13/02/1995

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري


في جميع الاقطار الاسلامية ينظر الناس الى رمضان ، باعتباره شهر التكافل والمواساة وصلة الرحم ، ويقوم المسلمون ، معظمهم على الاقل ، باداء واجب التواصل مع الغير ، الاقارب والمعارف ، او الضعفاء في المجتمع الذين لايجدون الى كريم العيش حيلة .
  
 وثمة في الاثر النبوي كثير من الروايات ، التي تحث على التكافل والتراحم ، ثم تشدد على القيام بهما في رمضان بصورة خاصة ، وبينت في موارد اخرى ان حكمة تشريع الصوم ، هي تذكير المسلم بحال الضعفاء ، الذين لايجدون قوت يومهم ، او لايجدون مايكفيهم من قوت اليوم .
وفي مثل هذا الشهر الكريم من كل عام تنهض الجمعيات الخيرية بدعوة المسلمين الى الاحسان ، واظهار المعاضدة لها والعون في اداء مهماتها النبيلة ، كما يبادر المحسنون من جانبهم الى الجود بما تستطيعه ايديهم ، من ولائم لافطار المعوزين ، او مساعدة للارامل والمقلين ، ممن يعلم الناس بحالهم ، أو ممن التزموا جانب العفاف فستروا حالهم على بؤسه ، الا على الذين يجتهدون في البحث عن اصحاب الحاجات ، حتى ليحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف .

 وفي بلادنا وكثير من بلدان المسلمين الاخرى ، شواهد على تصاعد الاحساس بالضعفاء في هذا الشهر ، تستعصي لكثرتها وتعددها على الحصر ، وهي تتدرج من الاحسان على المستوى الفردي الى العون العام ، الى تنظيم العون العام عبر جمعيات ومؤسسات متخصصة ، مثل الجمعيات الخيرية وهيئات الاغاثة ومنظمات الدعوة وغيرها .

 التكافل في التعليم
 ثمة انواع من التكافل لم تطرق في بلادنا الا نادرا ، وأحسب ان من المفيد تسليط الضوء على بعضها ، في هذا الشهر الكريم خاصة ، لعل احدا من القادرين او المهتمين يأنس في نفسه القدرة على القيام بأمرها ، وقد اخترتها بالنظر للظرف العام الذي تمر فيه البلاد ، وتطوراته المتوقعة في المستقبل المنظور .
  
من انواع التكافل المعنية ، تلك التي تستهدف توفير التعليم العالي ، الجامعي وفوق الجامعي للمؤهلين الذين لايجدون الفرصة في الجامعات الرسمية ، فمن بين آلاف الطلبة الذين ينهون المرحلة الثانوية كل عام ، لايجد غير قليل منهم سبيلا لمواصلة التعليم الجامعي ، اما بسبب قلة الفرص المتاحة في الجامعات ، والتي نتجت بدورها عن الصعوبات الاقتصادية ، وارتفاع تكاليف التوسع المطلوب ، لاستيعاب العدد المتزايد من خريجي الثانويات كل عام ، واما بسبب الصعوبات المعيشية ، التي يواجهها بعض هؤلاء الخريجين ، الذين يدعوهم الاملاق الى التخلي عن حلم الدراسة الجامعية ، والاتجاه الى سوق العمل ، ولما يزالون في مقتبل اعمارهم ، حيث الاستعداد للتعلم والارتقاء بالكفاءات الذاتية في ذروته .
  
الجامعة الخيرية
 وفي مطلع العام الدراسي الجاري ، عرض بعض رجال الاعمال مشروعا لتاسيس جامعتين اهليتين ، ويبدو ان الفكرة قد لقيت اصداء طيبة ، على المستوى الشعبي كما على المستوى الرسمي ، نظرا لشعور الجميع بحاجة البلاد الى مشاريع كهذا .

  لكن يبدو ان هذا المشروع ـ كما يبدو من الصورة التي عرضت في وسائل الاعلام ، يستهدف الربح ، فهو مشروع تجاري بالدرجة الاولى ، او انه ـ مع ملاحظة التحفظ ـ مشروع يستهدف الربح من خلال الخدمة العامة .
  
واذا اعتبرنا مشروع الجامعة الاهلية ، مماثلا من حيث خط العمل وظروفه للمشاريع المشابهة له ، وهي على وجه التخصيص المدارس الاهلية ، التي انتشرت اخيرا في المدن الرئيسية من المملكة ، فسنجد انه لايحقق التكافل الاجتماعي بالمعنى الدقيق ، فالانتماء الى المدارس الاهلية حكر على القادرين ماليا ، من المقيمين في المدن الكبرى او حواليها ، وهؤلاء اقل الناس حاجة الى معاضدة الاخرين .

  انما يحتاج الى المعاضدة والعون الفقراء ، واصحاب الدخول المحدودة ، فهؤلاء هم الذين يضطرون لترك الدراسة الجامعية تحت ضغط المعيشة ، وهؤلاء هم الذين يعجزون عن الاستفادة من جميع فرص التعليم الجامعي المتاحة في مختلف المناطق .
  
ولهذا فان مشروع التعليم الجامعي الخيري ، هو التجسيد الواقعي لفكرة التكافل الاجتماعي ، وليس الجامعة التجارية .
  
الوقف الخيري
 ان اقامة جامعة ليس بالعمل الهين او القليل التكاليف ، يخبرنا ممثل مشروع الجامعة الاهلية ، ان التكاليف المتوقعة ستكون في حدود المئة مليون ريال لجامعتين ، اي مايعادل نصف هذا المبلغ لكل واحدة على وجه التقريب ، وهو على اي حال مبلغ كبير .
  
 وفي حال الجامعة الخيرية فان المشروع لايتضمن تحميل الطلبة جميع تكاليفهم الدراسية كما هو الحال في الجامعة الاهلية ، لذلك فان الاعتماد على التبرعات غير المنتظمة قد يكون غير مجد ، بل ان تذبذب الاحوال الاقتصادية قد تصيب من المشروع مقتلا ، فالمعروف ان حجم المساعدات الخيرية يتأثر سلبا وايجابا بحركة السوق صعودا او هبوطا ، وفي مشروع كهذا فان ترك الامر للظروف المتغيرة والخارجة عن سيطرة القائمين عليه ، يمثل مغامرة غير محمودة بمستقبل المئات من الطلبة الذين يعلقون على مستقبلهم اجمل الامال.

ان السبيل الوحيد في تقديري لضمان اقامة المشروع وضمان استمراره على النحو الامثل ، يكمن في جعله معتمدا على وقف خاص به ، بكلمة اخرى فان العمل المنتظم يحتاج الى موارد منتظمة ، واظهر مصاديق هذه الموارد هي المشروعات الاستثمارية او الاصول ذات القيمة القابلة للاستثمار .
  
لقد انعم الله على بلادنا بخير كثير وانعم عليها مرة ثانية بهداية بعض ابنائها الى سبل الخير ، والمساعدة على اعمال الخير ، فلو ان بعضهم خصص حصة من اعماله او اصوله المالية كوقف لهذا المشروع الخيري ، لتحقق المطلوب .
  
ولان كل عمل كبير يحتاج الى رجال بحجمه ، في همتهم وكفاءتهم وعزمهم على مواجهة الصعاب ، فان تحقيق مشروع الجامعة الخيرية بحاجة الى رجال يتحلون بهذه الصفات ، لدراسته واستبيان فرص نجاحه ، ثم اقناع القادرين بتخصيص الاوقاف اللازمة له ، حتى يقوم .

 ان مساعدة الضعفاء في الارتقاء بمؤهلاتهم حتى يصبحوا قادرين على كفاية انفسهم واهليهم ، هي ابرز واجلى مصاديق التكافل الاجتماعي ، وليس من وسيلة لارتقاء المؤهلات اسرع واكمل من الاستزادة في العلم ، ثم ان فوائد هذا المشروع لاتقتصر على المستفيد المباشر ، بل تنعكس على الوطن باكمله ، لاسيما واننا احوج مانكون الى الاكفاء والخبراء واهل العلم .

 بعض من ثمن التقدم
 استمعت هذا الاسبوع الى محاضرة ممتعة ، حول العلاقة بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي ، واثار بعض المعقبين مسألة العلاقة بين النمو الاقتصادي والتحولات الاجتماعية الموازية ، وقد وجدت في النقاش الذي دار ، مجموعة قيمة من الافكار ، اود اشراك القراء في بعضها ، طمعا في تعميم الفائدة .
  
يقول المتحدث ان كل مجتمع يمر بتحولات كبرى ، كالتي مر بها المجتمع العربي ، خلال العقدين الماضيين ، فلابد له من دفع ثمن باهظ ، خلال مرحلة الانتقال الى صورته الجديدة ، الثمن المقصود طبعا هو اضطرار الناس للتخلي عن افكار ، او اساليب حياة أو انماط من العلاقات، كانت فيما مضى محل توافق ورضى .
  
على المستوى المادي البحت ، فثمة من يخسر وثمة من يربح ، خلال الفترة الانتقالية ، لكن المحصلة العامة ـ كما ظهر من تجارب معظم المجتمعات العربية ـ تعتبر في صالح الاكثرية ، ان لم نقل الجميع .

 حركة متواصلة
 قال احد المعقبين ان المجتمع ليس تشكيلا ساكنا ، وان التحول فيه هو عملية يومية لاتتحدد بزمن ، بكلمة اخرى فانه لاينبغي انتظار نهاية للتحولات الاجتماعية ، لان المجتمع لايتوقف عن التحرك وبالتالي التحول ، الا اذا توقف عن الحياة ، وعليه فان التحول الذي نتحدث عنه لايعتبر استثنائيا ، وان انعكاساته هي نموذج معتاد ومتعارف عليه للحياة الاجتماعية في اطوراها المختلفة .

 ولا اظن احدا يخالف هذا الراي من جانبة النظري ، لكنه ليس كذلك في ميدان الواقع ، فتعريف التحول يتفاوت تبعا لحجم تاثيراته ، ونوعية القوى المحركة له ، واخيرا بحسب المدى الزمني ، الذي يستغرقه احلال نمط جديد بدلا عن نمط سائد .

والذي يمكن قوله بهذا الصدد ، ان المجتمع يعيش التحول كل يوم ، لكن تمر عليه فترات يتسارع فيها التحول ، بحيث يقطع المراحل التي تحتاج الى زمن طويل عادة في فترة يسيرة ، ولهذا فان انعكاسات هذا التحول ، تتكثف خلال فترة قصيرة ، بحيث تبدو اكبر من طاقة المجتمع على هضمها واستيعابها ، اي تحييدها .

 وتكمن اهمية الزمن هنا ، في صعوبة استيعاب المتغيرات ، وقد لاحظ عدد من الباحثين ، ان المدن العربية الكبرى تشهد تبلور حالات اغتراب ثقافي ونفسي ، هي السبب في عدد كبير من الانحرافات السلوكية ، ان الاغتراب في جوهره تعبير عن عجز الانسان عن التآلف والانسجام مع ظرفه الاجتماعي ، بقيمه وانماط حياته ، وحدود المقبول والمرفوض من السلوك فيه ، ويحدث هذا عندما يفاجأ الانسان بتبدل محيطه الاجتماعي ، وانماط الحياة من حوله وتخلخل نظام العلاقات الاجتماعية .

وبوسعنا التاكد من صحة هذا الاستنتاج ، بالتامل في معاناة الاباء وكبار السن عموما ، الذين يتحسرون على سالف الزمن ، وعلى القيم التي سادت فيه ، ونمط الحياة الذي كان متعارفا عليه ، ان شعورهم بالاسف واحيانا اعتزالهم للحياة العامة ، هو التعبير الواقعي عن الصعوبة التي يواجهونها ، في استيعاب الصورة الجديدة للحياة ، بعد ان اعتادوا على نمط مغاير طيلة حياتهم او في معظمها .

انعكاسات مقلقة
 يؤثر التسارع في الحراك الاجتماعي على جميع الناس ، وهم بدورهم ـ اغلبهم على الأقل ـ يبذلون ما استطاعوا من جهد لزيادة فاعليتهم ونشاطهم في الاستجابة لتحدي التغيير .

 وهذا السباق بين الحراك الاجتماعي ومحاولات التكيف الفردي مع نتائجه ، ينعكس على صورة قلق خفي يتفاقم داخل الفرد ، فيجعله نهبا لمشاعر متناقضة ، من الثقة المفرطة بالذات ، الى الخوف على المستقبل ، ومن اتساع افاق النجاح ، الى خوف ضياع الفرص .
  
يترافق هذا القلق مع تراخي النظام القديم للمجتمع وذهاب فاعليته ، ومنها قدرته على الضبط ، فينتج عن هذا وذاك ، تراخي اهمية الروابط المشتركة بين الفرد ومحيطه ، ومنها قيمة المصلحة العامة والنظام العام ، وهذه هي النقطة التي تبدأ عندها محاولات التحايل على القانون ، او الاستئثار بما هو مشترك مع الغير .
  
وتجابه الحكومات هذا التطور بالاكثار من القوانين والتعليمات التي تاتي ـ بسبب ظروف التسارع المشار اليها ـ مرتجلة ، لانها هي الاخرى تعبير عن قلق ، وليس اغلبها نتاج دراسة واقعية ، وبحث ميداني او تامل في انعكاساتها المتعددة الابعاد ، ولهذا السبب بالذات فانها لاتعالج من المشكلة الا بعض ظواهرها، دون ان تقضي عليها من الاساس ، هذا اذا لم تكن سببا في انتاج مشكلات جديدة .
  
ان الاكثار من القوانين والتعليمات قد يؤدي الى تشديد الضوابط ، لكنه يؤدي بموازاة ذلك الى توسيع البيرواقراطية وتعميق ازمة الادارة ، كما انه يفتح الباب لافساد الموظفين ، الذين ستصبح بيدهم قدرة اكبر على الترخيص والمنع ، اي التحكم في اتجاه وطبيعة حركة الناس  ، وفي هذه المرحلة ينضم الى المتحايلين على القانون قطاع جديد ، ينتمي افراده الى طبقة حراس القانون والقائمين عليه.

 ولاتعدم البيروقراطية وسيلة لتبرير مراكمة  القوانين ، فهم لايسمونها قوانين ضبط بل قوانين تخطيط ، لكنها لاتنتمي باي شكل الى التخطيط ، في مرحلة تشريعها ، فضلا عما ستكون عليه في مرحلة التطبيق .
  
نستطيع تلمس واقعية هذا الاستنتاج في ضيق الناس بالاجراءات الادارية ، بطولها وتعقيدها وارتفاع تكاليفها ، وفي الارتفاع المستمر لحوادث الجريمة والجنح على اختلاف انواعها ، ارتفاعا يفوق في معدله ، معدل النمو السنوي لعدد السكان ، وعلى مستوى الادارة نستطيع تلمسها في ازدياد معدل الجرائم الادارية ، الظاهرة كالرشوة ، والخفية مثل استغلال الوظيفة للاثراء غير المشروع.

لقد حيرت هذه الدائرة المتوالية من المشكلات ، الباب الباحثين في مشكلات التنمية وادراة التنمية ، وقل ان تخلو دراسة عن المجتمع في طور النمو ، من اشارة الى هذا الموضوع ، ولهذا فمن الصعب عرض اقتراحات قطعية ، او اعتبارها حلولا جذرية .
  
ما لايدرك كله
 لكن العجز عن ايجاد حلول نهائية ، لاينبغي ان يبعدنا عن التفكير في الجوانب القابلة للعلاج ، او العلاجات القادرة على تخفيف وطأة المشكلات ، سيما اذا نظرنا اليها كتعبيرات عن حاجة لتغيير فلسفة الادارة .
  
يصنف الاداريون دون المستوى السياسي باعتبارهم موظفين عموميين يقومون بالخدمة العامة للناس ، وانهم مدينون لكل مواطن ، باعتباره شريكا في المال الذي يقبضونه ، على صورة رواتب او مميزات وظيفية ، وفي البلاد الاوربية يسمى الموظفون في الدوائر الرسمية (خداما مدنيين Civil Servants) أما في البلاد العربية ، فيعتبر الموظفون والاداريون انفسهم (حكومة) اي جهة حكم ، وبالنظر لفوقية الحكومة على المجتمع ، فان كلا منهم يعتبر نفسه حاكما ، بدرجة من الدرجات .
  
ثمة راي يدعو الى توسيع نطاق المحاسبة للادارة ، وتعميمها بمنح الصحافة حرية النقد ، وتسمية الاشياء باسمائها ، وتمكين القضاء العادي من الادعاء على الاداريين ، والطعن في القوانين التي ليس لها طبيعة سيادية ، ربما ساعدت اجراءات كهذه ، على اقامة التوازن الضروري بين المجتمع والادارة .
  
والذي اظن ان هذه الاقتراحات ، تساهم بدرجة معينة في تخفيف المشكلات المذكورة ، لكنها ابعد ماتكون عن العلاج النهائي .

وتبقى القضية قائمة ، وهي فيما ارى تستحق الكثير من النقاش.

 نشر في (اليوم) 13فبراير1995

06/02/1995

حـــديث رمضـــــان


 وراء الفرح والانس الذي يصاحب قدوم شهر رمضان المبارك ، فان هذا الشهر الفضيل مناسبة فريدة للتأمل ، وسبر اغوار الذات ، بحثا عن مقارنة بين المشاعر الدفينة في اعماق النفس ، وبين ماتثيره اجواء الشهر واعماله من ذكريات ، عن الفضائل والمناقب ومكارم الاخلاق ، التي يوشك تتابع الايام ان يذهب بمعانيها من ذاكرة الانسان .

 انه فرصة التذكر والتفكر والمحاسبة ، التي تستهدف اصطياد مايعلق بالنفس طوال العـام من معايب ، لاينبـغي للمسلم ان يتركها تلتصق بنفسه ، لتصبح بالتدريج جزءا من شخصيته وسلوكه العفوي .
من بين تلك المعايب ، بل من اخطرها اثرا ، ظلم الناس أو الترفع عليهم او احتقارهم ، أو على الاقل ، عدم الايمان بالتساوي معهم في الخلقة أو في المكانة والحقوق ، هذا العيب قد يمارسه الانسان متعمدا ، واعيا بانه يمارس السلوك الخاطيء ، وهي درجة اظنها اهون اثرا ، لان صاحبها قد يستعيد توازنه في وقت من الاوقات ، او قد  يعود الى ضميره، او يسمع كلمة طيبة من ناصح فيثوب الى طريق الرشاد ، ويقلع عما سبق له من ظلم .

الظلم العفوي
 لكن الجانب الابشع من المشاعر السيئة ، هو تحولها الى خلفية للسلوك العفوي ، الذي يمارسه الانسان في ساعات حياته الاعتيادية ، دون ان يشعر بخطئه ، فيصبح مع التكرار جزء من نسيج الاخلاقيات ، التي تتشكل في لاوعيه ، وتدير سلوكه العفوي ، ويمثل السلوك العفوي لأي شخص ، مايزيد على تسعين بالمئة من تصرفاته ، وردود فعله على المثيرات الخارجية .

ولايحتاج الامر الى كبير عناء لمعرفة الكيفية ، التي يتحول من خلالها شعور خاطيء ، الى خلفية توجه السلوك العفوي ، فالتكرار وعدم التذكر ونسيان محاسبة الذات ، تتكفل بهذه المهمة ، أما اذا كتب للمرء ان يعيش في وسط اجتماعي اعتاد على الممارسات السلوكية الخاطئة ، او هو ـ لاي سبب من الاسباب ـ يحبذها ويرتاح اليها ، فان المهمة تصبح اكثر يسرا واسرع تحققا ، ولهذا السبب فان محاسبة النفس ومحاكمتها أو طلب النصيحة من الناصحين ، تصبح طريقا وحيدا لصيانتها مما يعلق بها من عيوب ، خلال دورة الحياة ، التي يلقي زحامها بغشاوته على عقل الانسان ، فلا يستبين له الصحيح من الباطل الا بعد حين .

جذر الظلم
 وحسبما ارى فان شعور التميز او التفوق هو الجذر الاولي للظلم ، فالانسان الذي يشعر بتمـــيزه على الغير ، يقرر لنفسه حقــوقا ، يحولها ـ من ثم ـ الى مبرر لجملة من السلوكيات واساليب التعامل مع الاخرين، يمارسها باعتبارها بديهيات ، معللة بمعاني التفوق التي يراها عنده دون غيره ، وهو يشعر بالدهشة اذا لم يعترف الاخرون له بهذه الحقوق ، بل يرى في عدم اعترافهم نوعا من العداوة او قلة اللياقة تستوجب العقاب ، الذي يترواح بين العقاب المادي في ارفع حالاته ، او الوصم بالتخلف وقلة الادب في ادناها .

ويتبلور الشعور بالتفوق في نفس الانسان لاسباب مختلفة ، اوسعها انتشارا هو تمتعه بقوة المال او العلم ، واشدها خطرا تمتعه بوسائل القوة المادية او العقيدية ، ان القوة ـ في اي معنى من معانيها السابقة ـ ليست حقيقة مطلقة ، بل نسبية ، فهناك في كل الاحوال من هو اكثر مالا او علما او اقدر على استعمال وسائل السيطرة ، أو اشد ايمانا ومعرفة لذات المعتقد ، وحقيق بصاحب هذا الشعور ان يعتبر جيدا بمعنى التناسب بينه وبين من هو اعلى منه ، فكما يبرر لنفسه الاستعلاء على الغير ، فمن هو اعلى منه احق بالاستعلاء عليه ، اذا كان تمتع انسان ما بتلك الاوصاف مبرر للعلو ، وهو على اي حال مبرر غير مقبول ، من الاخرين عليه ، او منه على الغير .

بعض الأمثلة
نحن نرى في كل يوم كثيرا من الناس ، يمارسون هذه الانواع السيئة من السلوك ، في عرضهم لافكارهم ، او في تعاملهم مع من هو ادنى منهم ، او في سائر تعاملاتهم ، واذا احتجت الى احد منهم ، فلابد ان تتسلح بصبر ايوب ، لتحمل مايترتب على التعامل معه من مذلة .

في هذا الشهر بالذات نحن بحاجة الى تذكير الموظفين في دوائر الخدمة العامة ، بان وقت دوامهم ليس ملكا لهم ، بل هو ملك للمواطنين الذين تعاقدوا على خدمتهم ، وجعلوا من هذا العقد مصدرا لمعيشتهم ، في مثل هذا الوقت من العام الماضي احتجت الى مراجعة احدى ادارات وزارة المعارف ، وانفقت مايقرب من نصف ساعة بحثا عن الموظف الذي تتعلق به معاملتي ، قيل لي انه في مكتب آخر ، وذهبت ابحث عنه بين المكاتب ، فوجدت معظم موظفيها اما منكبا على قراءة القرآن او غير موجود ، بينما كان بضعة مراجعين مثلي ، يبحثون عن شخص ما ينجز لهم معاملاتهم فلا يجدون .

ان شعور هذا الموظف بانه اعلى شأنا من المواطن الذي يراجعه ، هو الذي يجعله يترك واجباته متعللا بالصوم او قراءة القرآن ، او لعله يشعر بان قيامه بهذه الممارسة الدينية السامية ، تجعل له حق التحكم في وقت الناس ، باعتباره اكثر ايمانا منهم ، أو لعله شعور بالتفوق ناتج عن قيامهم مقام الحاجة اليه ، وقيامه مقام الاستغناء عنهم ، والقدرة على اظهار فوقيته عليهم .

وكتب احدهم في صحيفة قبيل رمضان ، عن العمال الوافدين الى بلادنا، قائلا انهم حثالات بشر ، القت بهم بلادهم ليأكلوا من خيرنا ... الى آخر ماكتب ، والذي اعلم انه ليس في بني البشر حثالات وغير حثالات ، فالله الذي خلقنا جميعا يقول (ولقد كرمنا بني آدم) ونحفظ من المأثور (الناس اثنان اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) لكن صاحبنا ماكان ليصف اخوته في الانسانية بالحثالات ، لولا شعور الاستعلاء والتفوق ، الذي يبرر له هذا القول ومايعقبه من سلوك ومعاملة .

ووجه احدهم سؤالا الى احد العلماء ، يستفتيه عن جواز الشراء من دكان ، يملكه مسلم يتبع مذهبا آخر غير مذهبه ، فأجابه هذا بجواز المقاطعة ، اذا كانت سببا الى هدايته او دحر باطله ، مع اننا نعلم ان اخوة الاسلام ، لايقلل من شأنها ولايقطع اثرها اختلاف المذهب او الاجتهاد ، فالمسلمون سواسية كأسنان المشط يقوم بذمتهم ادناهم ، ان سؤال الرجل انما يوحي بخلفية التميز على الغير عنده ، ولو ان هذا الغير محدد بمن هم خارج دائرة معينة ، كما ان جواب المجيب مؤسس على نفس الخلفية ونفس الشعور .

فرصة ومسئولية
 رمضان المبارك اذن هو شهر التسامي الحقيقي ، لا المصطنع او المفروض بالقوة ، التسامي الحقيقي الذي يجسده التحلي بالفضائل الاخلاقية ، التي يدعونا اليها كتاب الله ، ومن بين اهمها اتقاء ظلم الناس او العلو عليهم ، ايا كانت مبرراته واسبابه ، كل منا بحاجة الى الغوص في اعماق نفسه ، باحثا عما فيها من عيوب ، مقارنا لما يشعر به وما يمارسه ، بالمثل الرفيعة التي نستطيع استذكارها مما علمنا اياه قرآننا ، ومما نعرفه عن آداب نبينا ، ربما لاتتاح للانسان فرص  كثيرة للتأمل ومحاسبة النفس ، فلتكن مناسبة الشهر الفضيل هي الفرصة التي نحرص عليها من ان تضيع .

نشر في (اليوم) 6فبراير 1995

30/01/1995

فقه جــديد لعصر جـديد


شهدنا في السنوات العشر الاخيرة تصاعدا في الدعوة الى تجديد في الفقه الاسلامي ، متوازية مع الجهود الجارية في اكثر من بلد ، لتطبيق ما امكن من النظم والقوانين الاسلامية في الحياة العامة ، وخلال هذه الفترة شهدنا ظهور مصطلحات وعناوين جديدة مثل (فقه الواقع) و (فقه السياسة) و (فقه الاقليات) وغير ذلك من المصطلحات الشبيهة التي تشير بمجموعها الى حاجة لفقه نشط يعالج مشكلات المسلم المعاصر.

 لقد ظهر معظم هذه المشكلات كنتيجة لتباطؤ مسيرة البحث الفقهي ، فيما عجلة الزمن تتحرك سريعا الى الامام ، خالقة قضايا جديدة وحاجات جديدة تحتاج بدورها الى تكييف شرعي لابد ان يقوم على اجتهاد جديد.

وقد حاول بعض الفقهاء والمفكرين تحديد مواضع القصور في موقفنا الفكري الراهن ، فدرس بعضهم الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن الحضارة الغربية النشطة ، وحاول استنباط نموذج للعلاقة بين المسلمين والغرب ، يضمن انتقال التجربة العلمية والحضارية ، دون الاضرار بأخلاقيات المجتمع المسلم وعقيدته .

 وحاول آخرون استنباط تكييف فقهي لبعض الممارسات الحياتية ، التي  تبلورت في الاطار الحضاري الغربي ، واصبحت لازمة لا يستغنى عنها للحياة والمعيشة ، في العالم الاسلامي كما في غيره من العوالم ، مثل تجربة البنوك الاسلامية .

 وحاول  غير هؤلاء تطوير نظرية للعلاقة بين الانسان  والشريعة من ناحية ، والانسان والطبيعة من ناحية اخرى ، باعتبار هاتين العلاقتين مفتاحا لفهم مرادات الاسلام ، والحد الفاصل بين ثوابته ومتغيراته .

جدل صحيح

وقد لقيت هذه الدعوات ترحيبا من جانب ، كما اثارت الغضب  من جانب آخر ، فثمة في العالم الاسلامي من يشعر بالقلق من عواقب اي دعوة تتناول تبديلا او تعديلا فيما هو قائم ، وثمة من يشعر بان السابقين لم يتركوا شيئا للخلف ليضيفوه .

وفي تقديرنا ان هذا الجدل بحد ذاته علامة صحة مستأنفة في الجسد الاسلامي ، الذي اوهنته سنين الركود الطويلة ، وهو ايذان بعودة الشريعة نظاما للحياة ، بعد ان بقيت قواعدها  -  منذ سقوط الحضارة الاسلامية حبيسة الكتب.

ان الجدل في صلاحية بعض الفقه الموجود بين ايدينا للتطبيق على حياتنا المعاصرة ، لا يعني باي حال شكا في الدين ، او خروجا عن الصراط المستقيم ، انه شك في العلم ، لا يؤدي  -  بالضرورة  -  الى تراجع عن الايمان ، فالعلم ينتمي الى مجال قابل للأخذ والرد ، شانه شان جميع المعقولات الاخرى ، اما الايمان فمستقر في القلب ، لا يتغير الا عن معرفة ويقين .

لا يمكن للفقه ان يتحرك من مكانه الا اذا تفاعل مع حاجات عصره ، ولا يمكن له ان يجيب على هذه الحاجات ، الا اذا تفاعل مع القاعدة العلمية والحياتية التي قامت عليها ، هذا التفاعل المطلوب لا يتحقق في جو السكون والركود ، فالجدل يلعب دور المثير للهمم ، فوق انه يركز الاضواء على الاولويات ومواضع القصور .

 لهذا السبب يبدو ضروريا اتاحة الفرصة للنقاش حول المسألة حتى يأخذ مداه ، فهو الطريق الوحيد الذي يكشف لنا عن حاجاتنا ، وربما كشف لنا عن وسائل للمعالجة توفر بعض الجهد الذي نحتاجه .

يؤمن المسلمون جميعا بالاسلام شريعة قابلة لتنظيم حياتهم في كل زمن وكل ظرف ، وهذا الايمان  -  على الرغم مما اثير حوله من شكوك  -  يبقى رائدا لحركة المسلمين ، ومحركا لعزائمهم نحو بعث الحضارة التي خسروها وربحها غيرهم ، لكن الايمان بصلاحية الاسلام لا يعني بالضرورة جاهزيته للتطبيق ، لاسيما عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيقه في المجال العام ، في صورة قانون للمجتمع او لبعض جوانب حياته .

فقه لكل عصر

لازال معظم ما نعرفه من الفقه الاسلامي محصورا في اطار الاحكام الموجهة للفرد ، وموضوعا للاجتهاد القابل للتغيير في اي وقت ، اما الاحكام الموجهة للمجتمع ، والمنظمة في صورة قانون يتسم بالعمومية والدوام  -  ولو نسبيا  -  لازالت قليلة بل نادرة قياسا الى الحاجات الكثيرة التي جاء بها التطور السريع للحياة المعاصرة .

وينتمي معظم علم الفقه الى ازمان نشاطه السابقة ، وما انتجه الفقهاء المعاصرون دون اعتماد على جهد السابقين قليل جدا ، يصل الى حد الندرة ، ان نتاج الفقهاء السابقين تعبير  عن عصرهم ، وهو اجابة  على حاجات ظهرت فيه ، ويحتاج كل زمان الى فقه يجيب على حاجاته الخاصة .

ان حياة الناس وممارساتهم اليومية ، هي موضوع علم الفقه (موارد تطبيقه) والتغير طبيعة لازمة في حياة الناس ، فما نعيشه اليوم غير ما كان يعيشه اسلافنا ، وسيكون للذين ياتون من بعدنا حياة مختلفة عما نعيش ، ويفرض هذا التطور اختلافا في موضوعات الاحكام الشرعية ، يحتاج الى  بحث مستأنف ، ليس بتجميل النص او تحديث الاسلوب ، بل بمعالجة الموضوع من جديد ، باعتباره مختلفا عما سبقه .

العبادات والمعاملات

 ان المقصود بالفقه الجديد بالدرجة الرئيسية هو فقه المعاملات ، الذي تتسم معظم موضوعاته بالتغير مع تغير الزمن ، اما العبادات فالجانب الرئيسي منها ثابت ومنصوص ، كما انها استأثرت في الماضي والحاضر ، بقسط وافر من الابحاث الفقهية ، بحيث لايبدو ثمة حاجة ماسة الى اعادة نظر ، اللهم الا في جوانب محدودة وفرعية .

ثم ان موضوعات فقه العبادات لا تتأثر بالتطورات الحياتية خارج الاطار المعرفي الاسلامي ، او لنقل ان تلك التطورات لا تمس جوهر موضوعاتها ، بخلاف موضوعات فقه المعاملات ، التي تتغير كل يوم بفعل تغير انواع الحياة وانماطها .

وحياتنا لا تتغير تبعا لتطور نبدعه بأنفسنا ، حتى نحدد حركة التغيير في الاتجاه المناسب لشريعتنا ، نحن  -  وللأسف  -  نستهلك ابداع الآخرين ، على مستوى الافكار وعلى مستوى السياسات والبرامج ، فضلا عن وسائل العيش ، وفي حال كهذه فان اغفال تطوير الفقه سينتهي بالمسلمين الى العيش بشخصية مزدوجة ، تقيم العبادة كما امر الله وتعيش حياتها كما اراده الغرب .

والحل الوحيد الذي بين ايدينا هو تنشيط حركة الاجتهاد ، وتفعيل العلاقة الباردة بين علم الفقه وعلوم الحياة الاخرى ، ومواجه تحدي التطور الذي لا ينتظر المتباطئين ، لعلنا نستكمل فيما يأتي من زمن ، العدة اللازمة لبعث المدنية الاسلامية من جديد .

نشر في ( اليوم) 30يناير1995

مقالات ذات علاقة

23/01/1995

ضمير الكاتب ومحدداته


 عرضنا في مقال الاسبوع الماضي صعوبة الكتابة انطلاقا من وحي الضمير ، في ظرف التداخل الحرج بين الكاتب ومجتمعه ، وتوصلنا الى ان التزام الكاتب تجاه المحيط ، باي صورة من صوره يعيق تعبيره الكامل عن رأيه ، على انه لاينبغي تفويت الاشارة الى ان الالتزام تجاه المجتمع ليس بالضرورة جبرا أو قدرا ، انه في حالات كثيرة ، اختيار من جانب الكاتب .

انواع الالتزام
 ثمة اطارات ثلاثة للالتزام ، يمكن تصنيف الكتاب والمتحدثين في الشأن الثقافي تحت كل واحد من عناوينها ، الاطار الاول هو الالتزام المهني ، حينما تكون الكتابة مهنة ، ويكون التفكير والبحث حركة مضبوطة الايقاع ، باغراض ومحددات تلك المهنة ، فكاتب هذه الفئة هو مهندس للشكل وليس صانعا للافكار ، لاتقلقه الفكرة بل الصورة ، اذ يفترض ان الفكرة التي يعرضها كانت جاهزة قبل ان يبدأ البحث ، فيكون جهده العلمي منصبا على عرضها في احسن الصور ، حتى وان ترافق معها بعض الابتكارات الفرعية ، التي يحسبها الناس تجديدا ، وهي في حقيقتها مجرد تفريع تزيـيـني على الفكرة الاساس ، يستهدف تحسين صورتها وحسب .
 وفي حالات معينة فان الفكرة لاتولد الا ساعة الكتابة ، اي ان الحاجة الى تسويد الصفحات ، هي التي تستدعي الفكرة وليس العكس ، وفي هذه الحالة فانك لاتجد فكرة في ما تقرأ بل (كلام جرايد) كما يقول اخواننا المصريون ، يشرق الكاتب في طياتها ويغرب .

الالتزام الايديولوجي
 والاطار الثاني هو الالتزام الايديولوجي ، وكاتب هذه الفئة قد يبذل غاية الجهد في ابداع الافكار الجديدة ، او تطوير الافكار السائدة الى مستويات اعلى ، لكنه في كل الاحوال ، يظل سجين التفسيرات التي يوفرها متبناه الايديولوجي ، بحيث لايرى  الامور المختلفة الا بموازينها ، فالصحيح هو ماكان صحيحا عندها ، والخطأ هو ماجرى تخطئته في منهجها ، بغض النظر عن الثوابت العقلية والمنطقية المتعارف عليها عند الجميع ، وبغض النظر عن رايه الخاص .
فهذا الكاتب على الرغم من قدرته على الابتكار ، الا ان هذه الأهلية تظل محدودة بحدود المنهج الخاص الذي يتبناه ، ان الشك ، مجرد الشك ، في تنافي اي جزء من الفكرة او التحليل مع جزء من المعتقد ، او المتبنيات التي يفرضها انتماؤه المجتمعي ، هو سبب كاف ـ عنده ـ للتوقف عن التفكير ، لانه يتحمل التخلي عن نتاج جهده العقلي ، لكنه لايتحمل الاصطدام بعقيدته أو انتمائه ، ويمكن اعتبار هذا الكاتب كاتب منهج او كاتب تبرير ، لاكاتب فكرة .

 ويضرب لنا د. اكبر أحمد عالم الاجتماع المسلم المعروف ، مثالا على هذه الحالة في علم الاجتماع الماركسي ، الذي ضجر من تحليلاته الماركسيون فضلا عن غيرهم ، لان رجاله (تحدوهم الرغبة للعمل داخل اطار نظرياتهم دون اعتبار لطبيعة البيئة والعنصر) حتى ان م. جودلييه ـ وهو نفسه باحث ماركسي ـ وصف تحليلات بعض زملائه للمجتمعات القطاعية البناء بانها (ماركسية فجة) .
  اما الاطار الثالث فهو الالتزام بالمجتمع او بقضاياه ، وكاتب هذه الفئة متحرر من الضوابط المهنية ، وغير مضطر للاستسلام للتفسيرات النمطية ، لكنه لايستطيع ان يتحرر ـ في مرحلة اعلان الفكرة على الاقل ـ من مقتضيات العلاقة الضرورية بين المجتمع والكاتب ، باعتباره جزء من الجماعة وباعتباره صاحب دور فيها .

مرحلتان
قبل عرضها على القاريء تمر الفكرة بمرحلتين ،  يجري في المرحلة الاولى صناعة الفكرة والبرهنة عليها ، ويجري في التالية تجهيزها للعرض ، كي تحظى باكبر قدر من القبول .
وتبعا لمقولة الالتزام فان الكاتب يمارس الرقابة الذاتية في احدى هاتين المرحلتين ،  عند صناعة الفكرة ، او عند عرضها ، فالكاتب الملتزم مهنيا والكاتب الملتزم عقائديا ، يفكران ضمن مسارات محددة ، لذلك فهما لايجدان حاجة لتكرار الرقابة في المرحلة الثانية ، فما ينتجانه من افكار لابد ان يكون متوافقا مع ماهو سائد ومتوقع ،  اما الكاتب الثالث فيكتفي بالرقابة على الذات في مرحلة الاعداد لعرض الفكرة.
ان التحرر المطلق من قيود الالتزام باشكاله ومضامينه المختلفة ، امر صعب المنال ، لايدركه الا المكافحون الاشداء في سبيل الفكرة وشرف العقل ، وليس هذا مقدورا من اكثر اهل الثقافة ، في مراحل من التطور الاجتماعي كالتي تشهدها اكثر الاقطار العربية.

لكن تحت هذا المستوى فثمة قدر معقول من الالتزام ، لامفر من الخضوع له ، الا وهو الالتزام في طريقة عرض الفكرة ، ان الالتزامات التي يضعها الكاتب في مرحلة صناعة الفكرة ، لن تؤدي لسوى سد آفاق الفكر على عقله ، وجعله منقادا كالاسير الى الافكار المتداولة ، التي لايـنـبيء التعب عليها عن اي تطور في ذهنية الكاتب ، ولاتؤدي لأي تطوير في وعي المجتمع .

الرضى بالقيود
اصبح ثابتا ان مستوى الثقافة والابداع في بلد ، يتناسب طرديا مع حرية التعبير المتاحة فيه ، فالقيود تؤدي الى تبريد النشاط الذهني لرجل العلم ، كذلك يفعل الرضى بالتقييد ، فالكاتب الذي يعتبرها امرا اعتياديا ، لايجاهد للانطلاق بعقله في افاق الفكر ، فهو راض بما يمليه عليه عقل مستريح الى المتفق عليه .

  ان اسوأ ماينال الثقافة هو تلقي القيود ايا كانت ، بالقبول والتسليم من جانب المثقفين انفسهم ، واعتبارها امرا طبيعيا يلتزمون به عن رضى واختيار .

وفي معظم الاحوال فان الكاتب يمارس نوعا من الرقابة الذاتية على نفسه ، حينما يضع نصب عينيه ، ردود الفعل المتوقعة ساعة عرض الفكرة على الناس ، فكل كاتب ، او فلنقـل ـ على سبيل التحفظ ـ معظم الكتاب ، يرغب في رؤية افكاره وقد وصلت الى اكبر عدد من الناس ، وحظيت بالقبول في اوسع شريحة منهم .

ويتعلق هذا النوع من الرقابة الذاتية (الرقابة في المرحلة الثانية) بالمجتمعات التي تعطي للافكار الجديدة قيمة ،  اما النوع الاول (الرقابة في مرحلة صنع الفكرة) فتجده غالبا عند المجتمعات التي لاتقيم كبير وزن للثقافة ، وينطبق ذلك على مختلف المجتمعات ، وبغض النظر عن نوع العقيدة ، فقيمة الفكرة هنا  لاتقاس بمدى كشفها عن جديد او جلائها لغامض ، بل هي مرهونة بمقدار مايؤدي اليه العرض ، من تاكيد على قيم متعارف عليها  ، بغض النظر عن صحتها او فسادها .

نشر في (اليوم) 23يناير1995

16/01/1995

ضمــير الكاتب ؟ ... أي ضمــــير ؟



||مطالبة الكاتب الالتزام باملاءات ضميره حين يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، والسبب هو صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف||
يلح الاستاذ محمد الصويغ على ان يكون ضمير الكاتب حيا وموجها لكتاباته ، ويقرر في مقاله المنشور بهذه الجريدة يوم الاحد الاسبق ،  استحالة ان ينجز الكاتب الدور التنويري المفترض له ، اذا كان ضميره غائبا ساعة يمتطي صهوة القلم .

ويبدو لي ان القضية بمجملها ليست مورد خلاف من جانب اي كان ، فلن تجد احدا في شرق الارض وغربها ، يعترف بانه يكتب عكس مايمليه عليه ضميره .
القضية التي يختلف عليها الجميع هي ماهية هذا الضمير ، الذي يملي على الكاتب مايكتب ، فهل يوجد ياترى ضمير متجرد عن اي مؤثر خارجي ، واذا تاثر ضمير الكاتب بما حوله من المؤثرات ، فهل سيكون موضوعيا في كتابته ، متجردا في دعوته عن جواذب المصلحة او خوف الضرر ؟ .
ويقول الاستاذ الصويغ ان قلم الكاتب مرآة لمجتمعه ، فهو يلخص مايجري فيه ويعيد تصويره ضمن لوحة واحدة ، يشخص عبرها واقعه ، بايجابياته وسلبياته ،  والذي كنت اعلم حتى هذه اللحظة ان المرآة هي جزء من مهمة الكاتب ، اما الجزء الاهم  فهو تركيز الضوء على الايجابيات ، والدعوة لمعالجة السلبيات ، ونقد التقصير والغفلة ،  فاذا تقاعس عن هذا الدور فقد أخل بمسئوليته وقصر في اداء واجبه الاجتماعي .
حدود التصريح
لكن المجتمع ليس محايدا تجاه الممارسة الثقافية ، فلا يكفي ان تكون الفكرة التي يعرضها ا لكاتب صحيحة ، حتى يتلقاها المجتمع بالقبول ، بل اظن ان كثيرا من الكتاب يبذلون جهدا في اعداد الصيغة التي يعرضون بها افكارهم ، يزيد عن الجهد الذي يصرفونه في التوصل الى الفكرة نفسها والاستدلال عليها ، وليس ذلك الا لكون المجتمع شديد الحساسية تجاه مايكتب ومايقال في العلن ، سيما اذا تضمن نقدا لواقع قائم ، او ممارسة متعارف عليها ، او تفكيرا يرتاح اليه اكثر الناس .
ان اكثر الكتاب ـ لاسيما في المجتمعات الاقل حداثة ـ مضطرون للالتزام بالضوابط التي يحددها المجتمع للعمل الثقافي ، وهي ضوابط تقوم على تسلسل للقيم والاعراف ، لا يتضمن اقرارا مسبقا بحق النقد ، او الاعتراض العلني على الاخطاء .
ترى هل يمكن للكاتب ان يمارس دوره التنويري في ظل هذه الضوابط ، وهل يمكن ان يكون ضميره حاكما مطلقا على نتاجه ، فيما هو مضطر للالتزام بما يراد له ومالا يراد ؟ .
ان الاجابة على هذا السؤال تبدو ضرورية ، في التمهيد لاي حديث حول واجبات المثقفين ، وتزداد اهمية الاجابة ، عند الاخذ بعين الاعتبار تطبيق الفكرة في مجتمع كالمجتمع العربي ، الذي لايزال في مرحلة التاسيس الفكري لنسق حياته ، وعلاقاته الداخلية ، ونظام القيم الذي يؤطر محاولاته للحاق بركب العصر .
الاعتراض وتكاليفه
في مثل هذا الظرف يجد المثقف نفسه حاملا للسلم بالعرض كما يقولون ، ناقدا لما هو قائم حتى لو تعارف عليه اكثر الناس ، وداعيا لظرف جديد مختلف ، لم يتعرف عليه او يتكيف معه الا القليل من الناس ، وهو دور يضعه في مواجهة التيار الاجتماعي السائد ، مختلفا مع الاغلبية الغالبة التي تستريح الى (حشر مع الناس عيد) انه جدل بين تطلع اجتماعي يستند الى تبرير ثقافي مقترح ، يقاومه واقع اجتماعي يبرره نظام ثقافي ،  قادر على اعادة انتاج نفسه في صور جديدة .
وبسبب هذا الجدل فقد تعرض المثقفون في معظم الاحوال للاضطهاد او التهميش ، واصبح اعتياديا ان نجد النخبة المثقفة العربية ، مضطرة لاتخاذ موقع التابع بل اللاهث ، وراء النخب الاخرى ، النخب القديمة ، او النخب الحديثة التي مالت ـ بعد استقوائها ـ الى التماهي مع سابقتها ، والسير على نهجها في العمل الاجتماعي ، وفي بعض الحالات حيث رفض المثقفون هذا الموقع الذليل ، فقد كان مصيرهم العزل ، او الانفصال عن حركة المجتمع.
يمكن بطبيعة الحال العثور على طريقة للمواءمة بين العمل الثقافي ومقتضيات الواقع ، عندما يتخلى المثقف عن الدور التنويري والريادي المفترض له ، ويكرس جهده الفكري للجوانب التي لاتستثير حساسية المجتمع ولا تصادم متبنياته ، وفي عالم الفكر الكثير من القضايا التي يمكن طرقها دون ان تقلق منام المستريحين على وسادة (ليس في الامكان ابدع مما كان) ، وهي ـ بالتالي ـ تلبي شعور المثقف بالحاجة الى الاستمرار في العمل دون مواجهة المواقف الحرجة والصعبة .
المعاني المتعارضة للالتزام
 يستند المثقفون في دعاواهم على فرضية (الالتزام الاجتماعي)  بمعنى  ان المثقف ـ باعتباره اقدر اعضاء المجتمع على تحديد مواقع الخطأ والصواب ـ مكلف بدعـوة الناس الى القيـم والافكار ، التي يقدر انها اكثر تقدما مما هو سائد ، ومن ممارسته لهذا الدور يحصل على الاعتبار الاجتماعي المدعى لاهل العلم .
ولسوء الحظ فان مقولة الالتزام هذه ،  هي نفس المبرر الذي ترفعه القوى الاخرى التي تصارعهم ، ان التبرير الدائم لاضطهاد المثقفين ، هو خروجهم على النسق الثقافي الذي يقوم عليه هيكل العلاقات الاجتماعية ، او دعوتهم للخروج عليه ، هكذا وبهذا المبرر عومل المثقفون في معظم البلاد الاشتراكية السابقة ، كما في اكثر الدول العربية والاسلامية التي نحت هذا المنحى .
ان جوهر مقولة الالتزام في جانب المثقفين هو التعارض مع الراهن ، بينما هو على النقيض في الجانب الاخر ، حيث جوهرها هو التوافق ، الذي يعني في بعض المراحل الاستسلام لما هو قائم ، وفي بعض الاحيان تبريره او الدعوة اليه ، بغض النظر عن صلاحيته او عقلانيته .
واذا اخذنا بعين الاعتبار حقيقة ان الارادة الجمعية في المجتمع العربي ، مكثفة ـ واقعيا ـ في قناعات وقيم  تعيش على اعادة انتاج مبررات الواقع القائم ، أو اعادة انتاج المبررات التاريخية التي صنعت هذا الواقع المرير ،  فان التوافق المطلوب من المثقف ليس ـ في حقيقة الامر ـ سوى التوقف عن دوره النقدي والتنويري ، والانصراف الى دور التـبرير او الدعاية لما هو قائم ، اي التخلي عن المساهمـة في صناعة المستقبل .
لهذه الاسباب فان مطالبة الكاتب الالتزام بوحي ضميره عندما يكتب ، تبدو عسيرة الاستجابة ، لا لسبب الا صعوبة التعبير الحر في ظرف اجتماعي لايفسح مكانا للراي المختلف ، ولهذا فقد كان ينبغي للاستاذ الصويغ ان يدلنا على سبيل لتحرير الضمير من ضغوط المحيط حتى تكون حياته نافعا ، والا فما الفائدة من حياته ؟ .
نشر في (اليوم) 16 يناير 1995
مقالات  ذات علاقة
-------------------



المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...