يجسد صعود الرئيس رفيق بهاء الدين الحريري مثالا على
التغير الذي شهده المجتمع العربي خلال الربع الأخير من القرن المنصرم. الرجل الذي
بدأ حياته معلما في مدرسة, تحول في اقل من عشرين عاما الى زعيم سياسي يتجاوز قوة
ونفوذا جميع العائلات السياسية العريقة التي عرفها لبنان.
نجاح هذا الرجل هو مثال
على الفارق بين ثلاث شرائح من الاثرياء : شريحة دخلت الى عالم المال من بوابة
السياسة, فاستثمرت نفوذها السياسي كي تجمع المال, وشريحة دخلت الى عالم السياسة من
بوابة المال, اي استثمرت مالها كي تشتري المجد.
اما الشريحة الغالبة من الاثرياء
العرب, فهم الذين دخلوا الى عالم المال فلم يخرجوا منه ابدا, بل لقد تحولت ثروتهم
الى قيد على السنتهم وايديهم. بدل ان يستخدموا هذه الثروة كي يصبحوا عظماء يشار
اليهم بالبنان, فقد رضوا بان يبقوا حراسا على الخزائن خوف ان تفرغ او تنقص, وهم
لهذا راضون بالبقاء في ظل هذا او ذاك من الاقوياء واصحاب السلطان.
تجربة الحريري تؤكد ان
الشريحة الوسطى لا تنقصها الفرص اذا بحثت عنها. وان الانسان لا يفتقر اذا اعطى
الكثير من المال, بل هو يزداد في هذا المكان او ذاك. عطاء الحريري لم يكن من نوع
الصدقات الصغيرة التي يدفعها الاثرياء كي لا يعاتبوا, بل من نوع الاعمال التأسيسية
التي تتزاوج فيها المغامرة مع الرؤية, والشجاعة مع سعة الخيال, والسخاء مع الحساب
العقلاني .
في منتصف الثمانينات, حينما كان لبنان يشتعل في حربه الاهلية, التقيت في
الولايات المتحدة الامريكية بعدد من الطلبة اللبنانيين الذين اخبروني انهم يدرسون
على حساب الحريري, وقيل لي ان عددهم يتجاوز بضعة الاف, وعلمت لاحقا ان هذا المشروع
قد ضم في مختلف مراحله ما يصل الى ثلاثين الف طالب جامعي. ولا ادري كم دفع الحريري
في ذلك المشروع لكن الرقم يدور قطعا حول مئات الملايين من الدولارات.
تجربة اعادة بناء الوسط
التجاري لمدينة بيروت هو مثال آخر على امتزاج المغامرة بالرؤية, فلولا مساهمته
الأولى بنحو ربع رأس مال الشركة التي تولت هذه المهمة الكبرى لما اقدم غيره عليها.
ان رجلا يضع ربع مليار دولار في مدينة مهدمة تحتوشها الحرب والخراب والنزاعات
والتدخلات الاجنبية ليس مجرد تاجر يسعى وراء الثروة بل صاحب رؤية لا ينقصه الحساب.
صعود الحريري أدى عمليا الى
تهميش معظم النخبة المسلمة التقليدية التي اعتاد أبناؤها على أن يكبروا كي يرثوا
مناصب آبائهم في الدولة اللبنانية. ليس لان هؤلاء يفتقرون الى الخبرة السياسية
والقدرة على اعادة صياغة التحالفات, بل لان المجتمع اللبناني تغير ولأن الزمن
تغير. لبنان ما بعد الحرب الأهلية هو مجتمع الطبقة الوسطى التي استوعبت العالم الجديد
وضروراته.
كان الحريري علامة على زمنه.
في كل بلد عربي هناك مغامرون وسياسيون ناجحون وفاشلون وأصحاب رؤية ورجال اسخياء
واثرياء بخلاء. كل واحد من هؤلاء قادر على أن يصنع مجداً لنفسه, ويحول اسمه من
مجرد رقم على جواز السفر أو تكملة لعنوان شركة تجارية الى علامة على زمن باكمله.
لكن بلوغ هذه المكانة يحتاج الى ما هو أكثر من الرغبة وما هو اكثر من الذكاء. انه
يحتاج ببساطة الى ربط بين العناصر المكونة للمجد, وابرزها القدرة على السخاء
بالكثير والقدرة على توجيه هذا السخاء في المجالات التي تؤدي فعلاً إلى إعادة بناء
المجتمعات.
لا أظن أن أحدا انفق على تعليم الشباب اللبناني من ماله الخاص قدر ما
انفق الحريري, و لا اظن احدا ساعد على توفير فرص العمل والاثراء لعامة الناس مثلما
فعل الحريري ترى كم من الاثرياء والسياسيين الطامحين يقدر على تكريس جانب من ماله
وجهده لمثل هذين الجانبين.
الذي يملك عشرة ملايين (وهناك الكثيرون ممن يملكون هذا
القدر) لا يضيره أن يدفع نصفها لمساعدة الشباب في بناء حياتهم من خلال التعليم او
- بصورة عامة - الاستثمار في البنية التحتية للمجتمع. لكن كثيرا من الذين يملكون
هذا القدر ينظرون الى انفسهم كحراس على هذا المال, حراس يقتصر دورهم على نقله الى
ورثتهم من بعدهم, كما تفعل الشركات الأمنية التي تنقل المال بين البنوك. من يملك
عشرة ملايين يستطيع العيش في رفاهية بنصفها أو ربعها, لكن كم من الناس يريد تغيير
وظيفته من حارس للمال الى زعيم يبكيه الملايين حينما يموت?.
« صحيفة عكاظ » -
19/02/2005م -