09/12/2010

جدالات تجاوزها الزمن


المجتمع مشغول هذه الايام بالجدل حول الاختلاط وعمل المرأة وحق العلماء في الفتوى العامة ، واشباهها من الموضوعات التي تجاوزها الزمن ، واصبحت - بالنسبة لمعظم المجتمعات الاخرى - ذكريات يهتم بها المؤرخون.

 المؤكد ان مثل هذه النقاشات الغريبة سوف تستمر ، وربما ستأتي موضوعات مختلفة لكنها تشرب من نفس المورد. الامر ليس جديدا تماما، فمثل هذا الجدل مستمر منذ العام 2002 وحتى اليوم ، لاننا لم نستطع الانتقال الى المرحلة التالية، اي الخروج بنتيجة والبدء بنقاش أعلى مرتبة او اكثر عمقًا.

ظاهر هذه النقاشات اجتماعي، فهي تدور حول الحريات الفردية. لكنها تنطوي على مضمون مكتوم لا يصرح به معظم المشاركين، ألا وهو الحقوق المدنية والسياسية والمشاركة في الشأن العام. السبب في اظهار الوجه الاول واخفاء الثاني هو التوازنات السياسية. يدور الجدل الراهن بين الصحافة ذات الميول الليبرالية ، وبين بعض رجال الدين ذوي الميول التقليدية ، سواء في المؤسسة الدينية او خارجها.

 ويبدو ان هؤلاء قد غفلوا عن الجوهر المستور للجدل وانشغلوا بظاهره، فانخرطوا في صراع عنيف ضد الداعين الى تمكين المرأة من حقوقها الاولية ، مثل التملك والعمل. المؤسف ان التيار الديني يقع في مثل هذا الفهم الملتبس تكرارا ، فيضع نفسه في موضع المدافع عن الظلم والتمييز، بدل ان يقدم بدائل وطروحات جديدة ، تستلهم روح الدين ، وتنسجم في الوقت نفسه مع معطيات العصر وضروراته.

يتحدث الداعون الى تمكين المرأة عن حقوق الانسان ، والمشاركة المتساوية في الشأن العام ومحاربة الفقر، بينما تقتصر جدالات الناشطين في التيار الديني التقليدي ، على التحذير من الفتنة والموجة التغريبية ، وتدعو الى المحافظة على الاعراف السائدة ، باعتبارها خط الدفاع عن الدين وسلامة المجتمع.

نحن مشغولون بهذه النقاشات ، لاننا عاجزون عن صوغ نظام قيمي جديد ، يرسي اجماعا وطنيا بديلا عن ذلك الذي اطاحت به رياح التحديث. صحيح ان مجتمعنا لم ينتقل تماما الى عصر الحداثة، وصحيح ان كثيرا منا لا يزال سجين التقاليد الموروثة ، التي لم تعد مفيدة في يومنا الحاضر، لكن الصحيح ايضا ان موجات التحديث ، التي جاءت في ركاب الاقتصاد والاعلام الجديد ونظم التواصل الجمعي العابرة للحدود ، قد شقت المجتمع الى قسمين: قسم يشعر بالخسارة ، لانه مرتبط بنظام مصالح قائم او موروث، وقسم يسعى لحجز مكانه ودوره في نظام مصالح جديد، وهو غير عابئ بما يترتب على اولئك من خسائر.

المثل العربي المشهور «لكل زمان دولة ورجال» هو وصف مكثف لانعكاس التحولات الاجتماعية ، على الناس وادوارهم ومصالحهم، وما يترتب عليها من روابط وعلائق بينهم. تلك التحولات قد تكون واسعة وعميقة واحيانا مدمرة ، اذا جرت في مجتمع ينكر التغيير ويقاومه، بينما تكون لينة وسلسة، بل وقليلة الخسائر اذا جرت في مجتمع منفتح ومستعد لتقبل التغيرات والتحولات.

 تنتمي مجتمعات الخليج الى الصنف الاول، ولهذا فهي تجد التحول مفاجئا ومدهشا، وتجد نفسها عاجزة عن استيعابه وتسكينه ضمن اطاراتها الاعتيادية، بل وتشعر بالعجز عن ابتكار اطارات جديدة. التغيير هو سمة التاريخ وهو سنة الله. من المستحيل تلافيه ومن المستحيل اتقاؤه او الخلاص من انعكاساته. في الماضي كان يأتي بطيئا وتدريجيا، اما اليوم فهو سريع وواسع وانقلابي، ولهذا السبب فانه يثير من الجدل والخلاف ، اضعاف ما اعتاد عليه المجتمع في عصوره السابقة.

حين تأتي الموجة فانها تكشف عن شيء وتخفي اشياء اخرى. العاقل من يتأمل في المضمر ولا ينشغل بالظاهر. العاقل من يفهم الاسباب التي تجعل التغيير قدرا ، فيسعى لاستيعابه وتوجيهه ، بدل ان ينفق جهده في محاربة الظواهر والتعبيرات ، مهما كانت مؤلمة او بغيضة. العاقل هو الذي ينظر الى التحولات الاجتماعية كفرص ، يمكن اغتنامها واستثمارها والبناء عليها، بدل ان ينظر اليها كتهديد او عدوان. حري بالمجتمع الديني ان يفكر في ركوب موجة التغيير ، واعادة انتاج عناصرها في خطاب جديد ، يستلهم روح الدين وشروط العصر وحاجات البيئة الاجتماعية ومتطلبات المستقبل، فهذا هو الآتي. اما الماضي فهو حياة افلة، ماتت فعليا او هي على وشك الموت.

  « صحيفة الأيام البحرينية » - 9 / 12 / 2010م 

06/12/2010

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى


؛؛ وجود الفقر والبطالة عار على المجتمع كله ، لكن العار الاكبر هو منع الفقراء من حل مشكلتهم ؛؛

في مقاله المعنون "هل اخطأت اللجنة الدائمة – المدينة 3 ديسمبر 2010  استخدم الاستاذ الفاضل د. محمد السعيدي مقاربة جديدة نوعا ما لاثبات ان فتوى اللجنة حول عمل الفتيات ملزمة (او صحيحة حسب ما يظهر من سياق الكلام). 
صورة ذات صلة

فحوى هذه المقاربة هي ان عمل اولئك الفتيات فيه مفسدة اكبر من مفسدة البطالة. فالتحريم هنا من باب ترجيح الفساد الاقل على الفساد الاكثر ، او سد ذريعة الفساد الاكثر ولو ادى الى فساد اقل. بعبارة اخرى فان سياق كلامه يشير الى انه لا يرى عمل المرأة في الجملة ، ولا عمل الفتيات في هذا الموقع بالخصوص ، محرم في ذاته ، بل هو محرم لبعض الاعراض المظنونة فيه مثل الفتنة المؤدية الى الحرام. هذا بالطبع استدلال عقلي لا يسنده نص. والادلة العقلية – بحسب المنهج المتعارف عند الاخباريين – ادنى مرتبة من نظيرتها النصية.

ونعرف  ان الاستدلال العقلي ليس وقفا على الفقهاء ، والامر كذلك في تعريف الموضوعات وتحديد عناصر الصلاح والفساد فيها . فالمشهور ان تعريف الموضوعات والمصالح راجع الى العرف وليس الى الفقيه.  بل الارجح – في مثل هذا الزمان الذي تعقدت فيه العلوم والمصالح وتعددت وجوهها ، ان يعتمد الفقهاء على راي اهل الخبرة في كل موضوع  ، لان العلم العميق فيه لا يتيسر الا لمن تخصص فيه ، مثل علوم الشريعة التي نرجع فيها الى اهل الاختصاص وعلم الطب والهندسة والاقتصاد وكل علم اخر. فالحجة اذن في تحديد ما ينطوي عليه الموضوع من عناصر فساد او صلاح هو راي اهل الاختصاص فيه.

واظن ان هذا واضح لفضيلة الدكتور ، فقد خصص نصف مقاله لنقل معلومات منسوبة الى باحثين غربيين حول مفاسد الاختلاط في بلادهم . هذه المعلومات ليست دليلا في الشرع ، بل هي من نوع الامارات العقلائية التي تدعم الدعوى او تحدد مفهومها.

اذا صح هذا المبدأ ، اي الرجوع الى العرف واهل الاختصاص ، فان ما يعرضه هؤلاء اوسع بكثير مما عرضه الذين قالوا بتحريم عمل الفتيات. نفهم طبعا ان الدكتور السعيدي ومن اخذ براي التحريم ، لا يقولون ان الموضوع محل الجدل ، اي ما سمي بعمل الكاشيرات ، سوف يؤدي قطعا الى فسادهن او فساد اخرين. فمثل هذا نوع من الرجم بالغيب. لكنهم يقولون انه مظنة للفتنة التي ربما تؤدي الى الفساد.

اما معارضي القول بالتحريم فيرون فيه مظنة لفساد اكبر ، اوله تعطيل حقوق الناس: للمرأة كما الرجل حق التعلم والعمل والتملك والمشاركة في الشأن العام . هذا الحق فطري طبيعي ، اعطاه الخالق لعباده عند خلقهم ، فلا يجوز حجبه او تعطيله دون مبرر يفوق من حيث القوى والمرتبة قوة الحق وقيمته العليا. القول بان عمل المرأة مظنة للفتنة التي يمكن ان تؤدي الى الفساد ، ليس اقوى من القول بان المال والفراغ عند الشباب هو مظنة للفتنة التي يمكن ان تؤدي الى الفساد ، او القول بان السفر الى البلاد الاجنبية مظنة للوقوع في العديد من المحرمات ، فهل نحرم الشباب من حقهم في التملك ، او نحرم عامة الناس من حقهم في السفر والانتقال،  لسد ما نظنه سببا محتملا للفساد؟.

والثاني ان لدينا واقعا فعليا هو الفقر . الفتيات اللاتي يعملن هنا وهناك ليس همهن خوض تجارب جديدة ، بل تأمين كفاف عيشهن . ونعرف ان الفقر كفر كما انه طريق الى الكفر. وقد احسن احد الكتاب (لعله الدكتور السعيدي نفسه) حين نقل في وقت سابق عن باحث سعودي قوله بامكانية ايجاد اربعة ملايين وظيفة للنساء من دون اختلاط. نعلم طبعا ان هذا كلام افتراضي لا علاقة له بالاقتصاد ، لكنه يشير الى ان القائلين بتحريم عمل النساء مطلعون على حقيقة المشكلة التي تدفع بالمئات من الفتيات الى سوق العمل.

وجود الفقر والبطالة عار على المجتمع كله ، والعجز عن معالجة هذا المشكل عار على اهل الراي والعلم والقرار ، لكن العار الاكبر هو ان تمنع الفقراء من حل مشكلتهم ، وتهديهم بدل ذلك صورة ملونة عن المدينة الفاضلة التي تستطيع تدبير اربعة ملايين وظيفة من البيت.

خلاصة القول ان منع الفتيات من العمل بذريعة الاختلاط ، لا يستند الى دليل شرعي قاطع ، بل الى استدلال عقلي لم يؤخذ فيه برأي اهل الاختصاص ، كما انه ينطوي على حجب لحقوق اصلية دون دليل يساويها في  المكانة والقيمة. والله اعلم.

عكاظ 6-12-2010  
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20101206/Con20101206386768.htm


مقالات ذات علاقة



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...