12/07/2010

التيار الديني ليس عصيا على التغيير

؛؛ جيل ما بعد الصحوة اقل اهتماما بالسلوكيات التقليدية والهموم الجهادية. لا نتوقع انقلابا في التيار الديني على المدى القصير ، لكن التعارضات في داخله تتفاقم ، وبعضها يعبر عن نفسه بلغة شبه ليبرالية ؛؛

         زميلنا الاستاذ سعيد الحمد يرى ان التيار الديني لا يستطيع اصلاح خطابه السياسي (الايام 29 يونيو 2010 http://www.alayam.com/Articles.aspx?aid=28016) وان نهاية دعوات الاصلاح لن تكون اكثر من العودة الى "بيت الطاعة" لانه ليس في الامكان ابدع مما كان. راي الاستاذ الحمد ينبيء عن شعور بالمرارة والاسى تجاه التعبيرات السياسية للتيار الديني ، وهذا موقف يمكن تفهمه واحترامه. لكن لا يمكن اعتباره في اي حال تحليلا موضوعيا. التيار الديني مثل جميع الافكار والمواقف التي يصنعها البشر تتغير وتتحول ، لان التغيير طبع في الانسان يستحيل تلافيه.

         عدا الكلام عن الامكانية المنطقية ، فثمة ادلة واضحة ميدانية واقعية تشير الى تحولات في جسم التيار الديني نفسه ، في نوعية المشاركين فيه ، وفي افكارهم ، وفي اهتماماتهم ، وفي المبررات النظرية التي يطرحونها كاساس لمواقفهم الجديدة . هذه وتلك تشير الى تغير مقصود احيانا وعفوي في معظم الاحيان. نعرف من البحوث الاجتماعية ان مواقف الانسان ليست انعكاسا لتقريرات ايديولوجية فقط ، حتى وان حاول تصويرها على هذا النحو. ثمة عوامل كثيرة تتدخل في تشكيل تلك المواقف ويؤدي تكرارها الى بروز "ذهنية جديدة".

         لفت نظري هذا الاسبوع دراسة بعنوان "جيل ما بعد الصحوة" للاستاذ ماجد البلوشي. ويعرف الكاتب نفسه كمنتم الى التيار السلفي او الصحوي كما يسميه. وهي منشورة في موقع لجينيات الذي يعبر عن تيار سلفي/سياسي متشدد. تستهدف الدراسة لفت نظر زعماء التيار الى الحقائق الاجتماعية الجديدة التي تستوجب تغييرا جذريا في خطابهم العام. راينا دراسات مماثلة نشرها اسلاميون اصلاحيون خلال السنوات القليلة الماضية ، لكن هذه الدراسة تحظى باهمية اضافية لانها تصدر من داخل البيت السلفي التقليدي ، وتعبر الى حد ما عن روحية جديدة وغير مألوفة. يركز الكاتب على عنصرين محوريين:

 الاول : ان التيار السلفي لم يعد لاعبا وحيدا على الساحة المحلية ولا متفردا بقيادة المشهد الثقافي، فقد برز اليسار الاسلامي والليبرالي كقوة مؤثرة في الساحة الدينية، كما برز توجه شيعي يحمل خطابا فكريا وحقوقيا عميقا، ويتمتع بتجربة حركية ونضج سياسي، ويقدم وعيا جديدا مبنيا على خطاب تصالحي.

الثاني : نتيجة للعامل الاول ، اضافة الى تطور وسائل الاتصال والانفتاح الاعلامي ، فقد برز جيل جديد يصفه بجيل "ما بعد الصحوة" وهو جيل مختلف تماما عن الجيل السابق في تعاطيه مع الفكرة الدينية وفي علاقته برموزها. ويشير خصوصا الى نزعة فردانية متفاقمة بين الشباب، سببها تنامي قدرتهم على الوصول المباشر الى المعلومات، والتعبير عن الذات من خلال وسائل الاتصال الحديثة، الامر الذي اغناهم عن العلاقة الشخصية مع رجال الدين او العودة الى ارائهم. تطور معرفة الشباب بامور الدين واطلاعهم على الاراء المختلفة اعطاهم ثقة بالنفس وجرأة على مجادلة اراء العلماء التي كانت – قبل ذلك – تتمتع بنوع من القداسة والعصمة عن النقد، فضلا عن شيوع الرجوع الى مصادر غير دينية في مجادلة اراء العلماء.

        كما يلاحظ الكاتب ان الجيل الجديد متجه الى الدراسات العلمية والتقنية الجديدة، خلافا للجيل السابق الذي ركز على الدراسات الشرعية. و يرجع هذا التغير الى هيمنة الاقتصاديات الجديدة وظهور فرص اكبر للاثراء والرفاهية في المجتمع السعودي. جيل ما بعد الصحوة لا يظهر كبير اهتمام بالسلوكيات التقليدية ولا بالهموم الجهادية والدعوية التي كانت شاغلا للجيل السابق.

       يعتقد الكاتب ان هذه التحولات هي نتيجة لانتشار ثقافة دينية اصلاحية يحمل لواءها مفكرون تخلوا عن السلفية التقليدية، واتخذوا منهجا قريبا من الليبرالية. وهو يصفهم باليسار الاسلامي. هؤلاء المفكرون يملكون معرفة دينية عميقة ويجيدون استعمال ادوات الخطاب المؤثرة في الوسط الديني.  وقد ساعدهم على ذلك هامش حرية التعبير النسبي الذي وفرته الصحافة المحلية، واسهم في ايصال رسالتهم الى شريحة واسعة من القراء،  كما مكنهم من ممارسة نقد غير مسبوق للخطاب التقليدي ومؤسساته ورموزه.

        تعبر هذه الدراسة عن سياق من النقاش يدور فعليا في وسط التيار الديني التقليدي والسلفي المتشدد ، فضلا عن التيار الديني المعتدل الذي يتطلع الى تقديم صورة جديدة عن نفسه. لا نتوقع ان نرى انقلابا في التيار الديني خلال وقت قصير ، لكن المؤكد انه ينطوي اليوم على توجهات عديدة ومتعارضة ، يعبر بعضها عن مواقفه بصورة لا تختلف كثيرا عن التعبيرات الليبرالية او شبه الليبرالية المحلية. هذه التوجهات تتمايز عن بعضها تدريجيا. ومن المقدر ان نرى في يوم قريب ظهور تيار ديني لا يختلف عن التيار الاصلاحي في ايران او حزب العدالة والتنمية في  تركيا ، تيارات اقرب الى التيار المحافظ في  اوربا ، يتبنى ابرز المباديء الليبرالية لكنه يحافظ على مكانة رفيعة للقيم الدينية والاخلاقيات واولوية العائلة في التنظيم الاجتماعي.

 

مقالات ذات علاقة

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

تحولات التيار الديني - 6 اسلام اليوم بين عالم افتراضي وعالم واقعي

تحولات التيار الديني -1 : تصدعات وقلق المؤامرة

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

المضمون السياسي للجدل حول حقوق المرأة السعودية

من الحلم الى السياسة

النسوية والأقليات الثقافية

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

الوجه السياسي لسد الذرائع

23/06/2010

تحولات التيار الديني - 6 اسلام اليوم بين عالم افتراضي وعالم واقعي

؛؛ التيار الديني مطالب بتقديم رؤية دينية جديدة للقضايا الجدلية. حشر العالم الجديد في عباءة التقاليد لن يعزز مكانة الدين ، بل سيقود الى فصله عن العالم الواقعي ؛؛



مؤتمر "اتفاقيات ومؤتمرات المرأة الدولية وأثرها على العالم الإسلاميالذي عقد في البحرين في يونيو2010 هو نموذج عن محاولات يبذلها التيار الديني التقليدي لتجديد نفسه وتجديد خطابه. وهو في الوقت نفسه مثال على العسر الذي يواجهه في هذا المسعى.
احدى جلسات مؤتمر البحرين (جريدة الرياض 22 ابريل2010م)
اتخذ التيار الديني حتى الان موقفا سلبيا تجاه تحديات التحديث. حقوق النساء هي واحد من هذه التحديات. المرأة المسلمة بين اقل نساء العالم تمتعا بالحقوق الطبيعية والحقوق المدنية ، لأسباب بعضها ايديولوجي واكثرها اجتماعي وثقافي. الزعماء التقليديون يعتبرون الكلام عن حقوق النساء جزء من مؤامرة اجنبية لتغريب المسلمين. وقيلت هذه الجملة او نظائر لها في مؤتمر البحرين وهي تتكرر في محافل التيار الديني التقليدي و ادبياته.
 لم يخرج المؤتمر عن الخطوط المتوقعة التي تنطوي في ثلاث مسلمات هي:

1-      القول بان الاسلام كفل للمراة كل الحقوق المناسبة .
2-      ان الاتفاقيات الدولية حول حقوق النساء ليست مناسبة للمجتمعات المسلمة.
3-      ان دعاوى حقوق المراة المتعارفة في العالم لا تنطلق من نوايا صافية.

هذه الاحكام تغفل المطالب والتطلعات التي يحملها مسلم اليوم. وهي تنطلق في تعاملها مع العصر الذي يعيشه المسلمون من منطلق الارتياب والعداوة. ولم يكن ذلك مفاجئا. تكفي قراءة اسماء المتحدثين ومديري جلسات المؤتمر لمعرفة اي نوع من الكلام سيقال واي نتائج سيتوصل اليها. رغم هذه الملاحظات وغيرها ، فاني اميل  الى التفاؤل بمؤتمر البحرين. لانه – على اقل التقادير – يمثل انتقالا من الرفض المبدئي للنقاش في المسالة الى محاولة تفكيكها.
حقوق المراة هي واحدة من المسائل التي يحتاج التيار الديني الى مراجعتها من دون تقيد بمسلماته التاريخية. هذا يتوقف طبعا على مراجعة اشمل للاساس الفلسفي والايديولوجي الذي تقوم عليه رؤية التيار لقضية الانسان وموقعه ضمن التنظيم الاجتماعي، فضلا عن معنى التجديد والاجتهاد.
في العشرين من ابريل 2010 صدر امر باقالة الشيخ احمد الغامدي رئيس هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة بعدما نشر مقالات وشارك في برامج تلفزيونية تعارض الفهم السائد لمسألة الاختلاط والقسر على صلاة الجماعة و – بشكل عام – الحدود الفاصلة بين الدعوة للايمان والجبر على ممارسة الشعائر. خسارة الغامدي لمنصبه كانت ثمرة لضغط شديد مارسه الزعماء التقليديون الذين يرفضون طرح هذه القضايا للنقاش العام[1].
لكن رفض النقاش، ومعاقبة من يثيرونه لن يؤدي ابدا الى تهميش الاشكالات او قتلها.  على العكس من ذلك ، فان الموقف السلبي ربما يدفع بالنقاش الى ماوراء الخطوط التي بقيت حتى الان محترمة.
على اي حال فان التيار الديني في كل تجلياته ومدارسه ، مطالب بتقديم رؤية دينية جديدة للقضايا الاكثر اثارة للجدل . واقترح هنا ثلاث قضايا حرجة لكنها مهملة الى حد بعيد:

1-      الاقرار بالتساوي بين الناس وكونهم اكفاء لبعضهم ، والاقرار باستقلال الفرد وحريته في اختيار طريقة حياته ومتبنياته ، واحترام الانسان لانسانيته ، وتعزيز الايمان بشراكة البشر جميعا في هموم الكوكب وقضاياه المشتركة.
2-      الاقرار بدور العقل والعلم في صياغة الحياة وتسييرها ، وقدرة الناس العاديين على اختيار ما يصلح حياتهم ، وحقهم في اضفاء القيمة على ما يعتبرونه صالحا لهم ، حتى لو اخطأوا في اكتشاف الطريق الاصوب احيانا . الانسان سواء كان مسلما او غير مسلم ، خير بطبعه ، عاقل بفطرته ، يسعى الى خيره الخاص والخير العام بمقتضى ما يمليه عليه ضميره.
3-      مع التطورات الهائلة في حياة البشر وثقافتهم ، فان عالم اليوم لا يمكن ضبطه وفق تقاليد او مسلمات ذات طبيعة محلية او ضيقة الافق. لا بد من تمكين المسلمين في مختلف بلدانهم من تطوير تفكيرهم الديني بما يتناسب مع متطلبات حياتهم الواقعية وحاجاتهم . تجديد الدين ليس مسالة ثقافية بل هو تجربة حياتية – ثقافية.

في ظل حياة تتسم بالنشاط والابداع يمكن للدين ان يتجدد وان يستجيب للتحديات الجديدة. وعلى العكس من ذلك فان محاولة قسر العالم الجديد على ارتداء عباءة التقاليد والتصورات القديمة لا يسهم في تعزيز مكانة الدين ، بل سيؤدي بالضرورة الى قيام عالمين منفصلين : عالم ديني افتراضي ذي طابع قديم وعالم غير ديني هو العالم الواقعي للمسلمين.
انفصال الدين عن الحياة لا يتوقف على مؤامرة خارجية ، بل قد يكون نتيجة فعلية لاغفالنا طبيعة التجديد وتحديات العصر الجديد.

نشر في جريدة الايام – البحرين العدد 7744 الاربعاء 23 يونيو 2010 الموافق 10 رجب 1431هـ

 مقالات ذات علاقة

ام عبد العزيز

تحولات التيار الديني - 6 اسلام اليوم بين عالم افتراضي وعالم واقعي

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

الحكومة ضد الحكومة

دعوة لاستقالة المرأة

دور المجتمع الاهلي والدولة في مكافحة العنف الاسري

رأي المجتمع.. وحقوقه

في بيان ان حقوق المواطنة اعلى من قانون الدولة

مراجعة لحقوق النساء في الاسلام: من العدالة النسبية الى المساواة

المضمون السياسي للجدل حول حقوق المرأة السعودية

الوجه السياسي لسد الذرائع

وجهات "الخطر" وقهر العامة

ولي امري ادرى بامري" مخالفة لروح الدين

ولي أمري أدرى بأمري»: زاوية مختلفة

النسوية والأقليات الثقافية

المـــســــــاواة: تعريف بالفكرة وبعض تحولاتها


[1] في وقت لاحق تراجع الرئيس العام لهيئة الامر بالمعروف عن قرار اقالة الغامدي نتيجة لضغوط سياسية. واستمر في منصبه حتى اواخر مارس 2011 حين ابعد ضمن سلسلة قر ارات ذات طابع سياسي ترمي في المجمل الى توثيق علاقة الدولة مع التيار الديني التقليدي. 

21/06/2010

بعد الإعلان عن غزال



   إعلان جامعة الرياض عن النموذج الأولي لسيارة غزال -1 والترحيب الواسع الذي ناله هذا الحدث، يكشف عن حاجة عميقة في نفوسنا جميعا إلى اكتشاف الذات وتحقيق الذات. نعرف أن غزال ليست أول سيارة تنتج في المملكة، ونعرف أن الكلام يدور عن نموذج بحثي صمم لغرض الاختبار، وهو يضم نسبة صغيرة فقط من المكونات المحلية، وهذا خلاف النموذج الصناعي الذي يمثل صورة افتراضية عما سيخرج من خط الإنتاج. أقول إن هذه التحفظات يعرفها معظم الذين تابعوا القصة. لكنها مع ذلك لم تخفف من سعادة هؤلاء وغيرهم.
مدير جامعة الرياض يقدم للملك عبد الله نموذجا مصغرا لسيارة غزال-1
سبب السعادة واضح، فالجميع في بلادنا ومن حولنا يعرفون أن تقدم البلد وقوتها رهن بتحولنا من مستهلكين لصناعات الآخرين إلى منتجين أو مشاركين في إنتاج حاجاتنا. وأذكر أن زميلنا الأديب أحمد عائل فقيهي قد كتب قبل عامين أو ثلاثة متسائلا عن السبب الذي يمنعنا من التحول إلى دولة صناعية.

 وهو سؤال يطرحه كثير من أهل الرأي وعامة الناس، لكنه لم يناقش إلا قليلا. وكنت آمل دائما أن تقوم المجموعات الصناعية الناجحة، شركة سابك مثلا، والهيئات الرسمية المشرفة على الصناعة، مثل الهيئة الملكية للجبيل وينبع، ببذل جهد أكبر لإقناع الجمهور بإمكانية تحقيق هذا الأمل، وإشراكه في التفكير في المسارات والأغراض على المدى القصير والمتوسط، وأن تجتهد – بموازاة ذلك – في دراسة الأسباب التي تعيق الاستثمار المحلي في الصناعة. لكن يبدو أن البيروقراطية لا يمكن أن تلبس ثوب الداعية أو المحرض.

الإعلان عن إنجاز التصميم المحلي للسيارة غزال هو تأكيد مجدد على أن العوائق التقنية ليست من نوع المستحيلات أو المعضلات التي لا تحل.

لكننا على أي حال بحاجة إلى تعامل جاد مع هذا الإنجاز. وأقول هذا لأن بعض ما قيل على حاشية الحدث يستبطن – كما رأيت – تغليبا للجانب الدعائي، مثل دعوى أنها أول سيارة أو أنه يمكن إنتاجها في ثلاث سنوات.. إلخ. بدلا من ذلك أقترح على جامعة الرياض، كلية الهندسة فيها أو غيرها من الكليات القريبة من هذا الموضوع، أقترح عليها أن تقدم مشروعا وطنيا لصناعة السيارات، يتضمن على أقل التقادير إجابة على الأسئلة الأولية مثل: هل ستكون هذه الصناعة مجدية في ظل الظرف الاقتصادي الخاص لبلادنا، وهل ستكون ممكنة تقنيا واستثماريا. وما هي الخطوات التمهيدية اللازمة لإقامة مثل هذه الصناعة.

أجد من الضروري تقديم إجابات علمية على مثل هذه الأسئلة لأن صناعة السيارات تعتبر قاطرة للعشرات من الصناعات المساندة. أعرف من قراءات بسيطة مثلا أن مصنعا واحدا للسيارات ينتج خمسين ألف وحدة في السنة يعتمد على نحو 400 مصنع توفر القطع والتجهيزات والخدمات الأخرى التي تحتاجها السيارة. بعبارة أخرى فإن صناعة السيارة غزال أو غيرها لا تعني إقامة مصنع، بل إقامة قطاع صناعي كامل وكبير بالقياس إلى ما لدينا الآن.

لا أشك أننا قادرون على ذلك، فلدينا الأموال اللازمة للاستثمار ولدينا السوق الكفيلة بإبقاء هذه الصناعة نشطة. كما أن بوسعنا الحصول على المعرفة التقنية اللازمة، لكن هذه المهمة الكبيرة ليست من النوع الذي ينجز في ثلاث سنوات وليست من النوع الذي يحقق أرباحا في العام الأول، وهي تحتاج بالتأكيد إلى دعم حكومي قوي وثابت. فضلا عن ذلك فإنها أحد العلاجات الجادة لبعض مشكلاتنا مثل البطالة وعدم انتظام مستويات المعيشة في بعض المناطق.

أتمنى أن لا يكون الإعلان عن تصميم السيارة غزال مجرد إعلان تكريمي للشباب والأساتذة الذين شاركوا فيه. أتمنى أن يكون فاتحة لعمل حقيقي وجاد يستهدف بالتحديد إدخال الصناعات الميكانيكية إلى بلادنا. مثل هذا التحول سيضيف ليس فقط قيمة اقتصادية، وليس فقط ارتقاء بالمعرفة والتكنولوجيا المحلية، بل سيضيف أيضا محتوى ماديا للفخر والشعور الوطني. الحاجة إلى الفخر بالإنجاز هو الذي جعل الناس يفرحون بالسيارة غزال، فلنجعل من هذا الشعور الأولي بداية لشعور حقيقي غني بالمحتوى المادي. نحن قادرون على الخطوة التالية، التي تتطلب أكثر من الكلام والاحتفال.
« صحيفة عكاظ » - 21 / 6 / 2010م https://www.okaz.com.sa/article/339154

14/06/2010

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟


يقال إن سائحا أمريكيا زار العراق في العهد السابق، فسأله أحد المواطنين عن أهم شيء في الولايات المتحدة فأجابه: الحرية، وشرح الفكرة قائلا: إن القانون الأمريكي يسمح لي بنقد الرئيس الأمريكي وجميع العاملين في حكومته، لكنه يمنعني من الكلام عن عامة الناس أو عائلاتهم وحياتهم الخاصة. فأجابه العراقي: الحرية لدينا أوسع منكم، لأن القانون يسمح لي بشتم الرئيس الأمريكي ومساعديه وشعبه وزوجاتهم وأبنائهم وكل من يلوذ بهم. 

النقاشات الدائرة حول مفهوم الحرية أو ممارستها مشوبة باختلاط يجعلها في كثير من الأحيان كلاما مكررا أو ربما فارغا، وقد يصرف المعنى إلى ضده. يمكن تقسيم هذه النقاشات إلى خمسة مسارات:
1 ــ النقاش حول أصل فكرة الحرية وكونها جزءا من فطرة الإنسان وشرطا لكمال إنسانيته، أو كونها ضرورة لنهضة المجتمع وإصلاح الحياة. يهتم بهذا المسار دعاة حقوق الإنسان وطلاب الفلسفة. وهم يقدمون الحرية كحق أصلي للإنسان سابق من حيث الرتبة على القوانين والأحكام والسياسات، أي قيمة عليا معيارية، وأن تطبيقاتها ضرورية لتأمين المصالح العامة للفرد والمجتمع على السواء. معظم هؤلاء يعرفون الحرية في معنى عدم التدخل في خيارات الفرد المتعلقة بطريقة حياته أو متبنياته الثقافية والعقيدية. النتائج التي يتوصل إليها مسار النقاش هذا غالبا ما تقارب المفاهيم الليبرالية في التنظيم الاجتماعي.
2 ــ النقاش حول المفهوم الفكري للحرية، أي ما إذا كان التراث الفكري السابق قد أقر المفهوم المتداول اليوم أو قدم مفهوما بديلا، ومدى التقارب أو التباعد بين المفهوم التراثي والمفهوم المعاصر. يهتم بهذا المسار الحركيون ودعاة الإصلاح الذين يحاولون إقناع نظرائهم أو جمهورهم بضرورة الحرية. لكنهم يواجهون ثقافة عامة وأعرافا تنكرها أو تعتبرها ذريعة للانفلات. ولهذا فهم يستعينون ــ لإثبات دعواهم ــ بتفسيرات جديدة للنصوص أو الحوادث المثبتة في التراث القديم. ينتهي هذا المسار غالبا إلى تقرير نوع من الفهم الحركي التجريبي الذي يراوح بين الليبرالية والمحافظة.
3 ــ النقاش حول الحدود القانونية للحرية، أي مدى التدخل الممكن من جانب المجتمع أو الدولة، تدخلا يفضي إلى تقييد حركة الفرد وخياراته. ويهتم بهذا المسار بصورة متعاكسة فريقان: فريق يتمتع بنفوذ ويتضمن سياسيين ورجال دين يحملون صفة رسمية أو نفوذا اجتماعيا، وفريق مضاد يشمل نشطاء المجتمع المدني وخبراء القانون. يسعى الفريق الأول لتبرير محورية الجماعة والقانون وتبعية الفرد لهما، بينما يبرر الطرف الثاني استقلال الفرد والعلاقة التفاعلية بين عدالة القانون ومساحة الحرية التي يحميها أو يقيدها. ينتهي هذا النقاش غالبا إلى الفصل بين المجال الشخصي والمجال العام لحركة الفرد وفعله، ويعطي القانون ورأي الجماعة مرتبة أعلى.
4 ــ النقاش حول الآثار الأخلاقية أو السلوكية لممارسة الحرية من جانب الأفراد، لاسيما في حال تعارض خيارات الفرد مع الأعراف والتقاليد السائدة. لعل هذا المسار هو أكثر المسارات شعبية. وينعكس فيه بشكل واضح صراع الأجيال والطبقات. كما أنه يجتذب شرائح اجتماعية عديدة ومتباينة. نظرا لأنه ينطوي على جدل يومي بين الأعراف والتقاليد المستقرة وحراسها والمؤمنين بها، وبين محاولات الأفراد ــ لاسيما من الأجيال والطبقات الجديدة ــ إرساء قيم وأنظمة علاقات تتناسب مع تطلعاتهم وفهمهم المغاير للعصر الجديد وما يحويه من أنماط عيش وطرق إنتاج ومعارف وسلوكيات. ينتهي هذا المسار عادة إلى تفكيك القيم القديمة من دون إرساء قيم أو معايير سلوك بديلة..
5.النقاش حول حرية نقد الآراء والتقاليد والأعراف التي لها أساس تراثي أو تعتبر عرفا. هذا يتناول تحديدا حرية التفكير وحرية التعبير. ويهتم بهذا المسار المفكرون ودعاة الإصلاح في المجال الفكري، وكذلك النخب التي تبلورت ثقافتها أو مصالحها في إطار الاقتصاد الحديث، وهي تهتم بالمحافظة على الإطار الفكري لحياتها، لكنها أيضا تجد قدرا من التفارق بين القيم والمفاهيم الموروثة وبين الإطارات والمبررات النظرية لأنماط الحياة الجديدة. ينتهي هذا المسار إلى إقرار نمط محافظ/عقلاني، يعارض الرؤية التقليدية لكنه لا يتبنى الليبرالية بشكل كامل.
الغرض من هذا التقسيم هو تفصيح النقاش حول مفهوم الحرية وتوضيح الفوارق بين منطلقات وموضوعات ومسارات النقاش ونهاياتها. قد لا يكون هذا التقسيم مفيدا جدا لمن يكتبون في الحرية، لكنه بالتأكيد مفيد لمن يقرأون تلك الكتابات.

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...