مشكلة البطالة التي تواجهها دول الخليج واحدة من مشكلات كثيرة ترجع الى سبب واحد ، يتمثل في انعدام التاسيس النظري المناسب للنظام الاقتصادي في اقطار الخليج. لو وجدت نظرية عامة للاقتصاد فان استراتيجيات العمل الاقتصادي ، وبالتالي القرارات الحكومية ذات العلاقة سوف تاتي منسجمة، متناغمة ومتكاملة. وفي غياب هذه النظرية، فان كل قرار سوف يبنى على قاعدة منفردة ، بل وربما متعارضة في بعض الاحيان مع القواعد التي بنيت عليها قرارات سابقة، او متعارضة مع الاعراف السائدة في قطاع الاعمال مثل هذا التعارض لا بد ان يؤدي الى اشكالات غير مريحة: تعطيل القرار مرة وتعطيل النشاط الاقتصادي مرة اخرى.
هذا الاستنتاج ليس مجرد فرضية بل هو واقع محسوس ولعل اخر
الامثلة عليه هو الاقتراح
المقدم من بعض وزراء العمل الخليجيين ، وفحواه تحديد الفترة القصوى
التي يسمح للعامل الاجنبي بالبقاء في المنطقة. وهو قرار غير منطقي وغير قابل
للتطبيق، ولهذا فقد واجه معارضة فورية من جانب قطاع الاعمال كما ظهر في بيان غرفة
تجارة الرياض مثلا.
الفرضية المعتادة ترجع مشكلة البطالة الى قلة فرص العمل،
وهذا بدوره يرجع الى ضآلة حجم الاستثمار الحكومي او الاهلي. لكن دول الخليج لا
تعاني من قلة المال. حتى في سنوات العسر الاقتصادي الماضية كان الحجم الاجمالي
للاستثمار قادرا على توفير فرص عمل كافية. لكننا وجدنا ان معظم هذه الفرص ذهبت الى
عمال وافدين. والسبب في ذلك كما يبدو لي هو عدم التوازن بين مستويات الفرص
المتاحة. الشريحة الاعظم من الفرص تتعلق بوظائف قليلة العائد ولا تحتاج في العادة
الى كفاءات كبيرة كما ان الشريحة العليا من الوظائف هي بطبيعة الحال ضيقة ولا
تستوعب سوى نسبة صغيرة جدا من المؤهلين، وهي على اي حال ليست رهانا جديا للاغلبية
الساحقة من طالبي العمل.
اما النقص الحقيقي فهو في الوظائف المتوسطة التي تعادل عائداتها
الاساسية ضعف المتوسط العام لكلفة المعيشة. ان الشريحة الاوسع من سكان الخليج
ينتمون الى الطبقة الوسطى من حيث الكفاءة العملية ومستوى المعيشة ولهذا فان
الوظائف المتوسطة هي خيارهم الطبيعي.
كانت امارة دبي هي الوحيدة في الخليج التي وضعت نظرية
عامة لاقتصادياتها حين قررت ان الخدمات المالية والتجارية سوف تكون محور حياتها
الاقتصادية. وبناء عليه فقد اعادت صياغة كامل منظومتها القانونية والادارية لخدمة
هذا الاتجاه، ووجدنا كيف حققت نتائج مدهشة في فترة قصيرة. ولهذا فان هذه الامارة
هي الوحيدة بين نظيراتها في الخليج التي لا تتحدث عن بطالة، بل عن فرص عمل متزايدة.
لو اردنا وضع نظرية كلية فلا بد ان تقوم على اعتبار
البترول المحور الرئيس لاقتصاديات الخليج، ذلك ان الاحتياطي المتوفر والمتوقع سوف
يكفي لما لا يقل عن نصف قرن. ويمكن لنا بالاعتماد على البترول وحده توفير فرص عمل
كافية اليوم وغدا، بشرط ان يتحول الى صناعة متكاملة. رغم ان تصدير البترول يمثل في
الوقت الحاضر المورد الاول والحاسم للدخل القومي، الا انه لم يتحول بعد الى عصب
للحياة الاقتصادية. بكلمة اخرى فان صناعة البترول لا زالت محصورة جغرافيا في مناطق
محددة وموضوعيا في قطاعات محددة، اما باقي القطاعات الاقتصادية فهي مجرد عالة على
صادرات البترول وليست جزءا متفاعلا معها.
ولهذا فان احد اغراض النظرية هو تنسيج صناعة البترول في كل اجزء الدورة
الاقتصادية وتحويل هذه الدورة الى منظومة متفاعلة تدور حول الاستفادة القصوى من
ذلك المورد. ويتحقق ذلك من خلال مسارين: الاول هو التحول من تصدير البترول الخام
الى تصدير المشتقات البترولية والمنتجات الثانوية، والثاني هو التوجه نحو الاكتفاء
الذاتي في التجهيزات والتقنيات المتعلقة بصناعة البترول. ونشير هنا الى الدعوات
الملحة التي اطلقها اقتصاديون واكاديميون خلال العقود الثلاثة الماضية، لاستثمار
العائدات البترولية في تنويع قاعدة الانتاج الوطني. هذه الدعوات تجاري قاعدة
معروفة في علم الاقتصاد فحواها ان الاعتماد على تصدير المواد الخام يجعل المصدر
اسيرا للمشتري، كما ان الاقتصار على محصول واحد يقلص مستويات الامان
فيما يتعلق بالمسار الاول فان التحول الى تصنيع البترول يتوقف
على التوسع في انشاء مصانع التكرير والبتروكيمياويات وتتمتع دول الخليج بميزة
استثنائية على غيرها من دول العالم هي توفر رؤوس الاموال اللازمة لهذه الصناعات
التي تحتاج الى استثمارات ضخمة. التوسع في هذه القطاعات سوف يضاعف عائدات التصدير،
ويوفر عددا كبيرا من الوظائف الجديدة، كما سيرفع المستوى العملي والتقني للبلاد في
الحقيقة فان دول الخليج قادرة على التحول الى موفر رئيسي لمشتقات البترول والمواد
الوسيطة للصناعات الكيميائية في العالم، مثل ما هي اليوم الموفر الرئيسي للبترول
الخام ومع هذا التحول فان موقعها في السوق العالمي سوف يتعزز وسوف يوفر حماية
اضافية لاقتصادياتها من تقلبات الاسواق الدولية.
اما بالنسبة للمسار الثاني، فان جانبا هاما من عائدات
البترول الخليجي يذهب من جديد الى الدول المستهلكة ثمنا لاستيراد التجهيزات
والتقنيات التي تحتاجها هذه الصناعة من المؤسف اننا لا نملك حتى الان قاعدة علمية
مناسبة لتطوير التقنيات التي نحتاجها، كما لا نملك قاعدة صناعية توفر ما نحتاجه من
عتاد وتجهيزات، على الرغم من وجود العديد من الكليات الجامعية المتخصصة والالاف من
الشباب الذين درسوا في التخصصاات ذات العلاقة في الجامعات الاجنبية. واظن ان السبب
وراء هذا النقص هو انعدام التاسيس النظري الذي اشرنا اليه.
لو ذهبنا في هذين المسارين، فان عائدات البترول سوف تقفز
الى اضعاف العائدات الحالية، كما انها ستوفر فرص عمل ليس في مواقع الانتاج فقط، بل
في كل مستويات الاقتصاد الوطني. ان صناعة البترول توفر اليوم اقل من عشرة بالمائة
من الوظائف، اما النسبة الاعظم فهي ناتج ثانوي لعائدات التصدير. مع التحول المشار
اليه فان صناعة البترول قادرة على مضاعفة الفرص الوظيفية، كما ان تضاعف العائدات
سوف يلبي البقية الباقية ويزيد.
قلنا في البداية ان مشكلة البطالة تتعلق بالشريحة
المتوسطة من الوظائف. ونضيف هنا ان طلاب هذه الشريحة سيكونون ابرز المستفيدين من
التحول المطلوب. اذا نظرنا الى صناعة البترول والبتروكيمياويات الحالية فسوف نجد
ان معظم وظائفها تنتمي الى هذه الشريحة. وبطبيعة الحال فان التوسع فيها سيقود
بالضرورة الى توسع مواز في فرص العمل لهذا نعود الى القول بان مشكلة البطالة يمكن
ان تختفي تماما من دول الخليج لو وضعت نظرية مناسبة للعمل الاقتصادي، نظرية تتواصل
مع الامكانات القائمة فعلا وتبني عليها.