23/05/2007

حان .الوقت للتخلي عن السعودة القسرية



أغلبية العاملين في السوق مقتنعون اليوم بأن الاستراتيجية التي تبنتها وزارة العمل لإحلال العمالة السعودية محل الاجنبية قد ادت غرضها واستنفدت مفعولها، وقد حان الوقت للتخلي عنها. قرار مجلس الوزراء بإعفاء المقاولين الذين ينفذون مشروعات حكومية من قيود تلك الاستراتيجية، ولا سيما في تحديد نسبة العمال السعوديين في كل منشأة، هو اقرار بالحاجة الى مراجعة كلياتها وتفاصيلها. ربما نجح كبار المقاولين في ايصال صوتهم الى اصحاب القرار. لكن صغار المستثمرين قد اوصلوا صوتهم ايضا. المشكلة ليست اذن في عدم علم الوزارة بالازمة التي تواجه هذا القطاع، بل في اصرارها على المضي في سياساتها المتشددة ولو كان الثمن غالياً.
أتمنى ان يقوم معالي وزير العمل او وكلاء الوزارة بجولة في المناطق الصناعية في أي مدينة من مدن المملكة كي يروا انعكاسات تلك السياسة، او لعلهم يخصصون وقتا للاستماع الى صغار المقاولين واصحاب الورش والحرفيين، كي يكتشفوا ان المشكلة اليوم لم تعد فتح مؤسسات وهمية لتاجير العمال كما صرح وزير العمل في وقت سابق. المشكلة التي يواجهها صغار المقاولين والحرفيون اليوم هي بالتحديد عدم القدرة على العمل وعدم القدرة على التوسع، وبكلمة مختصرة العجز عن الاستجابة لقوى السوق. خلال السنوات الثلاث الماضية حافظ الاقتصاد السعودي على حركية متنامية، أدت بالضرورة الى ارتفاع كبير في الطلب على البناء والخدمات المختلفة، وهذا يستدعي زيادة في قوة العمل. 
يمكن للوزارة الاحتجاج بانها تريد استثمار زيادة الطلب هذه في تشغيل ما تبقى من المواطنين العاطلين. لكن هذه الحجة تنطوي على تبسيط مخل لفكرة التشغيل ومعالجة البطالة. نعرف جميعا ان زيادة الاستثمار ستؤدي اتوماتيكيا الى خلق فرص جديدة متنوعة للسعودي والاجنبي على حد سواء. وفي كثير من الاحيان فان فرصة العامل السعودي مرهونة بنظيره الاجنبي. لناخذ كمثل ورش صيانة السيارات : يمكن لمستثمر صغير، قد يكون شابا حديث التخرج او عاملا سابقا، او متقاعدا من شركة، او ربما متدربا طموحا، يمكن له ان يفتح ورشة يعمل فيها بنفسه ويوفر فرصة لسعودي آخر. لكنه قطعا لا يستطيع الاقتصار على فنيين سعوديين، لان هؤلاء سيحصلون ببساطة على فرص في شركات كبرى تقدم رواتب اعلى وضمانات وظيفية افضل.
بعبارة اخرى فان الورشة يمكن ان تقدم فرصة للتدريب والعمل لاول مرة او ربما عملا ثابتا لاصحابها، لكنها لا تستطيع منافسة الشركات الكبرى التي يتزايد طلبها على الفنيين المؤهلين. اذا منع صاحب الورشة من استقدام ما يكفيه من الفنيين الاجانب فلن يستطيع فتح ورشته، واذا لم يفتحها فسوف نضيع فرصة تشغيل لشخص او شخصين، ونضيع فرصة استثمار يمكن ان يسهم في تنشيط قطاعات اخرى من السوق. تجولت هذا الاسبوع في منطقة صناعية تضم عشرات من ورش الصيانة والاعمال المختلفة، فوجدت كثيرا منها شبه عاطل. حين تسأل يقولون لك ببساطة : ليس لدينا عمال ولا نستطيع تلبية طلبات العملاء. تحدثت ايضا الى عدد من المقاولين فاتفقوا جميعا على انهم يعتذرون يوميا عن اخذ عقود جديدة لانهم غير قادرين على تنفيذها. والسبب مرة اخرى هو قلة العمال. هذه الفرص الضائعة هي استثمارات يمكن ان تسهم في توليد وظائف او توفير فرص جديدة، لكنها تذهب هدرا بسبب التشدد في سياسات العمل. لكل استراتيجية مدى محدد تؤدي خلاله غرضها وتفتح الباب امام استراتيجية بديلة.
استراتيجيات العمل تتبع منحنى يشبه ما يسمى في الاقتصاد السياسي بمنحنى الاشباع الحدي، اي نقطة الذروة في التأثير. من بعد هذه النقطة يبدأ التراجع وصولا الى نقطة الضرر، اي تحول الاستراتيجية المفيدة الى معطل ومعيق للتقدم. من المتفق عليه ان القطاع الخاص هو الدينامو الاقوى للاقتصاد، وان صغار المستثمرين والمستثمرين الجدد هم قوة التجديد والتصعيد. ولهذا فان اي استراتيجية قطاعية، مثل تلك المتعلقة بمعالجة البطالة، ينبغي ان تخضع للاهداف الكلية لحركة الاقتصاد ومن ابرزها اجتذاب المزيد من المستثمرين الجدد الى منظومة الانتاج. العلاج الطويل الامد للبطالة يكمن في زيادة الاستثمار، وزيادة الاستثمار تتوقف على اجتذاب الرساميل الصغيرة واصحاب الطموح من صغار المستثمرين. يمكن لاستراتيجية وزارة العمل الحالية ان توفر فرصا لمئات من الشباب العاطلين، لكنها في الوقت نفسه تعطل فرصا استثمارية قد توفر آلافاً من الوظائف الجديدة. واظن انه قد حان الوقت لمراجعة هذه الاستراتيجية التي استنفدت اغراضها.
عكاظ 23   مايو 2007  العدد : 2166
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070523/Con20070523112683.htm

16/05/2007

شراكة التراب وعدالة النظام الاجتماعي

||مفهوم "شراكة التراب" يعني ان جميع اعضاء المجتمع السياسي ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه.||

يتميز النظام الاجتماعي العادل عن غيره بثلاثة اركان اساسية، اولها قيامه على ارضية المساواة والتكافؤ بين الناس. وقد اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى انكار عدد من قدامى المفكرين لهذه الفكرة وقبولهم بوجود تمايز عضوي بين الناس، يبرر اقامة نظام اجتماعي على اساس التمييز بين البشر. ونعلم مثلا ان بعض المذاهب السياسية (كالنازية مثلا) اعتبرت اتباعها (ابناء العرق الجرماني) ارقى من سواهم.
Formal Equality vs. Substantive Equality in the Workplace - Video ...
وقد اقامت نظامها السياسي على هذا الاساس. وكذلك الامر في نظام التمييز العنصري الذي اتبعته الولايات المتحدة الامريكية حتى منتصف القرن الماضي. كما ان بعض القبائل العربية مازالت ترى في نسبها القبلي الخاص عنصر امتياز على الغير. ولا بد ان القراء يذكرون حكم احد القضاة قبل شهور بالتفريق بين زوجين بعدما وجد ان الزوجة اعلى نسبا من قرينها. وهو حكم يستند الى مرجعية معروفة في التراث الفقهي، لكن اساسه هو القول بامكانية التفاوت العرقي او الطبيعي بين الناس.
اضافة الى هذا، فهناك من يقر بتكافؤ البشر عند الولادة، لكنه يقبل ايضا بفكرة التفاوت المكتسب. اي التفاوت بين الناس بسبب انتماءاتهم. ونعرف ان بعض الاقطار (ومنها الكويت مثلا) تتبع نظام مواطنة مزدوجا، يقسم الناس الى مواطن درجة اولى وثانية، ويترتب على هذا الفارق تفاوت في بعض حقوق المواطنة. ومن الامور الرائجة في كثير من البلدان التمييز بين المواطنين المنحدرين من اصول محلية وبين المهاجرين. وثمة فقهاء مسلمون يحكمون بنجاسة غير المسلمين عامة، وهناك من يقصر الحكم على المشركين دون اهل الكتاب. وذهب بعض فقهاء العصور السالفة الى اشتراط الاصل العربي في التأهل للخلافة وإمرة المسلمين، واشترط آخرون النسب القرشي دون سائر العرب، وحصرها بعضهم في بني هاشم دون سائر قريش.
هذه الاراء جميعها تنطلق من اساس فكري واحد، خلاصته ان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. وبناء عليه فانه يمكن تصور النظام الاجتماعي القائم على هذا الاساس كنظام ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات.
خلافا لهذا فقد ذهبت الفلسفة السياسية المعاصرة (ولا سيما في المدرسة الليبرالية) الى مفهوم مختلف تماما للعلاقة بين ابناء البلد الواحد يقوم على قاعدة «الشراكة في التراب». طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويطابق هذا المفهوم الى حد كبير فكرة «الخراج» المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا. 
بناء على هذا المفهوم فان الناس يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم. لا لأن احدا أقر لهم بهذه الصفة، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر، لأنها ليست منحة بل حق مترتب على ملكية مشروعة.
واجه هذا المفهوم الأولي الكثير من المجادلات في بداية ظهوره، لكنه تطور في اطار الفلسفة الليبرالية، وتحول من ثم الى قاعدة للعمل السياسي في الدول الحديثة. كان اول التمثيلات السياسية لمفهوم الشراكة في التراب، هو نظرية العقد الاجتماعي. ثم اصبح اساسا لفكرة المجتمع المدني التي تعد ابرز اطارات المشاركة السياسية في عالم اليوم. وثمة بين الفلاسفة المعاصرين، من يدعو الى نظرية مماثلة على المستوى الكوني. واخص بالذكر استاذنا البروفسور جون كين الذي يدعو الى نظام عالمي يشترك فيه جميع البشر او من يمثلهم، من اجل تطوير الموارد الكونية ومكافحة التدمير الذي تتعرض له بيئة الارض، لانها ملك للجميع. 
خلاصة القول إذن، ان الركن الاول للنظام الاجتماعي العادل، هو التكافؤ والمساواة بين اعضائه. فالناس جميعا اكفاء لبعضهم ومتساوون منذ ولادتهم وحتى يموتوا. هذا الوصف لا يتوقف على اقرار احد معين، بل هو حق طبيعي مترتب على شراكة اعضاء المجتمع في التراب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي وما ينطوي عليه من موارد.
عكاظ 16 مايو 2007  العدد : 2159  https://www.okaz.com.sa/article/101700
مقالات ذات علاقة 




02/05/2007

حقوق الإنسان في الإطار المحلي



إذا تحدثت الى رئيس هيئة حقوق الانسان الاستاذ تركي بن خالد السديري فسوف يخبرك من دون مواربة بانه يتفهم تساؤلات الناس عن دور الهيئة وربما شكوكهم في قدرتها على تلبية توقعاتهم الكثيرة. والمؤكد ان مثل هذا الشعور موجود لدى شقيقتها الاهلية (الجمعية الوطنية لحقوق الانسان).
والحق ان الانسان ليشفق على المؤسستين من صعوبة المهمة التي التزمتا بحملها نيابة عن المجتمع او نيابة عن الدولة. تكمن الصعوبة في ان مفهوم حقوق الانسان يعتبر جديدا على الثقافة العامة في المجتمع السعودي. ولعل كثيرا من الناس لا يفهم مغزاه او الحاجة اليه. والمؤكد ان بعض الناس سوف ينظر اليه بعين الارتياب او العداء. ربما يتذكر بعض القراء ما كان يقال في سنوات سابقة من ان «حقوق الانسان» وجمعياتها هي مجرد ادوات للغزو الفكري او التدخل الاجنبي. نفهم ايضا ان بعض البيروقراطيين، سيما في المراتب الوسطى من الادارة الحكومية والقطاع الخاص، لا يستسيغ فكرة الرقابة من خارج النظام الاداري لمؤسسته، ويزداد الامر سوءا اذا وصل الى نقد ادائه الشخصي، في تطبيق القانون او التعامل مع الغير
قد تمثل هذه الصعوبات عذرا للقائمين على المؤسستين. لكن القصور مثل التقصير ليس من النتائج التي يرغب الانسان في الاتصاف بها على اي حال. ولا اظن احدا في هذا القطاع او في اي قطاع آخر يرغب في الوقوف امام الناس او الصحافة يوما كي يخبرهم بانه عجز عن الوفاء بوعوده، حتى لو كان لديه مبررات واعذار. الفشل هو الفشل، مهما كان تبريره
اذا صح القول بان المؤسستين تواجهان مشكلة سببها غربة مفهوم «حقوق الانسان» عن الثقافة العامة المحلية، فسوف يتوجب عليهما وضع برنامج عمل «تثقيفي» غرضه المحوري هو تمهيد الطريق امام عملهما. يستهدف البرنامج ايصال فكرة حقوق الانسان وشرح موضوعها الى جميع الاطراف ذات العلاقة. واقترح تحديد الاستهدافات على النحو التالي:
أ- على المدى القصير: الهيئات الحكومية والخاصة التي لها علاقة مباشرة بالمواطنين، من وزارات او مؤسسات عامة او شركات اهلية. يتركز العمل في هذا الاطار على التفاوض مع رؤساء تلك الهيئات وقياداتها الوسطى، لشرح مفهوم حقوق الانسان وموضوعاته والخروقات المحتملة والاجراءات التأديبية او العقابية المقررة او التي يمكن ان تتقرر في المدى المنظور. الهدف الرئيس من هذا العمل هو تفهيم رؤساء الادارات بان سلطاتهم مهما عظمت لا تسمح لهم بخرق حقوق الغير، سواء كان مواطنا عاديا او مراجعا ذا مصلحة او وافدا اجنبيا، وصولا الى اقناع كل دائرة بوضع لائحة اجراءات تنفيذية محورها احترام حقوق الانسان. ويمكن ان تنفذ خطة العمل في هذا الجانب على مدى سنتين.
ب- على المدى المتوسط: التوجيه الاعلامي من خلال الصحافة والتلفزيون والمنتديات الخاصة والعامة والاتصال المباشر بالجمهور بكل وسيلة ممكنة. ومحور هذا العمل هو تبيئة مفهوم حقوق الانسان وتطبيقاته وجعلها اليفة عند الناس ومتصلة بثقافتهم، واقناعهم بفوائدها لاشخاصهم ومجتمعهم. اما غرضه الرئيس فهو ايجاد علاقة تفاعلية بين مؤسسات حقوق الانسان وبين الجمهور العام، وكشف المجالات والسبل التي يمكن لكل فرد ان يسهم فيها ومن خلالها في دعم الجهد الوطني الهادف الى حماية حقوق الانسان.
ج- على المدى البعيد: ادماج مفهوم حقوق الانسان ضمن برامج التعليم العام والنشاطات اللاصفية، ولا سيما في المراحل قبل الجامعية. ومحور هذا العمل هو تحويل مفهوم «حق الفرد ومسؤولياته» الى جزء اعتيادي في التربية المدرسية. وغرضه الرئيس هو انتاج قاعدة ثقافية لحقوق الانسان وتخليق مفاهيم مرادفة في الاطار المحلي، فضلا عن تعريف الفرد بنفسه كانسان حر، مستقل، ومتساو مع الغير، وتعويده على احترام مسؤولياته في هذا الاطار. هذا الجزء من البرنامج يحتاج الى مدى زمني لا يقل عن عشر سنوات.
خلاصة القول ان ترسيخ مبادئ حقوق الانسان قانونيا واداريا، يحتاج الى تبيئة وتوطين المفهوم. من هذه الزاوية فان برنامجا تثقيفيا واسع النطاق كالذي نقترحه يمثل وسيلة ضرورية لمعالجة ما اظنه غربة اجتماعية لهذا النشاط ومؤسساته.
عكاظ  2 مايو 2007  العدد : 2145

https://www.okaz.com.sa/article/104811

29/04/2007

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها


 العدالة الاجتماعية هي واحد من الاسئلة المحورية في الفلسفة السياسية. بل قد لا نبالغ اذا اعتبرناها السؤال الاول لهذا الحقل من العلوم منذ قديم الزمان وحتى اليوم. ونشير بالمناسبة الى ضآلة الابحاث المتعلقة بالموضوع في الفكر الاسلامي القديم والمعاصر، رغم الاهمية الكبيرة التي توليها النصوص الاسلامية لمسألة العدل.
تمثال ارسطو
وقد سألت شيخي في قديم الايام عن سر افتقار المكتبة العربية الى بحوث معمقة في الموضوع فقال لي ان فكرة العدالة مفقودة في التراث الديني الغربي ولهذا احتاج الغربيون الى بحثها. بينما اعتقد المسلمون ان ما وصلهم عنها من اسلافهم فيه غنى وزيادة، فلم يجدوا حاجة الى مزيد بحث عنها. وظننت انني قد قنعت بهذا التبرير.

 لكن سرعان ما اطاح بهذه القناعة اسئلة اخرى مثل: اذا كان لدينا نصوص او بحوث سابقة، فقد كان احرى ان تشق الطريق الى مزيد من البحث والدراسة، لا أن تترك او تهمل. ثم قرأت مجادلات الاسلاميين حول الماركسية والرأسمالية وفضل الاسلام عليهما، فوجدت معظمهم يتجنب - غفلة او عمدا - الجوانب الاشكالية من مسألة العدل الاجتماعي وتطبيقاتها، ولا سيما علاقتها بالتنظيم الاقتصادي والسياسي وهيكل القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية وتطبيق الاحكام والاعراف.. الخ.

بعض الذين تطرقوا الى مسألة العدالة، ولا سيما من قدامى الاسلاميين ومن سار على نهجهم من المعاصرين، ذهبوا مذهب الفيلسوف اليوناني ارسطو الذي رأى ان جوهر العدالة يكمن في معاملة المتساوين بالسوية، والتمييز بين غير المتساوين.

 قامت نظرية ارسطو على فرضيات سابقة حول التمايز بين الناس، كانت متعارفة ومقبولة في زمنه، وقد اضاف اليها ومنحها مبررات فلسفية واجتماعية. من ذلك مثلا ان نظام المدينة اليونانية كان يميز سكان اثينا على غيرهم، ويميز الرجال على النساء، والاحرار على العبيد، والجنود على الزراع والحرفيين، واهل الملكات الفكرية كالفلاسفة والاطباء على بقية العاملين، ورجال السياسة على سائر الناس.

بطبيعة الحال فان هذا التمييز ليس مقبولا في عالم اليوم. لكنه - في ذلك الزمان على الاقل - لم يكن اعتباطيا، فقد استند الى قائمة من المبررات التي بدت لاصحابها معقولة. وابرز تلك المبررات هو القول بان الناس ليسوا متساوين اساسا، فبعضهم اعلى - معنويا - من غيره لاسباب ذاتية او عضوية، وبعضهم كافح لاكتساب ملكات اضافية فاصبح اعلى من غيره. ومن النوع الاول مثلا منع النساء من المشاركة في السياسة والامور العامة لان المرأة - حسب رأي ارسطو - عاجزة عضويا عن التفكير السليم في الامور العامة والسياسة. وكذلك الامر بالنسبة لابناء المهاجرين الى اثينا، لانهم لم يتشربوا روح المدينة وقانونها، ومثلهم اصحاب الحرف اليدوية الصغيرة لان عقولهم غير نشطة.. الخ.

ولو اتيحت لك الفرصة للتأمل في بعض ما كتبه قدامى الاسلاميين واتباعهم من المعاصرين حول النساء وحقوقهن، وحول العلاقة مع غير المسلمين، بل وحتى المسلمين من غير اهل الديار، وحول حقوق الطبقات الاجتماعية المختلفة والقيم الناظمة للعلاقة بينها، فسوف تجد هذه الاراء نفسها او قريبا منها بنفس المبررات او مع مبررات اضافية.

يشير هذا - من ناحية - الى واحد من الاسئلة الهامة حول مبدأ العدالة وموقعه من سلم القيم الاساسية في حياة البشر. من الواضح ان التطبيق اليوناني لمبدأ العدالة كان مشروطا بالتنظيم الخاص لمدينة اثينا، ولعل بعضنا يرى ان التطبيق الاسلامي لمبدأ العدالة ينبغي ان يخضع ايضا للتنظيم الخاص للمجتمع الاسلامي.

ومعنى ذلك ان العدالة ليست من القيم العقلية المستقلة - كما يدعي جميع الفلاسفة-، وليست جزءا من الجوهر الانساني للانسان - كما يدعي الاخلاقيون - وليست معيارا اعلى لصلاح النظام الاجتماعي - كما يدعي علماء الاجتماع والسياسة. بل هي قيمة اجتماعية يتحدد مفهومها ومعناها وتطبيقها تبعا لثقافة المجتمع وما توافق عليه من نظم وأعراف. بعبارة اخرى فان المضمون النهائي لهذا الفهم يقرر ان العدالة ليست من القيم المطلقة الموضوعية، بل هي قيمة نسبية، وليست مصدرا لقواعد العمل بل فرع عنها.

وهو يشير - من ناحية اخرى - الى سؤال جوهري، يتعلق بالعامل الاساس في تحديد قيمة الانسان. يمكن صياغة السؤال على النحو التالي :

 هل تتحدد قيمة الانسان قبل ولادته ؟. بعبارة اخرى هل يتساوى جميع المواليد من حيث القيمة - وبالتالي الاهلية لاستحقاق نفس القدر من العدالة، ام ان بعضهم يولد ارقى من غيره، اي مستحقا لشريحة اعلى من العدل؟. هذا يقودنا بالتاكيد الى جدل حول ما يستحقه الفرد بالولادة وما يستحقه بالكفاءة والجهد. طبقا للرؤية الاولى فان نسب الفرد ولونه ودينه او مذهبه وانتماءه الى بلد معين هي قدر لا مفر منه، فهي التي تحدد قيمة الفرد وحياته. والفرق بين الرؤيتين لا يخفى على بصير.

26/04/2007

عن العدالة الاجتماعية ومبدأ المواطنة المتساوية


الارث الثقيل
تحقيق العدالة الاجتماعية هو المعيار الاول والاهم للتمييز بين الحكومات الناجحة ونظيرتها الفاشلة . منذ سقراط وحتى اليوم سالت انهار من الحبر في الجدل الفلسفي والسياسي حول "العدالة الاجتماعية". لكن حظنا من هذه الجدالات كان ولا يزال ضئيلا. بالمقارنة مع ما كتب في سائر ابواب الفقه وعلوم الشريعة الاخرى ، وما كتب في الادب والتاريخ ، حظيت مسألة العدالة الاجتماعية بعدد من الكتب يعد على الاصابع . ولا يحتلف الامر بين تراثنا القديم والمعاصر. وقد حاول عدد من الاسلاميين المعاصرين معالجة المسألة ، لا سيما في سياق السجال مع النموذجين الراسمالي والماركسي ، لكن معظم هؤلاء الكتاب تجنبوا – غفلة او عمدا – الجوانب الاشكالية من مسألة العدل الاجتماعي وتطبيقاتها ، ولا سيما علاقتها بالتنظيم الاقتصادي والسياسي وهيكل القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية وتطبيق الاحكام والاعراف .. الخ.
مال قدامى الاسلاميين ومن تبعهم من المعاصرين الى مذهب الفيلسوف اليوناني ارسطو ، الذي رأى ان جوهر العدالة يكمن في معاملة المتساوين بالسوية ، والتمييز بين غير المتساوين. وينسجم هذا المذهب مع نظام المدينة اليونانية الذي ميز سكان اثينا على غيرهم ، كما ميز الرجال على النساء ، والاحرار على العبيد ، والجنود على الزراع والحرفيين ، واهل الملكات الفكرية كالفلاسفة والاطباء على بقية العاملين ، ورجال السياسة على سائر الناس
.
بطبيعة الحال فان هذا التمييز ليس مقبولا في عالم اليوم . لكنه – في ذلك الزمان على الاقل – لم يكن اعتباطيا ، فقد استند الى قائمة من المبررات التي بدت لاصحابها معقولة. وابرز تلك المبررات هو القول بان الناس ليسوا متساوين اساسا ، فبعضهم اعلى – معنويا – من غيره لاسباب ذاتية او عضوية ، وبعضهم كافح لاكتساب ملكات اضافية فاصبح اعلى من غيره . ومن النوع الاول مثلا منع النساء من المشاركة في السياسة والامور العامة لان المرأة – حسب رأي ارسطو – عاجزة عضويا عن التفكير السليم في الامور العامة والسياسة. وكذلك الامر بالنسبة لابناء المهاجرين الى اثينا ، لانهم لم يتشربوا روح المدينة وقانونها ، ومثلهم اصحاب الحرف اليدوية الصغيرة لان عقولهم غير نشطة .. الخ.
ولو اتيحت لك الفرصة للتأمل في بعض ما كتبه قدامى الاسلاميين واتباعهم من المعاصرين حول النساء وحقوقهن ، وحول العلاقة مع غير المسلمين ، بل وحتى المسلمين من غير اهل الديار ، وحول حقوق الطبقات الاجتماعية المختلفة والقيم الناظمة للعلاقة بينها ، فسوف تجد هذه الاراء نفسها او قريبا منها . بنفس المبررات او مع مبررات اضافية.
تبدأ المشكلة بطبيعة الحال عند العامل الاساس في تحديد قيمة الانسان. حيث يمكن صياغة السؤال على النحو التالي : هل تتحدد قيمة الانسان قبل ولادته ؟. بعبارة اخرى هل يتساوى جميع المواليد من حيث القيمة – وبالتالي الاهلية لاستحقاق نفس القدر من العدالة ، ام ان بعضهم يولد ارقى من غيره ، اي مستحقا لشريحة اعلى من العدل؟.
على المستوى النظري البحت يتفق الاسلاميون وغيرهم على تكافؤ الناس عند الولادة ، لكن هذا الاتفاق النظري سرعان ما يتبدد حين يصل النقاش الى التطبيقات . فهنا تجد الرق والتجارة في البشر ممكنا ، وتجد التمييز ضد النساء اعتياديا ، والتهوين من حقوق المواطنة للاقليات مشروعا ومبررا .  بل وتجد من يجادل دون المفاضلة بين الناس بناء على عراقة انسابهم او اصولهم القبلية. بديهي ان الميل الى تقسيم الناس الى طبقات ومراتب ليس امتيازا خاصا بالمسلمين او العرب . فالمعروف ان بعض المذاهب السياسية (كالنازية مثلا) اعتبرت اتباعها (ابناء العرق الجرماني) ارقى من سواهم. وقد اقامت نظامها السياسي على هذا الاساس.  وكذلك الامر في نظام التمييز العنصري الذي اتبعته الولايات المتحدة الامريكية حتى منتصف القرن الماضي . ونجد حالات قريبة من هذا في تراثنا القديم وتقاليدنا المعاصرة ، فبعض القبائل العربية لا زالت ترى في نسبها القبلي الخاص عنصر امتياز على الغير . ولا بد ان القراء يذكرون حكم احد القضاة قبل شهور بالتفريق بين زوجين بعدما وجد ان الزوجة اعلى نسبا من قرينها . وهو حكم يستند الى مرجعية معروفة في التراث الفقهي ، لكن اساسه هو القول بامكانية التفاوت العرقي او الطبيعي بين الناس.
اضافة الى هذا ، فهناك من يقر بتكافؤ البشر عند الولادة ، لكنه يقبل ايضا بفكرة التفاوت المكتسب.  اي التفاوت بين الناس بسبب انتماءاتهم . ونعرف ان بعض الاقطار (ومنها الكويت مثلا) كانت حتى وقت قريب تتبع نظام مواطنة مزدوجا ، يقسم الناس الى مواطن درجة اولى وثانية ، ويترتب على هذا الفارق تفاوت في بعض حقوق المواطنة. ومن الامور الرائجة في كثير من البلدان التمييز بين المواطنين المنحدرين من اصول محلية وبين المهاجرين. وثمة فقهاء مسلمون يحكمون بنجاسة غير المسلمين عامة ، وهناك من يقصر الحكم على المشركين دون اهل الكتاب .  وذهب بعض فقهاء العصور السالفة الى اشتراط الاصل العربي في التأهل للخلافة وامرة المسلمين ، واشترط آخرون النسب القرشي دون سائر العرب ، وحصرها بعضهم في بني هاشم دون سائر قريش .

مقالات ذات علاقة
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

24/04/2007

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص


ضمان العدالة هو الموضوع الجوهري في العلاقة بين الحكومة والمجتمع في اي دولة. ويبدو مبدأ العدالة - على المستوى النظري المجرد - واضحا الى درجة يستحيل معها تعريفه او وصفه. وهو من المفاهيم القاعدية في الفكر الانساني، ولهذا اعتبره الفلاسفة اول المستقلات العقلية، اي المفاهيم الثابتة بذاتها والتي لا تحتاج الى دليل خارجي.


 والمستقلات العقلية معايير موضوعية مقدمة على كل فكرة أخرى بما فيها الدين والعرف والعلم والايديولوجيا والسياسة. فنحن نتخذ العدالة مقياسا لاثبات سلامة كل من هذه الافكار، لكننا لا نحتاج الى اي منها لاثبات الحاجة الى العدالة او سلامتها كمبدأ.
لا زال معظم الابحاث المتعلقة بالعدالة تتبع منهج ارسطو، الفيلسوف اليوناني، الذي قسم العدالة الى ثلاثة سياقات: 
العدالة الجزائية «اي معاقبة المعتدي» والعدالة التصحيحية «اي تعويض المجني عليه عما لحق به بسبب العدوان» والعدالة التوزيعية «اي توزيع المنافع والاعباء بين افراد المجتمع على نحو منصف». وقد اجتذب القسم الاخير الجانب الاكبر من النقاشات في الفلسفة السياسية في العصور الحديثة. وتبعا لهذا تحول مفهوم التوزيع العادل للموارد الى موضوع مستقل بذاته، يحمل عنوان "العدالة الاجتماعية".

طريقة تأمين العدالة الاجتماعية هي الفارق الرئيسي بين الايديولوجيات وانظمة الحكم الرئيسية في العالم المعاصر. نظرية السوق الحرة التي تدعو اليها الليبرالية، مثل نظرية التخطيط المركزي التي تدعو اليها الاشتراكية، هي وسائل مختلفة يراها اصحابها اقدر على تحقيق العدالة الاجتماعية.

يميل كثير من الفلاسفة المعاصرين الى نظرية ديفيد ميلر الذي ادعى ان مفهوم العدالة مستقل على المستوى التجريدي، لكنه نسبي على مستوى التطبيق. وهو يرى ان في العالم ثلاثة انواع من الانظمة الاجتماعية، لكل منها مفهوم خاص للعدالة: المجتمع البدائي، والمجتمع الطبقي، ومجتمع السوق الحرة. وتبعا لايمانه بالنظام الاخير، فهو يعتقد ان آليات التبادل الحر للسلع والخدمات هي الوسيلة الامثل لتوزيع الثروة والنفوذ وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية.

واجتذبت هذه النظرية اهتمام الباحثين لانها تربط بين العدالة وتساوي الفرص. وفي الوقت الحاضر ثمة فلاسفة يدعون ان دور الحكومة يتمحور في ضمان تساوي الفرص لجميع الناس. وانعكس هذا الاتجاه بشكل عميق على الفكر السياسي والدراسات المتعلقة بالدولة والتنمية والديمقراطية. ولعل كثيرا من القراء يعلمون ان التعريف الاكثر رواجا للتنمية هو ذلك الذي تبناه برنامج الامم المتحدة للتنمية البشرية، والذي ينص على ان الحكومات مسؤولة عن توفير البيئة المناسبة لضمان المساواة في الفرص لجميع المواطنين من خلال زيادة الخيارات المتاحة لهم.

 وطبقا للشروحات التي اعتمدها البرنامج في ادبياته، فان تساوي الفرص يقتضي جملة من التمهيدات الضرورية من بينها اخضاع جميع المواطنين لقانون عام واحد، من دون تمييز لاشخاص او مجموعات. ومن بينها تمكين المواطنين جميعا من الاعتراض والشكوى لمحكمة مستقلة اذا تعرضوا لتمييز على اي مستوى. ويدعو البرنامج الى معالجة العوائق التي تحول دون تحقق المساواة في الفرص، مثل عدم قدرتهم على الوصول الى مصادر المعلومات ومصادر التمويل الضرورية للمنافسة المتكافئة.

ومن بين الموضوعات الاكثر اثارة للجدل اليوم هو الثمن المعادل للفرصة. ففي كل مجتمع ثمة اشخاص يحصلون على فرص اكثر من غيرهم، ربما بسبب كفاءتهم الشخصية او بسبب علاقاتهم او مواقعهم الاجتماعية. التجار المقربون من الحكومة مثلا يحصلون على فرص اكثر من غيرهم، ورجال الدولة انفسهم اكثر معرفة بالفرص والموارد المتاحة للتوزيع واكثر قدرة على اختيار الافضل من بينها. على صعيد آخر فان الاثرياء اكثر استهلاكا للموارد المشتركة كمثل على هذا فان الذين يملكون السيارات يستهلكون الطرق المبنية باموال عامة يشترك فيها من يملك ومن لا يملك، والمقاولون يستهلكون الموارد البيئية «في الحقيقة يدمرون البيئة» التي يشترك في ملكيتها جميع الناس.. الخ.

فهل يتوجب على هؤلاء ان يدفعوا ثمن المنافع الاضافية التي يختصون بها دون غيرهم؟. بعبارة اخرى فان جميع الناس شركاء في المال العام الذي بني به الشارع مثلا، لكن بعض هؤلاء لا يملك سيارة ولا يستعمل هذا الطريق، وبعضهم الاخر يملك عشرات السيارات التي تستهلك الطريق اكثر من غيرها، فهل يتحمل هؤلاء نفس العبء المالي المقابل لاستهلاكهم؟. هل من العدل ان نبني باموال الفقير شارعا يستمتع به الغني؟.

مثل هذا السؤال كان مبررا لاتجاه دول كثيرة الى فرض ضرائب على الدخل، غرضها اعادة توزيع الموارد المالية بين جميع المواطنين، فالذي يملك اكثر يستهلك اكثر، والذي يستهلك اكثر يدفع ضرائب اكثر. ويبدو هذا المبدأ جذابا للوهلة الاولى، رغم انه لا يخلو من اشكالات. لكن المسالة الاكثر حيوية هي توفر الفرص المتساوية على جميع الاصعدة لجميع المواطنين. يجب القول مبدئيا ان اي بلد في العالم لا يوفر – حاليا على الاقل – فرصا متساوية تماما لجميع مواطنيه.

 لكن الحكومات تتفاوت من حيث عزمها على السير في هذا الاتجاه. ان اي حكومة لا تعتبر عادلة ما لم يكن لديها استراتيجية واضحة وعملية لزيادة الفرص المتاحة للجميع. استراتيجية تحدد اسباب التمايز والتمييز والطرق المناسبة والممكنة للقضاء عليه.

18/04/2007

لا بديل عن اللامركزية



في ماضي الزمان كانت عاصمة البلد هي حقيقة البلد وجوهرها، اما بقية البلد فهي ملحقات بالعاصمة. الميل الى التمركز، على المستويين القانوني والسياسي، هو سمة ثابتة لجميع الحكومات الحديثة. وربما كان ضرورة لمعالجة الاشكال الناتج عن التاثير السلبي للاتساع الجغرافي على وحدة القانون. وبالنسبة للدول حديثة التاسيس، فقد كان ضعف الجهاز الاداري وحداثة عهده سببا اضافيا لتركيز السلطات والصلاحيات في الحلقات العليا من الادارة.

لهذه الاسباب فضل المعنيون ارجاع كل امر صغير او كبيرالى مسؤول في العاصمة، يملك صلاحيات استثنائية او يعتبر مفوضا في تفسير بنود القانون وربما تجاوزها في بعض الاحيان. لكن يبدو ان هذه الحاجة المرتبطة بظرف خاص قد تحولت الى عادة جارية حتى بعد زوال ذلك الظرف.

 وهذا شأن التقاليد والاعراف الاجتماعية التي تقوم تبعا لحاجة محددة او ظرف مؤقت، لكنها تتحول من ثم الى قيد على جميع الناس في مستقبل الايام كما في حاضرها بغض النظر عن الدواعي والضرورات التي اوجبتها. منذ اوائل الثمانينات اتجه العالم بمجمله تقريبا الى التخلي عن النظام المركزي في الادارة، بعدما اكتشف انها لم تعد عونا للدولة بل عبء عليها. كان المحرك المباشر لهذا الاتجاه هو التطور الهائل في انظمة الاتصال.

 لكن قبل ذلك كانت مبررات التحول في طور تكاثف وتكامل. اكتشف المهتمون بالكفاءة الادارية مثلا ان الادارة المركزية قد حولت جيوش الموظفين الى آلات تفتقر للابداع والمبادرة والتفاعل، فهي لا تعمل الا اذا تلقت الاوامر من فوق. وبالعكس من ذلك فان توزيع الصلاحيات في مختلف المراتب وربطها بالمسؤولية والمحاسبة قد ادى الى تقليل الفاقد وتيسير الاعمال وبالتالي رضا الجمهور. 

واكتشف المهتمون بالتنمية السياسية ان المركزية الادارية قد جعلت النظام السياسي اسيرا للبيروقراطية، فبدلا من ان يستخدمها في تعزيز علاقته مع الجمهور، فانها تحولت الى عازل بين المجتمع والدولة يعيق اي تواصل وتفاعل. واكتشف المهتمون بالقانون ان جيوش البيروقراطيين المجردين من الصلاحيات والمتحررين في الوقت نفسه من المسؤولية، قد حولت القانون الى حروف بلا روح ولا مضمون، فهم يطبقون ما يرونه على الورق ويبالغون في العناية بالجوانب الشكلية كما لو ان النصوص القانونية هي الغرض النهائي للدولة، بدل ان تكون وسائل لارشاد القائمين على تطبيق القانون وتعيين الاطار الذي ينبغي لهم ان يعملوا ضمنه.

 اما الطامة الكبرى فقد وجدها المهتمون بالانماء الاقتصادي، فكل معاملة تدور بين المكاتب اسابيع وربما شهورا قبل ان تصل الى غايتها، ويضيع معها الكثير من الزمن والجهد، وكلها في حساب الاقتصاد رأس مال، مستثمر او مضيع. كان صدور نظام المناطق قبل عقد ونصف من الزمن اعلانا بان المملكة تتجه الى نظام قائم على اللامركزية الادارية، ولهذا عد واحدا من ابرز خطوات الاصلاح.

 لكن لسبب ما فان هذا النظام البالغ الاهمية ما زال اقرب الى اطار نظري منه الى استراتيجية قيد التطبيق. مازلنا حتى اليوم بحاجة الى الذهاب الى العاصمة لمتابعة ابتعاث طالب جامعي، او معادلة شهادة متوسطة، او الموافقة على تسجيل طالب ابتدائية في مدرسة اجنبية، او اثبات الدخول في احد المنافذ الحدودية، او تثبيت التعيين في وظيفة، او تصحيح خطأ في معاملة لاستقدام عامل اجنبي، او تغيير اسم طفل، او رصد بضعة الاف ريال لصيانة طريق، او الموافقة على انشاء مركز صحي او مكتبة في قرية، او تمييز حكم لأحد القضاة، او الموافقة على مخطط سكني.. ومئات من الامثلة الاخرى التي يعرفها – ويعاني منها – مئات الالاف من الناس. كان المقدر ان تطبيق نظام المناطق سوف ينقل جانبا كبيرا من هذه الاعمال من العاصمة الى مناطق المملكة المختلفة، ولو حصل هذا، فلا شك انه سيخفف عن كاهل الادارة المركزية جبالا من الاعباء وسيتيح لها الفرصة كي تنشغل بالامور الاكثر الحاحا مثل وضع الاستراتيجيات المستقبلية وتطوير العمل القائم ومراقبة الاداء والبحث عن الثغرات القانونية والادارية التي تؤذي المواطنين.. الخ.

 تحقيق اللامركزية الادارية يتطلب استراتيجية ذات مسارين :

 اولهما : اعادة صياغة نظام العمل الحكومي بحيث تفوض الادارات المحلية في المناطق جميع الصلاحيات المتعلقة بادارة المنطقة واعمالها، بحيث لا يرجع الى العاصمة الا في أمر يتعلق مباشرة بسيادة الدولة (مثل موضوعات الامن العام والدفاع)، أو امر يخضع لاستراتيجية وطنية شاملة (مثل مشروعات الانماء الشامل والخطط العامة للتعليم.. الخ) او أمر يتعلق بمناطق متعددة (مثل خطوط المواصلات التي تربط بين المناطق).

اما العمود الثاني فهو اعادة النظر في التعليمات والتعميمات التي تفرض على المتعاملين مع الدوائر الحكومية اجراءات غير ضرورية، مثل المراجعة الشخصية المتكررة. هناك دائما بدائل مناسبة، جربت هنا وجربت في بقاع اخرى من العالم وثبت انها آمنة تماما فوق ما توفره من جهود وأموال، والاهم من ذلك كله رضا الجمهور الذي هو الراسمال الاكبر لأي نظام سياسي. لا بديل عن اللامركزية الادارية اذا اردنا بناء بلدنا على نحو يجاري التطور السريع في عالم اليوم، ولكي لا ننطلق من فراغ، فان نظام المناطق هو نقطة انطلاق مناسبة، ونحن بحاجة الى وضعه على مائدة النقاش ثم تطبيق مفاده.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070418/Con20070418104323.htm(

11/04/2007

عيوب المركزية الادارية كما تظهر في الطرق



أيام القمة العربية كانت فرصة لسكان الرياض كي يكتشفوا واحدا من عيوب المركزية الادارية. لاربعة ايام كان الجو شديد الهدوء والهواء نظيفا. وتحول معظم السائقين فجأة الى اناس مسالمين لا يسابقون ولا يغضبون ولا يطلقون زمامير سياراتهم على اعنتها، ولا يواصلون كبس الضوء العالي كي يجبروا من امامهم على اخلاء الطريق الممتلئ اصلا. وكان في وسع الناس ان يصلوا الى مقاصدهم في دقائق، مقابل ساعة او نحوها في الايام السابقة.

 في هذه الايام نفسها اكتشف سكان المنطقة الشرقية واحدا من فضائل اللامركزية، فكثير من سكان الرياض الذين حصلوا على اجازة خلال ايام القمة جاؤوا الى الشرقية كي يتبضعوا او يستمتعوا بربيعها الجميل، فشهدت المطاعم والفنادق والاسواق ازدهارا استثنائيا، واستمتع الناس باوقات سعيدة مع عائلاتهم واطفالهم. لا يمكن بطبيعة الحال عقد قمة عربية كل اسبوع كي يواصل الناس استمتاعهم بما يحصل على حاشيتها.
لكن المؤكد ان كثيرا من سكان الرياض ومثلهم من سكان الشرقية قد تساءلوا: اليس من الافضل توزيع الثقل السكاني بين مناطق المملكة بدل تركيزه في المدن الكبرى؟. قبل قرون كتب عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته المشهورة ان العمران يتطلب زيادة السكان وكلما زاد سكان بلد زادت الصنائع فيه وتوفرت اسباب المعيشة. وهذا ما يسمى في ادبيات التنمية اليوم بالتحضير حيث يعتبر نمط المعيشة المديني ضرورة لقيام اقتصاد حديث.

 في هذا السياق فان ابرز الفوارق بين المدينة والقرية هو الحجم السكاني الذي تجعل اقامة الخدمات العامة والنشاط الاقتصادي بشكل عام مجديا وجذابا، وهو ما لا يتوفر في القرى قليلة السكان. ولو قدر لابن خلدون ان يرى حال المدن المزدحمة اليوم فلربما غير رأيه، او وضع – على اقل التقادير- حدا اعلى لزيادة السكان في المدن كما فعل اقتصاديون وعلماء اجتماع معاصرون. لا شك ان ضآلة عدد سكان القرية تجعل اقتصادها هشا ومحدودا، كما ان ضخامة مجتمع المدينة يجعل اقتصادها نشطا ومتنوعا.

 لكن ثمة معادلة حرجة هي اشبه بمسار ينتهي عند نقطة محددة. قبل هذه النقطة يكون الحجم السكاني الكبير مثاليا للاقتصاد، ولكنه يتحول من بعدها الى عقبة ومصدر لانواع من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والامنية وغيرها. ربما لا يحسب كثير من الناس القيمة المادية وغير المادية للوقت الذي ينفقونه في الطريق الى اعمالهم. اذا كنت من سكان الرياض او جدة فالمقدر انك تضيع ساعة ونصف الساعة يوميا تقريبا بسبب الزحام.

هذا الوقت الذي يبدو قصيرا، يعادل عشرة بالمائة من الوقت المفيد للعمل (16 ساعة في اليوم). وتقاس الخسارة الاجمالية بضرب مجموع عدد الاشخاص الذي يحصدون هذه الخسارة في متوسط قيمة ساعة العمل. واظن ان حسابا من هذا النوع سيكشف عن خسائر سنويا بمئات الملايين. لكن هذه ليست الخسارة الوحيدة، اذ يضاف اليه استهلاك السيارة نفسها واستهلاك الوقود، وهي نفقات غير مرئية لكنها حقيقية.

ويضاف اليه ايضا التدمير المنتظم للبيئة بسبب الكميات الهائلة من الكربون والملوثات التي تقذفها محركات السيارات في الهواء. كما يضاف اليه الخسائر على المستوى الشخصي، فالشوارع المزدحمة هي الاماكن الطبيعية للتوتر النفسي والقلق الذي يؤدي مع التكرار الى تدهور في الصحة البدنية والجسمية. اذا تركنا الطرق وازدحامها، ونظرنا الى المسألة من زاوية التخطيط الحضري، فان التزايد العشوائي للسكان يثمر عن ضغط شديد على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والخدمات البلدية وغيرها، وهذا يؤدي بالتأكيد الى انخفاض كفاءتها او انخفاض مستوى الخدمة المقدمة.

 في الحقيقة فان هذه المشكلة جعلت مؤسسات الخدمة العامة في كثير من البلدان عاجزة عن القيام بواجباتها، وكان الحل الوحيد هو ترك الناس يدبرون انفسهم. من يريد العيش في مدينة كبيرة فعليه ان يتحمل نفقات علاجه وتعليم ابنائه واحيانا تفريغ برميل الزبالة امام بيته وهكذا. صحيح ان زيادة السكان تؤدي الى نشاط اقتصادي اضافي، لكنها - اذا تجاوزت حدا معينا - فسوف تعود الى استلاب الفوائد من خلال المسارات التي اشرنا اليها.

 المدينة المزدحمة اشبه برجل يسرف في الاكل كي يستمتع بماله، لكنه يعود فينفق جزءاً اكبر على معالجة الامراض الناتجة عن التخمة والاسراف. الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في تطبيق اللامركزية الادارية. معظم الازدحام ناشئ عن تمركز اوعية التوظيف الاساسية (الدوائر الحكومية والشركات الكبرى) في العاصمة، من دون ضرورة سوى ان العادة قد جرت على هذا النحو. اللامركزية تعني نقل الكثير من الادارات من العاصمة، واهم من ذلك تهيئة السبل القانونية كي يستغني الناس عن الذهاب الى العاصمة لانجاز كل عمل صغيرا كان او كبيرا.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070411/Con20070411102590.htm

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...