ورد في بعض
المصادر ان علي بن ابي طالب أمر القائم على بيت المال ، بتسجيل نصراني على
قوائم العطاء ، بعدما عجز عن العمل وبات في حاجة للعون. فسئل في ذلك فقال
"استعملتموه فلما عجز اسلمتموه؟". ونقل ايضا ان عمر بن عبد
العزيز أمر بنثر الحبوب على رؤوس الجبال ، كي لا تموت الطير من الجوع ، بسبب
الشتاء القارس وقلة الارزاق. ولم أعثر على مصدر قديم لهذه القصة ، لكنها منتشرة من
دون اسناد.
دعنا نقارن مضمون هذه
القصص بنظائرها في المجتمعات المعاصرة. نعرف ان جميع الدول تقريبا لديها نظام للضمان
الاجتماعي للافراد ، في حال العجز او التعطل او المرض. وهي انظمة يستفيد منها كافة
الناس ، دون حاجة لاستئذان المدير او الوزير او الخليفة ، او حتى علمه بالحالة.
كما ان لدى المجتمعات
المعاصرة انظمة لحماية عناصر النظام البيئي كلها ، من حيوان ونبات وطير ومسطحات
مائية وغيرها. وترصد الدولة ميزانيات سنوية وتقيم ادارات متخصصة لتنفيذ هذه المهمة
، ومن ضمنها التحقق من توفر الماء والغذاء في المسارات التي تسلكها الطيور المهاجرة. اما في الدول الصناعية فهناك جماعات أهلية ضخمة
مثل منظمات
السلام الاخضر=Green Peace ،
التي تقوم بحملات واسعة جدا ، لاجبار الحكومات والشركات على احترام التنوع البيئي ،
والمحافظة على الحيوانات والطيور ، حتى في قلب المحيطات والغابات والصحارى.
مرادي من العرض السابق
ليس التهوين من قيمة القصص المذكورة ، بل إيضاح بعض وجوه التحول في ثقافة البشر ، وتوقعاتهم
وعلاقتهم مع حكامهم. تخيل لو ان الضمان الاجتماعي او صيانة النظام البيئي بقي
مشروطا بموافقة رئيس الدولة شخصيا ، فكيف سيكون رد فعل الناس؟ هل سيعتبرونه من
فضائل الاسلام وفضائل الحاكم ، ام يعتبرونه اجراء سخيفا ومضيعة للوقت؟.
الذي تغير هو .. أ) ان
الناس ما عادوا يعتبرون تلك الاعمال فضائل للدين أو الحكومة ، بل واجبات على
المجتمع ككل. ب) لم يعد مقبولا ايكال القضايا العامة الى الارادات الشخصية للرئيس ،
بل بات مطلوبا ان تدار في إطار قانوني-مؤسسي ، بحيث تجري كل يوم ، ضمن منظور طويل
المدى.
يعتقد ديفيد
ميلر ، عالم السياسة البريطاني المعاصر ، ان هذا الاختلاف يشير الى تحول في
معنى الاخلاق والفضيلة بذاتها. اي ان كثيرا مما كان بالامس فضيلة يمتدح القائم بها
، تحول اليوم الى واجب يلام الحاكم لو اغفله او قصر فيه. وهو يضرب مثالا بآداب
النخبة في اوائل القرن التاسع عشر ، كما صورتها الروائية الشهيرة جين
اوستن. قدمت اوستن صورة جميلة للنبلاء الذين تواضعوا قليلا ، وتعاملوا باحسان
مع فلاحيهم وخدمهم ، وهو خلاف المتوقع في ذلك الزمان. لكنا نعلم ان تواضع الوجيه
وحسن تعامله مع خدمه والعاملين عنده ، لم يعد – في هذا الزمان - فضلا منه يستوجب الاشادة ، بل
واجبا يلام او ربما يعاقب لو تركه.
ينعكس هذا التحول على
العلاقات داخل المجتمع ككل. وعلى القانون والتشريع ، فضلا عن الاعراف والتقاليد.
وهو حديث نعود اليه في وقت لاحق.
الشرق الاوسط الأربعاء -
29 شوال 1440 هـ - 03 يوليو 2019 مـ رقم العدد [14827]
https://aawsat.com/node/1794951
مقالات ذات صلة
فكرة المساواة: برنارد وليامز
المساواة بين الخلق
... المساواة في ماذا ؟ : رؤية امارتيا سن
المساواة والعدالة : ديفيد ميلر
من
دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي