لدينا
في الخليج عشرات من الصحف ، ولو حسبت صفحاتها لبلغت بضع مئات كل يوم ، لكنك - مع
ذلك - لا تجد فيها ما تريد ، فتضطر إلى البحث عن المعلومة والخبر في الصحافة
الاجنبية ومصادر المعلومات خارج الحدود. والطريف في الامر ان الاداريين
والمسؤولين في الدولة يعانون من هذه المشكلة - مثل عامة الناس تماما - واعرف عددا
كبيرا منهم يهتم بقراءة الصحافة الاجنبية لمعرفة ما يجري في بلده ، كما ان الراديو
والتلفزيون المحلي ليس على الاطلاق مصدر الاخبار التي يرغبون في معرفتها .
وكنت
اظن دائما ان الامر يتعلق برغبة في العمل واعراض عن الدعاية ، لكني اجد الان ان
هؤلاء يتكلمون كثيرا ، لكنهم لا يقولون - في المحصلة - اي شيء ، الوزير يتحدث عن
كل شيء ، لكنه لا يتحدث عن عمل وزارته إلا إذا كان مدحا ودعاية ، والسياسي لا يتحدث
عما يواجه إلا إذا كان انشاء وبلاغة ، ولهذا السبب فان الناس لا يعرفون حكومتهم
على وجه التفصيل ، لا يعرفون ما ذا تفعل ، ولا يعرفون كيف تجري الامور ، لا يعرفون
النجاحات الحقيقية ، ولا يعرفون الصعوبات التي تمنع النجاح ، ولهذا ايضا فانهم غير
جاهزين للتعاون معها ، لان الانسان يعين فيما يعرف .
وثمة
في العالم العربي انطباع شائع ، مفاده ان الدولة هيئة تخص من يقودونها ، وان السياسة
عمل يقوم به هؤلاء ، دون غيرهم ممن هم خارج الاطار الدولتي. ولهذا فان (التدخل في
السياسة) يعتبر تهمة في كثير من اقطار العرب. وقد اضيفت اليها اخيرا تهمة (ادخال
الدين في السياسة). وسبب الاتهام بالطبع هو الوصلة السياسية وليس الدين. ان ادارات
المباحث وامن الدولة والاستخبارات ، التي تنفق عليها الحكومات مبالغ طائلة ، هي
منظمات متخصصة في مراقبة واحيانا مكافحة التدخل في السياسة.
ومما يذكر على سبيل
الطرفة ان رئيس دولة سابق منح ترحيصا لصحيفة اسبوعية ، وذكر فيه شروطا ، من بينها
عدم تدخل الصحيفة في السياسة ، ونعلم الان ان اقطار الخليج جميعا تتشدد في منح
تراخيص لصحف أو مجلات سياسية ، بينما تتسامح في غيرها ، وهذا شبيه لحال معظم
الاقطار العربية ، حيث تحتكر الدولة أو جهات محددة حق اصدار المطبوعات السياسية .
خلال
السنوات الاخيرة ، اكتشفت وزارات الاعلام والنخبة المثقفة في المنطقة ، ان قنوات
الاذاعة والتلفزيون المحلية وكثير من الصحف ، خسرت اهتمام الناس الذين اصبحوا
زبائن ثابتين لمصادر المعلومات الخارجية ، وظهر من خلال النقاش ، ان العلة الرئيسية
هي افتقار المصادر المحلية إلى المعلومات الحية ، وافتقارها إلى حرية التعبير ،
لكن الكبار قرروا في نهاية المطاف ان خسارة اهتمام الجمهور ، اهون اثرا من خسارة
التقليد العريق في التكتم ، اتباعا لمفاد المثل المشهور عندنا في اقفال الباب الذي
ياتي منه الريح ، بدل الاستعداد لمقابلة التحدي بما يناسبه. واتذكر الان طرفة عن
صحفي امريكي تحدث مع زميل عراقي ، فقال لـه انهم في واشنطن احرار يستطيعون قول كل
شيء ولو كان مدحا لرئيس العراق وقدحا في رئيس الولايات المتحدة ، فقال لـه العراقي
انهم في بغداد يفعلون ما هو اكثر، فهم احرار في مدح رئيسهم وقدح الرئيس الامريكي
والبريطاني وكل رئيس غربي آخر ، وهي طرفة تعبر عن واقع الحال في المنطقة ايضا ،
فانت تستطيع معرفة اخبار العالم كله في الصحافة المحلية ، ما عدا اخبار البلد الذي
تصدر فيه الصحيفة .
يفترض
- نظريا - ان الدولة جهاز لخدمة الشعب ، وقد بالغ بعضنا فوضع لافتات تقول ان
الشرطة ايضا في خدمة الشعب ، مع اني لم اجد اي شرطة في العالم العربي تفعل ذلك ،
لا لانها لا تعمل شيئا ، بل لانها لا تصدر في عملها عن منطق الخدمة ، اي كونها
جهازا تابعا للمجتمع وخادما لـه ، كذلك فان الدولة في منطقتنا لا تصدر عن هذا
المنطق ، فهي ترى نفسها ، واصحابها يرونها ويرون انفسهم - بطبيعة الحال - فوق
المجتمع ، يستمدون مشروعية عملهم من الدولة ذاتها ، وليس من التفويض الصريح
اوالضمني الذي يحصلون عليه من المجتمع .
هذه
الفوقية ، وذلك التكتم - وهما كما قلت من الطبائع السائدة في العالم العربي - ادت
إلى تشديد عزلة الدولة ، وفي بعض الاقطار ، إلى قيام علاقة بينها وبين المجتمع
مضمونها الاساسي العداوة أو الارتياب ، فالدولة ترتاب من شعبها ، والناس يرتابون
في دولتهم ، فكانهما خصمان يراقب كل منهما الآخر قلقا من ان يباغته فينقض عليه .
ومن
هنا نجد ان دول المنطقة تخصص جزء كبيرا من مواردها لقطاع الامن ، واعرف شخصيا ان
اعضاء جهاز الامن في إحدى اقطار المنطقة ، يزيدون مرتين ونصف عن عدد الجيش النظامي
، ويستأثرون بنحو عشرين بالمائة من النفقات الحكومية ، وهو يكشف عن طبيعة التحديات
التي يستشعرها اولو الامر ، مع ان هذا البلد - مثل جميع اقطار الخليج الأخرى - لا
يواجه تحديات كبرى على المستوى الداخلي ، لكن الشعور بالعزلة والارتياب المتقابل ،
هو الذي يجعل لهذا النوع من السياسات اولوية على غيره .
وزبدة
الكلام ان انعدام الشفافية وحجب المعلومات قد ترك انعكاسات سلبية كبيرة على الدولة
نفسها وعلى المجتمع وعلى العلاقة بين الطرفين ، وسوف نعرض جوانب أخرى في مقالات
لاحقة ، لكننا اليوم بحاجة إلى استعادة الثقة بين المجتمع والدولة ، واول الطريق
إليها المكاشفة والمصارحة ، التكتم مريح لصاحبه ، لكنه مدمر للثقة التي تحتاج
اليها الدولة ولا سيما في اوقات الازمة ، المصارحة تدعو الناس إلى اعذار المسؤولين
وتقدير جهودهم ، والريبة تدعوهم لسوء الظن وتعليق المشكلات ، كبيرها وصغيرها ، على
تقصير المسؤولين وانشغالاتهم الشخصية .
الرأي
العام 24 يناير 2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق