10/07/2004

زمن الداعية وزمن المفكر


طبقا لرأي استاذنا د. حمزة المزيني فان ثقافة الاقصاء كانت فعالة ونشطة طوال العشرين عاما الماضية , بحيث شكلت ما يصفه بمنهج خفي في التثقيف يعمل جنبا الى جنب مع المنهج الرسمي .
 السؤال البديهي هنا: كيف استمر هذا المنهج في العمل عشرين عاما دون ان يوضع على مائدة النقد ? . بكلمة اخرى : لماذا كان علينا انتظار اصوات القنابل والرصاص في شوارعنا واجساد مواطنينا حتى نكتشف الحاجة الى نقد تلك الظاهرة ?. هناك بطبيعة الحال اجوبة كثيرة , كل منها يقدم تفسيرا لوجه من وجوه المشكلة .
د. حمزة ا لمزيني
 سوف أختار هنا واحدا من تلك التفسيرات , وهو هيمنة النمط الاستهلاكي في الثقافة وضآلة البحث الفكري وبالتالي محدودية دور المفكرين. الحديث عن دور المفكرين يستبطن بالضرورة مقارنة بين ثلاث شرائح من المشتغلين بالثقافة , اولاها هي الشريحة الواسعة التي نطلق عليها اجمالا صفة المثقفين, اقرب التعريفات علاقة بالمجال الاجتماعي تقارب بين المثقف والتقني , اي الشخص الذي له اطلالة على بعض العلوم الحديثة ويتركز دوره في الربط بين القوانين العلمية النظرية وموضوعات العمل في الحياة اليومية .
 ومثل هذا الدور جار في كل مجالات الحياة , من الطب والهندسة والرياضيات الى الاجتماع والادب الخ .. الثانية هي شريحة الدعاة.. والداعية هو الشخص الذي يحترف الدعوة الى ايديولوجيا محددة المعالم ومتكاملة . فيما يتعلق بإطارنا الاجتماعي الخاص , فان الداعية عامل في مجال التثقيف الديني على وجه الخصوص يتمحور دوره في ضمان استمرارية التراث القديم , سواء بتكراره كما هو او اعادة انتاج مضمونه في اطارات جديدة . اما الثالثة فهي شريحة المفكرين , وهي - عادة - اقلية صغيرة بالقياس الى سابقتيها .
 يتمايز دور المفكر في كونه صانع افكار , بخلاف المثقف والداعية اللذين يستهلكان الافكار . انتاج الافكار هو في الجوهر نقد للافكار او الاعمال او الظواهر السائدة. الطريق الى الفكرة الجديدة يبدأ بجدل مكتوم مع فكرة او حالة قائمة هو بمثابة شك في صدقيتها يؤدي الى انفصال عنها ثم بحث عن بديل لها. لا يمكن للمفكر الا ان يكون ناقدا ومنفصلا بدرجة او بأخرى عن النظام الاجتماعي, او على وجه الدقة متخارجا مع منظومة المصالح التي يؤطرها ويخدمها. ولهذا السبب يتفق الاجتماعيون على ان المفكر لا يمكن ان يكون مواليا للتقاليد. نقد الواقع هو الوجه الثاني لنقد التقاليد اذ التقاليد وسيلة تشريع وتبرير للراهن.
 من هذه الزاوية فان دور المفكر يرتبط - ضرورة - مع الحداثة كموقف اجتماعي وكرؤية للعالم . الارتباط بالحداثة لا يعني على الدوام انقطاعا عن التراث . ثمة مفكرون جعلوا التراث ميدان عملهم الرئيس , لكن الانشغال بالتراث من جانب المفكر لا يستهدف اعادة انتاجه , بل استثمار ما ينطوي عليه من تجربة انسانية من اجل تجاوز زمنه ومفهوماته . انها اذن عملية تجسير بين الماضي والمستقبل تعمل على تواصل التجربة الانسانية دون الالتزام بزمنها الخاص. خلال العشرين عاما الماضية كانت الثقافة تُصنع على ايدي المثقفين والدعاة , واقتصر دور المفكرين على حدود ضيقة جدا.
المثقف مستهلك للثقافة والداعية مستهلك للتراث , والثقافة التي سمح بها النظام الاجتماعي هي اما تراث في ثياب جديدة او صور عن الحداثة مفصولة عن فلسفتها واساسها المعرفي والمنهجي . مفكرونا - على قلة عددهم - لا يقومون بدورهم الطبيعي , لان نقد الواقع صعب ونقد التراث صعب ايضا ومجادلة التقاليد مغامرة ولو كان هذا الدور متاحا, لحصلنا على فرصة - على الاقل - لاكتشاف ما سينتهي اليه ذلك النوع من التثقيف والادلجة . نقد الواقع لا يستهدف بالضرورة تسفيه فريق محدد او تحميل المسؤولية على اشخاص معينين . اصدار الاحكام ليس من هموم المفكر ولا انشغالاته .
 هم المفكر هو دراسة الظاهرة واستنباط ما تخفيه وما يأتي من ورائها بغض النظر عمن يستفيد منها او يتضرر. الطرف الاخر في معركة المثقف هو الزمن وليس اهل الزمن لان همومه في الاساس نظرية ومجردة. اذا كنا جادين في معالجة الاختلال الثقافي العميق الذي شق مجتمعنا , فان السبيل الى ذلك هو تفكيك الهيمنة المطلقة لنمط الاستهلاك الثقافي , سواء استهلاك التراث او استهلاك الحداثة . يعني هذا على وجه الخصوص : الغاء القيود التي تحول دون ممارسة النقد العلمي . لا يمكن لنا ان نحصل على ثقافة متقدمة اذا بقينا مجرد مستهلكين للثقافة . انتاج الثقافة يتوقف على نشاط المفكرين , ونشاط المفكرين هو بالضرورة نشاط نقدي , وما دام النقد مخاطرة فمن سيغامر ?.
صحيفة عكاظ   10/07/2004م 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...