10/12/2013

حول مجلس التعاون وموقع المملكة


اشعر ان كثيرا من الناس ، وربما بعض السياسيين ، قد صدموا بتصريحات يوسف بن علوي وزير الخارجية العماني التي تتلخص في ان مجلس التعاون لا يخلو من خلافات بين الدول الاعضاء ، وان فكرة تطوير المجلس الى اتحاد كونفدرالي ، التي طرحت قبل بضع سنوات ، لم تعد قائمة ، لان بعض الاعضاء – ومنهم سلطنة عمان – ليسوا راغبين فيها.

الصدمة التي تظهر في طيات الصحف مرجعها في ظني  قلة المتابعة لاعمال المجلس. ثمة قائمة طويلة من الاتفاقات التي اقرت على مستوى القمة او في على المستوى الوزاري ، ولم تنفذ او انها تعطلت في منتصف الطريق. وقد كتب عنها الكثير في اوقات متفرقة. على مستوى السياسة الخارجية فان تباين الاولويات بين دول المجلس لا يخفى على احد. وهو ظاهر بأجلى صوره في الموقف من الازمات الاقليمية.

ما يهمني في حقيقة الامر هو موقف المملكة التي يبدو انها تولي اهتماما بالغا لمجلس التعاون والعلاقات مع اعضائه. واجد انها اعطت هذا الموضوع اكثر من حقه وصرفت وقتا وجهدا في غير طائل. في نهاية المطاف فان الحجم البشري والاقتصادي والسياسي للمملكة لا يقاس ابدا بمجموع الدول الاعضاء الاخرى ، فضلا عن احادها. ولعل القراء يعرفون – كمثال على الحجم الاقتصادي - ان استهلاك الكهرباء في المنطقة الشرقية بمفردها يعادل او يتجاوز استهلاك الكهرباء في مجموع دول المجلس الاخرى. بعبارة اخرى فان العلاقة الخاصة مع دول المجلس لا تضيف شيئا عظيما الى اقتصاد المملكة  او سياستها الدولية.

لا ادعو هنا الى الخروج من المجلس. اعلم ان هذا ليس قرارا عقلانيا في مثل هذا الوقت . لكني ارى ان  مستوى العلاقات المجلسية قد بلغ غايته ، ولا يبدو ثمة امكانية لتجاوز المستوى الراهن. ليس منطقيا – والحال هذه – ان نتطلع لما هو افضل من الحال التي عبر عنها بصراحة الوزير العماني.

البديل الانسب في ظني هو الاتجاه الى تحالفات مع الدول التي تشكل اضافة جديدة ، على المستوى السياسي او الاقتصادي. اذا كنا نفكر في الاستراتيجيا ، فالعمق الاستراتيجي لبلد مثل المملكة هو اليمن والسودان ومصر والعراق ، وليس البحرين وقطر والامارات. واذا كنا نبحث عن اسواق للصناعة الناشئة في بلدنا ، فان السوق الحقيقية موجودة في بلدان الكثافة السكانية ، والبلدان التي تمر بمرحلة اعادة اعمار ، فضلا عن الاسواق الصاعدة مثل شبه القارة الهندية وشرق آسيا. واذا فكرنا في اللاعبين الاقليمين فأمامنا تركيا وايران ومصر.

ان المزيد من الانشغال بمجلس التعاون لن يأتي بمنافع اضافية على اي مستوى. بل ربما يؤدي الى تقزيم الدور الاقليمي والدولي الذي يمكن للمملكة ان تلعبه ، وفاء بتطلعاتها او ضمانا لامنها القومي. واحسب ان على المملكة ان تفكر في محيط اوسع ودور اكبر ، دور يتناسب مع حجمها ومكانتها وحاجاتها الاستراتيجية.

الاقتصادية 10 ديسمبر 2013

مقالات ذات علاقة

المؤتمر الاهلي الموازي لقمة الكويت الخليجية

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات

بانوراما الخليج: نظرة على السطح السياسي عند بداية ...


استراتيجية بديلة للعمل الخارجي

03/12/2013

ليبرالية الباشوات


مضى الان ربع قرن على ذلك الجدل الساخن الذي واجهني يوم انتقدت مبالغة المعارضة العراقية في تصوير الادوار التي يلعبها الرئيس السابق صدام حسين. جرى هذا الجدل في مؤتمر حاشد ، شارك فيه معظم الجماعات السياسية العراقية التي نعرفها اليوم. قلت في كلمتي ان المعارضين ينسبون كل مشكلة في واقعهم الى رئيس النظام. واخشى انه تحول الى "فايروس ثقافي" يتحكم في عقول المتحدثين ورؤيتهم لانفسهم والعالم. كان صدام حسين قويا وسيئا ، لكنه لم يكن بالتاكيد قادرا على فعل ما ينسبونه اليه. قلت للحضور اني اخشى ان يتحول "صدام" الى مجرد تبرير للفشل والاستكانة والانتظار السلبي ، ولذا فمن الافضل لمعارضيه ان يمسحوه من اذهانهم ، قبل ان يمسي موجها لسلوكهم بدل ان يكون هدفا لكفاحهم. لم يقبل احد بذلك الكلام ، ولعل بعضهم نظر الي بازدراء ، واظنه معذورا في هذا.
د. علي الدين هلال
تذكرت هذه القصة مساء السبت الماضي ، بينما كنت اشارك في مؤتمر علمي حول "مستقبل الاسلام السياسي في العالم العربي". تحدث د. سعد الدين ابراهيم ، وهو مفكر وسياسي معروف ، عن رؤيته لتجربة الاخوان المسلمين في مصر.  وعقب عليه د. علي الدين هلال ، وهو مفكر مثله. وجدت في حديث الرجلين ، كما في عدد اخر من المشاركات ، نفس المنحى الذي استطيع وصفه الان بـ "فيروس الاخوان".  اصفه بهذا تشبيها بفايروس الكمبيوتر الذي يتحكم في افعال الجهاز وردود فعله ، حتى ينسى كل شغل اخر عداه.
تعرفت على الاخوان منذ زمن طويل ، كما تعرفت على الكثير من الجماعات السياسية والدينية الاخرى. واستطيع الادعاء دون تحفظ ، ان اي جماعة مهما بلغت قوتها ودورها ، لا تستطيع ان تملك القوة والانسجام والانضباط والتاثير الذي وصفه السادة المتحدثون. لكن هذا ليس جوهر الموضوع.
جوهر المسألة ان التصوير المبالغ فيه لدور الاخوان قد يتسبب في ، او يؤدي الى ، قناعة ذاتية بان احدا لم يخطيء سواهم ، وان معالجة الازمة المستفحلة في مصر ، لا تتطلب غير حذف الاخوان من المشهد السياسي. هذه القناعة تقود اتوماتيكيا لتسويغ الاستبداد والغاء المنافسين ، ثم تناسي المشكلات الواقعية التي تواجه البلد ونخبتها السياسية.
اني مقتنع تماما بان الاخوان ارتكبوا اخطاء كارثية خلال العامين الماضيين. لكني اردد قول السيد المسيح "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". فشل النخبة السياسية لا يمكن تبريره باخطاء الاخوان. واخشى حقا ان يؤدي هذا الفايروس الى استسلام الشارع المصري لما وصفته حفيدة المرحوم لطفي السيد بليبرالية الباشوات ، اي القبول بتوافق قوى محددة على اقتسام السلطة فيما بينها واقصاء الاخرين. ونعلم ان قسمة كهذه ستحول الدولة الى غنيمة بدل ان تكون وكيلا عن الشعب وممثلا لارادته.
الاقتصادية http://www.aleqt.com/2013/12/03/article_804649.html

02/12/2013

حق حرية التعبير وإرهاصات الفلسفة المتخيلة: د.توفيق السيف وصالح الديواني


n       منذ منتصف تسعينات القرن الماضي بدأ المجتمع السعودي يستعيد توازنه الثقافي.
n       أشك في إمكانية وجود خطاب ثقافي أو فلسفي في ظل خطاب ديني مهيمن.
n        المضمون النهضوي حاضر في الثقافة السعودية لكنه ليس تراكماً نهضوياً
n       الهوية من أهم القضايا التي تواجه المجتمعات العربية وبينها مجتمعنا
د.توفيق السيف

n       قضايا الفكر لا يمكن المجازفة بها بل تحتاج لجهد أكبر المفردة الدينية دائمة الحضور بين ثنايا الكلمات المتداولة
n       الإبداع الفردي في أصله مقترن بالحرية.
n        الفكرة الإبداعية غائبة ومغيبة بسبب التحولات السياسية.
n        المجتمع العربي يعيش أزمة الهوية بسبب حالة الجمود
صالح الديواني 
نايف كريري: جازان
نلتقي عبر سجالات (المجلة العربية) هذا الشهر مع ضيفين اشتهرا بكتاباتهما في مجالات الفكر والثقافة، ضيفنا الأول الدكتور توفيق السيف الذي استبعد من خلال هذا السجال أن يصبح المجتمع السعودي منافساً للمجتمعات المتقدمة في إنتاج العلم، طالما –حسب رأيه- بقيت الفلسفة غائبة عن المدارس والجامعات والصحافة. والضيف الآخر الكاتب الأسبوعي بجريدة الوطن الأستاذ صالح الديواني الذي يرى أن الخطاب الديني سيكون حاضراً ببهاء أكثر متى استطاع التخلص من عجرفة متبنية ديباجة إرثه القديمة. فإلى تفاصيل فقرات هذا السجال:

فلسفة مشاكسة

الفلسفة كتيار ناشئ في السعودية كيف يمكن أن يكون في المستقبل، وكيف يمكن أن يتلافى ما وقعت فيه التيارات الأخرى من أخطاء أو هفوات على الساحة؟
د.توفيق السيف: الاهتمام بالدراسات الفلسفية جديد في بلدنا، وهو قصر على شريحة صغيرة من النخبة. يقال إن الفلسفة هي أم العلوم، لأنها الأساس في التفكير العلمي. والتفكير العلمي هو التمهيد الضروري لإنتاج العلم.
من العسير أن يصبح المجتمع منتجاً للعلم ما لم يتبلور فيه العقل النقدي والتفكير العلمي، وتبعاً له فإني أستبعد أن يصبح المجتمع السعودي منافساً للمجتمعات المتقدمة في إنتاج العلم، طالما بقيت الفلسفة غائبة عن المدارس والجامعات والصحافة.

الفلسفة ليست تياراً سياسياً أو اجتماعياً بل هي منهج تفكير وبحث، ولأنها منتج بشري فهي تخضع لنفس قوانين التغيير والتحول التي تخضع لها بقية منتجات البشر. بمعنى آخر فإنه لا يصح أن نتوقع الكمال في أي علم. النقصان والخطأ والقصور جزء من طبيعة العلم؛ ولأن جميع أهل العلم يعرفون هذه الحقيقة، فإنهم لا يتوقفون عن نقد الآراء والنظريات العلمية، بل ينظرون إلى النقد كسبيل لا غنى عنه لتطور العلم وارتقائه.
فيما يخص بلدنا فإننا بحاجة إلى الفلسفة كي يتحول مجتمعنا إلى بيئة منتجة للعلم، وكي نرتقي بحواراتنا واختلافاتنا، أي نحول اختلافنا في الفكرة والرأي والعقيدة والتوجه، إلى عامل إغناء لحياتنا، وهذا يخالف الرؤية التقليدية التي تعتبر الاختلاف سبباً للشقاق والتنازع.
صالح الديواني: لا يوجد في الأصل تيار فلسفة ناشئ في المملكة، وإذا كنت تقصد تلك المحاولات المتمردة هنا وهناك من قبل البعض، فهي من وجهة نظري مجرد محاولات صغيرة (مشاكسة) تتلمس عبر يومياتها كسر المألوف من خلال تدوين ملاحظاتها ليوم ما قادم. وحتى أكمل الإجابة يجب أن يكون هناك موجود لأتحدث عنه، إلا أنه في الواقع ليس إلا إرهاصات مُتخيلة لا أكثر وإن منحها البعض مرتبة الوجود كحقيقة.

الاهتمام السياسي

يعيش المجتمع وبخاصة في العقد الأخير عدداً من التغيرات على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فما أثر هذا الحراك المجتمعي في تشكيل الفكر السعودي، وما النتائج المؤملة من هذا الحراك للوصول إلى تشكل فكري ناضج؟
د.توفيق السيف: أميل إلى الربط بين الظرف الثقافي في المملكة، وخطط التنمية الاقتصادية التي بدأت في 1971 حيث شهد المجتمع السعودي في السنوات العشر الاولى (1971-1980) ما أظنه قطيعة حادة عن تاريخه الثقافي السابق. وخلال العقد التالي بدأ في تشكيل ما يمكن وصفه بثقافة جديدة، كانت –بسبب القطيعة السابقة– مختلطة، بين الغرق المتعمد في التراث، وكان هذا واحداً من تجليات (صدمة الحداثة)، وبين الإغراق في استيراد الثقافة الأجنبية، وهو ثمرة للشعور بالفراغ والفقر الفكري. لكن في المرحلة الثالثة، سيما منتصف تسعينات القرن الماضي، أشعر أن المجتمع السعودي يستعيد توازنه الثقافي. وشهدنا خلال العقدين الماضيين أعمالاً فكرية مثيرة للاهتمام.
مجتمعنا ليس بعيداً عن بلوغ مرحلة النضج الثقافي. لكن هذا سيبقى رهناً بمساحة الحرية المتاحة للإنتاج الفكري والثقافي. حرية الاعتقاد والتعبير مازالت -للأسف– موضع جدل في بلادنا. نحن بحاجة إلى إقرار جمعي بحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير باعتبارها حقوقاً فردية مصونة بالقانون. إذا تحقق هذا، فسوف نكتشف سريعاً أن مجتمعنا ينطوي على طاقات فكرية عظيمة، تنتظر الفرصة المناسبة كي تكشف عن وجهها.
صالح الديواني: أنا متفائل بالمستقبل البعيد على الرغم من قوة المغريات التي تحاول كل جهة طرحها للفوز بالشريحة الأكبر والاستحواذ عليها، لكن تلك المغريات خطيرة بخطورة استخدامها كأدوات، وهذا ما يجعلها خارج الوعي والاستيعاب مؤقتاً، وقد ينقلب عليها وعلى مستخدميها لاحقاً بالاتجاه السلبي، ومن الواضح أن ذلك الحراك محل اهتمام سياسي بالدرجة الأولى، فقضايا الفكر وأطروحاته لا يمكن المجازفة بها هكذا، ذلك لأنها مؤثرة لفترات طويلة، وتحتاج جهداً أكبر لإحلال بدائل أخرى غيرها.

طرف المعادلة

إلى أي مدى يمكن أن يتقاطع الخطاب الديني مع الخطاب الثقافي، وحتى مع الفلسفي الظاهر حديثاً في الفكر السعودي؟ وما السبب في كون الخطاب الديني دائماً في أحد أطراف المعادلة في الحوارات الفكرية؟
د.توفيق السيف: من الصعب القول بوجود (خطاب ثقافي) أو (خطاب فلسفي). يطلق وصف (الخطاب - Discourse) على منظومة منهجية تتضمن نظرية ومعايير نقدية ودائرة مصالح. هذه الفكرة تقترب من وصف النسق والنموذج الذي اقترحه الفيلسوف الأمريكي توماس كون.
نعلم أن هناك خطاباً دينياً في بلدنا، وهو معروف ومحدد بنظريته ومعاييره ورجالاته ومؤسساته ودوائر مصالحه الخاصة. لكني أشك في إمكانية وجود خطاب ثقافي أو فلسفي. ربما نتحدث عن رؤى اجتماعية أو سياسية تجمع شريحة كبيرة أو صغيرة من المثقفين، لكن هذا لا ينطبق عليه وصف الخطاب المتعارف في علم الاجتماع.
فيما يخص كون الخطاب الديني طرفاً رئيسياً في معظم الحوارات الجارية في المملكة، فسببه هو هيمنة الجانب الديني على الثقافة العامة، إضافة إلى أن دور الدين في الحياة العامة، وقيمة المنتج الثقافي/ الاجتماعي الذي تقدمه المؤسسة الدينية، يمثلان موضع جدل رئيسي في المجتمع المحلي.
صالح الديواني: انظر.. بالإمكان أن يكون الخطاب الديني حاضراً ببهاء أكثر متى استطاع التخلص من عجرفة متبنية لديباجة إرثه القديمة، ولغة التعالي الإقصائية التي يقدمونه من خلالها، إذ عليهم أن يقدروا أهمية الزمن ومتغيراته، والواقع ومتطلباته، وإلا فإنهم سيكونون مضطرين لمواجهة جماهيرية غير مسبوقة، وهو ما رأيناه يحدث في مجتمعات إسلامية عديدة، وتواجده الدائم كأحد أطراف المعادلة، لا يعود لقوته الفكرية أو الفلسفية أو الإقناعية، بل لأن المجتمع في أصله ذو صبغة دينية، فالمفردة الدينية دائمة الحضور بين ثنايا كلماته المتداولة (السلام عليكم، ما شاء الله تبارك الله، بالله عليك يا فلان، حفظك الله يا صديقي... إلخ)، وهذا الحضور في الواقع هو ما يكسب الخطاب الديني تفوقه على غيره فقط. ولكنه قطعاً بحاجة ماسة إلى تطوير لغته، لأنه اليوم أمام جيل متعدد الثقافات والاطلاع.

النهضة والعولمة

هل غاب الخطاب النهضوي عن قاموس كثير من الخطابات المختلفة والمتعددة في الفكر السعودي؟
د.توفيق السيف: أجد أن المضمون النهضوي حاضر في الثقافة السعودية في مستويات عديدة. لكنه غير متوائم، ولهذا فإنه لا يؤدي إلى تراكم الفكر النهضوي. عدم التراكم سببه –في ظني– هو افتقارنا إلى نقاشات علنية حول (النهضة) باعتبارها قضية عامة، فيها جوانب علمية واجتماعية وسياسية... إلخ. إذا نظرنا إلى تجربة المجتمعات الأخرى، في الشرق والغرب، فسنرى أن جدلية (النهضة) بدأت بنقد المألوف، سواء الذي ورثناه أو الذي صنعناه في عصرنا. تنطلق فكرة النهضة من احتجاج على الواقع القائم، ثم تمرد عليه، ثم نقاش في بدائله. بسبب غياب الضمان القانوني لحرية التعبير، فإن نقاشات كهذه لا تزال محدودة ومنخفضة المستوى.
صالح الديواني: كل ما نراه اليوم مطروحاً من الصيغ المختلفة للخطابات (النهضوية) -وأتحفظ على تسميتها- على الساحات العربية بعمومه، هو في الواقع نتاج العولمة وحساباتها، سواء أكانت تلك الحسابات سياسية أم اقتصادية، وتخضع أيديولوجياً لثقافة المسيرين واللاعبين الأساسيين، ويكفي أن تلقي نظرة على التحولات السياسية في المنطقة لتدرك أن الفكرة الإبداعية غائبة أو لنقل مغيبة.

كسر الجمود

هل يعيش المجتمع أزمة الهوية؟
د.توفيق السيف: أظن أن أكثر المجتمعات العربية تعيش أزمة هوية، سببها الرئيس هو التحول الذي شهده العالم من عصر الدولة الأحادية الهوية إلى عصر الدولة المتعددة الثقافات. الفشل في الإدراك المبكر لهذه المشكلة كان واحداً من أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي وتغير الخارطة السياسية في شرق أوروبا ووسط آسيا. ونعلم أن الفشل في استيعاب متطلباتها كان سبباً في انفصال جنوب السودان.
مشكلة الهوية متعددة الأبعاد. تغير مفهوم الوطن والدولة على مستوى العالم، أدى إلى تغيير مسارات الثقافة، وتبعاً له مضمون التفاعل الثقافي بين المجتمعات. نحن نتأثر –شئنا أم أبينا– بالمنتج الثقافي الغربي، لأننا نستعمل التقنية الغربية في حياتنا اليومية. نحن نستمع إلى الأخبار ونشاهد برامج التلفزيون ونستمد جانباً مهماً من معارفنا من الإنترنت. كما أن أبناءنا يدرسون في الجامعات الغربية، أو يتعاملون مع مصادر العلم المنتج في الغرب. وهذه كلها تصنع –الجزء الأكبر منها– في إطار معرفي متناسب مع مفهوم التعدد الثقافي والدولة المتعددة الثقافات التي أشرت إليها.
خلافاً لهذا فإننا نتوهم أن معرفتنا للتراث وإيماننا به يوفر هوية صلبة، تغنينا عن أي هوية أخرى. أقول إننا نتوهم، لأننا في واقع الأمر، نحمل هويات متعددة، أي أننا نعيش في مجتمع متنوع ثقافياً / متعدد الهوية. وكثير منا يدرك هذه الحقيقة.
صالح الديواني: نعم يعيش المجتمع العربي أزمة الهوية، لأنه ليس مشاركاً حقيقياً في كيان المتغيرات العالمية، وبقاؤه على الهامش لقرون طويلة أضر به كثيراً بكل أسف، وعليه السعي حثيثاً لكسر حالة الجمود التي تصبغه، والانخراط في تشكيل البنية الثقافية العالمية بوعي أكثر ليوجد له موطئ قدم يتناسب مع تاريخه الطويل، وإلا فإنه سيجد نفسه على قارعة المنجز الإنساني.

د.توفيق السيف
مفكر وباحث ديني وسياسي ومؤلف سعودي مهتم بقضايا التنمية السياسية. ولد في القطيف عام 1959م. يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة وست مينيستر في بريطانيا. له عدد من الكتب والمؤلفات، من أهمها: هوامش نقدية على واقعنا الثقافي، ونظرية السلطة في الفقه الشيعي وغيرها.
صالح الديواني
كاتب وباحث سعودي، من مواليد 1388هـ بمدينة جازان، يحمل درجة الدبلوم في صناعة الإعلامي والمذيع الناجح، ودبلوم في إدارة الأعمال، ودبلوم إدارة التسويق والمبيعات. متخصص في مجال الحواسيب والبرمجيات وصناعة البرامج الخدمية. حاصل على شهادة في قوانين حقوق الإنسان والشرعية الدولية. كتب عموداً ثابتاً في صحيفة المدينة لعدة أعوام، ويكتب حالياً مقالاً أسبوعياً في صفحات الرأي بصحيفة الوطن السعودية.

نايف كريري: جازان
المجلة العربية الإثنين 02/12/2013  
http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3190

30/11/2013

تحولات الاسلام السياسي في السعودية ومستقبله

ورقة بحث نوقشت في ندوة "مستقبل الاسلام السياسي في الوطن العربي" - بيروت 30 نوفمبر 2013

نشرت في كتاب "مستقبل الاسلام السياسي في الوطن العربي" ص. ص 113-172  مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2014


ملخص


تناقش هذه الورقة ابرز تحولات الاسلام السياسي في المملكة العربية السعودية ، مع التركيز على جماعتين يعتقد الكاتب انهما الاكثر تاثيرا في العقدين الماضيين ، هما الاخوان المسلمون والسلفية الحركية "السرورية". ينطوي هذا التيار – منذ ظهوره - على تعارض داخلي. فقد وضعت بذرته في سياق مبادرة دفاعية ضد الحداثة واليسار برعاية حكومية. وهي مبادرة اسست لحراك ديني اهلي ، سوف يتحول الى دائرة مصالح متمايزة عن النظام السياسي والمؤسسة الدينية الرسمية. صعود التيار في ثمانينات القرن العشرين هو ثمرة لعلاقته العضوية مع الدولة ، وصراعه معها في التسعينات يكشف عن اندفاعه للتعبير بصورة اوضح عن مضمونه الاهلي.



يعتقد الكاتب ان التيار الديني لم يستوعب ، او لم يستطع التكيف مع التحولات التي جرت في المجتمع السعودي منذ 1994 ، وتعاظمت بعد صدمة سبتمبر 2001 ، وادت الى تراجع "قلق الهوية" الذي كان العنصر المحوري في خطاب التيار ووسيط علاقته مع الجمهور.

الميل المتعاظم بين الشبان السعوديين للتعبير عن ارائهم في المجال العام ، يكشف عن تغير فهمهم لذواتهم وادوارهم وعلاقتهم بالمحيط. وهو طريق يقود طبيعيا الى تعزيز الفردانية والشعور بالذات كفاعل سياسي مستقل وكشريك في صناعة المشهد السياسي ، خلافا لعرف اساسي في التيار الديني يدعو لترك هذه الامور لعلماء الدين.

مع انحسار قلق الهوية ، والبروز المتعاظم لدور العامة ، وتوفر وسائل التواصل السريع ، تراجعت اهمية العامل "الحركي" في المجال العام. ويبدو ان اختلاط اولويات التيار الديني ، او ربما شيخوخة رموزه ، تدفعه للتورط في صراعات ضد مطالب شعبية ، هي تعبير عن التحول الاجتماعي الذي اشرنا اليه. ومن ابرز الامثلة على هذا المنحى موقفه المتصلب ضد حقوق النساء ، سيما حقهن في العمل.

تخلص الورقة الى ان مستقبل الاسلام السياسي السعودي ، الجماعتين موضع البحث بصورة خاصة ، ليس مشرقا او مبشرا كما هو الحال في دول عربية اخرى. مبرر هذه الرؤية المتشائمة هو:

 أ- التفارق المتزايد بين هموم التيار – وبالتالي خطابه- وبين انشغالات الجمهور وتوقعاته. لازال التيار مشغولا بمصارعة التغريب والحداثة ، مهموما بالمؤامرة الدولية على الاسلام ، بينما – على سبيل المثال - اختار ثلثا الطلاب الدراسة في الولايات المتحدة والبلدان التي تصنف – عند الاسلاميين – كراس حربة المؤامرة والتغريب.

 ب- خلافا للحال في تونس ومصر مثلا ، فان الاسلاميين السعوديين لا يعتبرون – في نظر الجمهور –  نقيضا ايديولوجيا او سياسيا ، او بديلا موضوعيا عن النخبة الحاكمة ، فقد كانوا جزءا منها وبرزوا في ظلها. ورغم تدهور العلاقة بين الطرفين في السنوات الاخيرة ، الا ان خطاب التيار لم يتغير بشكل ملحوظ ، ولم  تدخل ضمنه ادبيات العدالة الاجتماعية والتنمية السياسية ، التي تعتبر مؤشرا على تفارق ايديولوجي او سياسي. وثمة مؤشرات قوية على استمرار رهان التيار الديني على استمرار وتحسن علاقته مع الحكومة ، رغم ما تمر به حاليا من صعوبات.

*****

تحولات الاسلام السياسي في السعودية ومستقبله


فهم ديناميات التحول في مجتمع سياسي ، يتطلب – طبقا لكامروا - ستة مسارات تحليل متمايزة ، لكنها وثيقة الارتباط ببعضها ، تشمل : الدولة ، المجتمع ، الثقافة السياسية ، الاقتصاد السياسي ، التاثير الخارجي والقوى الخارجية ، والحوادث العشوائية. لا يمكن فهم الواقع السياسي من دون فهم مجموع تاثيرات تلك العوامل.[1]

في معظم البلدان العربية ، ومنها السعودية – تلعب الدولة دورا حاسما في صناعة المشهد السياسي. لكن هذا الدور لا يجري في الفراغ. التاثيرات المتقابلة بينها وبين الدول الاخرى ، وتفاعلاتها مع المجتمع ، تكشف عن تاثير الثقافة السياسية السائدة، لكنها ايضا تؤثر فيها وتعيد انتاج بعض المعايير التي تتحول مع الوقت الى تقاليد ، او ثقافة سياسية بديلة. تحتاج المملكة للمحافظة على علاقات وثيقة مع حلفائها الغربيين مثلا ، كما تحتاج لاظهار قدر من القابلية للتطور والحداثة ، كي تعوض عن تاخر الاصلاح السياسي. هذا يضطرها لكبح الخطاب الديني التقليدي الذي يوفر لها جانبا من الشرعية السياسية.  

معظم هذه العوامل يمكن توصيفها سلفا ، ووضع السياسات المناسبة ، لسوقها في الاتجاه الذي يخدم مرادات النخبة. بخلاف الحوادث العشوائية ، التي يستحيل تقريبا التنبؤ بها ، فضلا عن وضع خطط احتواء محكمة لانعكاساتها. رغم انها تترك تأثيرات لا تقل سعة وعمقا – في بعض الاحيان على الاقل – عن العوامل الاخرى.

قصة الاسلام السياسي في المملكة هي حكاية لهذا التفاعل والتجاذب ، بين الحوادث العشوائية والمسارات المرسومة ، بين حاجة النخبة لانتاج نظام سياسي يرسي شرعية مستقلة عن المجتمع والتقاليد ، وبين حاجتها لتلك التقاليد ، الدينية منها خصوصا ، كأداة لتسوير المجتمع عن تاثير التحولات الجارية في الخارج.

الاسلام السياسي:


نطلق وصف الاسلام السياسي على المجموعات الدينية النشطة ، مع ملاحظة حدين: الاول: ان تكون قد قامت في الاصل من اجل اهداف سياسية او تبنت لاحقا اهدافا سياسية. والثاني : ان تعرف نفسها كفاعل سياسي اهلي.

هذا التحديد الضيق يخرج من التعريف جماعات النشاط الديني الملحقة بالدولة ، والتي لا تنظر لنفسها ككينونة مستقلة ، اي دائرة مصالح خاصة باعضائها. كما يخرج من التعريف الجماعات الدعوية او العلمية البحتة ، كمدارس التعليم الشرعي الاهلية مثلا ، التي لا تمارس السياسة او لا تضع في اعتبارها اهدافا سياسية.

صحيح ان كل جماعة هي دائرة مصالح محسوبة ضمن توزيع القوى في المشهد السياسي. لكن هذا يشبه القول بان كل مواطن هو فاعل سياسي ، او – بحسب تعريف ارسطو – حيوان سياسي ، من حيث انه يشارك – ولو كاحتمال – في الحياة السياسية[2]. اعتقد انه ليس من الصحيح احتساب دور سياسي لجماعة ، ما لم تكن واعية بمكانها في المشهد السياسي. وافترض ان الوعي بالذات كفاعل سياسي ، يقود طبيعيا الى ممارسة دور سياسي ، صغير او كبير. اميل بهذا الصدد الى التقسيم الذي قدمه الموند وفيربا ، والذي يقيس الثقافة السياسية على ضوء مؤشرالوعي بالذات كفاعل سياسي. اقترح الباحثان تقسيم المجتمعات الى ثلاثة انساق ، بحسب ثقافتها السياسية: منعزلة Parochial  ومنفعلةSubject  ومشاركة Participant.[3]

يشكل المجتمع الديني السعودي كتلة ضخمة جدا. وقد لاحظنا في مقال سابق ، ان هذه الكتلة ساهمت بنحو 25% من موظفي الدولة[4]. احتساب هذه الكتلة مفيد في دراسة المجتمع السعودي والبيئة الاجتماعية التي يدور فيها الجدل السياسي ، و – بطبيعة الحال- النطاق الاجتماعي الذي يمكن ان يشكل بيئة عمل ومصدر دعم لجماعات الاسلام السياسي. لكن سيكون من المبالغة احتسابها كسند فعلي لهذه الجماعات ، خاصة في ظروف الصراع بينها وبين الدولة.

نحن نتحدث اذن عن التيار الديني الاهلي ، الذي يتبنى اهدافا سياسية ، او يعي وجوده كفاعل سياسي. هذا يقودنا الى المنظور الذي من خلاله سنحاول فهم مسار تطور الاسلام السياسي السعودي واتجاهه المستقبلي.

الخارج يصنع الداخل


تعرف المجتمع السعودي على اليسار العربي من خلال المجموعات العمالية التي تشكلت في مواقع انتاج البترول شرق المملكة ، متأثرة بالحراك الذي عرفته يومئذ مصر وسوريا ، سيما خلال العدوان الثلاثي على مصر في 1956. جرت مظاهرات صغيرة واعتصامات واضرابات عن العمل ، بقيت محصورة في مواقع شركة الزيت العربية الامريكية "ارامكو" والاحياء التي يقطنها موظفوها السعوديون. لكن ما اقلق الحكومة هو حقيقة ان تلك المجموعات تشكل ما يشبه مجتمعا سعوديا مصغرا ، يضم رجالا من الشرقية والوسطى والحجاز والجنوب والحدود الشمالية ، كانوا بالتاكيد سينقلون التجربة الى مواطنهم الاصلية لو واتتهم الفرصة.

الحل الذي توصلت اليه النخبة هو نفس الحل الذي طالما جربته قبل هذه التطورات وبعدها ، اي الاستعانة برجال الدين ، لاقناع الجيل الجديد بفضائل الالتزام بالاعراف الجارية. لكن يبدو انها لم تجد المشايخ المحليين مؤهلين بالقدر الكافي للمهمة الجديدة ، التي تتطلب اشخاصا مطلعين على ما يجري في الخارج من تيارات ، قادرين على مجادلة اشكالاتها وحججها. وهو دور لم يسبق للمدارس الدينية المحلية ان اهتمت به.

ناصر الدين الالباني في دمشق
البديل الذي مال اليه الشيخ عبد العزيز بن باز ، نائب رئيس الجامعة الاسلامية يومذاك ، هو الاستعانة برجال دين من سوريا ومصر. وهكذا فتح الباب لعملية ، بدأت كأجراء دفاعي عن النسق الديني السائد في المملكة ، لكنها ستؤدي – لاحقا – الى تغييره .

ارضية التدين الاهلي


وصل الشيخ ناصر الدين الالباني الى المملكة في 1961، وعمل استاذا للحديث بالجامعة الاسلامية في المدينة المنورة. منذ شبابه المبكر اهتم الالباني بتاريخ رواية الحديث ورجاله ، وطور خبرته في نقد وتدقيق المرويات عن النبي محمد (ص) ، حتى اصبح واحدا من اهم خبراء الحديث في زمنه.

بالنسبة للشيخ بن باز ، كان استقطاب الالباني مكسبا عظيما للجامعة. رغم كون المذهب الرسمي (السلفي) اخباريا يعتمد بشكل كامل على الحديث النبوي ، الا ان الخبرات العلمية المحلية كانت محدودة جدا ، وكان شائعا اعتماد رجال الدين على روايات ضعيفة او حتى مكذوبة.

كان الالباني قارئا مثقفا ، تعرف من خلال قراءته للكتب الجديدة والصحافة على التيارات الجديدة في العلوم والسياسة. وآمن مثلا بالكشوف العلمية الحديثة مثل كروية الارض ودورانها ، في الوقت الذي انكرها علماء سعوديون – بينهم رئيسه الشيخ بن باز مثلا -[5] . وكان ينقل في محاضراته وكتبه ما يشير الى قراءته للمجلات واطلاعه على جديد العلم ، وافتى بجواز اقتناء التلفزيون وكان يسوق سيارته بنفسه ، وهذه كلها مخالفة لتقاليد العلماء في السعودية.

ناصر الدين الالباني

انفتاح الالباني ولين جانبه ، مكنه من قلوب الشباب وعقولهم. ويذكر كتاب سيرته انه اصبح مقصدا لطلاب الجامعة وطلاب المدرسة الثانوية المجاورة ، يجلس اليهم في اوقات الفراغ ، مستمعا ومناقشا ومجيبا على اسئلة كان الشيوخ الاخرون يابون نقاشها او يقدمون اجابات غير مقنعة.

قبل عمله في السعودية ، كان للالباني نشاط دعوي مثير للاهتمام في سوريا. ويبدو انه حاول التاثير على جماعة الاخوان المسلمين وحزب التحرير هناك ، فلم يفلح ، لكنه طور اسلوبه الدعوي على نحو مشابه لما يفعله هؤلاء ، اذ ركز على استقطاب الشباب والعناية بتاهيلهم[6] ، واصبح هؤلاء – من ثم – حملة لدعوته ودعاة لافكاره. اتخذ الالباني "التصفية والتربية" عنوانا لمنهجه الحركي:

اعني بالتصفية تقديم الاسلام الى الشباب المسلم مصفى من كل ما دخل فيه على مد هذه القرون والسنين الطوال ، من العقائد ومن الخرافات والبدع والضلالات. ومن ذلك ما دخل فيه من احاديث غير صحيحة قد تكون موضوعة...

... لابد من تربية المسلمين اليوم تربية على اساس الا يفتنوا ، كما فتن الذين من قبلهم بالدنيا... كيف ندخل الجهاد وعقيدتنا خراب يباب؟. كيف نجاهد واخلاقنا تتماشى مع الفساد؟. لابد اذن ، قبل الشروع بالجهاد ، من تصحيح العقيدة وتربية النفس[7].

تبعا لتخصصه في علم الحديث ، اتخذ الالباني منهجا معارضا لتقليد ائمة المذاهب الاربعة ، بمن فيهم الامام احمد بن حنبل ، الذي تعتبر اراؤه مرجعا رسميا للدولة والمؤسسة الدينية في المملكة. ورغم ردوده الحاسمة على من اتهمه بالاساءة الى اولئك الائمة ، الا انه كان صريحا في التاكيد على ان المرجع النهائي في احكام الدين هو الحديث الصحيح وليس اجتهادات الفقهاء ، بمن فيهم ائمة المذاهب.[8]

خلال الفترة القصيرة – نسبيا- التي قضاها في المدينة المنورة ، نجح الالباني في ايجاد نوع من الاستقطاب ، محوره استقلال العلم الديني والدعوة عن الدولة ، و – ضمنيا - التحرر من تقاليد المؤسسة الدينية المرتبطة بالنظام السياسي. والحقيقه انه لم يكتم استهانته برجال هذه المؤسسة ، والاشارة اليهم احيانا كموظفين لا كعلماء. واظن ان هذه كانت واحدة من نقاط الخلاف بينه وبين زملائه في الجامعة. كان الالباني يرى ان خريج الجامعة لا يعتبرعالما حتى لو فاز بشهادة عليا: "الطالب عندما يأخذ شهادة الدكتوراه يصبح أستاذاً في الجامعة أو يتوظف في دائرة من الدوائر ، فهو لا يستثمر المفاهيم والقوانين التي تلقاها، كما لا يتفرغ للعلم وللعلم فقط"[9].

اثار الالباني جدلا ساخنا ، لكن مكتوما ، وسط النخبة الدينية ، حين شكك في كفاءة مؤسس المذهب الرسمي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعدد من تلاميذه البارزين[10]. وجاء هذا في سياق تضعيفه لاحاديث نبوية اقام عليها عبد الوهاب مقولات اساسية في دعوته ، ومن  بينها مقولات في تعريف المسلم والمبتدع والكافر ، واخرى في احكام فقهية. واظن ان هذا النقد الذي ترك انعكاسا قويا وقتئذ ، كان احد الدوافع المهمة لميل علماء المملكة - لاحقا - للتخلي عن وصف المذهب بالوهابي ، والتركيز على وصف "السلفي" المتعارف حاليا. واحتمل ان هذه ، اضافة الى اراء تتعلق بالاحكام الشرعية الخاصة بالنساء ، ادت الى ضيق المفتي محمد بن ابراهيم ، وهو من احفاد عبد الوهاب ، بالالباني ، الامر الذي ادى الى ابعاده عن البلاد ، بعد ثلاث سنين فحسب. بعد مقتل الملك فيصل في 1975 عاد الالباني للجامعة عضوا في مجلسها الاعلى ، حتى 1978.

لست متأكدا ان كان الالباني قد سعى عامدا ، الى زعامة للمذهب السلفي منافسة ، او بديلة للزعامة القائمة في المملكة. ان اعتداده الشديد بنفسه وعلمه ، وسعيه لتكوين حلقة واسعة من رجال الدين المؤثرين ، فضلا عن تاكيده المتواصل على ان السلفية الصحيحة – وتبعا الاسلام الصحيح - تبدأ باتباع منهجه ، كلها تشي بانه كان سائرا في هذا الطريق. لكن واقع الحال يشير الى ان هذا المسعى – ان صح – لم يصل الى النتيجة المتوخاة.

ترك الالباني تاثيرا قويا في المجتمع الديني السعودي ، ابرز تجلياته هو توضيح الخط الفاصل بين الدعوة السلفية وشخص مؤسسها ، الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وتبعا ابناؤه واحفاده الذين توارثوا زعامة الدعوة حتى اليوم. تبلور هذا الخط بشكل اكثر وضوحا في العقد التالي ، حين تخلى التيار الديني عن صفته القديمة "الوهابية" واتخذ العنوان البديل "السلفية" ، كما تحرر من بيئته النجدية الضيقة ، ومن التزامه العضوي بالدولة السعودية.

بعبارة اخرى فقد اتيح للسلفية فرصة التحول الى مذهب اهلي ، بعدما كانت مجرد تفريع عن جهاز الدولة. واظن ان هذا هو الذي سيشكل لاحقا الحاضن الاجتماعي الطبيعي للاسلام السياسي.

من حلقات المشايخ الى التنظيم الحركي


يتداول الباحثون معلومات متفاوتة حول بداية نشاط "الاخوان المسلمين" في المملكة. واظن ان الكثير منها مستخلصات تحليل وليست معلومات بالمعنى الدقيق. يرجع هذا الغموض الى ان الاخوان السعوديين لم يتحدثوا عن تاريخهم ، سيما المراحل المبكرة منه. والحقيقة ان عددا ضئيلا منهم اقر علنا بانتمائه لجماعة الاخوان. اما البقية فانكروا الامر جملة وتفصيلا ، او تحدثوا عن علاقة محدودة ، لا تتجاوز في احسن الحالات التاثر بفكر الاخوان او الاستفادة من بعض رجالاتهم ، كما يقول الشيخ عوض القرني ، الذي يشاع كونه من قادة الاخوان :"لا يستطيع أحد أن يقدم دليلا على أنه نشأ تنظيم خاص بالسعوديين على شاكلة التنظيمات في الدول الأخرى ومرتبطة بها تنظيميا، لا لعدم جواز قيام التنظيمات، بل لعدم الحاجة لقيامه. "[11]. هذا التحفظ مفهوم بالنظر الى عرف سائد في المجتمع الديني السعودي يعيب الانتماء الى الجماعات السياسية[12] ، فضلا عن ارتياب الحكومة في اي نشاط ذي طبيعة سياسية منظمة[13]. وفيما يخص الاخوان تحديدا فقد اعتبرهم وزير الداخلية – في اكثر من حديث علني – سببا لكل ما واجهته المملكة من تشدد ديني وتمرد على شرعية الدولة[14].

 ويخيل الي ان التكوين الطبقي للجماعة ، عامل حاسم وراء ميلها للغموض والتخفي. من الصعب طبعا الاعتماد على "ما هو شائع" لوصف شخص ما بانه اخواني. لكن لو اخذنا هذا الشائع كمؤشر اجمالي لا اكثر ، فان معظم السعوديين الذين يقال انهم على علاقة بالاخوان ، ينتمون الى نخبة المجتمع ، من اكاديميين ودعاة ورجال اعمال وموظفين حكوميين. د. عبد الله التركي كان وزيرا للاوقاف. وعبد الله العقيل كان امينا مساعدا لرابطة العالم الاسلامي ود. مانع الجهني كان مديرا للندوة العالمية للشباب الاسلامي ، و د. حمد الصليفيح كان مديرا عاما بوزارة المعارف ، ود. سعود الفنيسان كان مديرا للتوجيه الديني بالقوات المسلحة. وثمة اسماء اخرى كثيرة في مواقع مشابهة.

طبيعي – اذن – ان يميل هؤلاء الى ابقاء انتمائهم مكتوما. بل ربما يميلون للتخلي عن العلاقة التنظيمية مع الحزب الذي انتموا اليه في مقتبل شبابهم. من ناحية اخرى ، فان ركود الحياة السياسية في المملكة ، والصورة القاتمة عن الاحزاب والانتماء اليها ، تعد عاملا مهما وراء تاجيل الاعلان او السكوت عنه كليا.

يمكن تقسيم تاريخ الاخوان المسلمين في المملكة الى ثلاث مراحل ، سوف نربطها بالشخصيات التي ترمز لطبيعة النشاط خلالها ، وان لم تكن بالضرورة الفاعل الوحيد او الابرز. يرمز للمرحلة الاولى الشيخان مناع القطان ومحمد احمد الصواف . ويرمز للمرحلة الثانية محمد مهدي عاكف ، وللثالثة عبد المنعم العزي.

مناع القطان

الشيخ مناع القطان

يرتبط صعود تيار "الاخوان" بالصراع السعودي-المصري الذي تنامى اثر الثورة اليمنية (سبتمبر 1962). رحبت المملكة بأعضاء الجماعة الذين هاجروا من مصر فرارا من القمع[15]. وبدورهم رد هؤلاء التحية باحسن منها ، فقد اتخذوا منهجا ملاينا للدولة ورجال الدين التقليديين على حد سواء[16]. وهكذا نجحوا في تثبيت مواقعهم وتحويل المجتمع الديني السعودي الى نقطة انطلاق جديدة ، تعوض – ولو جزئيا – ما فقدوه في مواطنهم. ويعتقد علي العميم ان الحكومة السعودية لم تملك خيارا غير تبني فكر الاخوان المسلمين ، على اقل التقادير كمتمم للفكرة الدينية السلفية ، التي تنطوي على فراغات هائلة فيما يتصل بتحديات الحياة الجديدة[17].

بدأ هذا المسار مع الشيخ مناع القطان ، الذي عمل منذ 1953 مدرسا بالمعهد العلمي بالرياض ، وهو مدرسة دينية منظمة ، اصبحت فيما بعد نواة لجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية. حصل القطان على الجنسية السعودية في 1974 ويقال انه كان مقربا من الملك فيصل. ونجح في استقطاب المئات من كوادر الاخوان المصريين الى المملكة ، سيما بعد العام 1964.

في 1962 ، هاجر الى المملكة زعيم اخواني آخر ، هو محمد محمود الصواف ، رجل الدين العراقي ، الذي عين مدرسا في كلية الشريعة بمكة. وفي وقت لاحق ، قربه الملك فيصل واتخذه مستشارا ومبعوثا خاصا للشئون الدينية[18]. خاض الصواف اولى معاركه في مكة وتمحورت حول "فتوى" اصدرها علماء سعوديون تنفي كروية الارض ودورانها حول الشمس ، وتعتبر القول بها كفرا بثوابت الدين. واستغل الاعلام المصري هذه الفتوى للتشنيع على السعودية ، حكومتها ومؤسستها الدينية. فالقى الصواف محاضرة نظتمها ادارة التعليم بمكة المكرمة حول عناية المسلمين بعلم الفلك[19].

هذا الموقف اسعد البيروقراطيين والسياسيين ، الذين ارادوا تصويرا عصريا للدين ، يحول دون تاثير الاعلام الخارجي على شباب المملكة. بينما ازعج – في المقابل – رجال الدين المحليين ، الذين نظروا اليه كاختراق "خارجي" لنطاق نفوذهم.

واحتمل – استنادا الى معلومات متفرقة وتحليلات – ان الاخوان الذين عملوا في الجهاز الحكومي السعودي  خلال هذه الفترة ، لم يكونوا مهتمين باقامة تنظيم خاص. هاجر الاخوان الى المملكة في وقت كانت الجماعة تواجه ظروفا عسيرة في العراق وسوريا ومصر. وافترض ان اكبر هم المهاجرين هو ضمان امنهم الشخصي. من ناحية ثانية ، فان الشخصيات البارزة بين مهاجري الاخوان كانت من رجال الدين الذين نادرا ما يمارسون عملا تنظيميا او ينشئون خلايا. طبقا لما نعرفه عن الحركات الدينية في الشرق الاوسط ، فان دور رجال الدين يقتصر غالبا على التوجيه العام ، الذي يؤسس ارضية وبيئة لعمل الحركيين. اخيرا ، وبالنظر لانتماء مهاجري الاخوان الى اكثر من بلد ، فانه لم يكن متوقعا ان يقيموا "جماعة واحدة".  تباين الخلفيات الثقافية والهموم والطبائع ، ليس من الامور التي يسهل القفز عليها ، لا سيما في بيئة صعبة ومتشككة مثل التي قدموا اليها.

لعل اهم انعكاسات وجود الاخوان ونشاطهم خلال هذه الحقبة ، التي امتدت حتى منتصف السبعينات ، هو: أ) انضمام الجيل الجديد من السعوديين ، ما سيصبح لاحقا الطبقة الوسطى الحديثة ، الى التيار الديني كناشطين ، خلافا للمرحلة السابقة التي كان قوام المجتمع الديني يتألف من شرائح تقليدية. ب) انفتاح السعوديين على التيار الاسلامي الناشط في الاقطار الاخرى. هذا التطور انتج تحولا عميقا في ثقافة التيار ومفهومه للتدين ، و – تبعا لذلك – اعطى زخما لمفهوم التدين الاهلي المستقل عن رجال الدين والمؤسسة الدينية السلفية. ت) اخيرا فقد كرس وجود الخطاب الديني الخاص للاخوان المسلمين كمنافس طبيعي للخطاب السلفي. في وقت لاحق سنجد ان الصراع بين الخطابين قد تحول الى عنصر بارز في المشهد السياسي للكثير من الدول العربية التي ينشط فيها الاسلاميون.

محمد مهدي عاكف


قبيل منتصف السبعينات. بدأت تظهر انعكاسات التحسن المفاجيء في اسوق البترول ، نتيجة لحرب اكتوبر 1973 ، وخطط التنمية الاقتصادية التي اطلقتها الحكومة منذ 1971. حيث انفتح المجتمع السعودي على العالم ، واتسع قطاع الخدمات الحكومية ، سيما في مجالات البناء والتعليم والاعلام . واتسع – في خط مواز – النشاط الديني ، بتاثير ارتفاع الانفاق الحكومي في مختلف المجالات ، ورغبة الملك فيصل في لعب دور سياسي على المستوى الدولي.

الانفتاح السريع على السوق الدولية والنفوذ المتزايد للحداثة بتجلياتها المختلفة ولد قلقا بين النخبة ، ليس من التاثير اليساري كما كان الحال في الستينات ، بل مما اسمي يومئذ بالغزو الثقافي او التغريب. يتناول هذا القلق بصورة محددة ، الانتقال المحتمل لانماط المعيشة والسلوكيات المتحررة ، المتعارفة في الغرب ، الى المجتمع السعودي ، من خلال التلفزيون والصحافة والسفر الى الخارج ، فضلا عن الاختلاط الكثيف بالاوروبيين والاجانب الاخرين ، الذين استقدمتهم الدولة والقطاع الخاص في اطار البرامج التنموية.

في 1972م عقد اجتماع ضم ممثلين للجمعيات الشبابية الاسلامية في اوربا والولايات المتحدة ، بغرض الاطلاع على مشكلاتها واستكشاف سبل دعمها وترشيدها. انتهى الاجتماع بتوصية رئيسية هي انشاء مركز دعم وتنسيق ، اصبح فيما بعد  نواة للندوة العالمية للشباب الإسلامي. تضمنت قائمة الاهداف المعلنة للمنظمة الجديدة : ترسيخ الاعتزاز بالإسلام لدى الشباب ، نشر العقيدة الصحيحة بينهم ، دعم الهيئات والجمعيات العلمية والثقافية والمهنية الخاصة بالشباب.

اما الوسائل التي اقترحت فضمت اقامة المخيمات الطلابية والشبابية ، توزيع الكتب والمجلات والنشرات ، دعوة شخصيات عالمية لزيارة البلاد الإسلامية، وحضور مؤتمرات الهيئات والجمعيات الإسلامية ، لإلقاء محاضرات وأبحاث في القضايا التي تهم العالم الإسلامي وتؤصل للفكرة الإسلامية ، تبادل الزيارات بين الشباب المسلم في العالم. الدعم المادي والمعنوي لمنظمات الشباب المسلم وتمكينها من عقد مؤتمراتها وندواتها وإقامة مخيماتها ، والمشاركة والتنسيق والتعاون فيما بينها على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي.

من نشاطات الندوة العالمية للشباب الاسلامي
كان طبيعيا ان يتولى هذه المهمة كوادر من تيار الاخوان ، الذين اظهروا كفاءة في كسب قلوب وعقول الاجيال الجديدة ، من خلال كتابات وخطابات تدور في المجمل حول اعادة الثقة بالاسلام ، وبيان افضليته على الايديولوجيات الاخرى ، او على الاقل عدم تخلفه عن متطلبات العصر. هذه النقطة بالتحديد كانت محور اهتمام المسؤولين السعوديين.

والحقيقة ان مجموعة عوامل قد ساهمت في تسهيل مهمة الاخوان في المملكة. لعل ابرزها انتصار الجيش المصري في حرب اكتوبر 1973 ونجاحه في تحرير سيناء ، وبروز الظاهرة التي عرفت لاحقا بالصحوة الاسلامية. وهذه وتلك ساهمت في زيادة الطلب على "المنتج" الديني ، ولا سيما القادر على مخاطبة الجيل الجديد واستيعاب المتغيرات على صعيد الاقتصاد والثقافة.

كان كمال الهلباوي ، القيادي في جماعة الاخوان المسلمين بمصر ، واحدا من المجموعة التي تولت تاسيس الندوة العالمية للشباب الإسلامي. وقد اختير مديرا تنفيذيا لها حتى 1980. وكذلك زميله محمد مهدي عاكف الذي اصبح فيما بعد مرشدا عاما للجماعة في مصر. عمل عاكف في الرياض بين 1977-1983 مستشارا للندوة العالمية للشباب الاسلامي ، ومشرفا على المعسكرات والمخيمات الشبابية . ويقول ان تلك المعسكرات ، التي عقد اولها في جنوب المملكة ، قد ساعدت على انجاز كثير مما دعا اليه الشباب المسلم . وقد شارك فيها شباب تولوا لاحقا مناصب حكومية رفيعة او اصبحوا دعاة بارزين[20]. وجود عدد من قادة الاخوان على راس الندوة ولد انطباعا – لا يبعد عن الحقيقة كما اظن – فحواه ان الندوة لعبت دور الواجهة لجانب من نشاطات الاخوان المسلمين في المملكة وخارجها. ولهذا السبب ربما ، فان مغادرة العديد من الشخصيات الاخوانية البارزة للمملكة ، في الفترة بين 1980-1985 ، لم تؤد الى انهاء وجود الجماعة ، فقد بقي تيارها مؤثرا في الندوة طيلة العقدين التاليين ، من خلال سعوديين اعضاء في الجماعة او متعاطفين معها.

وبين الاسماء التي تظهر في هذه المرحلة ايضا ، يبرز اسم مأمون الهضيبي ، الذي عمل في وظيفة حقوقية بوزارة الداخلية ، منذ بداية السبعينات حتى منتصف الثمانينات ، وقد اصبح هو الاخر مرشدا عاما لجماعة الاخوان فيما بعد. كما يبرز ايضا الاستاذ محمد قطب الذي هاجر الى المملكة في 1971 ودرس في جامعاتها ، ولا يزال مقيما فيها.

من المرجح ان ولادة التنظيم السعودي للاخوان تعود الى النصف الثاني من السبعينات. وينقل الاستاذ عبد الله بن بجاد ان قيادات اخوانية عقدت اجتماعا في مكة المكرمة خلال العام 1973 برئاسة المرشد العام حسن الهضيبي ، وقررت انشاء لجان لحصر العضوية ، من بينها لجنة لكل من الدمام (شرق المملكة) والرياض (وسط ) وجدة (غرب)[21].

واميل الى الاعتقاد بان اوائل الاخوان السعوديين ، لم يكونوا اعضاء بالمعنى الدقيق ، او لعلهم تخلوا عن العضوية الكاملة بعد وقت قصير من انتمائهم. ومنهم من بقي ضمن التيار العام ، مؤيدا للاخوان وداعيا لافكارهم ، ومتعاطفا مع رموزهم . وبينهم من ابتعد عن الجماعة وانشغل بالدعوة العامة ، او ادارة النشاطات الدينية والتعليمية ضمن الهيئات الدينية الحكومية. وثمة من غفل او تغافل عن الجانب الحركي في دعوة الاخوان ، وحصر اهتمامه بما يدعون اليه من افكار دينية جديدة ، ولغة خطاب اقرب الى قلوب الجيل الجديد. ومن بين هؤلاء نجد رجال دين يصعب احتمال انضمامهم الى تنظيم حركي ، او حتى خضوعهم لتوجيه ينطوي على روح حركية.  طبقا لناصر الحزيمي فقد كان الاخوان فريقين: فريق مهتم بالسياسة ، اطلق عليهم اسم القطبيين ، وفريق عرفوا بجماعة "دار العلم" نسبة الى مركز ثقافي بهذا الاسم في حي دخنة وسط الرياض ، ويركز اعضاؤه على مسائل الدعوة والتربية ، وكان يشارك في جلساتهم شخصيات معروفة مثل الشيوخ عبد  الله بن جبرين ، ابراهيم الغيث ، والمفتي الحالي عبد العزيز ال الشيخ[22].

شهدت هذه المرحلة اتساعا ملحوظا لنفوذ التيار الاخواني وانضمام انصار سعوديين للاخوان الى النخبة الدينية. هؤلاء سيديرون لاحقا عددا من ابرز المؤسسات الدينية التي تمولها الدولة ، مثل جامعة الامام ورابطة العالم الاسلامي والندوة العالمية للشباب الاسلامي ، كما سيشكلون رأس الجسر الذي تمدد التيار عبره الى ابرز مؤسسات الدولة ، بما فيها وزارة التربية والجامعات والدفاع ، فضلا عن ربط المملكة مع الجمعيات الاسلامية في العالم. ربما لم يكن معظم هؤلاء اعضاء ملتزمين في  "التنظيم". لكن وجودهم في هذه المواقع والادوار ، اوجد الظروف المناسبة للشباب الذين سوف يشكلون تنظيم الاخوان في وقت لاحق ، خلال العقد الثامن من القرن العشرين.

عبد المنعم العزي

بين الاشخاص الذين اثروا بعمق في مسيرة اخوان المملكة ، نذكر د. عبد المنعم العزي ، الذي اشتهر باسمه الحركي "محمد احمد الراشد". نجح الراشد في سد فراغ لم يلتفت اليه اقرانه ، او لم يستطيعوا سده. في بواكير نشاطهم ، واجه دعاة الاخوان اشكالية مهمة تتمثل في تباعد منهجهم الفكري ولغتهم الدينية ، عن تلك السائدة بين النخبة الدينية السعودية. ومع ان هذه "الغرابة" شكلت – احيانا – نقطة جذب للمثقفين الدينيين ، الراغبين في تطوير الخطاب المحلي. الا انها في الوقت ذاته كانت موردا للتساؤل والارتياب ، عند عامة الناس والعديد من رجال الدين التقليديين. ويبدو ان ايا من رجال الاخوان لم يكن قادرا على معالجة هذا الاشكال قبل العزي[23].
عبد المنعم العزي
ولد العزي في بغداد سنة 1938 وتخرج من كلية الحقوق . وانتمى الى جماعة الاخوان في شبابه. اقام في الكويت منذ 1972 ثم الامارات حيث عمل مستشارا بوزارة الاوقاف. 

تحدث العزي عن توجهاته "السلفية" كانعكاس لميل "اخوان بغداد" الى هذا المنهج. وهو يذكر باعتزاز دراسته على يد عبد الكريم الشيخلي ، رجل الدين السلفي العراقي الذي انضم في شبابه الى الملك عبد العزيز ، وشارك في بعض حروبه. نجح العزي في تطعيم المنهج الاخواني بلغة ونكهة سلفية ، الامر الذي جعله بين الاكثر تاثيرا على شباب الاخوان في السعودية. وطبقا للدكتور مصطفى الحسن الذي كان على صلة بالجماعة ، فانه لا يمكن فهم اخوان السعودية دون المرور بفكر العزي ودوره ، فهو يمثل "الحالة التصالحية التي وصل لها الإخوان بعد معاناة شديدة مع الاتهامات السلفية لهم.. اتهامات في عقيدتهم، واتهامات في تساهلهم السلوكي، واتهامات أخرى في ضعف اهتمامهم بالعلم الشرعي.. فالراشد يمثل شخصية الخلاص"[24]

ويذكر الحسن ان كتب العزي كانت الاكثر رواجا بين الاخوان السعوديين . وتضم القائمة التي يطلب من الانصار قراءتها ، كتب "المنطلق" و "الرقائق" و "العوائق". يمثل الكتاب الاول "المنطلق" مفتاح البرنامج التربوي للاعضاء الجدد  ، وهو – حسب وصف الحسن – " كتاب في غاية الأهمية لمن أراد فهم عقلية الإخوان في السعودية و الخليج". ويقال ان العزي الف كتابا خاصا للاعضاء السعوديين هو "المسار" الذي يركز على تنمية الفهم الحركي للدعوة ، وهو مما ينقص الثقافة الدينية المحلية[25]. ويصف يوسف الديني هذا الكتاب بانه "خطة تفصيلية لبرنامج سياسي انقلابي وأحد أهم مكونات التربية الحركية"[26]

حتى نهاية الثمانينات كان "الاخوان" غير السعوديين محل ترحيب في المملكة ، من جانب مسؤولي الدولة ورجال الدين على حد سواء. احتلال الحرم الشريف في نوفمبر 1979 دفع الحكومة الى اعادة النظر في نشاطات هؤلاء ، وتم ابعاد العديد منهم. الاجتياح العراقي للكويت في اواخر 1990 كان نقطة التفارق النهائي بين "الاخوان المسلمين" والحكومة السعودية. اتخذ الاخوان موقفا اعتبرته السعودية ممالئا للعراق. وقيل ان الشيخ مناع القطان حاول اقناع قيادة الجماعة في مصر بدعم الموقف السعودي لكنه لم يفلح[27].

الصراع ضد التغريب بوابة الصراع مع الدولة


ثلاثة عوامل دفعت الاخوان الى تحاشي السياسة : أ) اعتماد الجماعة على كوادر غير سعودية ، يخشون الترحيل فيما لو علمت الحكومة بنشاطهم السياسي . ب) التكوين النخبوي للاعضاء الاوائل ، وحرصهم على المكاسب المتحققة فعليا من خلال وظائفهم الرفيعة في الدولة. ج) نجاحهم في العمل الدعوي/الاجتماعي ، وهو الاقرب الى ثقافتهم الحركية وتطلعاتهم الاجتماعية.

حصد الاخوان المسلمون مكاسب كثيرة ، خلال وقت قصير نسبيا. لكن – كما هو منطق الامور – لم تكن هذه المكاسب بلا ثمن. اعراضهم عن السياسة فتح النافذة التي دخل منها ابرز منافسيهم : السلفية الحركية او السرورية.

كان محمد سرور زين العابدين الذي تنسب اليه السلفية الحركية او السرورية ، عضوا في جماعة الاخوان المسلمين في سوريا. قبل ان ينشق عنها في منتصف السبعينات. تشير بعض المصادر الى ان سرور وضع اللبنات الاولى لتياره خلال السنوات الخمس التي قضاها في المملكة ، معلما للرياضيات في المعاهد الشرعية. لكني اجد في هذا الراي مبالغة. جاء زين العابدين الى المملكة في 1965 ، وبقي فيها حتى 1973 ، ثم رحل الى الكويت التي اقام فيها حتى 1990.

خلال هذه الحقبة كان الاتجاه الديني العام في المملكة وحواليها تقليديا. ما يعرف اليوم بالصحوة الدينية بدأت بعد حرب اكتوبر 1973. ولم تظهر انعكاساتها في المجتمع السعودي الا في النصف الاخير من العقد السابع اي بعد 1975. برز اسم محمد سرور في الوسط الاسلامي السعودي بعد قيام الثورة الايرانية في 1979، حين نشر كتابا ضخما بعنوان "وجاء دور المجوس" ، طبع اولا في الاردن ، وحظي باحتفاء بالغ بين رجال الدين السعوديين ، حيث مول المفتي – يومئذ – الشيخ عبد العزيز بن باز ، عدة طبعات تالية للكتاب ، وجرى توزيعه مجانا في كل مدن المملكة ، كما ارسلت مئات النسخ الى الجمعيات الاسلامية في الخارج. يتحدث الكتاب عن مؤامرة مفترضة يقوم بها الشيعة الكويتيون ، هي جزء من مؤامرة دولية اكبر ، تستهدف السيطرة على العالم الاسلامي ، ابتداء من الخليج والجزيرة العربية ، باعتبارها موئل الاسلام وقلبه النابض ، وان الثورة الايرانية هي احدى الحلقات الرئيسية في هذا المخطط. بعد برهة اصدر كتابا عن الشيعة في لبنان ، يؤكد على نفس المنحى ، وبطريقة مماثلة في السرد والاستدلال.

قدم سرور تفسيرا سياسيا لما يجري في الشرق الاوسط ، وضع السلفية ، للمرة الاولى على الارجح ، في وسط الاحداث ، باعتبارها طليعة الكفاح لاستعادة مجد الاسلام النقي ، وهي – لهذا السبب – الهدف الرئيس للحملات الاجنبية على العالم الاسلامي. كانت المملكة قد شهدت ما يمكن اعتباره كارثة على التيار الديني ، حين احتلت "جماعة الدعوة المحتسبة" بقيادة جهيمان العتيبي المسجد الحرام في نوفمبر 1979 ، وبعدها باسبوع اندلعت انتفاضة في المدن الشيعية شرق المملكة.

ظروف التوتر وظروف التحول ، التي تثير الشعور بوجود ما يمكن اعتباره ازمة وطنية ، تثير اسئلة حادة ، سياسية في جوهرها. لاحظ عدد من الباحثين ان الاجيال الشابة في الدول الحديثة الانفتاح ، تميل في ظروف كهذه ، الى اجوبة يمكن اسنادها الى الدين ، الامر الذي يولد فرصة مناسبة لتبلور التدين المسيس[28].

محمد سرور زين العابدين
شهدت السعودية ظرفا كهذا في نهاية سبعينات القرن العشرين ، ولم يكن الاخوان المسلمون ، القوة الحركية الرئيسية يومذاك ، ولا النخبة المتأثرة بهم ، قادرة على تقديم الاجوبة المناسبة.  اثار الحدث الاول خصوصا موجة هائلة من  الاسئلة في اوساط الشباب المتدين ، سيما المنتمين لحلقات او مجموعات نشاط. وكانت النخبة بحاجة الى تفسير يفصل بين احتلال المسجد الحرام والثورة الايرانية ، التي انتصرت قبل ذلك بعشرة اشهر وقادها رجال دين وحركيون اسلاميون.

لم يستطع زعماء الاخوان تقديم جواب ملائم ، لانهم في الاساس لم يكونوا متصلين بالحياة السياسية ، ولم يعرفوا سابقا كاصحاب رأي سياسي ، فضلا عن ذلك فان بعض قادتهم غير السعوديين اقاموا صلات مع القيادة الايرانية ، واصدروا بيانات ترحيب بالثورة ، تعتبرها طليعة التيار الاسلامي في العالم. في هذا الوقت كانت النخبة السعودية ، في الحكومة وفي المؤسسة الدينية ، بحاجة الى اعاقة التأثير المحتمل للايرانيين على المجتمع السعودي. مثل هذا التأثير كان سيؤدي دون شك الى اضعاف شرعية الزعامة الدينية السعودية ، ومن ورائها النظام السياسي ، الذي يقيم جانبا اساسيا من شرعيته على التزامه باحكام الشريعة وتحالف مفترض مع رجال الدين.

الجواب الذي قدمه محمد سرور للشباب السعودي بسيط ونهائي: الثورة ليست ردا اسلاميا على مشكلات السياسة. المشكلة السياسية الاصلية هي المؤامرة العالمية الكبرى ، التي يحيكها اليهود والنصارى لانهاك الاسلام وافشاله ، ومن ثم الهمينة على قلوب المسلمين وارضهم. احتلال فلسطين هو اوضح تجليات هذه المؤامرة ، واستعمار البلدان العربية بعد الحرب العالمية الاولى هي وجه آخر ، وفي كل هذه التجليات لعبت الاقليات الدينية والقومية والمثقفون وحركات التحرر والاحزاب السياسية والايديولوجية دور الطابور الخامس للقوى الاستعمارية.

الحل الذي يقترحه سرور هو ترسيخ الاسلام النقي ، المتصل مباشرة مع اسلام النبي والصحابة ، واقامة دولة الاسلام الواحدة على امتداد العالم الاسلامي. وهو يرى ان الشيعة واتباع المذاهب غير السلفية ، ليسوا مؤهلين اصلا للنهوض بمشروع كهذا او المشاركة فيه ، لانهم مبتدعة ، ولان عدم صفاء دينهم يجعلهم قابلين للاختراق من جانب القوى المعادية. ومن هنا فان الثورة الايرانية ليست في مصلحة الاسلام ، بل هي خطر عليه.

في نفس السياق عارض زين العابدين ، لاحقا ، مشاركة العرب في الجهاد الافغاني ضد الروس. لان الاكثرية الساحقة من الجماعات الافغانية تتبع مذاهب غير صافية العقيدة ، وانهم لو نجحوا ، فان دولتهم ستكون سندا لتيار الابتداع والانحراف في العقيدة.

كان محمد سرور قد ابعد من المملكة في 1973 ، لانه – كما قيل – أكثر الحديث في السياسة ، الامر الذي ازعج زعماء الاخوان المسلمين والحكومة في الوقت نفسه. ويقول سرور ان ابعاده يرجع لخلافه مع الاخوان وخرقه التزاما بعدم اقامة تنظيم محلي :

"كان مناع قطان يلتزم مع الدولة بألا يكون للإخوان أو الإسلاميين نشاط مع أهل البلد، وقال لي إن وجودك بهذا البلد يضرنا، وأنا مع خروجك، وذلك في معركة حامية دارت بيننا، ثم جاءتني الأخبار المؤكدة بهذا، حتى إن أحد المسؤولين قال إنني لم أسئ إليهم، ولكن المسؤول عني مؤتمن عندهم ، وطلب من المسؤولين إخراجي، وهم يسمعون طلبه ، وكان ذلك وقت خـروجي ، ولا أدري إن كان السبب في ذلك هو نمو التيار الذي سمي بالسروري أم لا"[29].

احتمل ان محمد سرور قد استعاد صلاته بانصاره السعوديين في وقت ما خلال او بعد العام 1976 ، خلال اقامته في الكويت. فقد شهدت هذه الفترة انفراجا كبيرا في الوضع الامني ، وصار بوسع السعوديين الحصول بسهولة على جواز سفر دون تدقيق امني او تراخيص مسبقة ، كما كان الامر خلال عهد الملك فيصل الذي قتل في مارس 1975.

واود في هذه المناسبة الاشارة الى ان الكويت كانت تمثل في تلك الفترة مصدر دعم وتاثير كبير على التيار الديني الجديد في السعودية ، بكل فروعه : الاخوان والسروريون ، وقبل ذلك مجموعة جهيمان العتيبي[30].

بعث الاتجاه السروري روحا جديدة في التيار الديني السلفي. وفرض عليه اجندات حركية[31]. خلال عقد التسعينات اصبح الصراع الداخلي ، والصراع ضد الخصوم ، هما شاغلا للتيار الديني. ولم يقتصر الامر على الحركيين والجيل الجديد ، فقد نجح هؤلاء في سحب كبار رجال الدين والمجموعات التقليدية الى الصراع ايضا. استعمل السروريون الشباب طريقة بسيطة لجعل هؤلاء يخدمون اجنداتهم : كانوا يوجهون اسئلة ذات جواب بديهي او محرج ، فيجيب الشيخ عنه ظنا بانه يدافع عن حياض الدين ، او خشية ان يتهم بالمساومة والسكوت عن الحق. وكان الجواب يستعمل على نطاق واسع كدليل على تاييد الرجل لدعوة او برنامج محدد. وفي بعض الحالات كان رجال الدين يرغبون في التقرب من مجموعات الشباب هذه ، ظنا انها يمكن ان تتحول الى تابع لهم ، ولهذا لم يبخلوا عليهم بالاراء والتصريحات والبيانات التي تلبي رغباتهم. وفي كثير من الحالات كانت هذه الاراء والفتاوى تستعمل في دعاوى سياسية ضد الحكومة ، او ضد رجال دين منافسين.

الاجتياح العراقي للكويت في 1990 ابرز التيار السروري كقوة ضاربة. الجدالات التي رافقت الحدث ، حول كفاءة الدولة ، العلاقة مع الولايات المتحدة ، دعوات الاصلاح السياسي التي اطلقتها شخصيات وطنية ، وظهور الحركة النسائية الى العلن للمرة الاولى ، كلها تحولت عند السروريين الى دليل يؤكد صدق المسلمة الرئيسية التي بنوا عليها خطابهم السياسي ، اي المؤامرة الدولية التي تستهدف – في نهاية المطاف – السيطرة على الجزيرة العربية ، بلاد الحرمين كما يسمونها.  جرى شرح هذه المقولة في عشرات من الخطب التي وزعت الاف النسخ من تسجيلاتها عبر شبكات منظمة في مختلف مدن المملكة. ثم عرضها الشيخ سفر الحوالي ، الذي يوصف بانه الزعيم الديني للتيار ، في رسالة مطولة وجهها لهيئة كبار العلماء ، حملت عنوان " كتاب كشف الغمة عن علماء الأمة " ، وطبعت لاحقا بعنوان "وعد كيسنجر"[32].

استاءت الحكومة بطبيعة الحال من كثافة الكلام السياسي في المساجد والحلقات الدينية. لكن لم تكن شديدة القلق ، طالما بقي الكلام موجها الى الخارج. بالنسبة لكبار المسؤولين فان التنديد بالمؤامرة الدولية على الاسلام ، لم يكن مبعثا للسعادة ، لكنه ايضا لم يكن مخيفا.

لكن الامر لم يبق على هذا الحال. بعد نهاية الموجة الرئيسية ، سيما بعد الانسحاب العراقي من الكويت في 1991 بدأت الاسئلة تتخذ منحى آخر ، تركز هذه المرة على سؤال : لماذا عجزنا عن مواجهة العراقيين ، ولماذا اضطررنا للاستعانة بالقوات الامريكية ، بعبارة اخرى : ما هي اوجه التقصير ومن المسؤول عنه ، وماذا يجب ان نفعل كي نتجنب تكرار هذا الحدث الاليم؟.

اسئلة كهذه ستقود بالضرورة الى مناقشة سياسات الدولة وكفاءتها كمؤسسة وكأشخاص. وهذي هي النقطة  التي اثارت قلق النخبة السياسية ، وحملتهم على فعل ما كان يعتبر – قبلئذ – مغامرة غير مأمونة العواقب ، اعني اعتقال رجال الدين الحركيين وقمع التيار الديني ، الذي بدا انه اصبح عصيا على التوجيه والسيطرة.

 منذ زمن طويل نسبيا ، ورثت مدينة بريدة عاصمة القصيم ، مكانة الدرعية كمركز للدعوة السلفية. لهذا فان الحراك السياسي فيها يتسم باهمية خاصة ، نظرا لتاثيره المؤكد على التيار الديني في جميع مناطق البلاد. في اغسطس 1994 شهدت هذه المدينة ما اظنه اضخم مظاهرة شعبية في تاريخ المملكة الحديث ، انضم اليها ايضا مئات من سكان العاصمة الرياض والمدن الاخرى. وكان دافعها هو الانباء التي راجت عن استدعاء الشرطة لعدد من رجال الدين الحركيين واعتقال عدد من منظمي النشاطات الدينية في المدينة.

حسمت الحكومة امرها واعتقلت مئات من ناشطي الاخوان والسروريين ، بمن فيهم ابرز شيوخهم وزعمائهم[33]. جرت تحركات قليلة ، لكن سرعان ما انكمش بقايا الناشطين على انفسهم ، واختفت معظم النشاطات الاهلية. بعد اسابيع قليلة بدا ان الناس قد انصرفوا الى حياتهم العادية ، وان مساندتهم السابقة لرجال الدين لم تكن موقفا ثابتا او نهائيا.

مثل هذه الصدمة تثير بالتاكيد اسئلة كثيرة ، افترض ان بعضها سيكون من نوع الزلازل الارتدادية ، التي تركز على نقد الذات ومساءلتها اكثر مما تهتم بنقد الغريم. لكن في مجتمع محافظ مثل السعودية ، فان تساؤلات كهذه ستدور في الخفاء ، بين الاقران ورفاق العمل السابقين. سيستمر الوضع على هذا النحو حتى اواخر 1999 ، حين اطلق سراح المعتقلين ، الذين بدا ان فترة السجن قد "اقنعتهم" بالحاجة الى تغيير اهدافهم المعلنة وطريقة تعبيرهم عنها.

اشرت في مقال آخر الى التغيرات العميقة التي شهدها المجتمع السعودي خلال النصف الثاني من عقد التسعينات ، سيما بسبب دخول الانترنت واتساع هامش حرية الصحافة واتجاه البلد بشكل عام للانفتاح – ثقافيا - على الخارج بعدما كانت مرتابة ومترددة في  السنوات الماضية. تعزز هذا الاتجاه بعد احداث 11 سبتمبر 2001 التي وضعت الحركة الدينية السعودية بمجملها في قفص الاتهام.

وسط ظروف الارتباك هذه برزت دعوة جديدة للتحرر من التقاليد الدينية والحركية التي سادت حتى الان ، اتخذت مسارين:

أ‌)      مسار يدعو لخطاب ديني جديد ، يركز على قضايا العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية.

ب‌)  مسار رافض جذريا للتوجهات الحركية ، يدعو لاصلاح تدريجي في الثقافة والمؤسسات الدينية الرسمية ، متصالح تماما مع الدولة.

العوامل التي تحدد مستقبل الاسلام السياسي في المملكة


كما اشرت في بداية المقال ، فان فهم ديناميات التحول في مجتمع سياسي ، يتوقف على تحليل حركة العوامل التي تسهم جميعا في انتاج المشهد واعادة انتاجه:

الدولة ، الاقتصاد السياسي ، وموقف الحلفاء


 لا اظن احدا يجادل في اهمية دور الدولة ، سيما في بلد مثل السعودية ، كابرز العوامل المؤثرة في التحولات الاجتماعية والسياسية. يعتمد هذا على حقيقة كون الاقتصاد الوطني يعتمد بشكل كامل تقريبا ، على الانفاق الحكومي المتأتي من ايرادات البترول ، التي اسهمت في 2011 مثلا ب 92.5% من ايرادات الميزانية العامة.[34]

يوصف النظام الاقتصادي في الدول النفطية العربية بانه ريعي. الفرضية الاولية في هذا الوصف ان هيمنة الدولة على مصادر نفطية ضخمة ، ترسي ارضية لنظام تسلطي ، تتمحور سياساته الاقتصادية حول توزيع وتخصيص المال والمنافع المادية ، وليس الانتاج والتنمية المتوازنة. توفر مصادر مريحة للثروة يغني الحكومة عن فرض ضرائب او اي مصادر اخرى ، تجعل المجتمع في مركز قوة. كما يمكنها من التحكم في تحديد الشرائح التي سيسمح لها بالحصول على مصادر قوة – مادية غالبا – وتلك التي ستبقى في الهامش ، الامر الذي يخلق نوعا من العلاقة العمودية بين الدولة والمجتمع ، تبدأ من مجموعة صغيرة ومنغلقة الى حد ما في قمة الهرم. سهولة الحصول على المال يثبط الجهود الضرورية لخلق تنمية فعالة ، او توسيع قاعدة الانتاج الوطني ، او بروز قوى اجتماعية تستمتد قوتها من مصادر خارج اطار الدولة والتقاليد الرسمية ، التي تحكم تخصيص المنافع[35].

ثمة جدالات جدية حول سلامة الاستنتاجات القائمة على ارضية نظرية الريع[36]. لكن مقولاتها جلية في الواقع السياسي السعودي بما يغني عن الجدال. نعرف تماما ان سبع خطط تنمية خمسية بين 1971-2005 لم تؤد الى توسيع قاعدة الانتاج ، ولا استئصال الفقر ، ولا ارست نظام تنمية متوازنة بين المناطق ، ولا اتاحت فرصة للمشاركة الشعبية في الشأن العام[37]. لازالت الثروة الوطنية تستعمل بشكل واسع لاغراض سياسية مؤقتة. في مارس 2011 ، ردت الحكومة على دعوات للتظاهر ، باصدار حقيبة تمويل ضخمة ، تتضمن تخصيص 250 مليار ريال لانشاء نصف مليون وحدة سكنية ، صرف راتب شهرين لكافة موظفي الدولة والمتقاعدين والمسجلين في نظام الضمان الاجتماعي ، صرف مكافأة شهرين لجميع طلاب الجامعات ، استحداث 60 ألف وظيفة عسكرية جديدة في وزارة الداخلية ، منح العاطلين عن العمل 2000 ريال شهريا ، زيادة القروض السكنية بنسبة 75% ، تخصيص 16 مليار ريال لمشاريع جديدة لوزارة الصحة ، تخصيص 500 مليون ريال لترميم المساجد ، 200 مليون لجمعيات تحفيظ القرآن ، 300 مليون ريال لدعم مكاتب الدعوة والارشاد. و200 مليون ريال لدعم لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. واعتبر الملك عبد الله هذه الحقيبة الضخمة مكافأة للذين "وقفوا ديانة للرب عز وجل ، وجعلوا كلمة الله هي العليا ، في مواجهة صوت الفرقة ودعاة الفتنة". [38]

يتضح من تصريحات المسؤولين المتكررة انهم يقفون بصرامة ضد الاسلام السياسي كفكرة ، وضد الاشخاص والمنظمات التي تتبنى دعوة سياسية في اطار ديني[39]. وقد اتضح هذا التوجه بصورة اجلى بعد الثورة المصرية. في واقع الامر لم تتردد الحكومة السعودية ، في الماضي والحاضر ، في التعامل مع المنظمات السياسية الدينية الاجنبية ، شرط ان لا تسعى لنفوذ داخل المملكة. كما انها تمنع بحزم وصراحة اي نشاط سياسي منظم  في داخل البلاد ، في اطار ديني او غيره. وقد اظهرت النخبة السعودية كفاءة ملفتة في استعمال المخصصات المالية والاعلام والاجراءات الامنية ، والتقريب والاستبعاد من محيط النخبة ، بشكل متوائم ، لاضعاف او تقوية خيارات المجموعات المستهدفة ، واحيانا تفكيكها ، او تغيير اولوياتها. وقد طبقت هذه السياسة مع الاخوان المسلمين والسروريين والحركيين الشيعة والاصلاحيين الليبراليين. والواضح انها نجحت حتى الان في اضعافهم ، او تغيير انشغالاتهم.

بعد احداث سبتمبر 2001 امست الولايات المتحدة الامريكية شريكا مباشرا في هذا التوجه. ونعرف انها مارست ضغطا شديدا على الحكومة السعودية لتفكيك البيئة الاجتماعية لجماعات الاسلام السياسي ومصادر تمويلها. وتشدد واشنطن على ان العنف الذي تمارسه منظمات دينية ، يستمد مبرراته من العقائد السلفية المتشددة ، كما انه يحصل على دعم مالي وبشري من اشخاص سعوديين ، وان الحكومة السعودية – لهذا السبب – شريكة في تحمل المسؤولية عن الاضرار التي يتعرض لها المواطنون الامريكان على يد الاسلاميين المتشددين.

ومنذئذ نفذت الحكومة اجراءات عديدة ومتواصلة لتحقيق هذه الغاية ، تضمنت تعديل مناهج التعليم التي سبق ان شارك في وضعها حركيون اسلاميون ، واقالة جميع الحركيين البارزين من وظائفهم الحكومية ، واشتراط الفحص الامني للموافقة على قبول المرشحين لوظائف دينية وتعليمية. كما تم اغلاق الجمعيات الخيرية ، ومراقبة اي مصادر محتملة لتمويل الجماعات السياسية.

ومنذ العام 2005 تبنى الملك عبد الله سياسة يصفها الاسلاميون بالتغريبية ، وبينها خصوصا تمكين النساء من العمل ، وابتعاث الاف الطلبة للدراسة في الجامعات الغربية. سياسيا ، ينظر لهذه الاجراءات كعلامة على ضعف تاثير رجال الدين ، وعدم تحرج الحكومة من استعداء الحركيين ، كما كان الامر في الماضي. وفي اكتوبر 2013 نظم 200 من رجال الدين زيارة للديوان الملكي بغرض الضغط لمقابلة الملك[40] ، لكن الديوان اكتفى بتكليف مسؤول ثانوي ، فيما يبدو ، لتسجيل طلباتهم ، ولم يسمح لهم بلقاء اي مسؤول بارز. وقد جرت محاولات مماثلة خلال هذا العام والعام السابق وانتهت الى نفس النتيجة.

ولم تتوقف الولايات المتحدة عن تاكيد موقفها ، القائل بان على السعودية ان تبذل جهدا مستمرا لتفكيك البنية التحتية للتشدد الديني. ويشكل هذا الموقف المعلن عامل ضغط شديد على الرياض ، الحريصة على صيانة الثقة المتبادلة مع واشنطن ، حليفها الرئيس والتاريخي.

المجتمع ، الثقافة السياسية ، والحوادث العشوائية


لولا حريق مدرسة البنات بمكة في مارس 2002 الذي قتل فيه 14 فتاة ، لربما اتخذت الامور مسارا مختلفا عما آلت اليه بالفعل. هذا حادث وقع بمحض الصدفة ، لكنه غير مسارات ومصائر. خلال الشهور القليلة التي سبقت الحريق ، كان عدد من رجال الدين ومسؤولين حكوميين ، يبحثون عن سبيل لتلافي صدام محتمل بين الدولة والتيار الديني ، كأحد التبعات المحتملة لاحداث سبتمبر في العام السابق. كان من بين الافكار المطروحة مثلا تعاون الطرفين في تفكيك البيئات الاجتماعية التي يعتقد انها ملاذات لاعضاء "القاعدة". وفي المقابل تلتزم الحكومة بعدم اعتقال رجال الدين او تفكيك المؤسسات الدينية المستقلة ، كما طلب الامريكان. لا ندري ان كانت هذه النقاشات ستؤدي الى اي نتيجة على الاطلاق. لكننا نعلم ان الشيخ سفرالحوالي ، الذي ينظر اليه كزعيم روحي للتيار السروري ، ساعد في اوقات لاحقة على اقناع اعضاء في "القاعدة" بتسليم انفسهم مقابل ضمانات محددة[41]. وكان هذا احد الموضوعات التي نوقشت يومئذ ، ويدل على ان التيار كان جادا في انجاح الحوار.

بسبب حريق المدرسة الغت الحكومة الاستقلال الاداري لتعليم البنات ، الذي كان وقتئذ احد المواقع الحصينة والمؤثرة للتيار الديني ، ويتبعه يومئذ نحو 10,600 مدرسة. اثار هذا القرار ضجة عارمة في الوسط الديني ، وزاد في تسميم الاجواء التي كانت في الاصل متأزمة ، وادى الى افشال النقاش المذكور ، واتجاه الطرفين الى صراع مفتوح ، لا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم.

لكن مثل هذه الحوادث العشوائية ما كانت لتترك اثرا بالغا كالذي شهدناه ، لولا توفر الاستعداد المسبق في المجتمع ، لتقبل اجراءات كالتي اتخذتها الحكومة. هذا يقودنا الى العاملين الرابع والخامس ، اي المجتمع وثقافته السياسية. واميل الى الاعتقاد ان دور المجتمع – في الظرف المنظور خصوصا – ينبغي تفسيره بصورة عكسية ، اي عدم الاهتمام الذي لا يشير الى "موقف" بل الى "لا موقف".

نستعيد هنا التقسيم الثلاثي للثقافة السياسية الذي اقترحه الموند وفيربا ، واشرنا اليه في بداية الورقة. تعزيز المشاركة الشعبية في الشأن العام هو احد المسؤوليات الاولية لاي جماعة سياسية ، سواء كانت في السلطة او في الشارع. توعية الجمهور بحقه ودوره وشراكته في صناعة المشهد السياسي ، هو احد المقدمات الضرورية كي يمارس المجتمع هذا الدور. لا اقصد هنا المفهوم الشعبوي الذي يتعامل مع المجتمع كتابع سلبي للدولة او المجتمع ، بل المفهوم الديمقراطي الذي يعتبر ان المجتمع "صاحب حق" في تكوين راي يعبر عنه علنا ، ويسهم من خلاله في تشكيل المشهد السياسي.[42]

واقع الامر انه لا الدولة ولا الجماعات الدينية اهتمت بتوعية المجتمع السعودي بدوره كشريك. تفضل الحكومة مجتمعا "مطيعا" ، يشكر ان اعطي ويصبر ان منع. ويجري تصوير هذه العلاقة بلغة دينية احيانا ، كما يرد مثلا في نص بيعة الناس للملك التي تشمل "الطاعة في المنشط والمكره" ، اي في كل الاحوال[43]. هذا الميل يقود الحكومة بشكل طبيعي الى رعاية التقاليد التي تؤكد عليه ، والى الشرائح الاجتماعية التقليدية التي تسلم به كعنصر نشط في ثقافتها السياسية. تعتبر تلك التقاليد والطبقات الاجتماعية التي تتبناها عامل تثبيت للاستقرار ، سيما في ظروف الازمة ، وهو ما اشار اليه ايضا صمويل هنتينجتون (1967) ، الذي كان مهتما بملاحظة عوامل الاستقرار في المجتمعات التي تمر بتحولات سياسية او اقتصادية[44].

فكرة الطاعة كانت ايضا محور خطاب الجماعات الدينية للجمهور. لكن بمنظور مختلف ، يركز على الوحدة الشعورية والثقافية بين اهل الايمان. وقد لاحظت في دراسة سابقة ان الثقافة الدينية التقليدية ، تتمحور حول الواجبات والتكاليف وليس الحقوق. ولهذا فهي تغفل كليا الحقوق المدنية للافراد وللمجتمع ككل[45]. لا يتحدث الخطاب الديني السعودي عن حقوق فردية او مدنية ، ولا عن المواطنة باعتبارها اساسا للعلاقة بين افراد المجتمع ، او بينهم وبين الدولة. كما لا يتحدث عن استقلال الفرد ، وكفاءته الذهنية والروحية ، و- بناء عليه – كونه صاحب حق في الاختيار المنفرد لاولوياته ونمط حياته ، او كونه شريكا في تقرير حاضر ومستقبل المجتمع السياسي الذي ينتمي اليه.

تدعو الجماعة الدينية جمهورها كي يكونوا "على قلب رجل واحد" ، مصغين لاوامر الله ونواهيه ، التي تصل اليهم عبر العلماء بالدين ، الحافظين لشريعة سيد المرسلين.

لهذا السبب فان جمهور الجماعة الدينية لا يرى لنفسه دورا يقرره بنفسه ، حين ينشب الصراع بينها وبين الدولة. والجماعة نفسها لم تستطع في ظروف كالتي مرت بها في المملكة ، ان تدعو جمهورها للقيام بأفعال محددة ، فهذا من شأنه ان يدخلها في صراع باهظ الكلفة مع الحكومة. في واقع الامر فان جماعات الاسلام السياسي السعودية كانت حذرة جدا من دخول الجمهور في ميدان الصراع. وقد لاحظت ان الكثير من ادبياتهم تدعو الناس الى القيام بواجب الاحتساب وانكار المنكر ، لكنها تصرف استهدافات هذه الدعوة الى التنافس الايديولوجي ، وليس المطالبة بالحقوق المدنية.

زبدة القول ان المجتمع السعودي الذي تغلب عليه الميول الدينية ، لم يكن نصيرا نشطا للجماعات الدينية حين تصارعت مع الدولة. لان الثقافة السياسية الموروثة ، مثل الثقافة التي تبنتها ونشرتها تلك الجماعات ، تميل الى تكريس النسق الثاني ، بحسب تقسيم الموند وفيربا المشار اليه في اول الورقة ، اي الثقافة المنفعلة Subject حيث يميل الفرد الى التضامن مع الجماعات الفاعلة ، لكنه لا يرى لنفسه دورا ، او لا يرى ان مساهمته ستكون مؤثرة في مجريات الاحداث[46].

تتشكل الثقافة السياسية لمجتمع معين بتاثير عوامل عديدة ، من بينها التقاليد والقيم ، الذاكرة التاريخية ، الهموم والتطلعات والدوافع ، واخيرا الاحاسيس اي مصادر الفرح والالم ، والتصويرات الرمزية لمجموع هذه العوامل. يتجسد تاثير هذه العوامل في ثلاثة جوانب[47] :

-          ذهني : معرفة الافراد ووعيهم بالنظام السياسي.

-           شعوري : الموقف العاطفي تجاه النظام.

-          قيمي : كيف يحكم الافراد على النظام.

تؤثر الثقافة السياسية لاي مجتمع في علاقة اعضائه بحكومتهم. صورة الدولة في اذهانهم هي التي تحدد كيفية فهمهم لها (حكومة تمثلنا او حكومة تسيطر علينا) ، مشاعرهم تجاهها (حب او كره ، تعاطف او ارتياب) ، وتقييمهم لادائها (دون المتوقع او مطابق له او افضل منه ، مساعد لمصالح الجماعة او معيق).. الخ.

أميل الى تحميل الجماعات الدينية جانبا من المسؤولية عن سلبية المجتمع ، نظرا لما الاحظه من حيوية العلاقة بين تنظيم "القاعدة" وانصاره ، الذين يتواجدون في نفس البيئة الاجتماعية التي تنشط فيها الجماعات الدينية الاخرى. تدعو "القاعدة" انصارها الى الفعل المباشر ضمن مسارات محددة ، سواء افلحوا في الاتصال بقيادة التنظيم ام اخفقوا. وخلال العقدين الماضيين ، حافظ السعوديون على موقعهم كابرز داعم للتنظيم بالاعضاء والتمويل. هذا يدل على توفر القابلية في المجتمع السعودي ، او على الاقل شريحة منه ، للتحرر من الثقافة السلبية الموروثة ، لو حصل على توجيه ملائم يعزز ميله للمشاركة.

مجتمع يعيد اكتشاف نفسه


كانت المملكة العربية السعودية بين اواخر الدول العربية التي انفتحت على تيار التحديث ، لاسيما في مجال الاتصال والمعلومات. تأخر دخول خدمة الاتصال الخلوي والانترنت حتى اواخر القرن المنصرم. لكنها توسعت بشكل خرافي خلال السنوات العشر التالية. تعتبر السعودية اليوم اسرع اسواق المنطقة نموا في مجال الكمبيوتر والانترنت والاتصالات. وطبقا لتقارير رسمية ، فقد ارتفع عدد مستخدمي الانترنت من حوالي مليون في 2001 الى 16.4 مليون في منتصف 2013 ، هذا يعني ان 55.4% من سكان المملكة متصلون بشبكة المعلومات الدولية[48].

وتقول شركة "كونكت ادز" ان 3 ملايين سعودي يستخدمون شبكة التواصل الاجتماعي "تويتر" ، يكتبون نحو 50 مليون تغريدة شهرياً ، وهو الرقم الاعلى في الشرق الأوسط. وقد تضاعف استخدام "تويتر" في السعودية ثلاثين مرة بين عامي 2011-2012. وهو من أعلى المعدلات في العالم[49]


تشير هذه الارقام الى تحول عميق يمر به المجتمع السعودي ، يتضمن – للمرة الاولى في تاريخه – ممارسة عامة الناس لحقهم في التعبير عن رايهم ، الامر الذي يجعلهم طرفا مؤثرا في تشكيل المشهد. صحيح ان التيار الديني لازال قوة مؤثرة في  الرأي العام ، لكن الصحيح ايضا ان السعوديين ، سيما الجيل الجديد ، لم يعد مستمعا سلبيا. سألني يوما احد الباحثين الاجانب عما يجذبني – كسعودي – الى الانترنت ، فقلت له: انني اشعر برابطة روحية تتشكل تدريجيا في العالم الافتراضي. التقي يوميا بعشرات الناس ، من مدن وخلفيات وانتماءات وطبقات مختلفة ، نتحاور بلغة متقاربة ونشكل معا فهما جديدا لذواتنا كأفراد ولمجموعنا كسعوديين. هذه الشيء ما كان ممكنا تخيل حدوثه قبل عقد من الزمن.

حتى اواخر القرن المنصرم ، ما كنا نستطيع الحديث عن "رأي عام سعودي" ، لاننا ببساطة ما كنا قادرين على توصيفه وقياسه. الرقابة المشددة على الصحافة ، والفواصل الثقافية بين اطياف المجتمع ، وهيمنة الدولة على المنابر العامة ، تجعل من العسير اعتبار ما يقال هنا او هناك رايا عاما ، او تمثيلا للراي العام. في الوقت الحاضر ثمة اجماع بين الكتاب السعوديين على ان الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي ، سيما تويتر ، تقدم صورة واضحة عن توجهات الراي العام . خلال العامين الماضيين خصوصا ، لم تخل صحيفة محلية ، في اي يوم تقريبا ، من اشارة الى قضايا مثارة في شبكات التواصل الاجتماعي. كما ان معظم البرامج الحوارية في القنوات التلفزيونية التي يملكها سعوديون ، او الموجهة الى السعودية ، تعتمد على ما ينشر في تلك الشبكات ، كمحدد لموضوعاتها او نقاط اهتمامها. وفي اكتوبر 2013 ، كان "تويتر" ميدانا لحملة شعبية شارك فيها ما يصل الى مئة الف سعودي دعما لحقوق المرأة ، الامر الذي اضطر عددا ملحوظا من رجال الدين ، الذين عرفوا بمعارضة هذا الدعوة ، الى الوقوف جانبا. كما اعلن شيوخ اخرون تأييدهم للحملة[50]. هذا مثال واحد فقط عما يمر به المجتمع السعودي من تحولات. وثمة امثلة اخرى كثيرة ، شهدناها خلال الفترة 2012-2013 ، تؤكد هذه الدعوى. وتتضمن حملات للضغط على هيئات حكومية واخرى دينية ، نعلم انها ادت الى تغيير في السياسات او الممارسات.

الحراك الجماهيري الواسع في اطار الربيع العربي ، كشف لنا حقائق جديدة في الواقع العربي ، يتحكم كل منها في تشكيل جزء من صورة التحولات المتوقعة على المدى القصير والمتوسط. ابرز هذه الحقائق هي ان الجمهور العام ، سيما جيل الشباب المتعلم ، هو الذي صنع الثورة ، واستخدم فيها وسائله الخاصة ، لا الوسائل المتعارفة بين التنظيمات السياسية والدينية التقليدية.

تفاعل المجتمع السعودي ، سيما الجيل الجديد ، مع التحولات التي جرت في العالم العربي منذ اواخر 2010 بشكل مثير للانتباه. طبقا لاحد التقارير فقد بلغ عدد التغريدات باللغة العربية حول مصر بين 30 يونيو حتى 17 اغسطس 2013 نحو 3.2 مليون ، جاء 84.4% منها من السعودية.  هذا الفعل ، رغم كونه محصورا في العالم الافتراضي ، يشير بالتاكيد الى تحول متعاظم في الثقافة السياسية للمجتمع السعودي ، او على الاقل للشريحة العمرية بين 24-35 سنة التي تشكل اغلبية مستخدمي تويتر السعوديين ، تحول من النسق الانفعالي ، الى النسق المشارك.

نعلم ان شروط العالم الافتراضي مختلفة عن نظيره الواقعي. ولذا لا نعد التطور ضمن حدود العالم الافتراضي دليلا على تحولات مماثلة في الواقع. لكنا نعده مؤشرا على بداية تحول فعلي في ذهنية الناس ونظرتهم الى انفسهم والعالم المحيط. ويدعم هذه الحجة الاحداث التي شهدتها البلاد فعلا ، سيما خلال العامين 2011-2012 ، وبينها عدد من الاعتصامات والتظاهرات والوقفات الاحتجاجية ، معظمها صغير الحجم ، محدود المطالب ، لكنه دليل على ان التحول المدعى يأخذ مجراه.  ومن الامثلة الحديثة على هذا المنحى ، تطوع 60 محاميا في نوفمبر 2013 لمجابهة وزارة العدل ، في دعوى اقامتها ضد ثلاثة من زملائهم ، شنوا حملة في "تويتر" تتهم الوزارة بالتخلف والفساد الاداري[51]. وهذه اول حادثة من نوعها في تاريخ المملكة الحديث.

تحول الثقافة السياسية يظهر ايضا في طبيعة الانشغالات والمطالب التي قفزت الى الدرجات العليا من سلم اولويات السعوديين. وبين ابرزها مشاركة العامة في نقد الادارة العامة والمطالبة بالاصلاح ، ومشاركة المراة في سوق العمل ، والحريات الشخصية. حتى اواخر القرن المنصرم كان معظم الشباب الراغبين في الزواج يشترط ان تبقى زوجته "ربة بيت". وكان قليل منهم يتقبل عمل المرأة في مجالات محددة ، التعليم على وجه الخصوص. في الوقت الحاضر يسأل معظم طالبي الزواج عن التأهيل الدراسي لزوجته المستقبلية ووظيفتها. كما ان كثيرا من الفتيات يشترطن الان تضمين عقد الزواج حقهن في العمل واختيار الوظيفة.

كان عمل المرأة موضوعا لاوسع واسخن الجدالات التي خاضها التيار الديني – بمختلف اطيافه - ، واحد الاسباب المباشرة لتدهور علاقته مع الحكومة والمجموعات الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة.  في 2011 كشفت تقارير رسمية ان النساء يشكلن 65% من مليوني طالب عمل سجلوا في  برنامج "حافز" الذي تبنته الحكومة لمعرفة عدد العاطلين ومساعدتهم. وتمت الموافقة الفعلية على طلبات 700 الف ، 70% منهم نساء ، اي ما يقارب نصف مليون[52]. وشهد العام 2013 زيادة غير مسبوقة في عدد النساء العاملات ومجالات عملهن.

برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي يقدم هو الاخر مؤشرا على انحسار او تراجع "قلق الهوية" الذي شكل فيما مضى سلاحا ماضيا للتيار الديني الحركي، الذي جعل مقاومة التغريب والتهويل بالمؤامرة الغربية على الاسلام ، والغزو الثقافي ، محور خطابه العام ، والذي ساهم بلاشك في انتاج مشاعر كراهية كثيفة تجاه الغرب وتجاه الحداثة. طبقا لتقارير وزارة التعليم العالي فقد بلغ عدد المبتعثين للدراسة الجامعية في الخارج 148,229 طالبا خلال الفترة 2007-2013[53]. في 2011 اختار 30% من الطلبة الدراسة في الولايات المتحدة ، 15% اختاروا بريطانيا ، و19% ذهبوا الى استراليا وكندا[54]. ذكرت هذه الدول خصوصا لان قواتها عسكرت في اراضي المملكة ، وشاركت في حرب الخليج الثانية (1991)، فيما اعتبره التيار الديني الحركي يومئذ دليلا ماديا على المؤامرة الدولية. اختيار ثلثي الطلبة لهذه الدول ، يوضح بالتاكيد ان القلق على الهوية لم يعد عنصرا حاسما في الثقافة العامة للسعوديين الشباب.

اختيار التخصص الجامعي يؤكد ايضا تزايد ميل الشباب الى قطاع الاقتصاد الحديث ، والذي كان حتى وقت قريب بغيضا عند  التيار الديني. في 2012 شكل طلاب الدراسات الاسلامية نحو 9% وطلاب العلوم الانسانية (لغة عربية ، اداب ، تاريخ وجغرافيا الخ) نحو 11% من اجمالي 900 الف طالب جامعي بمرحلة البكالوريوس في 2012 ، بينما اختار البقية تخصصات علمية وعملية ، توفر فرصا افضل في سوق العمل[55]، مما  يكشف عن ميل متزايد بين الشباب لصوغ هوياتهم الفردية بعيدا عن اشكالية الهوية والانتماء.

هذه تحولات في الواقع ، تشير الى تحولات في الثقافة والهموم الحياتية. من المؤسف ان التيار الديني لازال حتى اليوم منشغلا بمعارك صغيرة ، كما قال الشيخ سلمان العودة [56]، تؤدي بالتدريج الى تغيير صورته في اذهان الناس ، من حارس للدين الى معطل لحياة الناس. واظن ان التيار الديني قد خسر الكثير من نفوذه القديم ، بسبب تصلب مواقفه ، وفشله في تكييف طروحاته وملاءمتها مع حاجات الجيل الجديد وهمومه. صحيح ان شخصيات هذا التيار لازالت بين الاكثر قبولا في المجتمع السعودي. لكن تحليل الفوارق بين مستويات الشعبية التي يتمتع بها هؤلاء ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان رجال الدين الاعلى شعبية هم اولئك الذين يقدمون اراء ملائمة لمزاج الجمهور ، مستجيبة لتطلعاته ، ولو على المستوى اللفظي. يمكن تأكيد هذا الاستنتاج بمقارنة مستوى شعبية هؤلاء مع نظرائهم المتشددين من جهة ، ومع الشخصيات الثقافية والاعلامية الاكثر حضورا في الساحة ، من جهة اخرى.

استنتاجات


قدم العرض السابق تحليلا متشائما لمسيرة الاخوان المسلمين والسروريين ، وهما الجماعتان الاوسع نفوذا في المملكة. عرضت الورقة مبررات وظروف صعود الجماعتين ، ثم تراجع نفوذهما. ويمكن تلخيصها في النقاط الاتية:

1 - ولادة الاسلام السياسي هي احد النواتج  غير المقصودة لعملية تمايز التيار الديني الاهلي واستقلاله عن الدولة ومؤسستها الدينية. وقد اشرنا الى الشيخ ناصر الدين الالباني كرمز لهذا المسار. تشكل تيار اهلي يقود بالضرورة الى انتقاص مشروعية الخطاب الديني الرسمي والمؤسسات التي تخدمه. وبالنسبة للمملكة خصوصا ، فان هذا يشكل مصدر حرج كبير ، بالنظر لاعتماد الدولة على الدين ومؤسسته كمصدر لشرعيتها السياسية. زبدة القول ان تشكل الاسلام السياسي ينطوي بالضرورة على خط تعارض مع الدولة ، سواء  كان واعيا بذلك ام لا ، وسواء كان حليفا للحكم او شريكا له او متخارجا عنه.

2  - ولد تيار الاخوان المسلمين السعودي ، على يد مهاجرين عرب ، وخصوصا من مصر وسوريا والعراق. هذا يجعله بالضرورة متفاعلا مع التطورات الثقافية والسياسية والصراعات ، التي يكون الاخوان المسلمون في تلك البلدان طرفا فيها. هذا يتضمن ايضا التحولات الايديولوجية والثقافية التي يتعرض لها هؤلاء. ومن هذه الزاوية فان صعود الاخوان في مصر مثلا ، انعكس بشكل عميق على الطيف الاجتماعي الذي ينشط فيه الاخوان السعوديون. الجدل داخل تيار الاخوان المصريين ، حول تجديد المتبنيات السياسية والاستهدافات والمواقف ومبرراتها الايديولوجية ، ينعكس على اشقائهم السعوديين. التأثير المصري كان ولا يزال اعمق من تاثير اي قطر آخر بالنظر الى كثافة الانتاج الثقافي ومركزية الجماعة هناك، فضلا عن عمق الروابط بين السعودية ومصر.

 من هنا فان فهم وتقدير ما يجري في مصر بشكل رئيسي ، وفي الاقطار العربية الاخرى بالدرجة الثانية ، سيما سوريا والعراق ، سيكون مفيدا جدا في استكشاف او توقع التحولات في تيار الاخوان السعوديين. نلحظ مثلا ان خطاب هؤلاء يميل في هذه الايام الى تقبل مفاهيم كانت - حتى وقت قريب – غريبة عن تداولاتهم ، مثل الدستور وسيادة القانون والحريات المدنية والتطبيق غير القسري لاحكام الشريعة. كما لاحظنا ظهور افكار جديدة عن العلاقة مع التيارات المنافسة والاعداء التاريخيين – الغرب مثلا – تؤكد على التفاهم معهم والاستفادة من تجربتهم باعتبارها مكسبا انسانيا ، يمكن فصله عن الايديولوجيا.. الخ. ولا اشك ان هذه بعض تمظهرات التاثير المذكور.

3 – ظهور تيار السلفية الحركية (السرورية) كان تعبيرا عن حاجة لموضعة السلفية كفاعل مستقل في المشهد السياسي. ولد هذا التيار في نفس البيئة الاجتماعية التي ينشط فيها الاخوان ، فكان غريما وجوديا لهم ، وارتبطت بدايته بالصراع ضد الشيعة ، الذي اختلط فيه السياسي بالايديولوجي. ثم ركز على الموقف من الغرب ، فأضاف الى"قلق الهوية" السائد في المجتمع الديني بعدا سياسيا ، ونجح في اعادة تصوير الموقف السلفي تجاه الاخرين ، المسلمين وغيرهم ، باعتباره تجسيدا وحيدا لمقاومة الاسلام الصافي ضد مؤامرة عالمية.

تشكل هذا التصوير من مزيج اوهام تاريخية (حول علاقة المسلمين بالمسيحيين واليهود مثلا) بمقولات ايديولوجية (مثل عقيدة الولاء والبراء) بتطلعات سياسية (اقامة حكم الاسلام مثلا) بتصورات مختلطة عن العالم والنظام الدولي المعاصر (مثل تاثيرالدين في العلاقات الدولية). هذا التصوير ولد قدرا هائلا من الارتياب داخل التيار الديني السعودي ، تجاه كل ما يصنف كـ "آخر" او "مخالف". وجدنا تجسيد هذا الارتياب في المساندة الواسعة لخطاب تنظيم "القاعدة" ، بين الشباب ورجال الدين السعوديين على السواء ، سيما خلال الفترة من 1995  حتى 2005.  هذه المساندة تراجعت الان ، لكن وجودها وحيويتها لازال مشهودا.

تسبب هذا التصوير في جعل التيار الديني السعودي بمختلف اطيافه ، عامل احراج وتأزيم لعلاقات الحكومة مع الخارج ، سيما حلفائها الغربيين ، وكذلك في علاقاتها الداخلية مع مواطنيها غير السلفيين (الشيعة والصوفية مثلا). نتيجة لذلك فان محاولات الحكومة لتخفيف الضغط الدولي عليها ، ضمن ما سمي بالحرب على الارهاب او مقاومة التطرف الاسلامي ، يتجه في حقيقة الامر الى تفكيك مصادر القوة الاجتماعية التي يملكها التيار السروري. الانعكاس المباشر لهذا التوجه هو ازدياد فرص الصعود السياسي والاجتماعي للتيار المعادي للسلفية الحركية ، والذي يتألف من مثقفين ليبراليين ورجال اعمال ورجال دين براغماتيين او تقليديين.

ومن احدث تجليات هذا الاتجاه تصفية انصار التيار  السروري في "هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" وهي واحدة من اقوى المنظمات الدينية الرسمية واكثرها حضورا في الساحة الاجتماعية ، وكانت تشكل حتى وقت قريب حصنا قويا للتيار.

4- ولد تيار الاسلام السياسي في المملكة كمبادرة دفاعية ضد تسرب اليسار والحداثة. وقد نفذ هذه المهمة من خلال تصنيع هموم جديدة ، تتمحور حول الهوية الدينية وصيانتها وتركيز الارتياب تجاه الخارج والتهويل بالمؤامرة العالمية والغزو الثقافي .. الخ. اصبحت هذه الهموم وسيط العلاقة بين الاسلاميين الجدد والجمهور ، وموضوعا للصراع بين القوى الاجتماعية. معارك التيار الديني ضد اليسار ثم الحداثة ثم التغريب ، كانت القاطرة التي حولت التيار الى قوة مؤثرة في الراي العام ، و – تبعا – في السياسة وتوازنات القوى الاجتماعية. 

الربيع العربي وتوسع الاتصال بمصادرالمعلومات ، وتراجع قلق الهوية ، اطلقت مسارتغيير تدريجي ، لكن عميق ، في البيئة الاجتماعية للتيار الديني الحركي ، الامر الذي يقود الى تغيير مواز في الفرص المتاحة وشروط الحصول عليها. العودة الى ساحة الفعل السياسي ستكون مشروطة بالتكيف مع متطلبات الواقع الجديد. اخذا بعين الاعتبار هذه التطورات ، نستطيع القول ان هذا التيار لم يعد لاعبا منفردا في الساحة ، وان القوى المنافسة تتقدم بتسارع اكبر ، يغري بادعاء ان توازنات القوى في المشهد الاجتماعي السعودي تتغير ببطء لكن بعمق ، وان القوى التي تناضل دون مبدا العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية ، تحظى بمساحات اجتماعية متزايدة. نحن – بكلمة اخرى – امام نسق يتراجع ، ونسق بديل ينهض بالتدريج ، لكن بخطوات واثقة.

5- برزت الحركة الاسلامية في مصر وتونس كممثل لانشغالات شعبية واقعية ، ابرزها اعتقاد الجمهور بان الفساد الاداري والسياسي هو السبب الرئيس لفشل الدولة ، وان تصحيح هذا الوضع يتوقف على منح السلطة لاناس اتقياء يخافون الله. هذا الاعتقاد هو الذي حمل الاسلاميين الى السلطة ، رغم ان دورهم في اطلاق الثورة وانتصارها كان ثانويا. قارن هذا بما جرى في اليمن الذي شهد ثورة مماثلة ، لكن الاسلاميين لم ينجحوا في السيطرة على مقاليد  الامور كما هو الحال في تونس ومصر.

ان العامل الرئيس وراء صعود الاسلاميين هو رغبة الجمهور في "التغيير" ، الذي ينصرف عادة الى اختيار الضد الموضوعي او السياسي او الايديولوجي للوضع المستهدف بالثورة. تشدد الحكومات في مصر وتونس مع الاسلاميين حولهم – في نظر الجمهور – الى ضد موضوعي ، يمكن ان يكون بديلا لكل ما ثاروا ضده. لكن الامر لم يكن على هذا النحو في اليمن ، فقد  كان الاسلاميون جزءا من النظام القائم ، واقعيا او بحسب التصور السائد ، لهذا لم يعتبروا بديلا عنه.

تطبيق هذا التحليل على الوضع في السعودية يعطي استنتاجا مماثلا. فالجماعتين موضوع البحث ، اي الاخوان والسلفية الحركية "السرورية" لا تصنفان كبديل موضوعي او نقيض ايديولوجي او سياسي للوضع القائم. كما انه لا احد من الشخصيات البارزة فيهما يتبنى القضايا التي تشكل انشغالات رئيسية للجمهور ، سيما قضايا العدالة الاجتماعية كالمساواة والتوزيع العادل للثروة والدفاع عن حقوق الانسان .. الخ.

من هنا فان مسار تحول الثقافة السياسية للمجتمع السعودي ، سيقود غالبا الى اعادة موضعة التيار الديني الحركي في الذهنية العامة ضمن الاطار الديني البحت ، وليس السياسي.





[1] Mehran Kamrava, Cultural Politics in the Third World, , UCL Press. , (London. 1999), p. 33-34

[2] Andres Rosler,  Political Authority and Obligation in Aristotle,  Clarendon Press, 2005, p. 71

[3] Gabriel  Almond & Sidney Verba,  The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, Sage, (Newbury Park, CA, 1989), p. 22

[4] توفيق السيف: علاقة الدين بالدولة السعودية ودور المؤسسة الوهابية في الحكم ، المستقبل العربي، ع 407، (يناير 2013) http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/tawfic%20sayef%2032-59.pdf

[5] عبد العزيز بن باز : الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس وسكون الأرض، ط2 ،مكتبة الرياض الحديثة ، (الرياض 1982) ويرجع المؤلف لنصوص قرانية واحاديث في نفي النظريات القائلة بدوران الارض وامكانية الرحلات الفضائية خارج هذا الكوكب. ن.إ. http://www.al-tawhed.net/UploadedData/tawhedmedia/abaz/books//adeelah15.pdf



[6] عبد العزيز السدحان، الامام الالباني دروس ومواقف وعبر ، (2010) ص 165. ن. إ. http://IslamHouse.com/307934

[7] ناصر الدين الالباني : الطريق الرشيد نحو بناء الكيان الاسلامي . في محمد ابراهيم الشيباني : حياة الالباني واثاره وثناء العلماء عليه. مكتبة السداوي (القاهرة 1987)، صص 378-389

[8] الشيباني ، المصدر السابق ص 410

[9] ناصر الدين الالباني، حديث لمجلة البيان، ع 33، نوفمبر 1990. ن.أ.  www.almeshkat.net/books/open.php?cat=17&book=1627

[10] ستيفان لاكروا: زمن الصحوة ، الشبكة العربية للابحاث والنشر (بيروت 2012)، ص 115

[11] عوض القرني ، حديث لصحيفة الشرق الاوسط 1 يونيو 2010 www.aawsat.com/details.asp?issueno=11700&article=571995

[12] انظر مثلا بكر أبو زيد: حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية (1410). ن.إ. http://ia600202.us.archive.org/13/items/waq22327/22327.pdf

[13] يوسف الديني : الاخوان المسلمون السعوديون ، المشروعية المؤجلة ، في تركي الدخيل (محرر): الاخوان المسلمون والسلفيون في الخليج ، مركز المسبار للدراسات والبحوث (دبي 2010) ، ص 52

[14] انظر مثلا جريدة الرياض (28 نوفمبر 2002) www.alriyadh.com/Contents/28-11-2002/Mainpage/LOCAL1_3591.php

[15] ستيفان لاكروا: المصدر السابق ، ص 59

[16] علي العميم ، شيء من النقد شيء من التاريخ ، جداول (بيروت 2011) ص 190

[17] علي العميم : المصدر السابق. ويقول العميم ان الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية (التي اصبحت فيما بعد جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية) ادرجت مادة "الثقافة الاسلامية" ضمن مناهجها بتاثير اكاديميي الاخوان المسلمين السوريين. قبل ذلك كان رجال الدين السعوديون يعارضون تدريسها لانها جديدة وليست اثرا معروفا بين السلف ولانها تتعرض لفرق ومذاهب معاصرة.  "علماء السلف الأقدمين لم يعرفوا هذه التسمية، والمذاهب بالنسبة لهم هي الفرق الإسلامية المنقرضة والمستمرة  المذكورة في كتب عقائد السلف القديمة". علي العميم : إبراهيم البليهي.. مثقف لا يسأم من التكرار. الشرق الاوسط ( 4 فبراير 2012  ) http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=661965&issueno=12121

[18] حول حياة الشيخ الصواف ، انظر  عبده دسوقي : محمد محمود الصواف رائد الحركة الاسلامية في العراق ، ويكيبديا الاخوان المسلمين (9 مارس 2012) محمد_محمود_الصواف=www.ikhwanwiki.com/index.php?title

[19] لبعض التفاصيل انظر علي العميم : شيء من النقد شيء من التاريخ ، ص 177

[20] محمد مهدي عاكف ، حديث لقناة الحوار ، برنامج مراجعات (15 مايو 2008) http://www.youtube.com/watch?v=8HyLHr1lEKo&feature=related

[21] عبد الله بن بجاد العتيبي: الاخوان المسلمون والسعودية، الهجرة والعلاقة ، في تركي الدخيل : مصدر سابق  ، ص 26

[22] ناصر الحزيمي: ذكرياتي مع جهيمان ، في تركي الدخيل: مصدر سابق، ص 249

[23] عبد الله بن بجاد العتيبي ، المصدر السابق ، ص 33

[24] مصطفى الحسن: ذكرياتي مع الاخوان في السعودية ، مدونة شخصية، (27 يونيو ، 2011) www.som1.net/?p=3340

[25] مصطفى الحسن : المصدر السابق

[26] يوسف الديني : ثورة على عبد الرحمن الراشد، الشرق الاوسط (11 يناير 2012) . www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=12097&article=658452

[27] خالد المشوح : لم يعد الاخوان اخوانا ، الوطن ( 20 نوفمبر 2009 ) http://84.235.54.86/news/writerdetail.asp?issueno=3339&id=15829&Rname=35

[28] Dennis Kavanagh, Political Culture, Mackmillan, (London 1972), p. 21

[29] ورد في عبد الواحد الانصاري : "محمد سرور: كنت جزءاً من «الإخوان» في القصيم... ومناع قطان شارك في ترحيلي" ، الحياة 31-10-2013 http://alhayat.com/Details/566878  نقلا عن حديث تلفزيوني لزين العابدين.

[30] ستيفان لاكروا : المصدر السابق، ص 129

[31] انظر بهذا الصدد خالد المشوح: التيارات الدينية في السعودية ، دار الانتشار العربي (بيروت 2012) ، ص 108

[32] سفر الحوالي: كشف الغمة عن علماء الأمة (1991) . ن. إ.  http://www.saaid.net/Warathah/safar/sf8.zip

[33]  Mansoor Alshamsi, Islam and Political Reform in Saudi Arabia, Routledge, (New York 2010) p. 126

[34] مؤسسة النقد العربي السعودي ، التقرير  السنوي 48 لعام 2012 ، ص 24 http://www.sama.gov.sa/ReportsStatistics/ReportsStatisticsLib/5600_R_Annual_Ar_48_2013_02_19.pdf

[35] خلدون النقيب: المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، ط 2، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت 1989)، ص 123

[36] See for instance: Robert Springborg, ‘GCC Countries as "Rentier States" Revisited,  The Middle East Journal, Vol. 67, No. 2, Spring 2013

[37] انظر بهذا الصدد مقالات وكيل وزارة المالية السابق ، عبد العزيز الدخيل ، جريدة ا لشرق (2012-2013) http://www.alsharq.net.sa/author/aaldakhil

[38] الاقتصادية (18 مارس 2011)  http://www.aleqt.com/2011/03/18/article_516127.html

[39] في افتتاح مهرجان الجنادرية قال نجل الملك ، الامير متعب "لو رجعنا قليلا الى ما قال سيدي خادم الحرمين الشريفين في الحوارات وخصوصا حوارات الأديان وما كان يسعى اليه - حفظه الله- بأن لا يدخل الدين في السياسةالرياض (7 ابريل 2013) http://www.alriyadh.com/2013/04/07/article823956.html 

انظر ايضا تصريحات ولي العهد السابق الامير نايف الذي وصف الاخوان المسلمين بانهم "اصل البلاء" وترجع هذه التصريحات الى العام 2002، السياسة (4 اغسطس 2013) http://www.al-seyassah.com/AtricleView/tabid/59/smid/438/ArticleID/255562/reftab/59/Default.aspx

[40] سبق الالكترونية (22 اكتوبر 2013) http://sabq.org/e3Gfde

[41] العربية. نت (28 يونيو 2004) http://www.alarabiya.net/articles/2004/06/28/4667.html

[42] حول الفارق بين الخطاب السياسي الشعبوي ونظيره الديمقراطي ، انظر

 Chantal Mouffe, Politics and Passions, Centre for the Study of Democracy, (London 2002)

[43] المادة السادسة ، الباب الثاني من النظام الاساسي للحكم في المملكة.

[44] Quoted in Daniel E. Price, Islamic Political Culture, Democracy, and Human Rights, (Praeger 1999), p. 14

[45]  توفيق السيف : مكانة العامة في التفكير السياسي الديني ، مدونة شخصية (29 سبتمبر 2013) http://talsaif.blogspot.com/2013/09/blog-post_2601.html

[46]  for a quick comparison between the three types’ embodiments , see:  Moataz A. Fattah,’ Almond and Verba: The Civic Culture:Types of Political Culture and How it Affects the Political System’. (2002) www.chsbs.cmich.edu/fattah/courses/cp/civiccult.htm

[47] Dennis Kavanagh, Political Culture, (Mackmillan, London 1972), p. 11

[48] هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات: النشرة الالكترونية ، العدد 16 ، سبتمبر 2013 http://www.citc.gov.sa/arabic/MediaCenter/Newsletter/Documents/PR_ENL_016.pdf

[49] النشرة الالكترونية ITP.net (2 مايو 2013) http://www.itp.net/arabic/593151#.Unfe8HCegrV

[50] خلال الفترة من 10 اكتوبر – 9 نوفمبر 2013 سجلت 734,712 تغريدة على وسم #قيادة_26اكتوبر الذي اطلقته الناشطات لدعم الحملة. http://topsy.com/s?q=%23%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9_26%D8%A7%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1&window=m&type=tweet


[52] جريدة الرياض 24-11-2011  http://www.alriyadh.com/2011/11/24/article685636.html

العربية. نت 29 سبتمبر 2011 http://www.alarabiya.net/articles/2011/09/29/169290.html

[53] تصريحات لوزير التعليم العالي ، الاقتصادية (16-4-2013)  http://www.aleqt.com/2013/04/16/article_747990.html

[54] تصريحات لوكيل وزارة التعليم العالي، جريدة البلاد (14-3-2011) http://www.albiladdaily.com/news.php?action=show&id=74037

[55] الارقام مستقاة من مركز احصاءات التعليم بوزارة التعليم العالي http://www.mohe.gov.sa/ar/Ministry/Deputy-Ministry-for-Planning-and-Information-affairs/HESC/Ehsaat/Pages/default.aspx

[56] انظر سليمان الرشودي: يادكتور سلمان كف عن أهل العلم والفضل والحسبة أذاك، لجينيات (28 اكتوبر 2013) http://lojainiat.com/c-106247






اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...