26/12/2007

للخروج من حالة الاحتباس

  .

دعونا نجعل العام الجديد موسما ممتدا للثقافة والعلم. ليس لعقد المهرجانات والنشاطات الاحتفالية، بل لاطلاق الافكار الجديدة والتأكيد على المبادئ الكبرى للحياة الثقافية السليمة. 

د. محمد الرميحي
لو حسبنا مجموع النشاطات الثقافية التي شهدتها مدن المملكة على امتداد العام الجاري لبلغت عدة مئات. تميز بعض هذه النشاطات بملامسة عميقة لقضايا جوهرية في الثقافة والمجتمع. وتظهر حسبة غير كاملة ان محافظة القطيف مثلا قد شهدت نحو ستين نشاطا تراوح بين محاضرة عامة وندوة نقاشية ومسرحية وفيلم قصير ومعرض للصور الفوتوغرافية والرسم والخط وما الى ذلك من التعبيرات الثقافية الجمعية. ولم نحسب ضمن العدد السابق النشاطات الفردية مثل اصدار الكتب، كما لم نحسب ضمنه النشاطات الثقافية الروتينية التي لا تنطوي على اضافات الى المشهد. شهد العديد من محافظات المملكة الاخرى نشاطات مماثلة، ربما اقل وربما اكثر. هذه النشاطات هي اجزاء منفصلة في حركة ثقافية كبيرة. وهي تشير الى سياق حياتي جديد عرفنا نظيرا له في منتصف الثمانينات، لكنه غاب تماما خلال العقدين الماضيين. جميع هذه المناشط او اغلبيتها الساحقة ولدت بمبادرات اهلية، استعان قليلها بأجهزة رسمية، وبقي معظمها اهليا من مبتدئه الى منتهاه.

يمكن للحراك الثقافي ان يشكل مخرجا فعالا من حالة احتباس اجتماعي يشكو منها كثير من الكتاب واصحاب الرأي. نشاطات العام الجاري تظهر ان حالة الركود التي شهدناها في الاعوام السابقة، لم تعد قائمة، او على الاقل، لم تعد ظاهرة عامة. نحن بعبارة اخرى لا نعاني من الركود الثقافي بل من الاحتباس. والاحتباس ليس حالة عدمية، بل هو تعبير عن وجود مقيد او محصور

ما نحتاجه اليوم هو اطلاق هذه الحالة من محابسها بتوفير الفرصة للنشاطات المحلية المتباعدة والمنفصلة كي تتواصل. وعندئذ فانها سوف تتحول من دفقات محلية محدودة الاثر الى روافد في نهر يكبر ويزداد غنى وتنوعا كلما تمدد. واظن ان اقرب السبل الى ذلك هو تغطيتها من جانب الاعلام الرسمي. صحيح ان قناة «الاخبارية» قد عرضت في بعض الاحيان نشاطات من ذلك النوع. لكن الصحيح ايضا ان ما جرى تغطيته ليس سوى قطرة في بحر من مجموع المناشط الفعلية. ومما يؤسف له ان الصحافة المحلية بقيت هي الاخرى بعيدة عن هذا، كما لو ان جميع اجهزة الاعلام متفقة على تجاهل تلك الاعمال المجيدة رغم ان تلك الاجهزة تنشر مقالات تجأر بالشكوى من ضيق الحياة الثقافية وقلة الحراك، وتتفنن احيانا في السخرية من المثقفين المتهمين بعدم الفاعلية والاعتزال في الابراج العاجية، وما الى ذلك من انواع التهريج السهل.

قبل سنوات نشر المفكر الكويتي د. محمد الرميحي كتابا بعنوان «الخليج ليس نفطا»، ركز فيه على جوانب النشاط الثقافي التي تشير الى نمو انساني يوازي النمو الاقتصادي. وكان غرض الرميحي هو دفع التشنيع عن الخليجيين بالانغماس الكامل في المال والسوق والرفاهية المادية، وانحدار قيمة العقل والتفكير والثقافة، وهي اعظم سمات الانسانية الطبيعية. وينبغي القول الان ان حراكا ثقافيا واسعا وعميقا، هو الرد الاقوى على ما نشهده احيانا من استصغار او ربما تجاهل من جانب الاخرين. لكن ثماره لا تقتصر على هذا، فهو ايضا اداة فعالة لعقلنة المطالب والمشكلات والقضايا الاشكالية وموارد الجدل، سواء على المستوى الاجتماعي المحلي او على المستوى الوطني. كما انه اداة فعالة لترسيخ روحية الحوار وبناء الشخصية المتعددة الابعاد. وبعبارة اخرى فانه اداة للقضاء على التعصب والغلو والاغتراب. زبدة القول ان التغطية الاعلامية للنشاطات الثقافية المحلية سوف تسهم في الكشف عن حركة ثقافية وطنية واسعة، وسوف يسهم في تحويلها من مستوياتها الاولية الى مستويات اوسع واكثر عمقا. واظن ان المسؤولية الاولى في هذا الجانب تقع على وزارة الثقافة والاعلام. فهي مطالبة بالخروج من القوقعة التي يسمونها النوادي الادبية وجمعيات الثقافة والفنون، والانفتاح على النشاط الاهلي الحر. ليس بتوجيهه ولا بالتحكم فيه ولا حتى بدعمه، بل فقط وفقط بتغطيته، فهذا كاف لتعويمه وتعميمه وتعميقه.

وللمثقفين الافراد دور هام في هذا السياق، لكن هذا موضوع آخر ربما نعود اليه لاحقا.

مقالات ذات صلة

29/11/2007

حول الهوية الجامعة والهويات الفرعية ومفهوم الوطن


مهرجانات "مزايين الابل" وما قيل فيها وعلى حواشيها اعادت احياء النقاش القديم/ الجديد حول التنوع الاجتماعي وعلاقته بالهوية الوطنية، فكتب الاستاذ عبد المحسن الماضي في "الجزيرة" حول العلاقة بين القبيلة والدولة، وكتب الاستاذ جبرين الجبرين حول المسألة ذاتها في "الوطن" وكتب عنها زميلنا الانيق العبارة احمد فقيهي في "عكاظ".
واتفق الجميع – وكتاب اخرون من قبل – على الحاجة الى احتواء الهويات الفرعية، ومنها القبلية في الاطار الاوسع للهوية الوطنية. وركز الاستاذ الماضي على اهمية دور الدولة في ردم الفجوات التي تفصل بين الاطياف الثقافية والجماعات التي يتشكل منها المجتمع، من خلال ترسيخ قيمة المواطنة المتساوية.
ولعل بعض القراء قد التفتوا الى الروح الجديدة التي تسود هذه المعالجات، مقارنة بتلك التي شهدناها حينما اثيرت المسألة ذاتها قبل عامين. اتسمت معالجات المرحلة الماضية بقدر ملحوظ من الضيق بالتعدد ورغبة مبطنة في التخلص منه او تهميشه، مع دعوة اخلاقية الى الاعتراف بالمختلف ومعاملته بالتي هي احسن.

اما كتابات اليوم فهي تنظر الى التعدد كتجسيد للحالة الطبيعية للمجتمع. وهي تتحدث صراحة عن هوية وطنية تحترم الهويات الفرعية، سواء كانت مناطقية او قبلية او طائفية، وتجمعها تحت سقف واحد يتسع للجميع ولا ينفي احدا.  كما انها – من ناحية اخرى – تقرر مسؤولية الدولة عن تعزيز الهوية الوطنية الواحدة كاطار جامع، خلافا لبعض ما كان يطرح قبل عامين، من تحميل المجتمع وحده مسؤولية التخلص من اعباء تاريخه.
هذه المعالجات المتطورة دليل على ان النقاش العلني للمسائل الوطنية العامة هو الطريق الى عقلنة الاراء وتعميقها والاقتراب من الجوهر، بدل التحويم حول الحقيقة او الاكتفاء بالاعتذار عن الاخطاء او تبرير القصور ثم الخروج بدعوات محض اخلاقية تعوم المسؤولية بين جميع الناس حتى لا يشك احد في احتمال كونه بين المعنيين او المسؤولين.
نحن بحاجة الى المزيد من النقاشات حول المسائل التي تشكل خلفية فلسفية او مفهومية للاجماع الوطني. ولعل اولى المسائل الجديرة بالنقاش هي وجوه العلاقة بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الجامعة. وقد سبق ان اقترحت في هذه الجريدة فكرة "شراكة التراب" كقاعدة مفهومية للبحث في تلك المسألة.
والفكرة باختصار هي ان كل مواطن شريك في كل ذرة من تراب الوطن، وان مجموع المواطنين مالكون لمجموع البلد ملكية اصلية غير قابلة للنزع او التنازل. واضيف على ما سبق ان تلك الملكية هي مصدر جميع الحقوق الثابتة لكل مواطن بمفرده ولمجموع المواطنين في مجموع الامور العامة. وهي ملكية سابقة لقيام القانون، وعندئذ فان القانون لا يوجدها بل يحميها وينظمها.
جدير بالذكر ان فقهاء المسلمين لم يتعرضوا لمفهوم الوطن في معناه الثقافي والقانوني الذي نعرفه اليوم، لكنهم ناقشوا الحقوق المرتبطة بالموارد العامة في بحوثهم حول الخراج بانواعه. والخراج هو التسمية القديمة للاملاك العامة، اي كل  ما لم يتملكه الناس بالعمران او الشراء او سواه من وسائل التملك.

ويشمل جميع المشتركات مثل الاراضي البائرة والبحر وما فيه، والثروات التي في باطن الارض، والغابات والجبال والانهر والمراعي.. الخ. وذهب كثير من الفقهاء الى ان هذه الموارد عائدة لمجموع المسلمين، لاجيالهم الحاضرة ومن ياتي بعدها، وان الحاكم الشرعي مكلف بادارتها والتصرف فيها نيابة عن مجموع اهل البلد ولمصلحتهم فقط، تصرفا يوصل اليهم جميعا اكبر قدر ممكن من المنفعة.

هذا التصوير، رغم سبقه لظهور فكرة الوطن، ولا سيما في صيغته الحديثة، هو نفسه الذي توصلت اليه الفلسفة السياسية الاوربية في القرن السابع عشر وما بعده، كما نراها في فكرة الكومنولث (وهي المعادل اللغوي لمفهوم الموارد المشتركة)، التي صاغها الفيلسوف الانكليزي جون لوك واصبحت قاعدة لمفهوم الوطن القومي الذي نعرفه اليوم.

اظن ان الانطلاق من هذه القاعدة في مناقشة العلاقة بين الاجزاء المكونة للمجتمع الوطني، وكذلك في مناقشة العلاقة بين المجتمع والدولة، سوف تسهم في تفكيك العديد من النقاط الاشكالية، ولا سيما في تحديد مكان الفرد باعتباره "مواطنا قائما بذاته" لا عضوا في قبيلة او طائفة او منطقة.

من ناحية اخرى فان المفهوم يحدد علاقة تفاعلية بين الوطن والمواطن. يحصل المواطن على حقوق معلومة مصدرها شراكته في ملكية، وفي المقابل فهو شريك في تحمل مسؤولية بلده، شريك في بنائه وادارته وحتى الموت من اجله.
اخيرا فانه يؤسس لفكرة المساواة القانونية، لا كدعوة اخلاقية محضة، بل ايضا كاداة عقلائية لتنظيم العلاقة بين المالكين على ارضية المعروف والانصاف.
 29 / 11 / 2007م  

مقالات ذات صلة

 

 انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

شراكة التراب وجدل المذاهب

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

وطن الكتب القديمة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

حول الهوية الجامعة والهويات الفرعية ومفهوم الوطن

حول الهوية الوطنية والهويات الفرعية وتعارضاتها

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...