تحدثت يوما الى رئيس بلدية ، في موضوع أظنه معروفا لمعظم القراء الأعزاء ، وهو "تفريغ الميزانية" الذي وجدته متعارفا في العديد من دول العالم ايضا. فحوى هذه الفكرة ان وزارة المالية تمنح رصيدا ماليا محددا للخدمات البلدية لكل مدينة. ويجب ان يصرف الرصيد بكامله قبل نهاية السنة. فاذا تبقى جزء منه ، فسوف تخفض ميزانية البلدية للسنة التالية ، بنفس المقدار. ويقال عادة ان البلدية التي لا تستطيع صرف ميزانيتها ، قليلة الكفاءة او قليلة العمل. ولهذا السبب يحرص رؤساء البلديات على "تصفير" حساباتهم قبل دخول العام الجديد ، أي جعل المصروف الفعلي مساويا للدخل الفعلي ، خلال العام الجاري.
كنت قد لاحظت في الربع
الأخير من العام ، ان معدات المقاولين احتلت شوارع رئيسية ، وبدأت في جرف الاسفلت
وفرش اسفلت جديد ، مع ان القديم لم يكن سيئا جدا. قلت لرئيس البلدية انه كان
الاجدر توجيه اعمال الصيانة هذه الى شوارع القرى والاحياء المحيطة بالمدينة والطرق
الزراعية ، التي لم تحصل على صيانة منذ سنوات. فأجابني بأن الشارع الرئيسي الذي
ذكرته ، يخدم مليوني شخص سنويا ، اما طرق القرى فلا تخدم سوى بضعة آلاف. أي ان
قيمة الناتج هناك ستكون اكبر قياسا الى نفس المبلغ من المال.
قلت هذه القصة لصديق
متخصص في التخطيط العمراني ، فأجابني مؤيدا رأي رئيس البلدية ، لنفس السبب. وكنت
يومذاك أتبنى فكرة التوزيع المتوازن للخدمات العامة ، لتقليل النزيف الديمغرافي من
الريف نحو المدينة. وكتبت حول اللامركزية الإدارية ، انطلاقا من ضرورة الحفاظ على
التوازن السكاني ، ومن ثم التوازن الاقتصادي.
لكني انتبهت حديثا الى أن
أكثر المخططين والمدراء ، متأثرون بالرؤية المبنية على معادلة الكلفة-العائد cost-benefit analysis وهي المعادلة التي بنيت عليها الفلسفة النفعية ،
وقد أشرت اليها في مقالات سابقة.
جواب رئيس البلدية
السابق الذكر ، ترجمة دقيقة للنظرية النفعية ، التي تقول بأن الفعل الصحيح هو
الفعل المؤدي الى أكبر منفعة لأكبر عدد من الأشخاص. فاذا كان المليون ريال هنا
سيخدم مليون شخص ، بينما يخدم في القرية عشرة آلاف شخص ، فان صرفه في المدينة هو
الفعل الخير والصحيح.
أظن
ان كثيرا من الناس سيتبنى نفس الرؤية ، لأنها تبدو عقلانية تماما. لكني لا أراها كذلك
، للسبب الذي اشرت اليه ، أي ضرورة التوزيع المتوازن للخدمات العامة. ومبرر هذا لا
يخفى على اللبيب. وتكشف تجربة الدول النامية جميعا ، وبينها الدول العربية ، عن
المعضلة الكبرى التي اثمر عنها تركيز الخدمات العامة في المدن ، والتقييم المالي
(معادلة الكلفة – العائد) لهذه الخدمات. فخلال نصف القرن الأخير هجر الملايين من
سكان الريف قراهم ، وأقاموا في أحياء
غير منظمة غالبا في حواشي المدن الكبرى. ونعلم ان العديد من العواصم العربية
تعاني من العبء الشديد للتوسع الفوضوي الذي ترتب على ذلك. قد رأيت هذا الحال في
بغداد ودمشق والقاهرة والجزائر.
التوسع
الفوضوي للمدن الكبرى يزيد الأعباء الاقتصادية على البلد ، لأنه يقلص القاعدة
الإنتاجية ، ويهدم الأعراف الناظمة للعلاقات الاجتماعية ، والتي تلعب دور الواقي
من الانكسارات والانحراف السلوكي للافراد.
-
ما العمل اذن.. هل نضع
تفضيلات تحابي اعدادا قليلة من المواطنين ، على حساب الأكثرية؟.
اظن ان صياغة السؤال على هذا النحو ، مدخل للجواب
الخطأ. التوزيع المتوازن للخدمات العامة يؤدي الى نتائج تخدم شرائح كبيرة ، لكن
ضمن منظور مختلف ، مثل تقليل الكلف الصحية والوقاية من الجريمة والنزاعات
الاجتماعية ، فضلا عن تعزيز القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني. عدا هذه الفوائد
التي يمكن قياسها بالمال ، فثمة عنصر لا يقل أهمية ، ألا وهو تعزيز الانتماء
الوطني ، وإقامة العدالة الاجتماعية التي تعني – بالضرورة – تساوي الجميع في
التمتع بالفرص والإمكانات المتاحة في المجال العام.
هذا
ليس مجرد رأي في الفلسفة ، بل هو تأكيد على الصلة الوثيقة بين برامج العمل ، والقيم
الكبرى الناظمة لعلاقة المجتمع بالدولة.
الخميس - 29 جمادي الأول
1447 هـ - 20 نوفمبر 2025
https://aawsat.com/node/5210716

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق