10/07/2004

زمن الداعية وزمن المفكر


طبقا لرأي استاذنا د. حمزة المزيني فان ثقافة الاقصاء كانت فعالة ونشطة طوال العشرين عاما الماضية , بحيث شكلت ما يصفه بمنهج خفي في التثقيف يعمل جنبا الى جنب مع المنهج الرسمي .
 السؤال البديهي هنا: كيف استمر هذا المنهج في العمل عشرين عاما دون ان يوضع على مائدة النقد ? . بكلمة اخرى : لماذا كان علينا انتظار اصوات القنابل والرصاص في شوارعنا واجساد مواطنينا حتى نكتشف الحاجة الى نقد تلك الظاهرة ?. هناك بطبيعة الحال اجوبة كثيرة , كل منها يقدم تفسيرا لوجه من وجوه المشكلة .
د. حمزة ا لمزيني
 سوف أختار هنا واحدا من تلك التفسيرات , وهو هيمنة النمط الاستهلاكي في الثقافة وضآلة البحث الفكري وبالتالي محدودية دور المفكرين. الحديث عن دور المفكرين يستبطن بالضرورة مقارنة بين ثلاث شرائح من المشتغلين بالثقافة , اولاها هي الشريحة الواسعة التي نطلق عليها اجمالا صفة المثقفين, اقرب التعريفات علاقة بالمجال الاجتماعي تقارب بين المثقف والتقني , اي الشخص الذي له اطلالة على بعض العلوم الحديثة ويتركز دوره في الربط بين القوانين العلمية النظرية وموضوعات العمل في الحياة اليومية .
 ومثل هذا الدور جار في كل مجالات الحياة , من الطب والهندسة والرياضيات الى الاجتماع والادب الخ .. الثانية هي شريحة الدعاة.. والداعية هو الشخص الذي يحترف الدعوة الى ايديولوجيا محددة المعالم ومتكاملة . فيما يتعلق بإطارنا الاجتماعي الخاص , فان الداعية عامل في مجال التثقيف الديني على وجه الخصوص يتمحور دوره في ضمان استمرارية التراث القديم , سواء بتكراره كما هو او اعادة انتاج مضمونه في اطارات جديدة . اما الثالثة فهي شريحة المفكرين , وهي - عادة - اقلية صغيرة بالقياس الى سابقتيها .
 يتمايز دور المفكر في كونه صانع افكار , بخلاف المثقف والداعية اللذين يستهلكان الافكار . انتاج الافكار هو في الجوهر نقد للافكار او الاعمال او الظواهر السائدة. الطريق الى الفكرة الجديدة يبدأ بجدل مكتوم مع فكرة او حالة قائمة هو بمثابة شك في صدقيتها يؤدي الى انفصال عنها ثم بحث عن بديل لها. لا يمكن للمفكر الا ان يكون ناقدا ومنفصلا بدرجة او بأخرى عن النظام الاجتماعي, او على وجه الدقة متخارجا مع منظومة المصالح التي يؤطرها ويخدمها. ولهذا السبب يتفق الاجتماعيون على ان المفكر لا يمكن ان يكون مواليا للتقاليد. نقد الواقع هو الوجه الثاني لنقد التقاليد اذ التقاليد وسيلة تشريع وتبرير للراهن.
 من هذه الزاوية فان دور المفكر يرتبط - ضرورة - مع الحداثة كموقف اجتماعي وكرؤية للعالم . الارتباط بالحداثة لا يعني على الدوام انقطاعا عن التراث . ثمة مفكرون جعلوا التراث ميدان عملهم الرئيس , لكن الانشغال بالتراث من جانب المفكر لا يستهدف اعادة انتاجه , بل استثمار ما ينطوي عليه من تجربة انسانية من اجل تجاوز زمنه ومفهوماته . انها اذن عملية تجسير بين الماضي والمستقبل تعمل على تواصل التجربة الانسانية دون الالتزام بزمنها الخاص. خلال العشرين عاما الماضية كانت الثقافة تُصنع على ايدي المثقفين والدعاة , واقتصر دور المفكرين على حدود ضيقة جدا.
المثقف مستهلك للثقافة والداعية مستهلك للتراث , والثقافة التي سمح بها النظام الاجتماعي هي اما تراث في ثياب جديدة او صور عن الحداثة مفصولة عن فلسفتها واساسها المعرفي والمنهجي . مفكرونا - على قلة عددهم - لا يقومون بدورهم الطبيعي , لان نقد الواقع صعب ونقد التراث صعب ايضا ومجادلة التقاليد مغامرة ولو كان هذا الدور متاحا, لحصلنا على فرصة - على الاقل - لاكتشاف ما سينتهي اليه ذلك النوع من التثقيف والادلجة . نقد الواقع لا يستهدف بالضرورة تسفيه فريق محدد او تحميل المسؤولية على اشخاص معينين . اصدار الاحكام ليس من هموم المفكر ولا انشغالاته .
 هم المفكر هو دراسة الظاهرة واستنباط ما تخفيه وما يأتي من ورائها بغض النظر عمن يستفيد منها او يتضرر. الطرف الاخر في معركة المثقف هو الزمن وليس اهل الزمن لان همومه في الاساس نظرية ومجردة. اذا كنا جادين في معالجة الاختلال الثقافي العميق الذي شق مجتمعنا , فان السبيل الى ذلك هو تفكيك الهيمنة المطلقة لنمط الاستهلاك الثقافي , سواء استهلاك التراث او استهلاك الحداثة . يعني هذا على وجه الخصوص : الغاء القيود التي تحول دون ممارسة النقد العلمي . لا يمكن لنا ان نحصل على ثقافة متقدمة اذا بقينا مجرد مستهلكين للثقافة . انتاج الثقافة يتوقف على نشاط المفكرين , ونشاط المفكرين هو بالضرورة نشاط نقدي , وما دام النقد مخاطرة فمن سيغامر ?.
صحيفة عكاظ   10/07/2004م 

03/07/2004

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فكرة التأصيل هي احدى علل الفكر الديني المعاصر. وقد ظهرت في سياق الرد على الحداثة ، لا سيما في ميدان العلوم الانسانية. ويبدو انها تحولت - عن قصد او عن غفلة - الى نوع من المساومة مع الحداثة ، يؤدي في نهاية المطاف الى ابقاء العلم ميدانا خاصة للنخبة. ومن هذه الزاوية ، فهي تستوحي فكرة قديمة – وراسخة الجذور الى حد ما في التراث الديني – تقول بان من الافضل ابعاد عامة الناس عن الفلسفة والعلوم العقلية ، لان عقولهم اضعف من احتمال اشكالاتها ، ولهذا يخشى على دينهم ان يتزعزع اذا انفتح عليهم موج الاسئلة.

مارتن هايدغر

 في سياق الجدل حول الحداثة ، تبلور في العالم الاسلامي ثلاثة اتجاهات :

يدعو الأول الى رفض العلوم الحديثة كليا او جزئيا ، لان ما ورثه المسلمون من علوم ابائهم ، فيه خير وزيادة.

ويدعو الثاني الى الاخذ بالعلوم الحديثة وما تقوم عليه من اسس فلسفية ، لان العلم هو ميراث الانسان في كل الازمان والامكنة ، وان الاخذ بهذه العلوم سيؤدي بالتدريج الى توطينها واغنائها بالقيم الخاصة بالمجتمعات المستقبلة.

اما الثالث الذي يبدو انه حل محل الاتجاه الاول ، فيدعو الى الاخذ بالجوانب التقنية في العلم الحديث ، وترك القواعد الفلسفية والمعيارية. ثم تأصيل تلك الجوانب ، اي اعادة بنائها على اساس المعايير الخاصة بالاسلام.

حتى هذه النقطة يبدو اقتراح التأصيل حلا مريحا ، خاصة لأولئك المهمومين بقلق الغزو الفكري والهجمة العالمية على الاسلام ، وبقية مفردات نظرية المؤامرة. لكن هذا الحل الذي يبدو مريحا ، غير صحيح من الناحية المعيارية ، وغير ممكن من الناحية العلمية. يقوم هذا الحل على فرضية خاطئة اساسا ، تخلط بين الدور الوصفي - التفسيري للعلم والدور التوجيهي للعالم. الممارسة العلمية بالمعنى الفني ، عملية وصف وتحليل وتفسير. اما توجيه النتائج ووضعها في سياق دعوة او استخدامها لتعزيز دعوة ، فهي خارج نطاق العلم ، ويمكن ان يقوم بها اي انسان ، عالما او غير عالم.. ولهذا تميز المجامع العلمية بين الابحاث التي تستهدف العلم بذاته ، وتلك التي تستهدف وضع سياسات عمل. الاولى تقوم – او ينبغي ان تقوم - على معايير علمية بحتة ، بينما تهتم الثانية بوضع خيارات ملائمة لأهداف محددة مسبقا ،  ولهذا فان اعتبارها العلمي ادنى من الاولى. 

لكي يقوم الباحث او المفكر بممارسة علمية صحيحة من الناحية التقنية ، فانه يحتاج الى التحرر الكامل من قيود الاستهداف المسبق. يجب ان يكون الغرض الوحيد للبحث ، هو التوصل الى معرفة جديدة ، حتى لو كانت تعارض المسلمات والبديهيات التي يؤمن بها سلفا ، لان غرض العلم ليس تعزيز الايمان بل كشف الحقائق الغائبة.

طبقا للفيلسوف الالماني مارتن هايدجر فان من المستحيل تقريبا ، الانفصال عن المسلمات الذهنية السابقة ، التي تشكل عقل الانسان ونظرته الى العالم. دور الخلفية الثقافية في تحديد فهم الانسان للعالم المحيط به ، بما فيه من ناس واشياء ، امر ثابت ، بل هو من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان. لكن لا بد من ملاحظة الفارق الدقيق بين التأثر العفوي بهذه المسلمات ، وسوق الحقائق والتفسيرات بالقوة لكي تطابقها. مشكلة فكرة التأصيل انها تدعو الى المعنى الثاني على وجه التحديد ، اي فرض مسلمات سابقة (يدعى انها دينية) على صورة الحقيقة ، وكيفية وصفها وتحليلها ثم تفسيرها ، وفي هذه الحالة فاننا لا نتوصل الى اي معرفة جديدة ، بل الى تأكيد ما نعرفه مسبقا او ما نريد تحويله ، من رغبة عاطفية الى معرفة او شبه معرفة.

الاشكال الثاني يتعلق بالمعايير الدينية التي يراد تطبيقها على العمل العلمي. الكتاب والسنة لا يقدمان بحوثا علمية ، بل منظومة قيم تتعلق اساسا بمسألة الوجود والكينونة. نقل هذه القيم من صورتها الاصلية ، المجردة والمعيارية ، الى نطاق محدد علمي او عملي ، يؤدي فعليا الى نزع صفتها التجريدية المتعالية ، وتحويلها من مطلق الى محدد ، ومن مجرد الى نسبي. هذه العملية التي يطلق عليها احيانا "الاجتهاد" تتضمن بالضرورة ، تأثر النتائج التي يتوصل اليها المجتهد بخلفيته الذهنية الخاصة.  الزعم بامكانية اخذ النص واستعماله في الاجتهاد او التطبيق ، دون مؤثرات ذهنية او خارجية ، يستحيل اثباته علميا وتجريبيا.

كل اجتهاد هو بدرجة او بأخرى نتاج عقل مختلف في مكوناته ، ولهذا تختلف اجتهادات المجتهدين وتتعارض. فاذا توجهنا الى المجتهدين للحصول على ما يوصف بالقيم الدينية ، فان ما سنحصل عليه ليس قيما معيارية بل منظورات شخصية. وبهذا فان ما سنبني عليه علمنا ليس القيم بل آراء اشخاص محددين. 

لهذين السببين ، ولأسباب اخرى ربما نعود اليها لاحقا ، فان فكرة التأصيل التي يدعى اليها ، كسبيل للمواءمة بين العلوم الحديثة والتقاليد العلمية او السلوكية (التي يدعى انها دينية) لا يمكن ان تنتج علما. لكي ينتعش العلم فانه يحتاج الى التحرر من الاهداف المسبقة والرغبات.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/3/Art_122424.XML
جريدة عكاظ السبت - 15/5/1425هـ ) الموافق  3 / يوليو/ 2004  - العدد   1112

مقالات  ذات علاقة
-------------------


23/06/2004

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

خطاب العنف هو ايديولوجيا قائمة بذاتها. وهو  - مثل سائر الايديولوجيات - يستثمر اللغة السائدة ورموزها ، ويعيد ‏انتاجها في قوالب جديدة تبرر اغراضه وتعلي قدره. الايديولوجيا نظام مفهومي - قيمي يميل بطبيعته الى تعميم ‏نفسه ، وادعاء القدرة على تفسير الانسان والاشياء والعالم ، باعتماد نموذج تحليلي صارم يطبق على الجميع .

في المقابل ، يميل التدين المدني المعتاد الى تفسير كل عنصر من عناصر الحياة بصورة موضوعية ، اي من خلال النظر اليه ‏كموضوع خاص له معاييره وادوات التفسير الخاصة به. ولهذا يقال بان الايديولوجيا حجاب الحقيقة . لانها ‏ببساطة تصور الواقع على نحو افتراضي يخالف حقيقته. ونجد ابرز تمثلات هذا في منظور دعاة العنف ‏لمواطنيهم ، فهؤلاء لا يظهرون في ادبيات المجموعات الايديولوجية كشركاء واخوة ، بل كعلمانيين ومتغربين ‏ومبتدعة.. الخ ، اي كأعداء. على رغم ان شراكة الوطن لا تسمح بغير علاقة الشراكة ، والا كان المصير هو انهيار ‏السلام الاهلي وطغيان العنف المتبادل.‏

تعيد الايديولوجيا بناء ذهنية الفرد الذي يقع تحت تاثيرها ، فتحوله من فرد مدني ، او – حسب تصوير الفلاسفة ‏‏- كائن مدني بطبعه الاولي ، الى فرد ايديولوجي يهتم بالحدود التي تفصله عن الغير ، اكثر من اهتمامه بالمشتركات ‏التي تجمعه واياهم. ذهنية الفرد هي منظومة القيم والمفاهيم التي على ضوئها يصف الفرد نفسه لنفسه، ‏ويحدد المسافة بينه وبين الغير. تتشكل هذه المنظومة بتاثير عوامل مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية. تاثير ‏الايديولوجيا على الذهنية يتحدد في اعادة ترصيف تلك المكونات وربطها بمعايير الايديولوجيا نفسها ، وعندئذ ‏فان الفرد يتناسى المعايير الموضوعية في تقييم علاقته مع الغير، اي يغفل كون هذا الغير حسن الخلق امينا ‏مهذبا متعلما ناجحا ، ويركز على موقفه من تلك الايديولوجيا الخاصة ، اي مع او ضد. ‏

خطورة خطاب العنف تكمن في قيامه على ايديولوجيا لبست رداء الدين. وأقول انها لبست رداء الدين لان ‏الناس لم يكونوا كفارا فاسلموا ، بل ان التدين اتخذ نموذجا خاصا ، يمكن تمييزه بوضوح عن التدين الاجتماعي ، ‏الذي كان متعارفا قبل اوائل الثمانينات الميلادية. في هذا النموذج يجد الانسان نفسه مسوقا الى تحديد هويته ‏، انطلاقا من معايير الايديولوجيا التي تركز على تعريف الاخر كعدو ، وهذا هو الفارق الجوهري بين فكرة الولاء ‏والبراء الايديولوجية ونظيرتها الدينية.‏

تفكيك خطاب العنف يبدأ بتفكيك الايديولوجيا التي توفر له المبررات ، وتحمله الى عقول الناس وقلوبهم . ‏تكشف تجارب العالم ان تفكيك الايديولوجيا لم يكن مهمة شاقة. سهولتها تكمن في اتكالها على صور افتراضية ‏عن الواقع ، ولهذا فان الخطوة الحاسمة لتفكيكها ، تتمثل في كشف الواقع امام الناس ، بمن فيهم اولئك الذين ‏يحتمل ان يقعوا تحت تاثيرها. ليست ايديولوجيا الارهاب التي نواجهها اليوم اكثر قوة وتماسكا من الايديولوجيا ‏الشيوعية في اوربا واسيا . لقد تفككت هذه الايديولوجيا خلال زمن قياسي ، حينما توفرت الفرصة للتعددية ‏الثقافية وحرية التعبير ، والغيت القوالب القسرية التي تقيد السلوك الاجتماعي للافراد. ينطوي المجتمع على ‏امكانات ثقافية هائلة ومتنوعة ، يمثل كل منها تحديا جديا لخطاب العنف . كما يمثل – من زاوية اخرى – احد ‏وجوه الواقع الذي تنكر ايديولجيا الارهاب وجوده . ‏

تحرير السلوك الاجتماعي من قيود التقاليد والايديولوجيا ، سوف يؤدي هو الاخر الى اشاعة الخطاب الذي يؤمن ‏بالحياة المدنية الطبيعية ، ويميل الى التساهل مع الذات والغير . وطبقا للدراسات المتوفرة عن تجارب التحول ‏الاجتماعي في بلدان مختلفة ، فان ازالة القيود المفروضة على الحريات الاجتماعية ، قد ادت مباشرة الى تعاظم ‏الامل في المستقبل وازدياد الثقة في النظام الاجتماعي. وكلا العاملين ، الامل في المستقبل والثقة ، يلعبان دورا ‏معاكسا تماما لما تبشر به ايديولوجيا الارهاب ، فهما يعززان الميل الى التصالح والتساهل ويضعفان جانب ‏المنازعة في شخصية الفرد . واظن ان جانبا كبيرا من التوتر النفسي الذي يستثمره الارهابيون ، هو ثمرة لضيق ‏مساحة الحريات الاجتماعية. ولهذا فان اطلاقها سيكون الخطوة الاولى لاعادة غول العنف الى قمقمه.‏


05/06/2004

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

لا بد ان كثيرا من العرب قد اصيب بالدهشة حين انتخبت الهند ، في مايو 2004 ، رئيس حكومة ينتمي للطائفة السيخية. وبالنسبة للاسلاميين فقد كانت الدهشة مضاعفة حين علموا ايضا ان رئيس الجمهورية في الهند عالم مسلم. يمثل الهندوس 80 بالمائة من سكان الهند ، ويمثل السيخ اثنان بالمائة فقط من سكان الهند ، بينما يمثل المسلمون 14 بالمائة . والحق ان الهند تنطوي على الكثير من العجائب ، لكن اعجب ما فيها هو ديمقراطيتها المتينة التي مكنتها من صيانة وحدتها الوطنية في وسط خضم هائل من اللغات والاديان والهويات المتعارضة. في 1984 تمرد السيخ على الحكومة المركزية ، فهاجم الجيش معبدهم الرئيسي (المعبد الذهبي) في امريتسار . وعلى اثر ذلك قتل ضابط في الحرس الرئاسي رئيسة الحكومة يومذاك انديرا غاندي. لكن الهند الديمقراطية لم تنتقم من السيخ بعد هذه الحادثة ولم تعزلهم عن الحياة العامة . وهاهي اليوم تنصب واحدا منهم رئيسا لها بدعم الجميع .

مصلون في النهر قرب المعبد الذهبي في امريتسار - الهند

المجتمع الوطني في اي بلد هو توليف من عدة مجتمعات صغيرة تتمايز عن بعضها في اللغة او في الدين او المذهب او نمط المعيشة او مستوى النمو. كل واحد من هذه التمايزات يمثل اساسا لهوية خاصة. الاساس في فكرة الدولة الحديثة ، انها توفر هوية وطنية تجمع في ظلها كل الهويات الصغرى التي تنتعش وتتفاعل دون تعارض مع الهوية الوطنية الاعلى.

تصارع الهويات المحلية (دون الوطنية) هو واحد من اعقد المشكلات التي يعانيها العالم العربي . كل قطر ينطوي على تنوع مذهبي او ديني او معيشي ، لكن السياسة العربية مترددة في الاعتراف بما يترتب على هذا التنوع من حقوق متساوية للجميع. السياسة العربية هي سياسة اكثريات تنفي الاقليات بل تقمعها . وهي في بعض الاحيان سياسة اقليات تنفي الاكثريات وتقمعها . وفي كلا الحالين ، فان المشهد السياسي هو مشهد فئة غالبة تستأثر بكل شيء وفئة مغلوبة تكافح من اجل ابسط الاشياء. مشكلة لبنان ومشكلة العراق ومشكلة الجزائر والسودان والكثير من الاقطار الاخرى هي في جوهرها مشكلة العجز عن استيعاب التنوع القائم بالفعل . اي اقامة العلاقة بين المواطنين من جهة ، وبينهم وبين الدولة من جهة اخرى على قاعدة المواطنة ، ايا كانت مذاهبهم او لغاتهم او ثقافاتهم او مواقفهم السياسية والايديولوجية.

بعض المهذبين يتحدث عن استيعاب المختلف باعتباره مبدأ اخلاقيا ، وهو صحيح في العموم ، لكنه فيما يخص الوحدة الوطنية ، ليس موضوعا اخلاقيا ، بل هو جوهر فكرة الحقوق والواجبات المتبادلة التي تقوم عليها وحدة الوطن.
يعجب الانسان للمنطق الذي يرى ان للاكثرية حقا خاصا يتجاوز حقوق الاقلية باسم الدين او السمو العرقي او الصفاء العقيدي او التقدم المعيشي او اي سبب اخر . الدولة الحديثة هي دولة المواطن وليست دولة الاكثرية او الاقلية . هذا هو المنطق الوحيد القادر على صيانة الوحدة الوطنية على المدى البعيد .

 اذا كنا لم نتعلم من تجارب الصراعات الاهلية في الوطن العربي ، فلنتعلم من تجربة الديمقراطية في الهند . الديمقراطية التي سمحت بوصول اثنين يمثلان 16 بالمائة فقط من السكان الى اعلى منصبين في البلاد.


عكاظ 5 يونيو 2004

24/05/2004

بيان نوايا

بيان النوايا الذي اصدره وزير العمل غازي القصيبي ضرب على اوتار حساسة انفقت فيها الصحافة المحلية اطنانا من الحبر والورق ، لكنه ابعد ما يكون عن خطة عمل لحل مشكلة البطالة . ولا يختلف اثنان في كفاءة القصيبي وشخصيته الحاسمة . 


لكن في التحليل النهائي ، فان هذا البيان لا يقدم رؤية عن مشكلة البطالة في المملكة ، ولا يقدم خطة متكاملة للتعامل معها على المدى البعيد . فهو يتضمن اشارات الى جوانب ثقافية ، وجوانب اقتصادية وجوانب تنفيذية. لكنه يثير الدهشة لاهتمامه بما قيل عن هروب رأس المال المحلي بسبب تبعات السعودة مع ان المعلومات المتوفرة تؤكد على ضآلة هذه المشكلة.  و ربما كان السبب في اثارتها هو اعلان عدد من تجار الذهب اخيرا عن الانتقال الى دبي . والواضح ان الامر يتعلق بعدد يعد على الاصابع ولا يمثل مشكلة تستحق الاهتمام . وفي المقابل فهناك ادلة ملموسة على نمو هائل لحجم الاستثمار المحلي خلال الاشهر القليلة الماضية انعكس بوضوح على السوق المالية ، وهو امر معروف للجميع .


الاستثمارات الجديدة هي الحل الامثل والطويل الامد لمشكلة البطالة ، ويظهر من التجربة الفعلية ان القطاع الخاص السعودي يتمتع بقدرة هائلة – وبرغبة ايضا – على الاستثمار المحلي . المشكلة اذن في الاوعية الاستثمارية المتاحة . ان الجزء الاعظم من هذه الاموال قد تركز في المضاربة على العقارات اضافة الى اسهم الشركات القليلة المدرجة في البورصة .

بديهي ان المضاربة في العقار لا تولد فرص عمل ولا فائض قيمة اقتصاديا – في منظور الاقتصاد الانتاجي -  ، وبالتالي فهي لا تزيد من قوة الاقتصاد الوطني وقدرته على استيعاب التحديات.  وهذا يقودنا الى النقطة الجوهرية في الموضوع ، اي المخطط البعيد المدى للاقتصاد الوطني . اننا بحاجة الى تصور محدد لما ينبغي ان يكون عليه الاقتصاد السعودي بعد عشرين عاما ، والخطط المفصلية التي يفترض ان تقود الى تكامل تلك الصورة .
كان القصيبي قد قاد خلال توليه وزارة الصناعة تجربة جديرة بالاهتمام ، لعل ابرز شواهدها هو تنظيم قطاع الكهرباء وانشاء شركة الصناعات الاساسية التي اصبحت اليوم قطب الصناعة السعودية . وقد وفرت هذه الشركة الاف الوظائف فضلا عن كونها اضافة كبيرة للاقتصاد الوطني . وكان مقدرا للشركة ان تلعب دور الدينامو لعشرات من الصناعات التكميلية المتوسطة والصغيرة . ولو تحقق هذا التقدير ، فلربما كانت مشكلة البطالة التي نتحدث عنها اليوم ضئيلة الى درجة لا تستحق معها انشاء وزارة خاصة للعمل .

لكن المشروع لم يتواصل ، وهذا هو جوهر المشكلة . حينما كانت الحكومة هي الممول الرئيس كان بالامكان اقامة مشروعات من نوع سابك ، وحينما توقف التمويل الحكومي بدأنا نواجه مشكلات مثل البطالة .

ترى ما هو السبب في عزوف القطاع الخاص عن الاقدام على مشروعات مثل سابك ، او حتى مثل الصناعات التكميلية والاستهلاكية التي كان مقدرا لها ان تقوم على حاشيتها ؟. امامنا تجربة تقول ان مثل هذه التجربة توفر حلولا جديرة بالاهتمام ، فهي تولد وظائف وتولد ارباحا كبيرة ، وهي تعزز من متانة الاقتصاد الوطني ، اي انها تمثل حلا طويل الامد يحقق اهداف الافراد والمجتمع معا.
اسباب مشكلة البطالة التي يعرضها – تلويحا - بيان الوزير ، هي تجليات لمشكلة اعمق ، سبق ان عالجها بنفسها وقدم لها حلولا ، تجلت في توجيه المال المتوفر للاستثمار الصناعي . لازالت هذه الفرصة امامنا ، وامامنا ايضا الفرص التي يتيحها قطاع السياحة الذي طرح حديثا . ولهذا فان ما تحتاجه البلاد هو المواجهة الصريحة والشجاعة للاسباب التي تحول بين المستثمرين الصغار والمتوسطين وبين المشاركة في هذا النوع من الحلول . وهنا يجدر الاشادة بشجاعة رئيس الهيئة العليا للسياحة الذي لم يجد حرجا في الحديث عن المعوقات الكثيرة ، القانونية والتنفيذية والاقتصادية التي تثبط جهود المستثمرين.

ان برنامجا وطنيا يشترك المستثمرون بشكل مباشر في تنفيذه يتوقف على الشفافية الكاملة وتوفير المعلومات وحماية المنافسة . نحن نسمع اليوم عن خطة لترخيص شركة خاصة للنقل الجوي ، وعن منح تراخيص لشركات تقدم خدمات الاتصالات . ونتساءل عن حجم الجهد الذي بذل لاستقطاب الاستثمارات المتوسطة والصغيرة الى مثل هذه المشروعات .  مشكلة البطالة ليست في عدد الشغالات او عمال التنظيف ، بل في استيعاب الطاقة التمويلية المتوفرة في استثمارات مفيدة ومولدة للوظائف.

   السبت - 5/3/1425هـ الموافق  24 / ابريل/ 2004  - العدد   1042
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/24/Art_97872.XML




رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...