المجتمع العربي بحاجة للتخلص من عقدة الضحية ، أي الاعتقاد بأنه يقع دائما في الجانب الضعيف والمظلوم ، من اي معادلة سياسية او اقتصادية تنشأ في الساحة الدولية. هذه العقدة هي السبب وراء كثرة حديثنا عن مؤامرات الأعداء ، وتضخيمنا لقوتهم ، وتقبلنا المفرط للحلول السحرية والغيبية واللامادية بشكل عام.
المصابون بهذه العقدة ، لا يبحثون عن أسباب المشكلة ، ولا يستمعون لمن ينفي هواجسهم او يقترح حلولا لعلتهم ، بل يركزون على "النوايا" والارادات الخفية التي يقطعون بوجودها في نفوس اعدائهم. ولو سألت الذين يبشرون بتلك المؤامرات الخفية ، لأجابك دون انتظار: "وهل تتوقع ان يعلن العدو نواياه على رؤوس الأشهاد؟" ، أي ان إقراره بالجهل بحقيقة ما يكتمه العدو ، يتحول خلال لحظات الى ادعاء العلم بالمكتوم. وهذا من اعجب العجب.
وأذكر اننا مررنا بحقبة ، كانت
كل خيباتنا التي تحققت ، او التي ينتظر ان تتحقق في المستقبل ، تعلق على مشجب الماسونية.
ويؤكد أصحاب هذه الرؤية الكسيحة دائما على الإمكانات الضخمة للماسونية ، وقدرتها
على النفوذ لأصعب المواقع ، حتى أنها لم
تترك شخصا مؤثرا ، ولا شخصا تتوسم فيه قوة التأثير في المستقبل ، في شرق العالم
وغربه ، الا وجندته ووجهته لهدم الإسلام وتدمير بلاد المسلمين.
وصدرت عشرات من الكتب ، التي
لو صدقت الاقاصيص المروية فيها ، لكانت الماسونية اليوم أقوى من الولايات المتحدة
وحلف الناتو والصين واليابان مجتمعة. وتضم قوائم الاعضاء في الخطة الماسونية التي
ذكرتها تلك الكتب ، أسماء لرؤساء دول ومنظمات دولية وقادة جيوش ووزراء وعلماء واقتصاديين
واكاديميين ، وحتى قادة للمؤسسة الدينية في مختلف الأديان.
تتوازى
، في كثير من الحالات ، مع تفخيم الذات وتعظيمها والتفاخر على الغير. وقد حضرت
نقاشات ظهرت فيها هذه الازدواجية بشكل كاريكاتوري. وأذكر مثلا ندوة في الكويت ، تحدث
فيها أستاذ جامعي عن مفاخر المسلمين وسبقهم في العلم ، فسأله أحد الحاضرين عن سبب
انقطاع الحركة العلمية القديمة وانفصال العرب المعاصرين عنها ، فقال المتحدث ان
السبب هو مؤامرات الغرب ، الذي لا يسمح للعرب بركوب قطار الحضارة ، خشية ان
يستقلوا بأنفسهم فيكونوا أقوى منه. وسرد
عددا من الشواهد وأسماء العلماء ، الذين قال ان الغرب اغتالهم ، بعدما رفضوا
الانضمام اليه.
لعل القراء الأعزاء قد سمعوا
كلاما كهذا او قرأوه. ولعل بعضهم قد أدرك التناقض بين جزئي الحديث: الجزء الذي
يدعي السبق الى العلم ، والجزء الذي يدعي ان الغرب يمنعنا من مواصلة البحث العلمي
او التقدم في مجال العلم.
أقول انه متناقض ، لأن العلم
ليس الكتب التي يدعى ان التتار قد اغرقوها في دجلة ، أو العلماء الذين يقال انهم
قتلوا على أيدي هؤلاء او على أيدي غيرهم. إن اردتم الدليل فانظروا الى اليابان
وألمانيا التي دمرت مدنها ومصانعها ومدارسها في الحرب العالمية الثانية ، لكنها
عادت أقوى وأكثر تقدما مما كانت ، في فترة تقل عن 30 عاما. لقد انتهت الحرب في 1945
، وفي بداية السبعينات ، كان الإنتاج العلمي والصناعي في كل منهما ، منافسا للدول
الغالبة ، أي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا.
العلم لا يندثر بحرق الكتب
او موت العلماء ، الا اذا كان محصورا في
نخب محدودة ، مثل جزيرة منفصلة عن باقي المجتمع ، ونعلم ان هذا لا يقيم حضارة.
العلم الذي نتحدث عنه هو الذي يخلق مجتمع
المعرفة ، أي المجتمع الذي تسوده روحية المعرفة ومعايير العلم في تفكيره وأعماله.
ان غرض هذا المقال هو تنبيه
الاذكياء الى ان القاء المسؤولية في تخلفنا على مشاجب الآخرين ، أعداء او غيرهم ،
ليس سوى تمظهر لعقدة الضحية التي تجعل الانسان راضيا عن نفسه ، باحثا عن السلوى في
قصص الظلم او في ممارسة الظلم على من يظنه أضعف منه ، وأظننا جميعا قد شهدنا حوادث
تجسد هذه الحالة قليلا او كثيرا.
الخميس - 08
مُحرَّم 1447 هـ - 3 يوليو 2025 م https://aawsat.com/node/5160861
مقالات ذات صلة
شكوك
في العلاقة بين الثقافة والتقدم
الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق