الملاقيف جمع ملقوف. وهو وصف يطلقه أهل الخليج على الشخص الذي
اعتاد التدخل في أمور الآخرين ، وليس له صفة او سلطة أو مبرر. ولعلنا جميعا رأينا
بعض الملاقيف ، الذين يراقبون هذا ويعلقون على ذاك ، ممن يعرفون او لا يعرفون.
وقد اسميتهم حزبا من باب المماثلة لحزب "الكنبة" المشهور
، الذي لا رئيس له ولاتنظيم. لكنه منتشر في المجتمعات. "حزب الكنبة" لا يضر احدا ،
بخلاف "حزب الملاقيف" الذي يؤذي الناس نفسيا واجتماعيا ، بفضوله الممجوج
وتدخله السمج في حياتهم.
جون ستيوارت ميل |
ملخص الفكرة التي اعرضها هنا ، هي ان لكل منا حق أصلي في منع
الاخرين من التدخل في حياته الشخصية. كما ان من واجبنا جميعا الكف عن التدخل في
حياة الاخرين.
ولايخفى ان المسألة مورد اختلاف بين الناس في مثل مجتمعنا. فثمة
من يعتبر مراقبة الاخرين وأمرهم او نهيهم ، نوعا من الرعاية او النصيحة. وثمة من
يرفعها الى درجة الاحتساب الواجب. وقد سمعت قائلا يدعو لمنع من اسماهم "لابسي
الجينز" من دخول المساجد. وسمعت آخر ينكر على أحد القضاة
سماحه بدخول سيدة تلبس عباءة ملونة الى مكتبه.
ولهذه الآراء أصل في تراثنا القديم. فقد جرت عادة الفقهاء القدامى
على تخصيص باب لاحكام اللباس في كتبهم. لكن فقهاء اليوم يميلون لتصنيف هذا الامر بين
العادات والاعراف التي لا حكم فيها.
والذي اعلم ان غالبية الناس يكرهون تدخل الاخرين في حياتهم
الخاصة ، حتى لو جاء في قالب النصيحة والارشاد. أعلم ايضا ان "حزب
الملاقيف" يعرف كراهية الناس لفعله. بل لعله يرى في كراهيتهم مغنما. لأن
إرغام الغير تجسيد للقوة والنفوذ. وهو يفرح ايما فرح حين يرى نفسه او يراه الناس
في محل صاحب السلطة ، الذي يأمر فيطاع.
والخلط بين النصيحة المحمودة والتدخل الممجوج ، معروف منذ
القدم. ولذا توسع الفقهاء والاخلاقيون في بيان شروط الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، وفي طريقة النصح ولوازمه. ولعل ابرزها ان يكون موضوع الاحتساب من الواجبات
الاجماعية ، فلا تدخل فيه الاعراف والعادات ولا المستحبات والمكروهات ، ولا
الواجبات التي لايسندها اجماع تام.
لعل الفارق الاهم بين النصيحة والتدخل الاعتباطي ، هو ان الاولى
تغفل - في الغالب – الناحية الشخصية ، فتخاطب الشخص المعني في سياق عام ، لا يشير
اليه بعينه. بينما يتجه حزب الملاقيف الى الافراد بعينهم آمرا او ناهيا او معلقا.
وصنفت الفلسفة الحديثة التدخل الاعتباطي كأبرز ناقض للحرية
الفردية. والمقصود بالاعتباطي مايصدر عن شخص لايحمل صفة قانونية ، وكذا ما يصدر عن
السلطات من دون استناد الى قانون معروف.
وفقا للفيلسوف
الانجليزي جون ستيوارت مل (1806-1873)، فان الانسان ينطوي على رغبة
غريزية في التسلط. وهي تتمظهر في محاولته لفرض افكاره على الغير. يميل الانسان غالبا الى الدوغمائية ، فيتخيل ما يعرفه حقيقة تامة او "طريقا صحيحا" لعمل الاشياء. ولذا
يصعب عليه مقاومة الرغبة العميقة لجعل الاخرين مشابهين له او تابعين لارائه.
من هنا رأى ستيوارت مل بان مساحة الحرية التي يتمتع بها الانسان
، هي تلك المساحة المحمية من التدخل
الاعتباطي في حياته الخاصة. بالمقارنة فان القانون ينطوي على تدخل في حياتك. لكنه
لا يعتبر ناقضا للحرية. بل أداة تنظيم لممارستها من قبل الجميع. القانون العادل
يضمن – من حيث المبدأ – لكل فرد مساحة معقولة ، تسمح له بقدر متساو من الحرية ،
دون ان يزاحم الآخرين.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 شهر ربيع الثاني 1440 هـ - 26
ديسمبر 2018 مـ رقم العدد
[14638]
مقالات ذات صلة
الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة
موسعة