||مبدأ الحرية ، رغم وضوح مفهومه وتعدد
تطبيقاته في القرآن الكريم ، لم ينل حظا من الاهتمام بين مفسري القرآن واهل العلم
الشرعي ، القدامى والمحدثين||
للوهلة الأولى يتخيل الناس ان القمع
المباشر هو الناقض الوحيد للحرية. بعبارة اخرى ، فانت تفقد حريتك حين يتسلط عليك
من هو اقوى منك ، فيحرمك من فعل ما تريد. هذا يشبه تماما ان يدفعك احدهم الى داخل
غرفة ، ثم يقفل الباب عليك.
لاشك ان هذا المثال تجسيد واضح لنقض
الحرية. بل ربما يكون المعنى الأول الذي يتبادر للذهن. لأن المعاناة النفسية او
الذهنية التي يختبرها الانسان ، تترجم على
شكل شعور بالاذلال او المهانة من جهة ، والمسكنة أو التصاغر من جهة ثانية.
في مثل هذه الحالة ، يصعب القطع بالعنصر الاكثر
تأثيرا في نفس الانسان: هل هو فقدانه لحريته ، ام هو شعوره بالمهانة ام بالصغار.
ونعلم ان كلا من هذه الحالات مختلف عن الآخر ، في طبيعته ومخرجاته.
أردت بالشرح السابق الاجابة عن سؤال:
لماذا لا يشعر معظم الناس بافتقارهم للحرية ، الا حين يواجهون قهرا ماديا ، او عنفا
صريحا (مثل الاسر او الحصر). ومحور مجادلتي هي ان شعور الفرد في مثل هذا الحال ، مركز على الاذلال او المسكنة ، وليس
فقدان الحرية. لكنه يقرنه بتجسيد مادي يتمثل في حالة الاسر ، التي تساوي انعدام
الحرية.
يميل البشر بطبعهم الى تصور المعاني
المجردة او المشاعر الداخلية ، في اشكال مادية ، يظنونها مطابقة لما في نفوسهم. لأن
الاحتفاظ بالمعاني والمشاعر في حالة التجريد المطلق ، يحتاج لطاقة ذهنية وروحية
كبيرة جدا ، لا يطيقها غالبية الناس.
-
ما
هي اهمية هذا الكلام ، وما الفائدة منه؟
لقد حاولت – مثل غيري – استنباط مفهوم
للحرية من تراثنا الاسلامي ، قابل للمقارنة بنظيره المتعارف في الفلسفة السياسية
المعاصرة. فما وجدت تصويرا واضحا للفكرة ، سوى ما ينصرف الى معنيين: معنى
الأسر/السجن ، ومعنى الرق/العبودية.
وبدا لي ان مبدأ الحرية ، رغم وضوح مفهومه
وتعدد تطبيقاته في القرآن الكريم ، لم ينل حظا من الاهتمام بين مفسري القرآن واهل
العلم الشرعي ، القدامى والمحدثين. ولهذا السبب ربما ، لم يتحول الى مبدأ راسخ في
ثقافتنا العامة ، لا سيما الجزء الموروث منها ، وهو الاعظم والاكثر تاثيرا.
لتوضيح المسألة سوف أضرب مثالا بواحد من
المعاني ، التي ينصرف اليها مفهوم الحرية في الفلسفة الحديثة. وهو الحرية في معنى
تعدد الخيارات المتاحة امام الانسان.
الفقه هو ابرز علوم الشريعة ، ليس فقط من
حيث عدد المشتغلين به في الوسط الديني ، بل ايضا لأنه الاكثر التصاقا بحياة الناس
اليومية. ولهذا فليس مستغربا ان تجد الفهم الفقهي للدين ، هو السائد في مجامع
العلم الشرعي وبين عامة الناس على حد سواء. وهذا ما يجعله النموذج الثابت للمقارنة
بين الاسلام والاديان الاخرى ، او بينه وبين القانون الوضعي.
حيثما بحثت في علم الفقه ستجد ان مفهوم
الحرية مفقود او منتقص. لا يعترف الفقه بالتنوع الديني والاجتماعي ، ولا يعترف بحق
الاختيار ، كما لا يقر بحرية الاعتقاد والتعبير. ولهذا تجد ان النخبة الدينية ، تنكر
دون تحفظ ، مشروعية الافهام والتفسيرات والاجتهادات الجديدة للنص الديني. لأنها تتعارض مع مايرونه صورة وحيدة للحق.
بعبارة اخرى فان الملتزمين بتقاليد المدرسة الفقهية ينكرون الحرية في الجوهر. لكنهم
لايرون هذا الانكار معارضا لروح الدين والقيم العليا. لأن مفهوم الحرية السائد
بينهم ، لايساوي تعدد الخيارات. ولان نقض الحرية المتعارف عندهم ينصرف الى صورة
وحيدة هي الاذلال والقهر المادي.
الشرق الاوسط الأربعاء - 24 جمادى الأولى 1440 هـ - 30 يناير 2019 مـ
رقم العدد [14673]
https://aawsat.com/node/1567676/