08/03/2017

داخل الدين.. خارج الدين


معظم نقاشات الاصلاح الديني تنصرف الى جانبين: تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. ثمة بعد مهمل ، لكني أراه أكثر أهمية وضرورة ، يتمثل في الفرز بين ما هو موضوع ديني ، وما يمكن ان نسميه خارج الدين ، اي القضايا التي تركها الشارع للعرف وعقول الناس.

جادلت في مقال الاسبوع الماضي بان التشدد في الاحكام قد يكون عرضا لعلة أخرى ، هي الجمود الايديولوجي. وأظن ان هذا بدوره ناتج عن تحول الخطاب الديني من وعاء للفكرة الدينية الى هدف بحد ذاته. ونقصد بالخطاب مجموع أدوات العلاقة بين الدعاة الى الدين وبين الجمهور ، سواء كانت معارف مكتوبة أو مؤسسات أو أنماط علاقة أو نظم عمل او تقاليد أو فولكلور.
أقول ان البعد الثالث مقدم على تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. لأن وظيفة هذين هي خدمة الغرض النهائي للخطاب ، أي المحافظة على مكانة الدين في الحياة الفردية والعامة. فالواضح اليوم ان شريحة معتبرة من العاملين في المجال الديني ، تركز على تأكيد مكانة الخطاب نفسه ، اي تأكيد مكانة المعارف المرتبطة به والاشخاص الذين يمثلونه والمؤسسات التي قامت في إطاره وحتى الأعراف والتقاليد والعلاقات التي نشأت كناتج جانبي في ظله.
لتوضيح الفكرة سوف اقارنها بالفرق بين الاغراض والوسائل مثل ان يهتم الناس بالمسجد اكثر من اهتمامهم بالصلاة. ومثل اهتمامهم بتلاوة القرآن وحفظه أكثر من معانيه وتعاليمه. ومنه ايضا اهتماهم بتفادي الارباح الربوية في البنوك ، دون اهتمام مواز بالغرض الذي حرم الربا من أجله.
حين أقرأ الآراء التي ينشرها بعض الدعاة المعاصرين ، كتبرير لمواقفهم من قضايا سياسية او جدالات اجتماعية ، أرى فيها اهتماما بمكانة "الجماعة" او التيار ، يفوق اهتمامهم بالأغراض الكبرى للدين وقيمه العليا.
ناقشت في وقت سابق صديقا من الدعاة المعروفين حول ما يكتبه عن الصراع بين الاخوان المسلمين والحكومة المصرية ، ولا سيما استهانته بوحدة المجتمع المصري والسلم الاهلي فيه ، واعتباره كل مخالف للاخوان منافقا او مغفلا ومطية للأجانب. فأجابني ببساطة ان "صراع الحق والباطل لا يحتمل المواقف الرمادية: اما ان تكون مع الحق او مع الباطل ، مع الاخوان او الحكومة".
سواء كنا مع احد الطرفين او ضدهما ، فان اعتبار احدهما معيارا للحق والباطل ، يعني بالضبط نقل صراع سياسي من مستواه العرفي الى مستوى المقدس الديني. تدار الصراعات السياسية بناء على تقديرات عقلية ، تتغير تبعا لمصالح أطراف الصراع. وقد يلتزم هؤلاء بالمعايير الاخلاقية أو يغفلونها. لكن اعتبارها موضوعا دينيا ، يترتب عليه عقاب وثواب أخروي ، ينطوي على مخاطرة الابتداع في الدين. والابتداع كما نعلم هو ان تدخل في الدين ما ليس منه.
لا شك ان اقحام هذا النوع من صراعات المصالح في المجال الديني ، ينطوي على تكلف كبير. سواء عبرنا عنه باعتدال او بخشونة ، وسواء اتبعنا في التوصل اليه منهج اجتهاد تقليدي أو حديث. جوهر المشكلة هو إلباس العرفي ثوب المقدس ، وليس طريقة التعبير عنه.
اقوى المبررات التي تطرح في مقابل هذه الرؤية ، هو قولهم ان الدين منهج يتسع لقضايا الحياة كلها دون استثناء. وهو قول مرسل لا يستند الى دليل ديني يتحمل ثقله. لكنه شائع جدا بين المسلمين الى حد اعتباره من المسلمات.
ومن هنا فان المهمة الاكثر إلحاحا في مسار الاصلاح الديني ، هي مراجعة العلاقة بين الدين وقضايا الحياة ، لرسم الخط الفاصل بين موضوعات الدين وما هو خارج الدين.
الشرق الاوسط 8 مارس 2017

01/03/2017

ما ينبغي للتيار الديني ان يخشاه


"سيجبرهم الواقعُ والمجتمعُ على تقديم الصغيرة على الكبيرة ، والسكوت عن إنكارها ، وعلى تقديم الكبيرة على التي هي أكبر منها ، من باب دفع المفسدة العظمى بالصغرى ، إذا استمروا في مقاومة التيار بهذا الجهل والتنطع . وسيفهمون وقتئذ معنى تفريطهم في هذا التنطع والتشديد ورفض الاختلاف المعتبر"
حاتم العوني
هذا مقطع من حديث للفقيه السعودي المعروف الشريف حاتم العوني ، يستنكر تشدد الدعاة في الاحكام الشرعية التي يستشعر الناس حاجة الى التيسير فيها ، خاصة في موارد الاختلاف بين الفقهاء.
حديث العوني نموذج عن دعوة تكررت هذه الأيام في المجتمعات العربية. وهي تشير الى أزمة كامنة في علاقة الجمهور بالتيار الديني ، سببها الظاهري هو التعارض بين طروحات التيار وانشغالات الجمهور. لكن جذرها يمتد الى إخفاق التيار الديني في تقديم حلول واقعية لما يواجه المجتمع من مشكلات.
كانت مكانة التيار الديني العربي هامشية حتى أوائل الربع الاخير من القرن العشرين. ولم يكن خروجه من الهامش وتحوله الى قوة مؤثرة ، ثمرة لتحولات في التيار نفسه ، بل لأن التيار القومي ، واليسار بصورة عامة ، فشل في تقديم الحلول التي وعد بها خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين ، يوم كان القوة المهيمنة سياسيا وجماهيريا ، في معظم الدول العربية والعالم الثالث.
تمحورت وعود اليسار حول الوحدة ، العدالة الاجتماعية ، التحرر من الهيمنة الخارجية ، والاستثمار الأكفأ للموارد. لكن السنين مرت دون انجاز يتناسب مع تلك الوعود. ربما بسبب ضخامة الوعود نفسها ، او ربما الافتقار للكفاءة الادارية والسياسية المناسبة ، او بسبب تغلغل الفاسدين الذين حولوا السلطة الى غنيمة ، أو غير ذلك من الأسباب. وفي اعتقادي ان هذه العوامل ما كانت لتكلف اليسار ثقة الجمهور ، لو كان قد اهتم باشراك الجمهور في سياساته وأعماله ، بل وفي تطوير رؤيته للواقع. كان تيار اليسار مثالا للجمود الايديولوجي الذي انتج جمودا سياسيا ، يتجلى في الهوة الواسعة بين شعاراته وسياساته ، وبين هموم الناس وانشغالاتهم.
أخشى ان التيار الاسلامي ، السياسي منه والشعبي ، يواجه اليوم نفس التحدي. وأظن انه يعاني من نفس العوامل التي أطاحت باليسار فيما مضى. وأهمها في رأيي الجمود الايديولوجي الذي ينتج جمودا سياسيا وابتعادا عن هموم الناس وانشغالاتهم الحياتية. في كل الدول العربية ثمة جماعات اسلامية نشطة في المجال العام. لكن معظمها يتحدث بنفس اللغة القديمة ، ويطرح نفس التصورات والحلول القديمة ، التي تغفل التدليل العلمي ، وتركز على سلوكيات الافراد ، ومصارعة المنافسين ، بدل الانشغال بالقضايا الكبرى ذات التأثير الممتد زمنيا وموضوعيا.
قبل سنوات قليلة فحسب ، كان الاحترام والتبجيل سمة ملحوظة في كلام الناس عن الدين والجماعات الدينية ورجالاتها ورموزها. لكن التشكك هو السمة الغالبة على حديث الناس هذه الايام. النقد الصريح للآراء التي يدلي بها الدعاة والناشطون في المجال الديني ، قد تشير الى تراجع ثقة الجمهور في كفاءة هذا التيار او مصداقيته.
لكن الجزء الخفي من القصة هو ان هذا النقد يشي بان شريحة من الجمهور تنظر للتيار الديني كجماعة متخارجة عنها ، تدعمها او تعارضها ، لكنها ليست جزء منها ولا تمثلها. مثل هذا الانفصال الشعوري والثقافي هو الذي أطاح فيما مضى بالتيار اليساري ، وأخشى ان التيار الاسلامي لم يعد بعيدا عن هذا المصير.
الشرق الاوسط 1 مارس 2017

22/02/2017

اوربا التي اصبحت آسيوية ، مسلمة ، سوداء ، وصينية


المنتدى الاقتصادي العالمي الذي ينعقد في دافوس كل شتاء خصص بعض جلساته هذا العام لمناقشة موضوع الهجرة. وهو أمر يكشف عن تحول جوهري في فهم العالم لهذا الموضوع وانعكاساته.
يرجع الجدل حول مسألة الهجرة الى أواخر القرن المنصرم. وكان يدفعه خليط من العوامل الاقتصادية والثقافية ، وانضم اليها العامل السياسي والامني في وقت لاحق.

عرفت اوربا اوسع موجات الهجرة في سنوات النهوض الاقتصادي عقب الحرب الكونية الثانية. وجرى التعامل معها بتساهل ملحوظ حتى اواخر القرن العشرين. الاف العمال الذين جاؤوا من شبه القارة الهندية وافريقيا وشرق آسيا ، عملوا في مصانع المحركات والنسيج ، وساهموا في شق الطرق وبناء المساكن وسكك الحديد ، وعمل كثير منهم في الوظائف المتدنية الأجور ، في المطاعم والبقالات والخدمات العامة. وجرى التعامل مع مشكلات الهجرة وفق منظور اقتصادي بحت ، يحدده حجم المكاسب والأضرار المترتبة عليها. بريطانيا وفرنسا مثلا كانت متساهلة جدا في منح مواطني مستعمراتها السابقة تأشيرات الدخول ورخص العمل ، لان اقتصادها كان محتاجا اليهم.
في العقدين الماضيين برزت عوامل جديدة ، تحول النقاش معها الى قضايا الهوية والاندماج الاجتماعي. لعل ابرز تلك العوامل هو التباطؤ الاقتصادي ، سيما في القطاعات التي تتطلب عمالة كثيفة ، وتفكك المعسكر الاشتراكي وما ترتب عليه من انفتاح سوق العمل في أوربا الغربية امام مواطني الجزء الشرقي. وأخيرا التحولات التي طرأت على التكوين الثقافي لجماعات المهاجرين.
فيما يخص العامل الأخير ، يهمني لفت الانتباه الى ان التحول في هوية المهاجرين  المسلمين ، يحظى بتركيز أوسع من جانب الاعلام ، ولذا فهو يلفت النظر بدرجة أكبر. لكن المسألة تتجاوز هذا الاطار . اذكر مثلا ان بروز نيلسون مانديلا كشخصية مرجعية على مستوى العالم ، منذ اطلاق سراحه في 1990، قد أطلق بالتوازي موجة حماس واسعة بين المهاجرين ذوي الاصول الافريقية ، بمن فيهم أولئك الذين هاجر آباؤهم قبل قرن من الزمن ، وانقطعت صلتهم تماما بأوطانهم الأصلية. في نفس الوقت تقريبا ، كان المهاجرون من الصين وجنوب شرق آسيا ، على موعد مع موجة حماس مماثلة غذاها النهوض الاقتصادي في مجموعة الدول التي عرفت يومها بالنمور الآسيوية ، بعدما برزت كتجارب ناجحة للنمو الصناعي السريع.
فيما يخص المهاجرين المسلمين ، سيما من الشرق الاوسط وشبه القارة الهندية ، فان الجدل الواسع حول رواية "الآيات الشيطانية" أوائل 1989 ثم أزمة الخليج في العام التالي ، شكلا فرصة لمراجعة الذات واكتشاف هوية متمايزة عن المحيط.
في كل هذه المسارات ، كان محرك الازمة هو رغبة المهاجرين في تعامل المجتمع الأوربي معهم كما هم ، اي من دون توقع ان يندمجوا كليا في تقاليده ، اذا كانت تستدعي التخلي عن إرثهم الثقافي الخاص. وأذكر ان هذه الفترة شهدت اهتماما غير مسبوق بالرموز التي تشير للتمايز  ، مثل المظاهر الدينية ، الملابس التقليدية ، المطاعم التي تقدم الوجبات التراثية ، الاحتفال بالمناسبات الوطنية والقومية ، الفولكلور والموسيقى.. الخ.
اعادة المهاجرين الى أوطانهم الاصلية ليست خيارا متاحا. كما لم يعد ممكنا اجبارهم على الاندماج التام. ولهذا تجد أوربا نفسها أمام خيار عسير ، تدعمه النخبة ويعارضه بعض الجمهور ، خلاصته هو التحول الى مجتمع متعدد الثقافات ، لا ينظر للاندماج الاجتماعي كعامل في توليف الوحدة الوطنية. وأظن ان هذا هو المسار المتوقع في العالم كله.
الشرق الاوسط 22 فبراير 2017
http://aawsat.com/node/860786

15/02/2017

وهم الصراع بين الحضارات


أسمع حديثا متكررا فحواه ان الرئيس الامريكي الجديد دونالد ترمب يدشن النموذج التطبيقي الأول لصراع الحضارات ، وفق التصور الذي عرضه المفكر الامريكي صامويل هنتينجتون في 1993. طبقا لهذه الرؤية فان الايديولوجيا (رأسمالية/اشتراكية) لن تكون موضوعا للصراعات الدولية بعدما تفكك المعسكر الشيوعي. الحروب الكبرى القادمة لن تدور بين الدول القومية. أو على أقل التقادير ، فان أية حرب على هذه المستوى ، لن تقسم العالم الى فسطاطين ، وفق ما كان متوقعا في حقبة الحرب الباردة (1945-1991). يعتقد هنتينجتون ان الثقافات الرئيسية هي التي ستحدد جبهات الصراع الدولي القادم. نتصور مثلا جبهة الثقافات الجديدة ، التي تمثلها المجتمعات الصناعية الغربية ، تقابلها جبهة الثقافات القديمة التي تضم العالم الاسلامي ودول آسيا الأخرى.
صمويل هنتينجتون
هذه الرؤية ليست نظرية مثبتة تاريخيا. وليس لدينا دليل مادي يؤكد ان العالم سيشهد صراع حضارات في المستقبل القريب. إنها مجرد تحليل مبني على استقراء تاريخي ، يتوافق مع معطيات رآها هنتينجتون متوفرة في مطلع التسعينات. وهو لم يحاول اخفاء ما تنطوي عليه من توجيه ايديولوجي ، فحواه ان الحضارات بحاجة للصراع ، كي تبقى نشطة ومبدعة.
رغم ذلك فرؤية كهذه تنطوي على خطورة على العالم الاسلامي ، وليس على الغرب. لسبب بسيط وهو ان الايمان بالعلاقة الايجابية مع العالم ، يعزز جانب الميل للمصالحة والانفتاح ، ومن ثم التعاون الثقافي والاقتصادي. وهو أمر نحن في أمس الحاجة اليه ، كي نلحق بحركة العلم والتقنية التي تتصاعد في عالم اليوم ، ولا تكاد تستثني أحدا غير البلدان الاسلامية. 
خلال الخمسين عاما الماضية ، تعرضت مجتمعات المسلمين لضخ مركز للفكرة القائلة بان "الغرب" يمثل كتلة معادية ، تسعى للهيمنة على العالم الاسلامي ، وتستهدف بشكل خاص القضاء على الاسلام. ولا شك ان هذه الرؤية قد ساهمت في عرقلة تطور المجتمعات المسلمة ، بل وأعادت بعضها الى الخلف ، وعمقت الهوة التي تفصلها عن الحضارة الانسانية الحديثة.
ثمة حقائق بسيطة في حاضر العالم وفي ماضيه ، من بينها ان تاريخ البشرية لم يسجل نهوض المدنية في بلد منعزل عن العالم. جميع الحضارات وتجارب التقدم السابقة – بما فيها الحضارة الاسلامية القديمة - كانت ثمرة للتفاعل بين الأمم والثقافات. وكان دوامها وتجددها مرهونا بعلاقتها التفاعلية والمنفتحة مع الآخرين.
ليس من الضروري ، وربما من غير المتوقع ، انتهاء الصراعات الدولية. لكن الصراع المدفوع بخوف على الهوية ، انتهى في كثير من التجارب الى دمار المنتصر والمنهزم معا. لأنه ببساطة يحول مضمون العلاقة من صراع على الحدود والمكانة ، الى صراع على الوجود. وفي هذا النوع من الصراعات لا يكون الانجاز والتقدم هدفا. الهدف الوحيد فيها هو تدمير الآخر كشرط للبقاء.
في العالم الاسلامي اليوم ما يكفي من مشاعر الكراهية التي نعرف انها أثمرت عن تفجر العنف في معظم بلدانه. ولا أظننا بحاجة الى المزيد من هذا.
من هنا فاني أشعر بالقلق من عودة الترويج لفكرة الصراع الديني ، والمبالغة في اعتبار تصريحات وقرارات الرئيس الامريكي الجديد او نهوض اليمين في أوربا ، إشارة انطلاق للحرب على الاسلام. مثل هذا الكلام ، بغض النظر عن النوايا الطيبة التي تبرره ، لن يضر الغرب قدر ما يضر المسلمين ، كما حصل فعلا خلال الخمسين عاما الماضية. في هذا التاريخ ما يكفي من العبر لمن أراد ان يعتبر.
الشرق الاوسط 15 فبراير 2017

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...