18/04/2018

خطباء وعلماء وحدادون

|| الهوية والتنمية مثل فرس جموح وعربة ثقيلة. ان ربطا على التوالي، ستصل عربة التنمية الى نهاية الطريق. وان وضعا متعاكسين، سيكسر احدهما الاخر. ولن نحظى بسوى الخراب ||

في نهاية عمله سفيرا لباكستان في طوكيو ، سجل نجم الثاقب خان تأملاته في التجربة اليابانية ، مركزا على موضوع العلاقة المتبادلة بين الهوية الوطنية والنهوض الاجتماعي. نشر الكتاب في 1993 باسم "التجربة اليابانية والبناء الوطني في جنوب غرب آسيا". وبعد عامين نشر في العربية باسم "دروس من اليابان للشرق الأوسط".
لهذه التأملات قيمة استثنائية. فكاتبها جمع تخصصه العلمي في الاقتصاد الى خبرة طويلة في سياسات التنمية والعلاقات الدولية ، كما اهتم بمحركات التحول الاجتماعي في الدول النامية.
كان معظم دارسي التنمية الغربيين قد اختاروا منهجا يعتبر التدين حالة سيكولوجية ستاتيكية نوعا ما ، مشروطة بالظرف الاقتصادي/السياسي. ومن هنا ، افترضوا أن الدين معيق للتنمية. لكن تاثيره سينكمش  كلما تعمقت قيم الحداثة في الحياة العامة. قليل من هؤلاء اهتم جديا باحتمال التفاعل الايجابي بين التدين والتحديث.
حين نشر الكتاب باللغة العربية ، كان العالم العربي يخوض الجزء الثاني مما سمي بمرحلة الصحوة الدينية. يومئذ كانت مسألة الهوية محور اهتمام الدعاة والحركيين ، الذين اعتمدوا منهجا يصور الانتماء الديني كنقيض لكل انتماء آخر ، ويصنف الحداثة  كحصان طروادة لمخططات غربية تستهدف تدمير الاسلام.
لاحظ نجم الثاقب ان اليابان مرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بنفس المشكلة. ثم تجاوزتها عبر مصالحة تاريخية ، أثمرت عن صون الهوية التاريخية للشعب الياباني ، والانفتاح – في الوقت نفسه – على تيارات الفكر والعلم التي يموج بها العالم الغربي.
يعظم اليابانيون تراثهم الى حد الهوس. وكانوا فيما مضى يرون انفسهم اعلى أمم الأرض قيمة. لكنهم - مع ذلك - كانوا صادقين مع انفسهم ، حين ادركوا المسافة الشاسعة بينهم وبين الامم الغربية ، واكتشفوا ان قطار التقدم قد فاتهم او كاد.
ويذكر في هذا السياق ان اليابان شهدت في بواكير نهضتها الحديثة ، جدالات شبيهة تماما بما عرفه العالم العربي ، حول فائدة العلاقة مع الغرب والتحذير من مؤامراته ، وميله الطبيعي لاستغلال الامم الضعيفة ، واستحالة الفصل بين العلاقة به والخضوع لهيمنته ..الخ. لكنهم في نهاية المطاف أدركوا ان تمجيد الذات لن يحمي جزرهم من غزوات الطامعين ، الذين قد يأتون من اوربا او الصين ، او غيرها. ان قابلية البلاد للخضوع او مقاومتها للغزو ، رهن بأهليتها لانتاج عناصر القوة الذهنية والمادية.
الطريق الذي اتبعته اليابان هو التعلم من الاوروبيين الاكثر علما وخبرة. ولم يكن هذا بالقرار السهل. فقد تطلب اعادة موضعة لتراث راسخ ، مشحون بامتداح الذات والتهوين من قيمة الآخرين. تم تقليد مناهج التعليم الاوروبية والتقنيات الاوروبية. بل ان مؤرخين ذكروا ان رجال الاعمال اليابانيين الذين زاروا اوربا يومئذ ، اهتموا بتسجيل كل شيء ، من وصف المصانع والورش حتى الطرق والمباني وملابس الناس. لقد بدأوا بتقليد المتقدم ، ثم اعادوا انتاج تقنياته ، ثم تقدموا عليه ، كما هو الحال الآن.
يقدم نجم الثاقب خلاصة هذه التأملات في تصوير بسيط: الهوية والتنمية مثل فرس جموح وعربة ثقيلة. اذا ربطا على التوالي ، ستصل عربة التنمية الى نهاية الطريق. واذا وضعا متعاكسين ، سيكسر واحد منهما الاخر. ولن نحظى بسوى الخراب. بالنسبة لنا كمسلمين ، فان الاعتزاز بالهوية ينبغي ان يقودنا لاكتساب مصادر القوة ، وأبرزها العلم والتقنية ، حيثما وجدت. المجادلات الخاصة بكون هويتنا أعلى او أحق ، لن تحملنا على قطار التقدم. هذا القطار يحتاج سكة يصنعها علماء وحدادون لا خطباء.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 شعبان 1439 هـ - 18 أبريل 2018 مـ رقم العدد [14386]
http://aawsat.com/node/1240976

11/04/2018

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

|| نحن موعودون – بعون الله – بمستقبل خير مما مضى. ونعلم ان لكل تحول ثمنه. نحن جاهزون لدفع هذا الثمن  مهما كان باهضا. كل ما نريد هو ان يعيش ابناؤنا حياة حرة كريمة تليق بهم وتليق بوطنهم ||


أعترف اني فوجئت بمعظم المبادرات التي قام بها صاحب السمو ولي العهد. كنت اقول أحيانا ان التابوهات الكبرى ، مثل المشروعات الوطنية الكبرى ، تحتاج الى سياسي يؤمن بعمق بأهمية دور القائد ، ويملك صفات القائد وشجاعة القائد ، ويتصرف فعليا على هذا النحو. لكني ظننت دائما ان تلك التابوهات المزمنة صلبة وعسيرة ، ولذا يستحيل علاجها في المدى القريب.
يظهر الآن ان في بلادنا من الخير فوق ما ظننت ، وفيها من الرجال الشجعان اكثر مما قدرت. يذكرني هذا بصديقي المخضرم محمد سعيد طيب الذي قال ، قبل عقد من الزمن تقريبا ، انه – رغم كل احباطاته – يرى بصيص أمل ، وان بدا بعيدا او مستبعدا. استطيع القول الآن ان ذلك الأمل لم يعد بصيصا في نهاية الطريق ، فهو حي أمامنا في صورة عمل واسع النطاق ، متعدد الأبعاد ، يعيد صياغة مستقبل البلد وأجياله الآتية ، بصورة تجاوز ما توقعناه في غابر السنين.
الاحاديث التي أدلى بها ولي العهد للصحافة في الاسابيع الماضية ، تقدم دليلا ساطعا على أن تلك التابوهات لم تعد مصونة ، وان المجتمع السعودي لم يعد في محطة الانتظار ، فهو وحكومته منخرطون فعليا في صناعة مستقبل مختلف. نأمل ان يكون خيرا كله وبركة كله.  
من ذلك مثلا حديث ولي العهد لمجلة تايم الامريكية ، الذي تضمن الكثير مما يستدعي التوقف والتأمل. وأشير من بينها الى نقطتين ، تشكلان فيما أظن علامة فارقة في صورة السعودية الجديدة. تتعلق الأولى بالفهم الجديد لمضمون الهوية الدينية. وخلاصته ان الصورة التي سادت في السنوات الماضية عن دور الدين في الحياة العامة ، لا تعكس حقيقة الدين ولا تمثل مذهبا بعينه. بل هي  مسار صممته جماعة محددة ، ارادت الهيمنة على مقدرات البلد وتوجيه مساره ، كي يخدم اغراضها هي ، وليس مصالح البلد وابنائه. اما في السعودية الجديدة فسيكون دليلنا هو الاسلام السمح ، المنفتح والمتفاعل مع العالم الجديد من حوله ، من دون تفريط ولا تعصب.
اما النقطة الثانية فتركز على أن السعودية الجديدة وطن لكل أهله "لدينا في المملكة سنة وشيعة ، وفي داخل كل من المذهبين مدارس مختلفة ، لكل منها اتباع ، وهم يعيشون معا باعتبارهم سعوديين". يقرر ولي العهد هنا ان الهوية الوطنية السعودية هي المظلة الجامعة لكافة السعوديين ، وان اختلافهم في المذهب يندرج في اطار التنوع الذي يغني ثقافة البلد وحياتها ، فلا يمكن للمذهب او الانتماء الاجتماعي ان يشكل خط تمييز أو تفاضل بين سعودي وآخر.
اعتقد ان كلا القولين جدير بان يرفع شعارا على كل منبر عام وكل كتاب مدرسي. فهما يلخصان بعض أهم عناصر التحول التي يشهدها المجتمع السعودي ، أي التحول من مجتمع منغلق وخائف على هويته ، الى مجتمع منفتح على العالم ، معتز بذاته ومتصالح في الوقت نفسه مع التنوع الطبيعي الذي تشتمل عليه هويته الوطنية ، الهوية التي تجمع ولا تفرق ، الهوية التي تزداد عمقا وغنى ، حين تدمج جميع من يستظل بها ، بكل مشاربهم الثقافية وتجاربهم التاريخية وتطلعاتهم.
نحن موعودون – بعون الله – بمستقبل خير مما مضى. ونعلم ان لكل تحول ثمنه. وأرى ان السعوديين جاهزون لدفع هذا الثمن  مهما كان باهضا. كل ما نريده هو ان يعيش ابناؤنا حياة حرة كريمة تليق بهم وتليق بوطنهم ، ويبدو اننا نسير في هذا الاتجاه.
الشرق الاوسط الأربعاء - 25 رجب 1439 هـ - 11 أبريل 2018 مـ رقم العدد [14379]
http://aawsat.com/node/1233226
 

مقالات ذات علاقة

 

04/04/2018

المكنسة وما بعدها.. هل جربت صنع المكنسة؟

|| لم نفكر سابقا في المكنسة. مازلنا نشتريها من الخارج. لم نفكر ايضا في الفكرة الكامنة وراء السيارة والهاتف والحاسب ، ولذا سنواصل التعامل معها كمستهلكين ومع صانعيها كزبائن دائمين||

 كتب مالك بن نبي يوما: نشأت وأنا أرى جدتي وأمي تكنسان الأرض وتشكيان من ألم الظهر بسبب الانحناء. لم تفكر احداهن في اضافة عصا الى تلك المكنسة الصغيرة. ثم جاء الفرنسيون بالمكنسة الطويلة ، فارتاحت أمي حين باتت قادرة على كنس بيتها وهي مستقيمة. (وجهة العالم الاسلامي 1/141)

قد تبدو المكنسة شيئا تافها أو هامشيا. لكن موضع اهتمامنا ليس المكنسة بذاتها. بل محتوى العلاقة بين هذا الشيء البسيط وبين صاحبه. هذا ينطبق أيضا على السيارة والمصباح الكهربائي وموقد الغاز وجهاز التبريد والدراجة ، وكل شيء في  حياتنا. نستعرض هذه الاشياء ثم نسائل انفسنا: لماذا لم نستطع الاسهام في حركة الصناعة والتقنية التي يعج بها العالم الحديث ، حتى على مستوى اضافة عصا الى المكنسة ، فضلا عما فوقها. 

المرحوم مالك بن نبي
 ركز مالك بن نبي جل اهتمامه على ما يسميه بعالم الافكار ، اي الذهنية التي توجه رؤيتنا لأنفسنا ولما حولنا من بشر وأشياء. وهو يعتقد ان تقدم المجتمعات وتأخرها ناتج مباشر لتلك الذهنية. امهاتنا اللاتي كابدن الآلام مع المكانس القديمة ، لم تنظر احداهن في الفكرة الكامنة خلف هذا الشيء. 

المكنسة تشكيل مادي ، لكنها قبل ذلك ، فكرة. من ينظر اليها على هذا النحو ، ربما يتقدم خطوة في اتجاه تفكيك الفكرة ، ثم اعادة تركيبها على نحو أرقى من صورتها الأولى. اما الذي ينشغل بالشيء ذاته ، باستهلاكه واستعماله ، فسيبقى مجرد زبون في السوق. لم نفكر سابقا في المكنسة ، لذلك مازلنا نشتريها جاهزة من الخارج. لم نفكر ايضا في الفكرة الكامنة وراء السيارة والهاتف والحاسب ، ولذا سنواصل التعامل معها كمستهلكين ومع صانعيها كزبائن دائمين. 

لعل بيننا شبان نابهون التفتوا الى هذه المسألة. ولعل بعضهم أراد العبور من "الشيء" الذي يستعمله الى "الفكرة" التي وراءه. ربما كانوا قادرين على ذلك. من المؤكد ان بعضهم ذكي بما يكفي لابداع شيء جديد. لكنه على الاغلب لن يأتي بجديد. لأن محيطه الاجتماعي سيقنعه بأن الامر لا يستحق. لو كان الجو مشجعا لكنا نصنع اليوم كثيرا مما نحتاج ، تماما مثلما فعل الاخرون الذين سبقونا في هذا المضمار.

ثمة أوهام شائعة بيننا ، نتداولها كمسلمات. وهي مسؤولة الى حد ما ، عن كبح محاولات المبدعين وتثبيطهم ، اوهام من قبيل اننا عاجزون عن الابداع لأن تعليمنا ضعيف قياسا لما يملكه الغرب. وأوهام من نوع أننا لا نملك المال الكافي ، وكل شيء يحتاج الى مال. وأوهام مثل أن الغرب لن يسمح لنا بالاستغناء عنه.

ذهنية الكسل والاستحالة التي تحول هذه الاوهام الى مسلمات ، هي السر الذي جعلنا لا نستثمر التعليم ، رغم مرور قرن على بدايته ، وحصول مئات الالاف على تعليم جامعي ، وانفتاح المجتمع على كل جديد في العلم والتقنية.
الابداع العلمي والصناعة رهن بتوفر ذهنية مختلفة ، ذهنية معاندة للمألوف وجريئة على اختراق جدار المسلمات والاوهام التي تبرر التأخر بقلة العلم او المال او هيمنة الاجانب.

لقد قيل الكثير عن التعليم وتطويره. والذي أرى ان التطوير الذي نحتاجه ، هو ذلك الذي يسهم في تكوين ذهنية ناقدة متمردة ، قادرة على التشكيك في المسلمات. قيل الكثير أيضا عن تطوير الاعلام والمنابر. والحق ان التطوير الذي نحتاجه اليوم ، هو ذلك الذي يسهم في اقناع اجيالنا الجديدة بان جوهر الفضيلة يكمن في المغامرة وكشف الغيب واقتحام المجهول.
الشرق الاوسط - الأربعاء - 18 رجب 1439 هـ - 04 أبريل 2018 مـ رقم العدد [14372]

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...