أهل العلم ، يتبعون منهجا محددا في الوصول للحقائق ، وعلى أرضية هذا المنهج أقاموا حججا قد لا ترضي مخالفيهم ، لكنها ليست بلا أساس. أقول هذا طمعا في اقناع أصدقائي بالانصاف ، حين يجادلون فكرة او يتخذون موقفا. مجادلة الأفكار ليست حربا مع المخالف. ومثلما أعطيت نفسك حقا في تبني فكرة او موقف دون استئذان مخالفيك ، فجدير بك – ان كنت محبا للعدل – ان تقر لهم بنفس الحق ، بلا نقص ولا تطفيف.

الذين أنكروا دور العقل في صناعة القيم الأخلاقية والدينية ، لديهم نوعان من الحجج ، بينهما تداخل واضح. النوع الأول خلاصته ان تلك القيم وظيفتها توجيه الانسان نحو الكمال. فينبغي ان تصدر عن كامل. ونعلم أن  العقل البشري ليس كاملا ولايدعي الكمال. فكيف يكون هذا الناقص صانعا للقيم وميزانا لقياس جودة الصناعة في آن واحد. هذا اشبه بجعل المدعي قاضيا ، او نظيرا لحبيب المتنبي الذي قال فيه "فيك الخصام وانت الخصم والحكم". هذه الرؤية شائعة بين الاتجاهات الدينية ، التي تنادي بجعل تعاليم الوحي مصدرا وحيدا او مرجعا أعلى للقيم الدينية والأخلاقية. لكنهم يتساهلون في منح العقل دورا كاملا خارج هذا الاطار.

اما النوع الثاني من الحجج ، فخلاصته ان عمل العقل يتسم – عموما – بأنه تجريبي ، يتعلم الصحيح بعد ارتكاب الخطأ. الحياة عموما تجربة متصلة ، تتألف من عشرات التجارب الصغيرة تشكل حياة الانسان اليومية. أخطاء التجارب قابلة للاحتمال ، طالما بقيت في إطار الحياة الفردية ، او حتى حياة عدد قليل من الناس. لكن هل يصح تحويل حياة البشرية كلها ، أو حياة بلد بكامله ، الى موضوع لتجربة ذهنية أو مادية ، يجريها شخص واحد او بضعة اشخاص؟.

كنت قد نقلت في نوفمبر الماضي القصة التي ذكرها برنارد ويليامز ، الفيلسوف المعاصر ، عن "جيم" الرحالة الذي وضعته أقداره امام خيار مرير: ان يقتل شخصا واحدا بلا ذنب ، كي ينجو 19 من رفاقه ، او يمتنع فيموت الجميع. أورد ويليامز القصة في سياق نقده للفلسفة النفعية التي تعتبر الفعل صحيحا (أو عادلا) اذا حقق منفعة اعظم لعدد اكبر من الناس ، ولو تضرر جراءه عدد قليل او كان الضرر بسيطا. مثل هذه القصة يتكرر كثيرا في الحياة العامة. وتحدث عن نظائر لها مايكل والزر في مقالته الشهيرة "الفعل السياسي: مشكلة الايدي القذرة" وقد عرضنا لبعض ما ذكره في مقال سابق. كما تحدث عن الموضوع نفسه مايكل ساندل في سلسلة محاضرات بعنوان "ما الذي يصح فعله". والحق ان مواجهة هذا الخيار ليس بالأمر الهين ، لكنه يمثل تجسيدا لنوع من التجارب الحياتية التي يواجهها الناس يوميا في اطار حياتهم الخاصة ، ويواجهها السياسيون والعلماء حين يخوضون تجارب يتأثر بها ملايين من الناس.

ترى ما الذي ينبغي للرحالة ان يختار. اعلم ان كثيرا من الناس سيختار قتل فرد واحد كي ينجو البقية. لكن هل هذا هو الفعل الصحيح؟. مثل هذه التجارب العسيرة التي تتداخل فيها مبررات عقلية وعاطفية وإرادات متباينة ، هي التي تدعو الاخباريين الى اعفاء العقل من هذه المهمة وايكالها الى قوة أعلى يقبل الناس جميعا بخياراتها. هذه القوة هي الخالق سبحانه او قانون الطبيعة ، او أي قوة أخرى لديها مسطرة واحدة لا ترجح أحدا على احد حين تختار.

الشرق الأوسط - الخميس - 03 ربيع الثاني 1447 هـ - 25 سبتمبر 2025 م  https://aawsat.com/node/5190079

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."

ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم

طرائف التاريخ وأساطيره
عقل الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة

العقل الاخباري

الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة

كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

18/09/2025

العقل الاخباري

 منذ قديم الزمان وحتى اليوم ، عرف المجتمع البشري أشخاصا ، يرون الكون فوضى: أجزاء تتحرك في كل اتجاه ، من دون ترابط بين حركة وأخرى أو تفاعل بين جزء وآخر ، أو سبب أو علة تفسر هذه الحركة او تلك. في الماضي السحيق ظن بعض البشر ان آلهة تغضب او ترضى أو تتصارع ، فينعكس ذلك في حركة النظام الكوني. إله البحر يغضب فيحرك الأمواج العاتية كي تغرق السفن ، أو يرضى فيأتي السمك قريبا من الشواطيء. ويتفاهم إله المطر مع إله الريح فيأتي المطر خفيفا لطيفا ليسقى الأرض العطشى ، فاذا تخاصما تحول المطر سيولا جارفة تهلك البشر والشجر.  

ساهمت الأديان التوحيدية ، ثم الفلسفة ، في اقناع البشر بأن الكون نظام واحد ، متكامل ومعقول ، الامر الذي سمح بالتفكير فيه وفهم العلاقة بين أجزائه. هذه الفكرة حررت العقل البشري من خوف الطبيعة ، وسمحت له بالتطلع لاستثمارها وتسخيرها لتحسين مصادر عيشه. تطور العلوم كان ثمرة لتعمق العقل في فهم الطبيعة ونفوذه الى أعماق قوانينها ، واستيعابه لكيفية انتظامها وتفاعلها مع بعضها.

حين انشق حجاب الغيب وانكشفت أسرار الكون ، برز العقل كقائد لحياة البشر ، فاستبشر به معظمهم. لكن بعضهم شعر بالحيرة إزاء ما سيأتي لاحقا ، وشعر آخرون بالرعب من ان يستثمر فريق منهم القوة الهائلة التي وفرتها عقولهم ، للتحكم في الضعفاء أو حتى استعبادهم. صعود العقل لم يكن مريحا لكثير من الناس.

حوالي القرن الرابع عشر الميلادي ، شهد العالم القديم كله تقريبا ، من غرب اوربا الى الهند ، تراجعا في حركة العلم (ومن ضمنه علم الدين) وصعودا مفرطا في أهمية القوة العسكرية. ونعرف أن هذا النوع من التطورات يؤدي لانحسار الأمان النفسي (الطمأنينة) عند عامة الناس ، فيجري التعويض عنه بنمط ثقافي يلعب دور السلوى والمواساة.

يؤدي بروز هذا النمط الثقافي (نمط السلوى والمواساة) الى شيوع الوظائف التي تخدمه ، وأبرزها تأليف وتلاوة القصص الشعبي (السوالف حسب التعبير الدارج في الخليج) وممارسة السحر وادعاء قدرات خارقة. ويجري تسويق هذا النمط بتضمينه مواعظ وتوجيهات او اقاصيص منتقاة من حوادث التاريخ. ان العامل الأكثر تأثيرا في شيوع ثقافة السلوى وازدهار عمل القصاصين ، هو اخفاق المجتمعات في حل مشكلاتها ، من الفقر الى القهر او الشعور بانسداد الآفاق.

هذه هي الأرضية التي ينبت فيها العقل الاخباري. منطلق العقل الاخباري هو التسليم بمعيارية النص المروي ، وكونه تلخيصا صادقا للنموذج الأمثل. انه عقل ينشد الكمال. لكن ليس من خلال اجتهاده الخاص ، ولا مكابدة الاكتشاف والتعمق في فهم العالم ، بل من خلال مطابقة السلوك الحياتي الحاضر ، بالنموذج الذي جرى تبجيله ، لسبب ديني او دنيوي. جوهر الخطاب هنا يعبر عنه القول المنسوب الى الامام مالك "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وللمناسبة ، فهذا المسلك ليس حكرا على المسلمين ، فكل الأمم فيها تيار واسع يذهب هذا المذهب. ولدى كل منهم مبررات جديرة بالتأمل.

يتسلح العقل الاخباري بمكتبة ضخمة ، مليئة بتراث الأقدمين من نصوص معيارية وآراء وأحكام وتجارب حياتية. هذه المكتبة تحولت الى حياة كاملة عند بعض الناس ، يتحدث بها وعنها ، ويجادل دونها ، ويعيد قراءتها وشرحها ، وتحقيق شروحات السابقين عليها. وثمة جدال ينهض فترة ويتراخى فترة أخرى ، محوره سؤال متكرر بنفس الشكل والجوهر ، فحواه: هل ثمة شيء وراء هذه المكتبة ، نبحث فيه عما يصلح حياتنا ، ام ان معرفة الدين ومراداته وأسراره ، كلها مخزونة في رفوفها؟.

العقل الاخباري شديد الفخر بمكتبته ، فكلما ناقش أحد مسألة من مسائل الدنيا ، استل الاخباري رواية من هنا او هناك ، فشهرها امام المتحدث لايقافه عن كل قول مختلف عما ورد في الرواية. اليس "كل الصيد في جوف الفرا"  كما قال العربي القديم؟.

الشرق الأوسط الخميس - 26 ربيع الأول 1447 هـ - 18 سبتمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5187446

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."
الاستدلال العقلي كاساس للفتوى
أصنام الحياة
الاموات الذين يعيشون في بيوتنا
ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
الـدين والمعـرفة الدينـية
رأي الفقيه ليس حكم الله
طرائف التاريخ وأساطيره
عقل الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة
في رثاء د. طه جابر العلواني
كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه



11/09/2025

هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟

 النقاش الدائر حول "اصنام العقل" الأربعة ، الذي عرضنا طرفا منه في الأسبوعين الماضيين ، محركه سؤال محوري ، شغل بال المفكرين قرونا متطاولة. فحوى السؤال: هل يمكن الاعتماد التام على العقل في انتاج القيم الأخلاقية؟.

سقراط

افترض ان غالبية الناس ، سيضحكون ساخرين. ولعل بعضهم يقول: ان لم نثق بالعقل ، فما الذي نثق فيه ، وهل توجد وسيلة أخرى لانتاج المعرفة والمعنى ، غير العقل؟.

الحقيقة ان أناسا آخرين قد أجابوا فعلا ، قائلين انه يوجد مصدر آخر اعلى من العقل ، أو ان العقل بحاجة الى ميزان يرجع اليه ، كي يتحقق من صحة احكامه.

من الواضح ان الشك في كفاية العقل ، راجع لوجود عوامل تؤثر عليه ، فتجعله منحازا في أحكامه او متعثرا في فهمه للموضوعات. إن "أصنام العقل" المذكورة ، مثال على تلك العوامل التي تأخذ العقل بعيدا عن الصواب. وقد أسلفنا القول بان بعضها كامن في نفس الانسان ، وبعضها في محيطه الثقافي/الاجتماعي ، وهي تتعاضد في توجيه العقل نحو مسار محدد ، منحاز غالبا ، وبالتالي فلن نتيقن من سلامة ما يتوصل اليه.

نعرف من الفلسفة القديمة رؤية سقراط وتلاميذه ، التي أقامت منظومات الاحكام والقيم على أرضية القانون الطبيعي. وخلاصة هذه الفكرة ان العالم نظام متقن ، تتحرك اجزاؤه في مسارات دقيقة ، كي تحقق غايات وأغراضا ذات أهمية لحياة البشر. هذه الغايات هي التي تضفي على النظام قيمته وهي التي تخبرنا عن حقيقته.

انطلاقا من هذه الرؤية ، قالوا ان أفضل نظام اجتماعي ، هو الذي يستلهم مسارات النظام الكوني وأغراضه. بعبارة أخرى فاننا نحكم بصحة المعارف التي ينتجها العقل ، إذا تلاءمت مع نظام الطبيعة ، الذي نعرف سلفا انه صحيح وكامل.

بنفس المقياس ، فقد افترض هذا التيار الفلسفي ان القيم الأخلاقية الكبرى ، موجودة في نظام الطبيعة ، من قبل ان يتوصل اليها الانسان. لان الاخلاق في أبسط صورها ، هي الملاءمة بين ما يريد الانسان فعله ، وبين ما ينبغي له فعله ، أي بين الصورة الواقعية والصورة النموذجية للفعل. هذه الصورة النموذجية هي التماثل التام مع متطلبات النظام الطبيعي. من هنا قالوا بأن العقل لا ينتج القيم الكبرى والاخلاقيات ، بل يستمدها من النظام الطبيعي.

انتقلت هذه الرؤية الى المجتمع المسلم ، حين انفتح على علوم الأمم الأخرى. وقد أثرت بقدر ما. لكن المفكرين المسلمين طوروا نموذجا بديلا ، حين أضافوا الوحي كمصدر للمعرفة والاخلاقيات ، وقللوا بقدر ما من دور النظام الطبيعي. ثم انقسم الفكر الإسلامي الى اتجاهين: اتجاه "اخباري" شدد على محورية الوحي ونصوصه الصريحة ، واتجاه اعلى من شأن العقل ، وربما قدمه على نصوص الوحي. وابرز رموز هذا الاتجاه هم "المعتزلة" الذين قالوا ان العقل دليل كامل ، ولولاه ما عرفنا الله ولا وجوب طاعته ، ولا عرفنا ضرورة الرسل  وصدق الرسالات. ان الله خلق العقل وجعله رأس كل الموجودات في العالم ، وأرجع اليه قيمة الانسان. فالانسان العاقل هو المخاطب بأوامر الله وتعاليمه ، وهو خليفته في أرضه. كما قالوا بان الخلق والرزق والعقائد واحكام الشرع ، ترجع في منطلقاتها وبنيتها ومبرراتها ، الى قواعد علمية او منطقية يقبلها العقلاء. ولذا فالعقل مصدر منفرد للتشريع. ولتبرير هذا الرأي الخطير ، توسعوا في التأسيس المنطقي لقاعدة "التحسين والتقبيح العقليين". وخلاصتها ان كل فعل بشري ينطوي في ذاته على قبح او حسن ، قابل للادراك بواسطة العقل. فاذا تعرف  العقل على حسن الفعل أو قبحه ، بات قادرا على الحكم بالمكافأة او العقاب. وهذا هو جوهر فكرة الامر والنهي الإلهي.

هذا ما اتسع له المقام اليوم ، وآمل ان نعرض رؤية الاخباريين ، والمرحلة الأوروبية في قادم الأيام بعون الله.

الشرق الأوسط الخميس - 19 ربيع الأول 1447 هـ - 11 سبتمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5185007

مقالات ذات صلة

 

04/09/2025

هل جربت صنم الكهف؟

اتخيل ان نظرية "الاصنام الأربعة" التي اقترحها فرانسيس بيكون ، أثارت جدلا واسعا يوم نشرت اول مرة. لم اكن حاضرا يومئذ كي أرى بعيني (القراء الأعزاء يعرفون هذا بالتأكيد) كما لم اقرأ شيئا يؤكد واقعة كهذه. لكني اعلم أن الأمس مثل اليوم: كل رأي يعارض الأفهام السائدة ، سيثير شيئا من الجدل ، كثيرا أو قليلا.

لعل القراء الأعزاء يذكرون قول بيكون بأن عقل الانسان يتأثر دائما بعوامل من داخل النفس ومحيطها ، أبرزها ميل البشر لتعميم الأحكام التي يتوصلون اليها دون تمحيص. وهو ما اطلق عليه اسم صنم القبيلة ، ثم صنم الكهف ، وهو الميول الشخصية الناتجة عن انتماء الفرد الاجتماعي او مصادر ثقافته او مصالحه وبقية المؤثرات التي تسهم في تشكيل شخصيته. الثالث والرابع هما صنم السوق وصنم المسرح ، وسنعرض لهما في قادم الأيام.

افترض ان المجادلة الرئيسية التي واجهت نظرية بيكون هي: اذا كانت الاصنام الأربعة تؤثر على العقل بقدر يؤدي لتغييبه وتعطيل فاعليته ، حتى يعجز عن تمييز الحقائق ، فكيف نستعين به لاحقا ، في تفكيك الأفكار والتصورات وإعادة تركيبها ، وكيف يستطيع فرز المعلومات الصافية من تلك المشوبة بالمؤثرات السلبية؟.

يزعم معارضو رؤية بيكون بأنها تنطوي على تعارض داخلي ، كأنها تقول للمريض الذي تسمم بسبب الاناء الملوث: ضع مزيدا من الدواء في هذا الاناء نفسه وستشفى. فهل يمكن للوعاء الذي تسبب في مرضي أولا ، ان يكون أداة شفائي تاليا؟. فكذلك حال العقل المتأثر بالأوهام والأصنام: كيف له ، بعدما تأثر وانحرف بتفكيره عن الجادة ، ان يعود للصواب فيصلح عالمه؟.

لدى فرانسيس بيكون جواب على هذا. فقد استعار – كما أظن - اسطورة الكهف التي اقترحها افلاطون ، لتصوير المشكلة والحل.  خلاصة الأسطورة ان أشخاصا سجنوا مقيدين في كهف بابه وراء ظهورهم. يدخل الضوء من الباب ، فاذا تحرك الناس خارج الكهف انعكست ظلالهم على الجدار المقابل للباب ، ومر الزمان وسجناء الكهف لا يرون غير حركة الظلال على الجدار ، فاستقر في انفسهم ان هذه الظلال هي  التصوير الكامل للحركة الجارية في العالم. في يوم من الأيام ، أفرج عن أحدهم ، فلما خرج رأى حركة الناس مختلفة تماما ، في حجمها واتجاهاتها وتأثيرها ، وان الظلال التي كانوا يرونها في الكهف لم تكن سوى طرف ضئيل جدا من انعكاس تلك الحركة ، ولا تكشف حقيقتها. فعاد واخبر زملاءه في الكهف ، فلم يصدقوه ، وافترضوا ان زميلهم أصيب بلوثة بعدما خرج من "عالم الكهف". فكيف يصدقون ناقلا ويكذبون اعينهم؟. ولعلهم تمثلوا بقول العربي القديم: 

"يابن الكرام الا تدنو فتنظر ما 

قد حدثوك فما راء كمن سمعا".

تشير اسطورة الكهف الى امتلاء ذاكرة الانسان وعقله بالمعلومات المتحيزة التي تبني له عالما متوهما ، لكنه لا يشك أبدا في انه عالم حقيقي ، لأنه يراه بعينه (الصحيح انه يرى ما يصوره عقله ، لكنه عاجز عن التمييز بين الوهم والواقع).

ما يتسلل الى ذهنك من تفاعلات المحيط واللغة والثقافة السائدة والأعراف ، وما تصنعه من أفكار من خلال الدراسة والقراءة والتجارب الشخصية ، كلها تتعاضد في تكوين ذاكرتك وعقلك. هذا ما يسميه بيكون "صنم الكهف". أي المنظومة أو الكهف الذي يحبس عقلك.

-         كيف ينفتح العقل إذن ، كيف يكتشف انه يسير بالاتجاه الخطأ ، كيف يميز بين الوهم والواقع؟.

جواب افلاطون: اذا خرج من الكهف ، سيرى عوالم مختلفة ، سيضطر للمقارنة بين ما عرفه سابقا وما يراه الآن. سوف يثور الشك في ذهنه ، وسيبدأ العقل في إعادة ترتيب البيانات ومقارنتها.

الخلاصة ان العقل يبدأ في استعادة دوره ، حين يتحرر من الاتجاه الواحد والمحيط الواحد والخطاب الواحد ، حين يرى البدائل ويحصل على إمكانية المقارنة والاختيار. لعل كلا منا يسائل نفسه الآن: هل انكشف له كهفه ، وهل يحاول الانعتاق منه؟.

الشرق الأوسط الخميس - 12 ربيع الأول 1447 هـ - 4 سبتمبر 2025 م  https://aawsat.com/node/5182511

 

مقالات ذات صلة

 

28/08/2025

تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة

بعد الحديث عن الثقافة في الأسبوع الماضي ، حان وقت الكلام عن "الوعي". واحسب ان كثيرا من الناس يفترضون – من حيث المبدأ – ان كل مثقف واع ، لأنهم يربطون الوعي بالمعرفة. فالواعي في الفهم الدارج ، هو الشخص الذي لديه قدر معتبر من المعارف ، في حقل من حقول العلم كالادب والطب والفلسفة والهندسة وغيرها.

لكني أحتمل ان صلة الوعي بالثقافة صلة عرضية ، وليس احدهما سببا للآخر او مقدمة لازمة. فقد تجد رجالا واعين ونساء واعيات ، مع ان حظهم في الثقافة قليل جدا ، وتجد أشخاصا على قدر عظيم من العلم في مجال بعينه ، لكنهم بسطاء جدا حين يتعلق الامر بالتعامل مع التحديات الحياتية ، خارج نطاق اختصاصهم. وأذكر قصة قبل زمن طويل نسبيا ، توضح هذا المعنى ، وخلاصتها اني التقيت طبيبا بارزا في بلدنا ، فأخبرني انه لازال مندهشا من نجاح (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين في اقناع رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ، بالتنازل له عن منصبه. فسألته ضاحكا: وهل اقتنع البكر في نهاية المطاف؟. فأجابني بلهجة جادة: وهل سمعت برئيس تنازل عن منصبه من دون قناعة تامة؟. هذا رجل من أهل العلم – بالمعايير السائدة – لكنه بسيط الى حد توهم ان الرئيسين تناقشا في جلسة ، فاقتنع الأول بالتنازل عن منصبه للثاني. هكذا بكل بساطة. واضح ان شخصا يتخيل الامر على هذا النحو لا يمكن اعتباره واعيا بمجاري الأمور في عالمه.

بعد هذا الاستطراد ، أود اقتراح تعريف مختلف للوعي ، وأريد التركيز خصوصا على علاقته بالثقافة ، وفق المفهوم الذي شرحته في مقال الأسبوع الماضي ، وقلت انه سائد في أوروبا ، ويتضح من المقال انني أميل اليه كتعريف لما اعتبره ثقافة. وأبدأ بتذكير القراء الأعزاء بالأصنام الأربعة ، التي قال الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون أنها ابرز  المؤثرات السلبية على عمل العقل. هذه الأربعة هي صنم القبيلة ، صنم الكهف ، صنم المسرح ، وصنم السوق. واستخدم اليوم الأول منها ، أي صنم القبيلة.

خلاصة ما قاله بيكون في هذا السياق ان البشر جميعا ، يميلون للحكم على الظواهر والاشياء او الأشخاص ، بناء على ملاحظات بسيطة ، ثم يعممون هذا الحكم على كل ظاهرة او شيء او شخص يشترك مع الأول في صفاته. من الأمثلة التي تذكر هنا موجة رسائل الاحتيال المالي التي أرسلت من نيجريا في تسعينات القرن الماضي ، والتي أدت الى اعتبار المعاملات المالية مع الشركات والافراد النيجريين ، كلها مشبوهة حتى يثبت العكس. ان عدد الرسائل تلك يبلغ عشرات الآلاف ، لكنها شوهت سمعة النيجريين جميعا وهم فوق 230 مليون نسمة. السبب في ذلك هو ميل الناس الى تعميم ملاحظاتهم ، فاكتشاف بضعة ايميلات احتيالية ، جعل الاحتيال وصمة على ذلك البلد كله. مع علمنا بأن ملايين النيجريين لا يفعلون ذلك ، وهم لا يقلون شرفا وأمانة عن سائر خلق الله.

اظن ان كافة القراء يتفقون معي في ان التقييمات والاحكام لا ينبغي ان تبنى على ملاحظات او انطباعات محدودة. ثم ان الحكم لا يصح تعميمه على كل موضوع لمجرد انه يتشابه ظاهريا مع الموضوع الذي لاحظناه أولا.

لكن كيف لنا ان نعرف ان كنا قد وقعنا فعلا في فخ التعميم ام لا.

 العلاج هو ما يسمى في علم النفس بالاستبطان ، أي التأمل في محتويات العقل والذاكرة. مفتاح التأمل هو اتهام الذات بالانحياز ، ومطالبتها بانصاف الآخرين. هذا سيكشف لك المعلومات المنحازة التي اختزنها عقلك ، فباتت منظارا يحدد رؤيتك وسلوكك باتجاه غير منصف.

الاستبطان ودفع العقل لتنظيف نفسه ، أي تنظيف ثقافتك ، هو – في رأيي – اول تجسيدات الوعي ، ولاسيما الوعي بالذات الذي يقودك لاحقا الى رؤية جديدة للعالم ، أي الى الوعي بالمحيط.

الخميس - 05 ربيع الأول 1447 هـ - 28 أغسطس 2025 م       https://aawsat.com/node/5179969

مقالات ذات صلة

"اخبرني من اثق به..."

اساطير قديمة

أصنام الحياة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

حول الثقافة السياسية

الصنم الخامس

طرائف التاريخ وأساطيره

كهف الجماعة

ما رايك في ماء زمزم؟

ماذا يقول العربي.. ماذا يقول الأوروبي؟

من يهذب الاخلاق في المجتمع السياسي

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان

 

21/08/2025

ماذا يقول العربي.. ماذا يقول الأوروبي؟

الثقافة ، المعرفة ، والوعي ، عناوين لموضوعات مختلفة عن بعضها ، لكنها متداخلة ، تداخلا أدى لخلط معانيها ، ومن ثم إعاقة النقاش السليم في كل منها. اتحدث هذا اليوم عن الأولى (الثقافة) مقارنا بين مفهومها العربي ونظيره الأوروبي ، طمعا في إيضاح واحد من أسباب تفارق الافهام بين المتحدثين.

حين تقرأ في الاعمال المترجمة لباحثين أوروبيين ، تجدهم يتحدثون عن ثقافة المجتمعات التقليدية ، وثقافة البدو والارياف..الخ. وحين تأتي الى أحاديث العرب المعاصرين ، تجدهم يطلقون وصف "المثقف" على نخبة المجتمع المتعلمة ، بل ربما قصروها أحيانا على المشتغلين بالثقافة ، أو الذين تتصل مهنتهم بالإنتاج الثقافي ، من كتاب وأدباء وأمثالهم.

وتتساءل: هل ترى ان الجماعة الأمية ، أي التي لا تكتب ولا تقرأ ، لديها ثقافة؟. فيجيبك الباحث الأوروبي: نعم ، ويجيبك القاريء العربي: لا.

وفقا لمفهوم الثقافة المتعارف في الغرب ، فان كل انسان يحمل ثقافة المجتمع الذي ينتمي اليه ، ويتلقاها منذ لحظة اتصاله بالمحيط الاجتماعي. الثقافة عنوان لمحتوى واسع النطاق ، يشمل التقاليد التي ورثها المجتمع ، او طورها من خلال احتكاكه بضرورات الحياة.  كما يشمل الاخلاقيات والأعراف والفولكلور والأدب والحكايات الشعبية وانماط المعيشة والتعامل ، ومنظومات القيم الخاصة والمعتقدات وتطبيقاتها ، وكل ما يشير الى شخصية المجتمع وطريقة حياته. ولا يهم بعد ذلك ان يكون هذا المجتمع متعلما (بمعنى انه تلقى التعليم وفق النظم الحديثة) او يكون أميا (بمعنى ان غالبية اعضائه لا يقرأون او يكتبون).

هذا يوضح ان مفهوم "ثقافة" عندنا ، مختلف عن نظيره الأوروبي. ومن هنا فان الحديث عن الثقافة من زاوية علم الاجتماع ، يستدعي بالضرورة المفهوم الأوروبي ، لأن علم الاجتماع الذي نتداوله ، نشأ وتطور هناك.

قلت ان وصف الثقافة والمثقف يشير  ، وفق المعنى الشائع في التداول العربي ، الى النخبة وأصحاب المهن الثقافية. وهو بعيد جدا عن المفهوم الغربي السابق الذكر.

يظهر أثر هذا المشكل حين تعالج – من زاوية علمية – الموضوعات الاجتماعية المتصلة بالثقافة ، كما فعلت في مقال الأسبوع الماضي ، حين تحدثت عن الثقافة السياسية. فالواضح ان بعض القراء فهموا الثقافة في معنى نوعية المعرفة الجديدة المتاحة للمجتمع ، ولذا نسبوا المشكلة الى التأثير الأيديولوجي ، وقرر آخرون ان المشكلة في التعليم. والحق ان كلا العاملين مؤثر الى حد معين. لكن جوهر المشكل في مكان آخر ، هو التاريخ الثقافي (بالمفهوم الغربي للثقافة) أي انعكاسات التجربة التاريخية على ذهنية المجتمع وذاكرته. ومثال ذلك المجتمعات التي تتعرض للقمع الشديد ، فهي تميل للارتياب في المستقبل ، ولذا لا تخوض مغامرات مكلفة ، وهذا يبرز خاصة في قلة الميل للاستثمار الاقتصادي في المشروعات طويلة الأمد. ويتحدث علماء الاجتماع أيضا عن فروق سلوكية بين المجتمعات الزراعية وتلك الصناعية او التجارية ، بل وحتى بين مجتمعات الريف والمدن.

بهذا المعنى فان "الثقافة" عنوان لمحتويات الذهن والذاكرة ، التي توجه السلوك العفوي للفرد والجماعة ، كما تؤثر بقوة على رؤيته لعالمه والناس والاشياء من حوله ، فضلا عن طريقة تعامله مع المستجدات والحوادث. لا يحتاج المرء الى الكتاب او المدرسة كي يحمل هذا النوع من الثقافة ، بل يحتاج الى التواصل مع المجتمع الذي ينتمي إليه ، وسوف يأخذ نسخة من الذاكرة الاجتماعية خلال تعامله اليومي. وعندما يتقدم في العمر ، سيجد ان ذهنه بات نسخة من العقل الجمعي ، ولهذا فهو يحمل هوية الجماعة ويمسي عضوا فيها.

نحن نمتص ذاكرة آبائنا ومجتمعنا بشكل تدريجي وعفوي ، لا نشعر به وهو يحدث. لكن بعد مرور سنوات ، سوف نتيقن ان تاريخنا الشخصي هو تاريخ الجماعة ، وسنرى ان لهجتنا ومفرداتنا وفهمنا للعالم ، هو ذات الفهم السائد في الجماعة. هذه – ببساطة – طريقة انتقال الثقافة ، وهذا هو معناها ، أي الذهن والذاكرة التي تشير – غالبا – للماضي.

الخميس - 27 صفَر 1447 هـ - 21 أغسطس 2025 م       https://aawsat.com/node/5177411

مقالات ذات صلة

 استمعوا لصوت التغيير

 الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

انهيار الاجماع القديم

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

رأس المال الاجتماعي

سلوك النكاية

صناعة الكآبة

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

عقل في السجن

فتش عن الماسونية!

فكرة التقدم باختصار

في جذور الاختلاف

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كفوا السنتكم.. اصلحكم الله

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمعات متحولة

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

الهوية المتأزمة

هيروهيتو ام عصا موسى؟

14/08/2025

حول الثقافة السياسية

 "الثقافة السياسية" فرع من علم السياسة ، جديد نسبيا. وهو ينطلق من سؤال: كيف ينظر الجمهور الى السلطة السياسية ، وكيف يفكرون فيها ويتعاملون معها. وبسبب حداثته فهو ما يزال غير محدد الأطراف ، اذ يتداخل مع علم الاجتماع في نواح ، ومع علم النفس في نواح أخرى. ولنفس السبب ، فان الباحثين الذين يشار اليهم كمتخصصين في هذا الحقل بالمعنى الدقيق ، قلة نادرة. وقد وجدت بعض الكتابات التي تخلط بينه وبين الوعي السياسي ، او بينه وبين المعرفة السياسية في معناها العام ، الأمر الذي يجعله مشوشا وقليل الجاذبية.

ما الذي يجعل هذا الحقل مثيرا للاهتمام؟.

يرجع اهتمامي بهذا الموضوع الى زمن بعيد ، حين بدأت التفكير في الأسباب التي جعلت مجتمعات بعينها ، أكثر تقبلا للآراء الجديدة ، وأكثر لينا في التعامل مع أصحابها ، حتى لو ذهبوا بعيدا جدا في اختلافهم مع التيار العام. كانت بداية تعليمي في مدارس دينية ، فترسخ في ذهني ان العالم قسمة بين المؤمنين بالاديان والمعارضين لهم. خيل لي يومئذ ان كل خلاف على أمور الدنيا ، مرجعه اختلاف العقيدة. لكن سرعان ما اتضح لي ان الخلاف في العقيدة ، واحد من العوامل ، وليس أقواها ولا أكثرها تأثيرا. رأيت أشخاصا مؤمنين بالماركسية وهم – في الوقت عينه - أصدقاء لرجال دين ، وطالما سمعتهم يخوضون نقاشات ساخنة ، دون ان يفترقوا او تذهب المودة فيما بينهم.

ثم لفت نظري ان مجتمعات مختلفة ، تعتنق الدين والمذهب نفسه ، لكنها تتعامل مع السياسة بطرق متباينة: هذه تتفاعل معها وتسعى لخلق نقاط اتصال مع رجال السياسة ، وتلك تميل الى اعتزالها وترتاب في من يطرق أبوابها او يعمل في دوائرها.

في مطلع القرن العشرين ، ساد اعتقاد بين دارسي نظرية التنمية ، فحواه ان كل مجتمع سيتقبل الحداثة فور ان يتعرض لتأثيرها. وتراوحت مبررات هذا الاعتقاد ، بين القول بعقلانية الانسان وانه يتقبل كل ما يراه نافعا لحياته ، وبين القول بأن المعتقدات التقليدية ليست قوية بما يكفي لاعاقة تقدم الحداثة. لكن التجربة  الفعلية في بلدان عديدة ، من اليابان الى الصين وايران ومصر وتركيا والبرازيل وجنوب أوروبا وصولا الى البرازيل ، أظهرت ان كلا من هذه المجتمعات ، لديه فهم متمايز لفكرة التقدم والتعامل مع الدولة والسياسة ، فهم يؤثر على موقفه من مشروع الحداثة وتطبيقاته.

تبعا لتلك التجارب ، توصل الباحثون الى ما يشبه الاجماع على ان التفكير السياسي لكل مجتمع ، نتاج لتجربته التاريخية ، وان طريقة التعبير عنه ، صنيعة لواقعه الراهن ، فقد يميل للانفتاح ، فيسمح بتعدد الآراء ، او يميل للانغلاق والأحادية.

اني أتأمل كل يوم تقريبا في ردود فعل الجمهور العربي على الحوادث والاخبار ، طمعا في التوصل الى فهم معياري للأرضية الثقافية ، التي تنبعث منها الأفعال والمواقف وردود الفعل عليها ، وتفاعلها مع التحولات الجارية في المحيط ، أي مدى تاثرها بتلك التحولات وتاثيرها فيها. ما يهمني في المقام الأول هو أفعال الناس وردود فعلهم ، وليس أفعال الدولة. وغايتي من هذا هي الإجابة على السؤال المحوري في حقل الثقافة السياسية ، أي مدى قابلية المجتمع العربي للمشاركة في الحياة السياسية.

ذكرت في مقالة سابقة انني اميل الى التقسيم الثلاثي للثقافة السياسية ، بين انعزالية ومنفعلة ومشاركة. والواضح اننا الآن في المرحلة الفاصلة بين الانفعال والمشاركة. في مرحلة الانفعال ، يشعر الجمهور بالتأثير الحاسم للسياسة على حياته ، لكنه لا يرى نفسه قادرا على التأثير فيها ، فيتلقى تاثيرها من دون رد فعل تقريبا. بينما في المرحلة الأخيرة ، يعزز المجتمع وعيه بمستوى من الايمان (والمعرفة أحيانا) بان له دورا يؤديه في الحياة السياسية ، وانه يمكن ان يكون مؤثرا ، قليلا ا و كثيرا.

الخميس - 20 صفَر 1447 هـ - 14 أغسطس 2025 م

https://aawsat.com//5175035

مقالات ذات صلة

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

  في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خم...