17/01/2001

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات




يمكن لاقطار الخليج العربي ان تكون رائدة للتجديد السياسي على المستوى العربي إذا توافرت الشروط اللازمة لتجديد مجتمعاتها ، وهذا قول ينطوي على كثير من المفارقات ، ومن اهمها ان مجتمعات الخليج ، تعتبر واحدة من اكثر المجتمعات العربية انشدادا إلى التقاليد ، التي تعبر بصورة من الصور عن النظام السياسي القديم  .

لكن على الجانب الآخر فان مجتمعات الخليج تتميز بصفات لا تتوفر في غيرها ، ومن بينها على سبيل المثال الاستقرار الاقتصادي النسبي ، الذي يعتبر حافزا مهما للتجديد السياسي ، بالنظر لما ينتج عن عامل الوفرة الاقتصادية من تبريد لبؤر التوتر وتحفيز لاخلاقيات المساومة والشراكة .
ومن بينها ايضا الارتخاء السياسي العام في المنطقة ، فالخليج لم يشهد توترات شديدة داخلية المصدر خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، وما حصل من مشكلات امنية في اكثر من دولة ، لم يكن من النوع المستعصي على السيطرة أو الطويل الامد ، لقد تركت حرب الخليج الاولى والغزو العراقي للكويت جروحا بليغة ، ومثلتا تهديدا حقيقيا للسلام الاجتماعي والاستقرار ، لكن من الواضح الان ان مجتمعات المنطقة تتعافى من اثارهما ، كما ان الحكومات لم تحول ما جرى إلى فزاعة سياسية ، كما هو معتاد في أقطار عربية أخرى .

وثمة دواع أخرى تؤكد الحاجة إلى التجديد السياسي ، منها مثلا الترابط الوثيق بين اقتصاديات الخليج والسوق الدولية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على طبيعة واساليب التجارة الدولية خلال العقدين الاخيرين ، ولا سيما تفاقم دور قطاع الاعمال الدولي في صناعة السياسة الخارجية ، وانكماش الهوة الفاصلة بين الداخلي والخارجي ، بسبب الاتجاه المتصاعد إلى عولمة الاقتصاد ، فان الانعكاس الطبيعي لهذه التطورات سيكون انكماش دور الدولة كصانع وحيد للسياسة وموجه للاقتصاد المحلي ، ولهذا العامل اهمية خاصة في الخليج ، من زاوية ان حركة راس المال تعتبر إلى حد ما بوصلة الحياة - وتاليا السياسة - في المنطقة .

لكن المشهد ليس بالجمال الذي ربما توحي به السطور السابقة ، فعدا عن الكويت التي قطعت شوطا بعيدا في اتجاه التجديد السياسي ، فان بقية الاقطار الخمس الاعضاء في مجلس التعاون ، لا تزال بحاجة إلى الكثير من الوقت والكثير من الجهد ، وهي بحاجة - خصوصا - إلى قرارات كبرى ، للاقلاع من حالة الجمود السياسي وقطع الخطوات الاولى في الطريق إلى التجديد .

ثمة رأي يتبناه كثير من الناس فحواه ان حكومات المنطقة ، مثل جمهورها - ولا سيما القوى ذات التاثير اليومي - لا تشعر بحاجة شديدة إلى التجديد ، أو انها لا ترى في ما يدعى من جمود سياسي ، مصدرا لخطر داهم ، بل ربما وجد الطرفان في تفصيلات التجديد السياسي ، ومنها اقرار الحريات العامة مثلا ، ربما وجدا فيه حافزا لانواع من السلوكيات غير المتوافقة مع التقاليد الدارجة والمتسالم عليها ، وربما تتحول إلى سبب جديد للمماحكة السياسية ، التي لا تجد النخبة الحاكمة في نفسها قدرة أو رغبة على مواجهتها أو المشاركة فيها ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان التجديد لا ياتي إلا إذا اصبح حاجة ماسة للاكثرية ، فان علينا الانتظار طويلا قبل ان نرى ما ندعو اليه حيا يمشي على قدمين .

وثمة رأي يتبناه بعض السياسيين - وان كانوا قد توقـفوا عن التعبـير العلني عنه منذ بعض الوقت - خلاصته ان مجتمعات الخليج ليست جاهزة للتجديد الذي يعني حاكمية القانون ، اقرار الحريات العامة ، والمشاركة السياسية ، بالنظر لما يدعى من الافتقار إلى الانسجام الاجتماعي ، الناتج عن التجنيس أو الاصول القبلية لبعض السكان ، أو لان الثقافة العامة لا تزال قاصرة عن توليد روحية المداهنة والمساومة ، التي تؤسس للشراكة في المصالح والاتفاق على قواسم الالتقاء ، بدل الانشغال بالتمايز وعناصر الافتراق .

وثمة رأي سمعته شخصيا من عدد من السياسيين البارزين ، خلاصته ان الفائدة الكبرى للديمقراطية هي تقاسم المصالح العامة بالعدل والانصاف ، وهذه مشكلة غير قائمة في الخليج الذي توفرت فيه امكانات للعيش الرفيع ، انتفت معها الحاجة إلى البحث عن آلية للتقاسم المنصف للمصالح ، فالكل يحصل على ما يكفيه .

ولا اجدني بحاجة إلى مناقشة الآراء السابقة ، فهي ليست مطلقة ، وبالتالي فانها قد تكون الاستثناء على القاعدة ، وان تراءى لمن يتبناها انها هي الاصل وغيرها الاستثناء ، كما ان الديمقراطية - التي نراها الوليد الاهم للتجديد - ليست حاجة اقتصادية ، وليست اداة لمعالجة مشكلة الندرة ، ولا منبرا للتعبير عن الذات ، فهذه كلها من ثمراتها الطيبة .

 التجديد والديمقراطية ليسا حلقة من حلقات التقدم ، بل هي الشرط اللازم للتقدم ، وبدونها فان المدنية المنشودة ، لا تكون غير قشرتها الخارجية ، المتمثلة في البنايات والشوارع والسيارات والملابس النظيفة ، والديمقراطية شرط للاستقرار الاجتماعي ، وبدونها فان الدولة مضطرة لانفاق جانب كبير من مواردها في تعزيز اجهزة السيطرة المادية وما يسمى - تجاوزا - الامن ، ومع ذلك فان مسببات الاضطراب الاجتماعي والتمرد تبقى قائمة ومتفاقمة ، وان لم يلحظها الناظر للامور من الخارج ، والديمقراطية اخيرا هي الاداة الوحيدة المتوفرة في عالم اليوم ، لضمان كرامة الانسان وتحقيق انسانيته ، وتحريره من العبودية للاشخاص والاجهزة والمؤسسات السرية والعلنية .

اظهرت التجربة الفعلية في عدد من اقطار العالم ، ان التجديد وفتح المجتمع المغلق ، كان عسيرا ومكلفا ، رغم انه حدث في نهاية المطاف ، باختيار النخبة أو غصبا عنها ، وما نخشاه جميعا ان تتكرر هذه التجارب في الخليج ، ولهذا فانه من الضروري استعراض الفرص المتاحة لانتقال تدريجي وهاديء ، انتقال من حالة الانغلاق الاجتماعي والجمود السياسي ، إلى الانفتاح والحركة وتجديد الذات ، باستعمال آليات النظام الاجتماعي نفسها ، وبمرافقة ادوات النظام السياسي نفسه ، تغيير من داخل النظام لا بالالزام الخارجي ، كي نتدرج في سيرورة لينة تحقق الغرض ، دون الاضطرار إلى دفع الثمن المؤلم الذي اضطرت اليه اقطار أخرى .

ترى هل هناك فرص جدية لانتقال من هذا النوع في الخليج ؟
وهل يمكن للخليج ان يقدم مثالا على امكانية التقدم دون اللجوء إلى حلول موجعة ؟ .

ازعم ان هذا ممكن ، لكننا بحاجة اولا إلى وضع اليـد على مكامن الداء السياسي وتشخيص العلل .

يناير 2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...