يمكن
لاقطار الخليج العربي ان تكون رائدة للتجديد السياسي على المستوى العربي إذا
توافرت الشروط اللازمة لتجديد مجتمعاتها ، وهذا قول ينطوي على كثير من المفارقات ،
ومن اهمها ان مجتمعات الخليج ، تعتبر واحدة من اكثر المجتمعات العربية انشدادا إلى
التقاليد ، التي تعبر بصورة من الصور عن النظام السياسي القديم .
لكن
على الجانب الآخر فان مجتمعات الخليج تتميز بصفات لا تتوفر في غيرها ، ومن بينها
على سبيل المثال الاستقرار الاقتصادي النسبي ، الذي يعتبر حافزا مهما للتجديد
السياسي ، بالنظر لما ينتج عن عامل الوفرة الاقتصادية من تبريد لبؤر التوتر وتحفيز
لاخلاقيات المساومة والشراكة .
ومن
بينها ايضا الارتخاء السياسي العام في المنطقة ، فالخليج لم يشهد توترات شديدة
داخلية المصدر خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، وما حصل من مشكلات امنية في اكثر من
دولة ، لم يكن من النوع المستعصي على السيطرة أو الطويل الامد ، لقد تركت حرب
الخليج الاولى والغزو العراقي للكويت جروحا بليغة ، ومثلتا تهديدا حقيقيا للسلام
الاجتماعي والاستقرار ، لكن من الواضح الان ان مجتمعات المنطقة تتعافى من اثارهما
، كما ان الحكومات لم تحول ما جرى إلى فزاعة سياسية ، كما هو معتاد في أقطار عربية
أخرى .
وثمة
دواع أخرى تؤكد الحاجة إلى التجديد السياسي ، منها مثلا الترابط الوثيق بين
اقتصاديات الخليج والسوق الدولية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار التغيرات العميقة التي
طرأت على طبيعة واساليب التجارة الدولية خلال العقدين الاخيرين ، ولا سيما تفاقم
دور قطاع الاعمال الدولي في صناعة السياسة الخارجية ، وانكماش الهوة الفاصلة بين
الداخلي والخارجي ، بسبب الاتجاه المتصاعد إلى عولمة الاقتصاد ، فان الانعكاس
الطبيعي لهذه التطورات سيكون انكماش دور الدولة كصانع وحيد للسياسة وموجه للاقتصاد
المحلي ، ولهذا العامل اهمية خاصة في الخليج ، من زاوية ان حركة راس المال تعتبر
إلى حد ما بوصلة الحياة - وتاليا السياسة - في المنطقة .
لكن
المشهد ليس بالجمال الذي ربما توحي به السطور السابقة ، فعدا عن الكويت التي قطعت
شوطا بعيدا في اتجاه التجديد السياسي ، فان بقية الاقطار الخمس الاعضاء في مجلس
التعاون ، لا تزال بحاجة إلى الكثير من الوقت والكثير من الجهد ، وهي بحاجة -
خصوصا - إلى قرارات كبرى ، للاقلاع من حالة الجمود السياسي وقطع الخطوات الاولى في
الطريق إلى التجديد .
ثمة
رأي يتبناه كثير من الناس فحواه ان حكومات المنطقة ، مثل جمهورها - ولا سيما القوى
ذات التاثير اليومي - لا تشعر بحاجة شديدة إلى التجديد ، أو انها لا ترى في ما
يدعى من جمود سياسي ، مصدرا لخطر داهم ، بل ربما وجد الطرفان في تفصيلات التجديد
السياسي ، ومنها اقرار الحريات العامة مثلا ، ربما وجدا فيه حافزا لانواع من
السلوكيات غير المتوافقة مع التقاليد الدارجة والمتسالم عليها ، وربما تتحول إلى
سبب جديد للمماحكة السياسية ، التي لا تجد النخبة الحاكمة في نفسها قدرة أو رغبة
على مواجهتها أو المشاركة فيها ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان التجديد لا ياتي إلا
إذا اصبح حاجة ماسة للاكثرية ، فان علينا الانتظار طويلا قبل ان نرى ما ندعو اليه
حيا يمشي على قدمين .
وثمة
رأي يتبناه بعض السياسيين - وان كانوا قد توقـفوا عن التعبـير العلني عنه منذ بعض
الوقت - خلاصته ان مجتمعات الخليج ليست جاهزة للتجديد الذي يعني حاكمية القانون ،
اقرار الحريات العامة ، والمشاركة السياسية ، بالنظر لما يدعى من الافتقار إلى
الانسجام الاجتماعي ، الناتج عن التجنيس أو الاصول القبلية لبعض السكان ، أو لان
الثقافة العامة لا تزال قاصرة عن توليد روحية المداهنة والمساومة ، التي تؤسس
للشراكة في المصالح والاتفاق على قواسم الالتقاء ، بدل الانشغال بالتمايز وعناصر
الافتراق .
وثمة
رأي سمعته شخصيا من عدد من السياسيين البارزين ، خلاصته ان الفائدة الكبرى
للديمقراطية هي تقاسم المصالح العامة بالعدل والانصاف ، وهذه مشكلة غير قائمة في
الخليج الذي توفرت فيه امكانات للعيش الرفيع ، انتفت معها الحاجة إلى البحث عن
آلية للتقاسم المنصف للمصالح ، فالكل يحصل على ما يكفيه .
ولا
اجدني بحاجة إلى مناقشة الآراء السابقة ، فهي ليست مطلقة ، وبالتالي فانها قد تكون
الاستثناء على القاعدة ، وان تراءى لمن يتبناها انها هي الاصل وغيرها الاستثناء ،
كما ان الديمقراطية - التي نراها الوليد الاهم للتجديد - ليست حاجة اقتصادية ،
وليست اداة لمعالجة مشكلة الندرة ، ولا منبرا للتعبير عن الذات ، فهذه كلها من
ثمراتها الطيبة .
التجديد والديمقراطية ليسا حلقة من حلقات التقدم
، بل هي الشرط اللازم للتقدم ، وبدونها فان المدنية المنشودة ، لا تكون غير قشرتها
الخارجية ، المتمثلة في البنايات والشوارع والسيارات والملابس النظيفة ،
والديمقراطية شرط للاستقرار الاجتماعي ، وبدونها فان الدولة مضطرة لانفاق جانب
كبير من مواردها في تعزيز اجهزة السيطرة المادية وما يسمى - تجاوزا - الامن ، ومع
ذلك فان مسببات الاضطراب الاجتماعي والتمرد تبقى قائمة ومتفاقمة ، وان لم يلحظها
الناظر للامور من الخارج ، والديمقراطية اخيرا هي الاداة الوحيدة المتوفرة في عالم
اليوم ، لضمان كرامة الانسان وتحقيق انسانيته ، وتحريره من العبودية للاشخاص
والاجهزة والمؤسسات السرية والعلنية .
اظهرت
التجربة الفعلية في عدد من اقطار العالم ، ان التجديد وفتح المجتمع المغلق ، كان
عسيرا ومكلفا ، رغم انه حدث في نهاية المطاف ، باختيار النخبة أو غصبا عنها ، وما
نخشاه جميعا ان تتكرر هذه التجارب في الخليج ، ولهذا فانه من الضروري استعراض
الفرص المتاحة لانتقال تدريجي وهاديء ، انتقال من حالة الانغلاق الاجتماعي والجمود
السياسي ، إلى الانفتاح والحركة وتجديد الذات ، باستعمال آليات النظام الاجتماعي
نفسها ، وبمرافقة ادوات النظام السياسي نفسه ، تغيير من داخل النظام لا بالالزام
الخارجي ، كي نتدرج في سيرورة لينة تحقق الغرض ، دون الاضطرار إلى دفع الثمن
المؤلم الذي اضطرت اليه اقطار أخرى .
ترى
هل هناك فرص جدية لانتقال من هذا النوع في الخليج ؟
وهل
يمكن للخليج ان يقدم مثالا على امكانية التقدم دون اللجوء إلى حلول موجعة ؟ .
ازعم
ان هذا ممكن ، لكننا بحاجة اولا إلى وضع اليـد على مكامن الداء السياسي وتشخيص
العلل .
يناير
2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق