02/12/2020

الفلسفة في المدرسة


لفت نظري في الأسبوع المنصرم تصريحات وزير التعليم ، حول اعتزام الوزارة ادراج الفلسفة والتفكير النقدي في التعليم العام.

وكان الدكتور حمد آل الشيخ يتحدث لمركز الحوار الوطني في "اليوم العالمي للتسامح". وقال الوزير ان الخطة تستهدف تعزيز الايمان بحرية التفكير والتسامح ونبذ التعصب ، وتمكين الطلاب من ممارسة التفكير النقدي والفلسفي في حياتهم.

د. حمد ال الشيخ وزير التعليم

بالنظر للظرف الثقافي في المملكة ، فان هذه خطوة واسعة جدا في اتجاه الحداثة ، وهي تتلاءم تماما مع تطلعات المجتمع السعودي ، المعبر عنها في الجزء الخاص بالتعليم والثقافة من برنامج التحول الوطني.

لكن – للحق – فانها دعوة لكافة المجتمعات العربية ومن حولها من المسلمين. لقد كشفت تجربة العقدين الماضيين ، ان معدلات التعصب والتشدد كانت عالية ، وقد تراجعت ثقافة التسالم ، وهيمنت على نواحي الحياة قيم المفاصلة والمنابذة ، فتحولت مجتمعاتنا الى بيئة خصبة للتطرف السياسي والديني ، وبات العنف المنسوب الى العرب والمسلمين ، فقرة ثابتة في يوميات العالم.

لقد اجاد معالي الوزير ، حين ربط بين حرية التعبير والتفكير النقدي من جهة ، وبين التسامح ونبذ التعصب من جهة أخرى. دراسة الفلسفة والتدريب على التفكير النقدي ، تعني – بالضرورة – التعامل مع خيارات ذهنية متعددة ، أي تقبل التنوع والتعدد الثقافي. وهو في اعتقادي ، السلاح الأقوى ضد التشدد والعنف ، بل ضد كل نوع من أنواع الانغلاق والكراهية. كما انها الباب الاوسع للتدريب على التواضع ونبذ الكبرياء الفارغة.

واذا كان العلاج مشروطا بوضع الأصبع على الجرح كما يقال ، فلابد من القول ان ثقافة العرب والمسلمين (بشكل عام ولا اعني التفاصيل الجانبية) لا تحفل بمبدأ التعدد الثقافي ، ولا تقيم اعتبارا لتخالف الافكار ، بل تصنفه مثالا على الجهل او الافتتان. ينبغي القول أيضا ان هذا ليس امتيازا عربيا او اسلاميا ، فقد وسم تاريخ العالم كله ، من اقصاه الى أدناه ، بلا فرق بين أمة واخرى. لكن الله انعم على اوربا في القرون الثلاثة الأخيرة بانحسار الوهم القائل باحادية الحق ، وانتشار مبدأ التنوع واحترام حرية الاعتقاد وحرية التعبير ، وهو تطور قادهم الى نهضة عظيمة ، في العلوم والفنون والآداب ، وفي كل جانب من جوانب الحياة.

أما عندنا فقد سارت الأمور في الاتجاه المعاكس. فقد واجهنا انفتاح الغرب بالانغلاق ، وقابلنا نهضته بالهروب الى التاريخ.

اني عالم بما يحويه النص الديني الاسلامي ، من احترام للراي وحث على التفكر ، وربط للتكليف الديني بالحرية والاختيار. كما اني عالم ايضا بجناية من حبس الدين والنص في قفص الفقه ، وتركه ضيقا حرجا ، مليئا بالمحرمات والمحذورات.

ومن هنا فاني آمل ان تكون اضافة الفلسفة والتفكير النقدي الى التعليم العام ، إشارة تحذير الى دارسي العلوم الشرعية ، بل وعامة الناشطين في المجال الثقافي والتبليغ ، تحذير من غروب الزمن الذي كان الناس يقبلون منهم كل قول يتضمن آية او حديثا نبويا ، او قصة تنسب الى أحد رجال السلف ، او حكاية تحكى بلغة دينية او قريبا منها.

سيكون الجيل القادم اكثر الحاحا على الاساس العقلي للاحكام الشرعية ، واقل اكتراثا بما جرى في الماضي. اختلاف الجيل الجديد هو الامر الطبيعي ، ولا يمكن للتاريخ ان يكون على نحو آخر ، حتى لو تأخر  حدوثه سنة او بضع سنين ، فاعتبروا يا أولى الابصار.

الشرق الأوسط. الأربعاء - 17 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 02 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15345]

https://aawsat.com/home/article/2659141

مقالات ذات علاقة

ان تكون مساويا لغيرك: معنى التسامح

اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

حديث الى اصدقائي المعلمين

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

25/11/2020

حول أزمة الهوية


هذه تكملة لمقال الاسبوع الماضي ،  الذي تعرضت فيه لما ظننته هوية متأزمة ، يعانيها كثير من المسلمين المعاصرين ، لاسيما هؤلاء الذين استوطنوا في اوربا ، حيث الثقافة والأعراف غير ما عرفوه في بلدانهم ، او ما ظنوه أصدق تمثيلا لمرادات الدين الحنيف.

كتبت تكرارا عن مشكلة الهوية في السنوات الماضية. وظننت انها باتت مفهوما واضحا لغالبية الناس. لكن النقاشات التي أطلعت عليها هذه الأيام ، أوضحت لي ان الغموض المحيط بالفكرة لازال كما  تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر الغريب ، فمفهوم "الهوية" جديد على الثقافة العربية ، ولو راجعت المعاجم القديمة  لما وجدت له عينا ولا أثرا.

انه مثال عن مئات التعابير التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك ، فهي مستوردة من إطار معرفي مختلف. ولهذا فان حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر ، تبعا لقبوله بمغازيها.  وكنت قد التفت لهذه المشكلة ، حين وجدت من يدعو الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية ، ووجدت الناس مضطرين للقول بانهم مسلمون فقط او مسلمون أولا ، خشية ان يكون القول بالهويات الثلاث معا ، خادشا لصفاء الاعتقاد.

هذا الشعور المرتبك يكشف جانبا من مشكلة الهوية التي يعانيها المسلم اليوم. وهي قليلة الخطورة في ظني ، مع انها تثير التباسا غير محمود. انها مشكلة نظرية ،  فردية غالبا. اما الجانب الأصعب من المشكل ، فيتجسد في حالة المسلمين الذين استقروا في البلدان الصناعية. هؤلاء يعيشون أزمة مضاعفة ، دينية وثقافية. 

فالمجتمعات التي استوطنوها لا تقيم للدين اعتبارا خاصا ، كحال مجتمعاتهم الاصلية ، وبالتالي فان العرف والقانون لا يقف في صفهم. وهم يواجهون كل يوم تقريبا سلوكيات مزعجة ، وقد تنطوي على مضمون عدواني (هذا يظهر خصوصا في المظهر الشخصي والعلاقات بين الجنسين). 

ولعل بعض القراء قد تابع الجدالات الواسعة ، التي أعقبت منع النقاب في دول اوربية ، مثل الدانمارك وبلجيكا هولندا. ان عدد الذين يستعملون النقاب قليل جدا ، لكن منعه كان إشارة الى تغيير (قانوني) لعلاقة الآباء المسلمين مع نسائهم. وهو يولد ضغطا شديدا على نفوسهم ، وربما يودي بهم الى مزيد من الانكماش على الذات.

حسنا.. لماذا نذكر هذه الامثلة في سياق الحديث عن "أزمة هوية"؟.

يقودنا هذا السؤال الى جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس ان الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي الذي يشمل خصوصا موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية ، مظهره الشخصي ، والتزامه بالاعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر ، وثمة تأكيد على علاقتها بالدين او حتى كونها جزء منه ، كحال النقاب الذي ذكرته آنفا.  

حين تكون في مجتمع يطلب هذه المظاهر او يتقبلها ، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتما حينما تعيش في مجتمع يعارضها او يفضل غيرها ، كحال المجتمعات الاوروبية اليوم. اقول ان هذا يعيد طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجابا شرعيا) وبقية المظاهر ، وكذلك الاعراف الحياتية ، هل هذه جميعا من جوهر الدين ، وان الدين لا يقوم الا به ، ام انها من اعراض الحياة التي اكتسبت لونا  دينيا ، او احتملت لونا دينيا ، مع انها ليست من جوهر الدين؟.

اني اعلم بنوعية الاجوبة التي تقابل سؤالا كهذا. لكن الجواب الانطباعي او العاطفي المألوف ، لا يفيدنا كثيرا. مانحتاجه هو التأمل العميق في الاشكال الحقيقي ، اعني جدل العلاقة بين الاسلام والعصر ، وان تمظهر اليوم في اطار ما نسميه "ازمة الهوية".

الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 25 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15338]

https://aawsat.com/node/2645236/

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

18/11/2020

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

 

أشعر ان العالم على اعتاب أزمة جديدة ، مصدرها الرئيس هو تأزم الهوية وتفاقم نزعات التعصب الاثني. ينتابني شك قوي في الدوافع الحاسمة وراء قتل المعلم الفرنسي صمويل باتي ، منتصف اكتوبر الماضي ، وما تلاه من هجمات في جنوب فرنسا ، ثم في العاصمة النمساوية فيينا ، وكلها بررت بقصة واحدة ، هي قيام المعلم القتيل بعرض كاريكاتور للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، نشرته جريدة ساخرة قبل خمسة اعوام.


لدي شك في ان الشبان الذين قاموا بتلك الاعمال الخطرة ، كانوا مدفوعين باضطراب نفسي ، يتمظهر في شكل تعصب ديني او قومي ، متواز مع رغبة عارمة لتمثيل نوع من البطولة الاسطورية. وهو احد الوجوه لما نسميه أزمة هوية.

على الجانب الاخر من الاطلسي ، في الولايات المتحدة الامريكية شارك 150 مليون مواطن في الانتخابات الرئاسية. وهي اعلى نسبة مشاركة منذ 120 عاما. وقال الرئيس السابق باراك اوباما ان هذه النسبة العالية تؤكد شدة الانقسام في المجتمع الامريكي. وهذا قول تدعمه استطلاعات الراي التالية للانتخابات. فقد استأثر الرئيس المنتخب بايدن بدعم الشرائح غير التقليدية ، فصوت له 87% من السود ، و55% من الحاصلين على شهادات جامعية اضافة الى 62% من الشباب (بين 18-29 سنة).

وطبقا لتقدير الاستاذ ياسر الغسلان ، الصحفي المتخصص في الشؤون الامريكية ، فان فوز اوباما بالرئاسة في 2008 هو الذي مهد الطريق لصعود ترامب (الذي يعتبر الى حد ما ، نقيضه الاجتماعي). ان فوز ترمب ثم بايدن ، تعبير ضمني (ثقيل) عن تجاذب شديد بين مركز القوة الامريكية التقليدية ، أي سكان الريف البروتستنت ذوي الاصول الشمال اوربية ، وبين سكان المدن المؤلفة من خليط واسع من الاعراق والانتماءات الثقافية.

وبعيدا نحو الشرق ، انتهت للتو جولة عسكرية في صراع مزمن بين الاذريين والارمن ، على ملكية اقليم ناغورنو قره باغ ، الواقع ضمن اراضي اذربيجان لكن معظم سكانه من الارمن. وقد تداول الاعلام العالمي صورة جندي آذري ينتزع صليبا من سطح كنيسة. كما انتشرت صور لسيدات ارمنيات يبكين على مصير دير تاريخي ، يخشى ان تطاله يد العبث. المعروف ان مستوى الالتزام بالشعائر الدينية في كلا البلدين ضعيف جدا ، لكن الهوية الدينية تلعب دورا تعبويا مؤثرا في اوقات الازمة.

اخيرا نشير الى الصراع الذي انبعث من جديد في شمال اثيوبيا ، بين سكان اقليم التغراي والحكومة المركزية.  وهو صراع تحركه عوامل اقتصادية وسياسية ، لكنه يتلبس رداء اثنيا.

هذا المرور السريع على حوادث متزامنة ، تجري في بقاع مختلفة في شرق العالم وغربه ، تجعلنا نشعر بالقلق من ان العالم ربما يكون مقبلا على مرحلة ، يمكن ان نسميها "انفجار الهوية" ، شبيهة بما جرى في مطلع العقد التاسع من القرن المنصرم.

الغرض من هذه الاشارة هو اظهار القلق من ان الدين ا(لاسلامي خصوصا) يمكن ان يستثمر كواجهة في صراع واسع جدا. ومرادي هو دعوة اهل الرأي المسلمين ، للبحث عن اطروحة او مشروع يحول دون تحميل الدين عبء الانحياز الهوياتي ، نظير ما حدث في اوربا. اقول هذا لعلمي بان فريقا كبيرا جدا من المسلمين ، يرى ان الاسلام هوية في الاساس ، اي انه ليس انتماء انسانيا مفتوحا ، يستطيع اضافة نفسه كمكون لاي هوية اخرى ، بل هو هوية موازية او حتى معارضة للهويات الاخرى. في اعتقادي ان هذا المنظور سقيم وقد كان – حتى الان – سببا في اقحام الدين الحنيف واتباعه ، في صراعات لا شأن لهم بها ، ولا ثمرة وراءها.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 18 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15331]

https://aawsat.com/node/2631561/

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

11/11/2020

عالمنا القائم على تاريخ مكذوب

 

اود ان تكون هذه السطور تكملة لمقال استاذنا د. محمد الرميحي المعنون "حرب الاسترداد الثقافية" والمنشور في هذه الصحيفة يوم السبت الماضي. تحدث الرميحي عن انفصالين متعاضدين: اولهما انفصال الفكرة الدينية عن العصر ، وانحباسها في نقطة تاريخية بعيدة جدا. اما الثاني فهو انفصال الاحكام الدينية الناظمة للمعاملات عن مبرراتها العقلية ، وارتهانها بشكل سطحي لأفهام السابقين ، مع علمنا بانها افهام مشروطة بضرورات عصورهم وحدود معارفهم.


والمفهوم ان الدافع لمقالة الرميحي ، هو  رد الفعل الواسع – والخشن نسبيا – في العالم الاسلامي ، على موقف الحكومة الفرنسية ورئيسها ، والتي فحواها انها ستواصل التزامها بحرية التعبير ، ولو تضمنت تعريضا بمقدسات دينية.

انني لا اصدق ما قاله الرئيس الفرنسي ولا اهتم به. لكن الذي يهمني – مثل استاذنا الرميحي – هو موقفنا كمسلمين من حوادث كهذه. كل حادثة هي اختبار للقيم والمفاهيم التي نتبناها ، والتي تشكل فهمنا لذاتنا ومن يجاورنا. نعلم ان العقلاء يفرحون بالتجارب لما تنطوي عليه من فرص لاستكشاف نقاط الضعف والقوة في مواقفهم أثناء الأزمات.

لقد أثار انتباهي ان الذين تنادوا للرد على الموقف الفرنسي ، دعوا للمواجهة وليس التفاوض. وهذا موقف يتكرر في أغلب الازمات ، حتى التي يكون جميع اطرافها مسلمين. ولا بد ان موقفا كهذا يثير سؤالا جديا: لماذا يميل غالبنا للنزاع بدل التفاوض ، حين تنشب الازمات؟. ولماذ يعتبر الرأي العام المسلم ، ان كل أزمة تنطوي على عدوان خارجي ، وان رد الفعل الوحيد هو الدفاع العنيف ، ماديا او كلاميا؟.. لماذا لا نفكر في خيار التفاوض وتوضيح ما نظنه خطأ لدى الطرف الآخر ، فلعلنا نهديه بالموعظة الحسنة ، او ربما اكتشفنا أن الخطأ عندنا ، في تقديرنا للموقف او فهمنا للامور ، او حتى في قيمنا وما نتبناه من رؤى. لماذا يكون رد الفعل الاول هو التنادي للصراع ، بدل التواصي بالحوار والموعظة الحسنة؟.

أعود الى تفسير الرميحي ، الذي راى اننا لا نفصل بين ما لاضرورة لتبريره عقليا ، مثل العبادات المحضة التي جوهرها التسليم للخالق ، وبين التعامل مع الناس الذي جوهره المصلحة العقلائية. لقد قيل لنا ان الصلاة مثلا عبادة عابرة للتاريخ ، فلا نضع في اعتبارنا احتمال تطورها بعد مرور 14 قرنا من تشريعها. وهذا امر محتمل (رغم اني لا اميل اليه ابدا) لكن المشكل ان هذا الاعتبار ، اي تجميد الحكم في الماضي ، قد سحب على الكثير من احكام المعاملات ، حتى التي لم يعرفها اسلافنا ولم توجد في زمنهم. النتيجة الملموسة لهذا الموقف هو تجميد الفكرة الدينية عند نقطة انطلاقها المتخيلة ، بدل جعلها تتفاعل مع عصرها الراهن وحاجات أهله.

يرى الرميحي ان الانغماس العاطفي في التاريخ ، يرجع لاعتقاد الجمهور المسلم بان اسلافهم ، قد اقاموا في زمن ما في الماضي ، نوعا من مدينة فاضلة (يوتيوبيا) ، وان هذا الاعتقاد يعوض شيئا ما عن شعورنا بالعجز إزاء تحديات العصر الراهن.

وبناء على هذا التفسير ، فهو يدعونا للتخلي عن التثقيف القائم على تسويق تاريخ مكذوب ، والتركيز بدلا منه على ايضاح حقيقة ان سلفنا كانوا بشرا عاديين ، مثل غيرهم ، حاولوا فاصابوا حينا واخطأوا حينا ، وعاشوا دنياهم مثل سائر عقلاء العالم ، ولم يكن ثمة مدينة فاضلة او مجتمع كامل في اي وقت من تاريخنا المعروف.

الشرق الأوسط الأربعاء - 26 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 11 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15324]

https://aawsat.com/node/2618086/

04/11/2020

حرب الرموز


حادثة النحر الباريسية مثال على الاهمية العظمى للجانب الرمزي في حياة البشر ، ولا سيما دور الرموز في تكييف العلاقة بين المجتمعات والثقافات.

كيف اشرح معنى الرمز ، ومسار تاثيره في حياة الناس ، والفارق بين الكائنات المادية ونظيرتها الرمزية؟.

احسب ان هذا يتطلب مساحة أوسع من المتاح هنا. لكن دعنى اوضح المقصود بالتدريج من خلال المجادلة التالية ، التي تربط بين "صناعة الرموز" و "تشكيل الهوية الجمعية". الغرض من هذا الشرح هو توضيح المسافة بين الحقيقي والاعتباري ، انطلاقا من دعوة -اتبناها شخصيا- لقصر التقديس على ما تقتضي الضرورة الحفاظ عليه مقدسا ، دون ما اضيف الى قائمة المقدسات بسبب مرور الزمن او من اجل تعزيز الهوية.


حين تنسج قطعة قماش طولها متر وعرضها نصف متر وتحرقها في الشارع ، فلن يهتم احد بفعلك ، وربما قالوا في انفسهم: هذا شخص اخرق ، تنازع مع زوجته ، فخرج للشارع كي ينفس عن غضبه.

تخيل الان لو ان قطعة القماش هذه ، مرسوم عليها الوان العلم الالماني مثلا ، وخرجت الى ساحة بوتسدام وسط العاصمة برلين ، وفعلت الشيء نفسه: احرقت العلم. في هذه الحالة لن يقول الناس انك اخرق ، بل سيأخذك رجال الشرطة الى المحكمة ، حيث تواجه عقوبة قد تصل الى ثلاث سنوات في السجن. هذا بالطبع ما لم يقتنع القاضي انك اخرق بالفعل ، وانك قد اخذت العقوبة سلفا قبل ان تغادر البيت.

ما الفرق اذن بين قطعة القماش الاولى والثانية؟

الفرق ببساطة هو توزيع الألوان. الالوان تحول الكائن المادي (القماش) الى كائن رمزي (العلم الوطني). هذا الكائن الرمزي مرتبط بالهوية الوطنية الجامعة ، التي يشعر الناس انهم ينتمون اليها ، او انهم يرتبطون ببعضهم من خلالها ، او انهم مسؤولون اخلاقيا عن حمايتها واحترامها.

دعنا الان نذهب الى ضاحية ايرانييه شمال غرب باريس ، حيث قام المهاجر الشيشاني عبد الله أنزوروف بنحر صامويل باتي ، المعلم في مدرسة بوا دولن ، فأثار ضجة في شرق العالم وغربه. الجانب المادي في القضية يتعلق بضحيتين ، اما الرمزي فهو يكشف عن انشقاق فرنسا الى فريقين: اليمين المتشدد يرى فيها ان المسلمين ككل يذبحون فرنسا ككل. فرنسا بما تمثل من ثقافة وتاريخ ونظام اجتماعي ومنظومات قيم خاصة. المسلمون في الطرف الاخر يركزون على "الدافع" للقتل ، اي السخرية من الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويرون فيه تمظهرا لحملة بغضاء تضم غالب الفرنسيين ، وبينهم رئيس الجمهورية ، الذي تحدث قبل اسبوعين من الحادثة في منطقة قريبة جدا ، فقال ان "الاسلام اليوم مأزوم".

في رايي ان علينا البحث عن قلب الازمة في موضع آخر: بالنسبة للفرنسيين فان جوهر المشكلة هو المسافة بين فرنسا التقليدية والمجتمع المتعدد الثقافات: هل ياترى تستطيع فرنسا ان تتحرر من ذاتها القديمة ، كي تمسي إطارا يحتضن مواطنيها بكل اختلافاتهم والوانهم وثقافاتهم؟. لقد اجاب الرئيس ماكرون بانه لا يؤيد هذا الخيار. لكن هل هو خيار فعلا ، ام هو  المسار الطبيعي لحركة التاريخ؟.

بالنسبة للمسلمين فان جوهر المشكلة يكمن في "الانتقال من شمال باريس الى وسطها" ، اي التخلي عن اوطانهم القديمة ، والتعامل مع فرنسا كوطن نهائي ، بما ينطوي عليه هذا من تهميش للاعراف المعيقة للاندماج ، ومن بينها طبعا اعراف ذات الوان دينية او تعرف بلغة دينية.

هل يستطيع الطرفان اتخاذ القرار ام يتركان المسألة تتداعى دون قائد مثلما حصل حتى الآن؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 04 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15317]

https://aawsat.com/NODE/2603896/


28/10/2020

الدرس الباريسي

 


يبدو ان حادثة النحر الباريسية الشهيرة ، تتحول بالتدريج الى قضية ساخنة في العديد من مجتمعات المسلمين ، في شرق العالم وغربه. وللتذكير فاننا نتحدث عن قيام مسلم من اصل شيشاني بنحر معلم في ضاحية  كونفلان سان-اونورين ، شمال غرب العاصمة الفرنسية ، بعدما عرض على طلابه رسوما كاريكاتورية للنبي محمد (ص) اثناء درس قيل انه تناول حرية التعبير. وجرت الحادثة في منتصف سبتمبر ، وكانت مناسبتها انعقاد المحكمة الخاصة بمهاجمي مجلة "شارلي ابدو" التي كانت قد نشرت الرسوم المذكورة في يناير 2015.


ويبدو ان انباء ذلك الدرس قد تفاعلت بين المهاجرين المسلمين ، الذين اعتبروه اهانة لهم ولدينهم. ولا شك ان بعضهم قد تحدث عن ضرورة الانتقام و "تلقين المعلم درسا" يكون عبرة لغيره. ولعل هذا الشاب الشيشاني البالغ 18 عاما ، رأى نفسه مدعوا للقيام بما رآه دور البطل دفاعا عن سيد الخلق.

نعرف ان الرئيس ماكرون ندد بما اسماه "الارهاب الاسلامي" وان الحكومة الفرنسية اتخذت موقفا متشددا ، فاوقفت عدة اشخاص يشتبه في علاقتهم بالقاتل ، كما اغلقت مسجدا وجمعيات تقول انها تتبنى مواقف متطرفة. وقد نظمت جنازة رسمية للمعلم القتيل ، وتم تكريمه ، والتأكيد على التزام الحكومة بحق الناس جميعا في حرية التعبير ، بما فيها الحق في نشر تلك الرسوم ، التي اعتبرها المسلمون مثيرة للكراهية.

من المفهوم ان حادثا مثل هذا سيؤدي لانقسام في المواقف ، بين المسلمين من جهة والاوروبيين من جهة اخرى. سوف يتمسك الطرف الاول بحجة ان المس بالمقدسات ، لا تحميه القوانين الضامنة لحرية التعبير ، لأنه يثير البغضاء ويضر بالسلام الاجتماعي. ولعلهم يقارنونه بالقوانين التي تحرم معادة السامية او تبجيل النازية مثلا  ، والتي وضعت على نفس الارضية.

في المقابل سوف يتمسك الاوروبيون بان ابداء الرأي في المقدسات الدينية جزء من حرية التعبير ، وان اعتبارها مثيرة للبغضاء فرع عن شعور ارادي ، يتوجب على المسلمين التحرر منه ، لانهم لا يستطيعون العيش في كانتونات ثقافية مغلقة ، بينما يتسارع الانفتاح في العالم وتتواصل الثقافات والهويات. كما سيقولون بطبيعة الحال ان معاقبة المجرم يجب ان تمر  من خلال الاطر القانونية ، اي الشكوى للقضاء او البرلمان ، وليس بحمل السكين ونحر المذنب وسط الشارع. ولو قبل المجتمع بهذا العلاج ، لما أمن احد على حياته او املاكه.

انني اتفهم كلا الرايين ، كلا من زاوية والى حد. لكني اود اضافة نقطتين آخريين ، تتعلق أولاهما باندماج المسلمين الذين استوطنوا اوربا بشكل نهائي. فهل يريدون البقاء على حاشية المجتمع الاوربي ام يسعون لكي يكونوا جزء مؤثرا فيه؟. ان هذا يرتبط جوهريا بتقبلهم لقيم هذا المجتمع واعرافه ، وبعضها عسير ، لكنه ضروري ان ارادوا الاندماج.

اما النقطة الثانية فتتعلق بموقف المسلمين ككل ، من اشكال النقد المختلفة ، التي تاتي من وسطهم او من خارجهم. الى اي حد نتقبل النقد والسخرية والنقض ، مع تاكيدنا على حقنا في الرد والمعارضة؟. وكيف نفكر في اشكالات العلاقة مع الذين يعارضوننا في الاسس والجوهر وليس فقط في الرأي ، كحال الذين يسخرون منا دون ان يقاتلونا او يخرجونا من ديارنا؟.

هل نضع المقاتل بالدبابة ، مع الساخر  بالريشة او القلم على قدم المساواة؟.

اظن اننا كمسلمين بحاجة ماسة للنقاش في هذا ، كما ان مسلمي اوربا احوج منا الى التفكير في النقطة الاولى.   

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 28 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15310]

https://aawsat.com/node/2590131

مقالات ذات صلة

حرب الرموز

اليوم التالي لزوال الغرب

الاسئلة الباريسية

داريوش الذي مضى

الشيخ القرني في باريس

داريوش الذي مضى

الشيخ القرني في باريس

ابعد من تماثيل بوذا

 

21/10/2020

حديث الى اصدقائي المعلمين

 

سوف اكرس هذه المساحة للحديث عن الدكتورة ماريلين وايمر  ومنهجها في التعليم ، الذي اسمته "استراتيجية التدريس المتمركز حول المتعلم". هذا بالطبع نص ثقيل ، لانه ترجمة حرفية ، وقد آثرت ابقاءه كما هو ، لانه أوضح دلالة على المقصود ، ولأنه عنوان الترجمة العربية لأبرز كتب الدكتورة وايمر.


اما سبب اختياري لها فيكمن في الاساس التجريبي الذي انطلقت منه. وهي تشرح هذا في مقدمة كتابها المذكور  ، فتقول ان اكتشافها لأهمية التركيز  على التلميذ بدأ  صدفة ، ثم تطور الى تجربة ، ثم الى تكنيك يرتبط بجملة من النظريات المعروفة في مجال التعليم: كنت أرى ما نفعله في الفصول المدرسية غير مؤثر. فاخترت الأفكار التي ظننت أني قادرة على تطبيقها. واستغرقت بعض الوقت قبل أن ألاحظ أن الأساليب التي استخدمتها تحمل خصائص مشتركة ، ثم اكتشفت انها كانت تتصل بقواعد نظرية متينة.

لا انسى الاشارة هنا الى ان المادة التي كانت تدرسها د. وايمر للطلاب ، تحمل عنوان "التواصل اللفظي" وغرضها ببساطة ، هو تمكين التلاميذ من اجادة الحديث امام الناس ، وخوض مناقشة مثمرة واكتساب مهارات الاقناع. وقد آثرت ذكر هذه التفاصيل لأنني لا أرى هذه المادة محل اهتمام في مدارسنا ، على رغم اعتقادي العميق بضرورتها ، لتمكين الطالب من التفكير النقدي وتعزيز ميوله للارتقاء الاجتماعي ، وكلاهما من العوامل الحيوية في عملية التعليم.

تقول د. ماريلين انها شعرت بان افتقاد طلبتها المستجدين للثقة في أنفسهم ، قد منعهم من التقدم بقوة في مقررات مادة التواصل اللفظي. وكان عليها ان تعينهم على التحرر من هذا الشعور القاتل ، ومن الارتباك والخوف من الفشل ، حتى يصلوا إلى مرحلة طرح الأسئلة في الصف ، والمشاركة في مجموعات النقاش ، والتحدث بشكل بليغ ومؤثر امام الزملاء.  

وقد خطر في بالها ان تلك المشكلة قد تعالج بمنح الطلاب إحساسًا أكبر بالسيطرة والتحكم. السبيل الى ذلك في اعتقادها ، كان تمكينهم من اختيار الطريقة التي يريدون اتباعها في التعلم. سيرون خيارات عديدة ، سيتخذون القرار ويتحملون مسؤوليته: "خلال أول يومين ، كان الطلاب مرتبكين". قال لي احدهم "يجب أن تكون الاختبارات إلزامية. إذا كانت اختيارية ، فلن يخضع لها أحد" فأجبت: بالتأكيد سيفعلون ، فهم بحاجة إلى درجات لاجتياز المادة". فرد قائلًا: ماذا لو لم أخضع للاختبار؟. قلت "حسنا ، عليك بحل الواجبات الدراسية الأخرى ، كي تحصل على درجاتك". فسأل: وماذا سأفعل في أيام الاختبارات؟ ، فاجبته بوسعك ان تبقى نائما.

طلاب آخرون قالوا انهم "لا يستطيعون اختيار الواجبات الدراسية التي يجب عليهم اداءها ، وطلبوا مني أن أتخذ القرار نيابة عنهم ، البعض الاخر أرادوا مني الموافقة على خياراتهم قبل المضي فيها ، لكني لم افعل وتركت الامر لهم".

الامر بدأ فوضويا ، لكن بعد ايام من الارتباك والفوضى ، تحول صفي الى صف مثالي: اقل عدد من الغياب رغم اني لا اسجل الغياب والحضور ، وكان الطلاب يشاركون بحماسة في الاسئلة والمناقشات.

هكذا بدأت المسالة. لكن دعني اكرر جوهر هذه الفكرة ، وهي نقل مركز الاهتمام من الكتاب والمعلم الى التلميذ ، والتحول من فكرة "تعليم التلاميذ ما يجب ان يتعلموه" الى "تعليمهم كيف يعلمون انفسهم او يتعلموا بانفسهم".  لقد تركت هذه النقطة الى السطر الاخير ، كي اذكر القاريء العزيز بانها جوهر عملية التعليم الحديث. وسنعود اليها لاحقا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 4 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 21 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15303]

https://aawsat.com/node/2576281/

مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
 اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار
سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

 

14/10/2020

هوية سائلة؟

 واجهت هذا التعبير خلال قراءة سابقة حول التحولات الاجتماعية ، وما يرافقها من تهميش للمفاهيم والقيم المؤثرة في حياة الجماعة. نعلم ان التغير في نفوس الناس يجري بسرعات متفاوتة: فالشباب اسرع تغيرا ، وأبناء الطبقة الوسطى  المدينية أكثر عرضة للتغيير ، كما ان ثبات الهويات الموروثة او انحسارها ، رهن بسعة العوالم التي يطرقها الشباب ، حين يبحرون في فضاء الانترنت.

سالت نفسي عن معنى ان تكون الهوية سائلة؟ فتخيلت هاتفا يقول لي: كيف تصورت عالما كاملا ليس له اي واقع مادي ، اسميته "الواقع الافتراضي" ، ثم تستغرب سيولة الهوية؟. سمها ان شئت بالهوية الافتراضية ، اي ذلك الوجود الذي لا يمكن تحديده في هيئة خاصة ، مع ان آثاره وتمثلاته تؤكد اهميته وامتلاكه لكل ما تتصف به الحقائق المادية.

- ما الذي أثار هذا السؤال؟

- لقد كنت أتأمل في مايقوله الطلبة وآباؤهم عن تجربة التعليم عن بعد ، وكيف أصبح العمل على الانترنت روتينا يوميا لمئات الآلاف من الشبان والشابات. هذه التجربة فرصة نادرة للتامل في تحول ثقافي واجتماعي ، يجري امام اعيننا ، وربما تترتب عليه آثار مدهشة.

المدرسة هي محور التجربة ، لأنها الرمز الابرز للنظام الاجتماعي السائد ، بما فيه من ضوابط وتراتب وتصور عن الذات والحياة. كان يفترض ان تلعب المدرسة دور عامل التغيير للاجيال الجديدة ، لكن لاسباب مختلفة ، تحولت على يد آبائنا الى قناة لتثبيت التقاليد والقيم الموروثة ، أي نقل الثقافة السائدة في الفضاء الاجتماعي الى الاجيال الجديدة ، كي يواصلوا المسار الذي ورثه الآباء عن الاجداد.

نحن نحاول جعل ابنائنا صورا مكررة عنا. ولهذا نشعر بالسخط اذا وجدنا سلوكهم مفارقا لما الفناه. ولعل بعض القراء يتذكر غضب المعلمين من الملابس غير المألوفة وقصات الشعر الغريبة عند الطلبة ، في السنين الماضية. نعلم ان هذه قد انتهت تقريبا ، لكنها لاتزال جديرة بالتحليل.

** لماذا كان بامكان المعلم ان يصرخ في وجه التلميذ اذا رأى شعره طويلا ، ولماذا يشعر الطلبة بالرهبة من المعلم والمدير والنظام المدرسي؟.

** الجواب ان ذلك النظام وما يحيط به من معان وتقديرات ، مصمم لتعزيز مفهوم مركزي واحد ، هو تفاوت القوة بين التلميذ والمعلم. يمكن للمعلم ان يصرخ في وجه الطالب ، لأنه يملك نوعا من السلطة ، ويصمت الطالب مخزيا لان موقعه في هذا الترتيب يحدد له هذا السلوك وليس غيره. ان حضور المعلم وهيئته ، وجدران المدرسة وابوابها المغلقة ، كلها مصممة كي تخدم فكرة "تفاوت القوة" بين التلميذ والمعلم.

اما الغرض من هذا الترتيب ، فهو جعل التلميذ مفتوحا ومهيئا كي تمارس المدرسة دورها في نقل الثقافة السائدة للجيل الجديد.

نحن الآن في واقع مختلف. ابرز ملامحه غياب فارق القوة الصريح  بين المعلم والتلميذ ، وغياب ما يحيط بالعلاقة بين الاثنين من ترتيبات ورموز السلطة. جدران المدرسة تركت مكانها لعالم لامتناه ، يجيد التلميذ الابحار فيه ، ويملك الادوات اللازمة للرحلة ، كل يوم ، بل كل ساعة لو شاء.

لهذا السبب فان المدرسة لم تعد قناة وحيدة لنقل الثقافة ، بل مجرد قناة بين عشرات ، بل مئات من القنوات الاخرى ، الاكثر لينا وربما الاكثر امتاعا وترحيبا. بعبارة اخرى ، فلن تقدر المدرسة على توليف هوية ابنائنا بعد اليوم ، وبالتالي فلن يكونوا على الصورة التي الفناها. ولا اعلم – وهم بالتاكيد لا يعلمون ايضا – ماهي الهوية او الهويات البديلة التي نتوقع ان يحملوها. ربما تكون هوية متحولة ، او حتى سائلة ، تتبدل بين حين وآخر ولا تستقر على حال.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 صفر 1442 هـ - 14 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15296]

https://aawsat.com/node/2563231/

مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
 اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار
سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...