11/12/2019

صراع حدود أم صراع وجود




ارى ان غالبية المسلمين سيحبون الفكرة التي نادى بها روجيه جارودي ، فكرة الاسلام المفتوح ، الذي يحتمل كل الناس وكل الافكار ، وعلى ا لخصوص اولئك العلماء والفلاسفة والمصلحون والمخترعون ، الذين ساهموا في صناعة تاريخ البشرية او تقدم المجتمع الانساني ، بنحو من الانحاء.
روجيه جارودي
الفكرة بذاتها جذابة ومثيرة للاهتمام ، فهي تحاكي توقا عميقا في انفس البشر لرؤية تجسيدات الخير مجتمعة متعاضدة. يعتقد كل انسان انه وسائر البشر الآخرين ، أميل الى فعل الخير ، وانهم قادرون على ابتكار الافعال التي تجسد الخير وتنميه. ولهذا لا يرون عيبا حين يضعون ايديهم بايدي غيرهم الذين على ملتهم او على سواها. لا يتوقف عامة الناس عند اختلافاتهم العقيدية او الثقافية. انت ترى الافا من الناس يأتون الى الاسواق كي يبيعوا او يشتروا ، فلا يسأل أحد منهم عن معتقد الآخر او انتمائه الاجتماعي ، كما لا يسألون عن صانع السلعة.
لكن هذا ليس نهاية القصة. ولا ينبغي أخذ الأمور بهذا التبسيط. دعنا نمثل بحال الولايات المتحدة الامريكية ، التي تألفت عند تاسيسها من مهاجرين ، ولازالت تدين لمهاجرين قدامى وجدد بازدهارها العلمي والاقتصادي. مع ذلك فان الشعارات التي أوصلت الرئيس الحالي دونالد ترامب الى البيت الأبيض ، هي الشعارات الداعية الى وقف الهجرة وابعاد ما امكن من المهاجرين. كذلك الحال في اوربا التي  يتفاقم فيها التيار السياسي المعادي للمهاجرين ، رغم حاجتها الماسة اليهم كأيد عاملة وكمشاركين في بناء مستقبل القارة العجوز
 وليس الأمر بعيدا عن العالم الاسلامي والعربي ، فالنزاعات القومية والطائفية والقبلية المتكررة ، تؤكد بما لا يقبل الشك ، ان خيط الثقة الرفيع الذي تحدثنا عنه ، ليس سمة ثابتة في المجتمعات. ولا فرق في هذا بين المتقدم والمتخلف منها
 كان الفيلسوف المعروف جان جاك روسو ، قد قال في كتابه الشهير "العقد الاجتماعيان تبلور مفهوم التملك والملكية الشخصية ، كان سبب انبعاث النزاعات بين البشر. ونعلم ان معظم الخصومات تدور حول المال والملك في مختلف اشكاله. فماذا عن الخصومات التي موضوعها الدين والايديولوجيا؟.  
 دعنا نعيد السؤال بصيغة أوضح: هل يتنازع الناس حول المذاهب والاديان ، لانهم يشعرون ان انتماءهم الى هذا الدين او ذاك ، هو نوع من الملكية ، اي انهم يدافعون عن أحد املاكهم حين يدافعون عن دينهم؟
 رايي ان هذا احتمال وارد في كثير من الحالات. لكن ثمة سبب آخر للصراعات الدينية ، ولعله أوضح واوسع نطاقا ، أعني به تحول الدين من رسالة الهية الى هوية اجتماعية. في هذه الحالة تتلاشى المسافة بين الدين والذات. حين تتعرض لدين الشخص او مذهبه ، فانه سيتلقاه كعدوان على شخصه او كتحد لشخصه ، فينخرط في النزاع كما لو كان يدافع عن وجوده ذاته وليس فقط عن شيء يملكه.
 ربما يتذكر القراء الاعزاء الشعار الشهير للمرحوم ياسر عرفات الذي قال ان النزاع مع اسرائيل"صراع وجود لا حرب حدود". ان نزاعات المصالح هي نزاعات على الحدود الفاصلة بين الشخص ومن ينافسه. اما الصراع الوجودي ، فان الذات (الفردية او الجمعية) هي المستهدف الأول فيه ، وتبعا لذلك فان ارادة البقاء هي المحرك الرئيس له. وهذي هي النقطة التي يركز عليها القادة والمحرضون حين يحاولون ارسال اتباعهم الى ساحات الصراع ، المادي او حتى اللفظي.
الشرق الاوسط الأربعاء - 14 شهر ربيع الثاني 1441 هـ - 11 ديسمبر 2019 مـ رقم العدد [14988]
مقالات مشابهة


04/12/2019

من بوذا الى ابن سينا وكارل ماركس



سمعت باسم روجيه جارودي في دمشق ، صيف العام 1984. كنت أذهب كل أربعاء الى "مقهى الهافانا" ، ملتقى محبي الأدب والثقافة يومذاك. ويقع المقهى على الضلع الغربي لشارع بورسعيد ، على بعد امتار من تمثال يوسف العظمة الذي يتوسط ساحة تحمل اسمه أيضا.
تمثال يوسف العظمة وسط دمشق

اخبرني احد زملاء المقهى عن كتاب "ما يعد به الاسلام" الذي صدر حديثا[1] وقدم فيه جارودي الرؤية التي تبرر اختياره للاسلام ، بعدما بدأ بروتستناتيا ثم مناضلا ومفكرا شيوعيا ، ثم كاثوليكيا. اثار الكتاب فضولا شديدا عندي ، فقد وجدته – خلافا لما اعتدت – يدعو لاسلام مفتوح ، واسع الافق ، يحتمل كل الناس وكل الافكار ، من بوذا الى غاندي وابن سينا والحلاج وحتى كارل ماركس. والحق اني بقيت يوما كاملا ، لا تفارق عيناي الصفحة التي نقل فيها الابيات المنسوبة للعارف الشهير محي الدين بن عربي :

وقـد صـار قلبي قابلا كل صورة         فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيـت لأوثان وكعبةُ طائـــفٍ            وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدين بدين الحب انى توجهت        ركائبه فالحب ديني وايماني

وزاد في جاذبية المقاربة ، انها جاءت وسط جدل محتدم يومذاك ، حول الامكانية العلمية والعملية لتجاوز المذاهب ، الى اسلام متحرر من الانتماءات الاجتماعية والتاريخية. وفي هذا الاطار صدر اكثر من كتاب يدعم أحد الاتجاهين او نقيضه ، واشهرها في ظني كتاب "اللامذهبية اخطر بدعة تهدد الشريعة الاسلامية" للمرحوم محمد سعيد البوطي ، الذي طبع عشر مرات خلال عقد الثمانينات وحده. واريد الاشارة هنا الى ان الصراع العنيف بين النظام السوري والاسلاميين ، لم ينعكس على الاعمال الثقافية ، كما لم تنعكس عليه الخلافات المتكررة مع الشيوعيين ، فكنت ترى الكتاب الاسلامي معروضا في المكتبات الى جانب الماركسي والليبرالي وغيره.

اقول اني قرأت كتاب جارودي على خلفية الجدل الذي شغل الساحة يومئذ ، حول امكانية الفصل بين الدين ، وبين دوائره الاجتماعية واطاره المرتبط بالهوية التاريخية ، أو "بين الجوهري والعرضي في الاديان" حسب تعبير المفكر المعاصر عبد الكريم سروش. في ذلك الحين ، كان الميل العام ينحو لاعتبار الهوية والانتماء الاجتماعي والشكل الخارجي ، لوازم للحقيقة الدينية ، لانها بذاتها اوامر دينية ، او لأنها تدعم هيمنة الدين على الحياة.

أما جارودي فرأى عالما يواجه مشكلات ، لم تفلح في علاجها الاديان والايديولوجيات: "المسيحية والاشتراكية بمختلف انواعها تبقى خميرة للتدافع والفرص ، لكنها لم توقف سعي الغرب الى حتفه". ولذا ظن ان رؤية كونية ، تشمل كل ما أنتجه البشر وما آمنوا به ، قد تكون بداية جدية للتعامل مع المشكلات الكونية من منظور كوني غير أناني. هذا يتطلب وفق رأيه ، نسخة من الاسلام أعمق مما ورثناه عن عصور التخلف والتنازع والانكماش: "اذا كنا نريد للاسلام أن يشارك في ابتكار المستقبل ، فعلينا ان نحول دون اختصاره في المواقف المتصلبة والتوترات والانفلاتات التي تحجب الفكر".

استرجع احيانا آراء هذا الفيلسوف المناضل ، وأتساءل ان كانت علاجا لبعض أدوائنا اليوم. اعلم انها لم تلق القبول المناسب في وقتها ، لكن لعل اليوم غير الامس. ولعله قدر الرؤى العابرة لقيود الحاضر والزاماته الى شرفات المستقبل وما ينطوي فيه من فرص وامكانات.

اعلم ان كتاب "ما يعد به الاسلام" كان موجها للقاريء الأوربي. لكني أجد فيه وفي طروحات جارودي الاخرى ، نداء لنا من زمن غير هذا الزمن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 شهر ربيع الثاني 1441 هـ - 04 ديسمبر 2019 مـ رقم العدد [14981]



[1] روجيه جارودي: مايعد به الاسلام ، ترجمة قصي أتاسي وميشيل واكيم ، دار الوثبة (دمشق 1983م). وصدرت ترجمة ثانية للكتاب باسم "وعود الاسلام" ترجمة ذوقان قرقوط ، مكتبة مدبولي (القاهرة 1985).




27/11/2019

عودة الى ماكس فيبر



يرجع الفضل الى كتاب "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية" في لفت انظار الباحثين الى أهمية الجانب الوصفي – التفسيري في علم الاجتماع. واظنه ايضا السبب الرئيس في الشهرة العظيمة التي حظي بها مؤلفه "ماكس فيبر"  كصاحب نظريات اصيلة في الحراك الاجتماعي الواسع النطاق.
ويقول فيبر انه كان يحاول التعرف على الاسباب التي جعلت الرأسمالية طريقا وحيدا للنهوض الاقتصادي في اوربا. فقاده هذا الى سؤال آخر يتناول العوامل التي تجعل الرأسمالية ممكنة في مجتمع وممتنعة في مجتمع آخر.

في الخلاصة وجد الرجل ان الدين عامل حيوي ، في صياغة وعي الانسان بالعالم المحيط ودوره في هذا العالم ، وبالتالي أهدافه وأولوياته ، العوامل التي تشحذ طموحاته أو تثير قلقه ، وتلك التي تثبط عزمه او تمنحه الاطمئنان. وفيما يخص النشاط الاقتصادي ، رأى ان البروتستنتية هي الدين الوحيد الذي يحفز الفاعلية الاقتصادية للبشر ، من خلال ربطها العميق بين النجاح الدنيوي (في معناه المادي الصرف) وبين الخلاص الأخروي. يعتقد البروتستنت ، سيما في المنهج الذي اطلقه القسيس الاصلاحي "جون كالفن" ان التقرب الى الله ليس مشروطا بالطقوس المعتادة في الكنيسة. يمكن للانسان ان يتقرب الى ربه ، حين يؤدي واجباته اليومية على الوجه الأكمل. الفلاح وعامل المصنع والحرفي ، وكل صاحب مهنة ، يمارس العبادة (بالمعنى الحرفي وليس المجازي) حين يقوم في عمله. وفي هذه الحالة فانه لا حاجة للذهاب الى الكنيسة يوم الأحد او أي يوم آخر. كنيسة المسيح توجد – وفقا لرأي كالفن – حيث يوجد أتباع المسيح ومحبوه.
احتمل ان الفارق الجوهري بين ابحاث فيبر وسابقيه ، يكمن في اهتمامه المكثف بقراءة الوقائع ومحاولة تفسيرها ضمن سياق ميكانيكي ، وايضاح الدور الذي يلعبه كل عامل ، رئيسي او جانبي ، في تكوين الواقعة وتحديد الوظائف التي تولد من حولها. ومع ان هذه الابحاث لا تخلو من تعبير عن ميل شخصي أو موقف آيديولوجي ، الا ان غلبة الجانب التفسيري ، ونجاحه في تقديم إطار نظري معقول لكل موضع من مواضع البحث ، غطى على نقطة الضعف تلك.

ان السبب الذي يدفعني لتذكير القراء بأعمال فيبر ، هو رغبتي في ان نفكر معا ، في نفس السؤال الذي حاول الرجل مجادلته ، اعني سؤال: متى يمكن للدين ان يحفز النشاط الاقتصادي ومتى يثبطه.
اني لا اجد تفسير فيبر مقنعا ، الا في حدود النمط الصافي ، اي حين يكون الدين مؤثرا وحيدا في تكوين ذهنية الانسان ، مع انعدام اي مؤثر آخر مساعد او منافس.

لكنا نعلم ان هذا شرط غير واقعي. لأن الظاهرة الاجتماعية مركبة بطبيعتها ، وهي تشكل محصلة لتزاحم وتفاعل العديد من العوامل ، التي يترك كل منها أثرا في تكوين الظاهرة وتحديد حجمها ونطاق تأثيرها. هذه العوامل ، اضافة الى عوامل تدخل لاحقا  ، تحدد ايضا اتجاهات الظاهرة وأقدارها (اي الشروط التي تسمح باستمرارها او نهايتها).

أعلم ان التفكير والنقاش في السؤال المذكور سيتأثر – شئنا أم أبينا – بالميول التبجيلية او الاعتذارية ، التي تشكل نوعا من موقف مسبق ، تجاه اي نقاش يتعلق بالهوية او الايمان. لكني اود تحذير القاريء من ان هذه الميول مخربة للتفكير ، وهي لا تساعد أبدا في التوصل الى اي فكرة جديدة. الهوية الدينية ليست في خطر ، كما ان التفكير في الدين لا يؤدي الى اضعافه في النفوس.

الشرق الاوسط الأربعاء - 30 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 27 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14974] https://aawsat.com/home/article/2009626

20/11/2019

العقلاء الآثمون


تتمدد مدينة بريستول حول شبكة من الانهار الصغيرة ، تتصل في نهايتها بخليج يعرف أيضا بقناة بريستول ، جنوب غرب انجلترا. وخلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، عرفت المدينة كأبرز مركز لصناعة السفن في غرب اوروبا.
كنت متشوقا لرؤية المتحف البحري للمدينة ، ولا سيما السفينة "بريطانيا العظمى" التي كانت اعجوبة تكنولوجية ، من حيث الحجم والحلول الهندسية المبتكرة يوم صنعت في 1845 ، وساهمت في اشهار مصممها ايسامبارد برونيل كأعظم مهندس بريطاني في تلك الايام.
قبل صناعة السفن ، اشتهرت بريستول كمركز لتجارة الرقيق. ولو قدر لك ان تقرأ عن تاريخ تلك الحقبة ، ثم تمشيت بين حاراتها ومبانيها القديمة ، فلعلك تشعر ان هذه المباني التي تشع بالجمال والمهابة ، توحي بنفس القدر ، وربما اكثر ، بالكآبة والألم. فكأنما هي مسكونة بأرواح الآلاف من العبيد التي فاضت بعدما حطوا فيها ثم نقلوا الى موانيء الشرق الامريكي.
كان ذهني يغص بالصور المتخيلة عن تلك الحقبة الملعونة ، حين وقعت عيني على حجر تذكاري ثبت في جدار يطل على الميناء والسفينة. وقد اختير موقعه بعناية كي يلفت أنظار العابرين. يحمل الحجر عبارات اعتذار وتمجيد لآلاف العبيد الذين عانوا وعذبوا ، ثم قضوا في الطريق بين قراهم والبلاد التي كتبت فيها نهاياتهم.
قرأت العبارات المنقوشة على الحجر تكرارا. وشعرت بدافع يشدني بقوة لفهم السبب الذي دعا ادارة الميناء-المتحف ،  لتذكير زواره بان هذا المكان لم يكن جميلا دائما ، وان العابرين به او العاملين فيه لم يكونوا سعداء دائما ، وان اصحابه ومن يديرونه ، اي الاقوياء واصحاب القرار فيه ، لم يفعلوا الصواب دائما ، ولم يكونوا عادلين مع الضعفاء في معظم الاوقات.
هل هو اعتذار متأخر عما جرى قبل قرنين؟ وهل يشفي تلك الجروح القديمة؟
التأمل في هذه القصة لفت نظري الى جانب ذي صلة عميقة بقيمة التسامح ، أعني به الاقرار بالخطأ ، على النفس او على الغير.
  بيان ذلك: ذكرت في مقال سابق ، ان جوهر مفهوم التسامح هو احترام حق الآخرين في اختيار ما تمليه عليهم عقولهم ، من دين او مذهب او طريقة حياة ، كما تتوقع منهم احترام خياراتك. هذا مبدأ اخلاقي مبني على حكم عقلي عام. واساس الحكم العقلي هو الاعتقاد بان الانسان خطاء ، بمعنى انه يجتهد في حياته ، فيصيب حينا ويخطيء حينا آخر ، وانه لا عيب في اقرار الانسان بانه اخطأ في حق نفسه او في حق الاخرين.
بل لعلي لا أبالغ لو قلت ان اعتراف الانسان بخطئه في حق الآخرين ، حاجة لنفسه ، مثلما هو حاجة للآخرين. انها عملية تطهير للذات ، واعادة تموضع للأنا العاقلة فوق الغرائز ، لمنع احتمالات الانزلاق مرة أخرى في حمأة الظلم والاحتقار.
لوح الحجر ذاك ، يشكل بوجه ما ، إقرارا بالآثام التي ارتكبتها بريستول في حق الافارقة الأسرى ، واعتذارا لكل أحد عما جرى في الماضي. قد يكون هذا شافيا للضحايا وقد لا يكون. لكن المهم فيه انه سيشكل بالتأكيد سدا يمنع تمجيد الماضي الاسود ، فضلا عن احيائه او تكراره.
دعنا نقول اذن ان الطريق الى التسامح قد يبدأ باقرار الانسان امام نفسه وامام الغير بانه مثلهم ، خطاء ، وانه ربما يكون قد اخطأ في حق نفسه والآخرين بقدر ما أصاب.
الشرق الاوسط الأربعاء - 23 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 20 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14967] https://aawsat.com/node/1999256

مقالات ذات علاقة

 

ابعد من تماثيل بوذا

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا (الجذور)

ان تكون مساويا لغير: معنى التسامح

ان تكون مساويا لغيرمعنى التسامح

تجريم الكراهية

 تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعصب كمنتج اجتماعي

ثقافة الكراهية

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سؤال التسامح الساذج: معنى التسامح

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار: سطوة الموروث

في معنى التعصب

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

الهوية المتأزمة

13/11/2019

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة


مر الان نحو 130 عاما على وفاة كارل ماركس. ونعرف ان النموذج الايديولوجي الذي اقترحه كطريق للتطور الاجتماعي لم يحقق نجاحا. كما لم يصمد اساسه الفلسفي أمام النقد العلمي ، رغم أنه بقي نافذا في الاكاديميا الاوروبية حتى الربع الثالث من القرن العشرين. هذا لا يقلل من قيمة مقارباته الفلسفية ، التي لاشك انها أسهمت في تقدم العلم من جهة ، والحياة السياسية من جهة أخرى.

من بين افكار ماركس التي تلفت الانتباه ، رؤيته عن تأثير المكائن والالات على ذهنية الاشخاص الذين يتعاملون معها. فهو يرى ان عمال المصانع اكثر قابلية للتطور والمساهمة في تنمية المجتمع ، لأنهم – حسب اعتقاده – اكثر التصاقا بتيار التطور في العالم ، الذي يتجلى في الآلات الصناعية. وهو يقارن هؤلاء العمال بنظرائهم الفلاحين المنعزلين عن تيار الحياة الحديثة.

قفزت الى ذهني هذه الفكرة ، بينما كنت اقرأ مقالة للبروفسور كلاوس شواب ، رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي عن "الثورة الصناعية الرابعة" ، التي يقول ان تاثيرها لن يقتصر على تغيير نظام الحياة والعمل والعلاقات بين الاسواق ، فهي ستغير ايضا كيفية تفكيرنا في الاشياء وفي انفسنا وعالمنا. ان الطريقة التي يتبعها الانسان والادوات التي يستعملها كي يفكر في ذاته ومحيطه ، وعلاقته مع البشر الاخرين ، سوف تتنحى لصالح مفاهيم جديدة غير التي نعرفها اليوم.

يقرن شواب الثورة الصناعية الاولى باعتماد المكينة البخارية في مجال النقل والصناعة (ميكنة الانتاج). ويقرن الثانية بدخول الكهرباء التي ادت الى التحول نحو الانتاج الواسع النطاق. كما ترتبط الثالثة بدخول تكنولوجيا المعلومات في الحياة اليومية للبشر. أما الثورة الرابعة فأبرز ملامحها هو نفوذ التقنيات الرقمية ، الى أدق تفاصيل حياة البشر  ، على نحو يقلص المسافة بين المادي والرقمي والبيولوجي. بل ربما نشهد في العقد القادم اول نموذج (بروتوتايب) للتفاعل المستقل بين الالة والكائنات الحية. ثمة كلام يدور حاليا عن ابحاث غرضها تمكين الكمبيوتر من تلقي اوامر مباشرة من دماغ الانسان ، وهذا يشكل خطوة مهمة في الاتجاه المذكور.

رؤية شواب هذه تطابق – ضمنيا – رؤية ماركس ، في معنى ان "أداة" الفهم تسهم في تحديد نطاق التفكير واتجاهاته ، مثلما يسهم الميكروسكوب في تحديد طريقة البحث عن الفيروسات ، ويسهم بالتالي في تحديد نتائج البحث. فهم الاشياء في عصر انترنت الاشياء (القادم) سيعتمد على ادوات مختلفة كليا عن تلك التي اعتمدت في عصر المحرك البخاري. حين نحتاج للتفكير في اي مسألة ، في هذه الايام ، فاننا نقف على ساحل بحر من المعلومات والبيانات والصور ، التي لم يكن اي منها متوفرا لاسلافنا الماضين. وبعد عقد او اثنين ، سيحصل احفادنا على فرص اوسع كثرا مما نتخيله اليوم.

هذه البيانات ليست مجرد كميات اضافية ، قياسا بما توفر للاسلاف ، بل هي ايضا فلسفة مختلفة ، وطريقة تفكير وعلاقة بين الذات والغير ، متباينة. ان عالما باكمله قد زال مع ظهور مكائن الاحتراق الداخلي ، وزال عالم ثان مع ظهور الجيل الثاني من الهواتف الذكية. بمعنى ان بعض ما كان الانسان يفكر فيه قد زال ، او انتقل الى الهامش ، وظهرت نطاقات تفكير جديدة.  

الذهنية المتولدة عن التفكير في محيط محدود ، تختلف كثيرا عن تلك الذهنية التي تطورت في محيط مفتوح وسريع التفاعل مع العالم المحيط.


الشرق الاوسط الأربعاء - 16 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 13 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14960]

06/11/2019

في معنى الردع وعلاقته بالطبع الاولى للبشر

مقال الاسبوع الماضي الذي تعرض للاختلاف التاريخي حول الطبع الاولي للانسان ، أثار جدلا غير قليل. ثمة قراء رأوا أن الخير هو الطبع الأصلي للانسان ، وثمة من قال بالرأي المعاكس. هذا الجدل لفت انتباهي الى مسألة متصلة بنقاش آخر يدور في بلدنا ، منذ صدور "لائحة الذوق العام" اواخر الشهر الماضي. وتضمنت اللائحة عقوبات مالية على سلوكيات غير لائقة عرفيا ، لكنها لم تصنف في الماضي كجنح او جنايات.
"Everything was fine until you insisted on accountability."

بيان المسألة على النحو الآتي: نفترض ان العقوبات التي يضعها القانون – أي قانون ، واي عقوبة – غرضها ردع الافراد عن القيام بالفعل المحظور. يهمني الاشارة هنا الى ان بعض العقوبات في التاريخ القديم كانت تستهدف الانتقام من الجاني ، كما ان البعض الآخر استهدف تمويل خزينة الحاكم. لكن هذه العقوبات لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر.
خلاصة القول ان العقوبات التي يعرفها عالم اليوم ، غرضها (في الاعم الاغلب) هو الردع ، وفي نهاية المطاف تقليص الخروج على القانون او العرف الى أدنى مستوى ممكن.
حسنا.. ماهو معنى "الردع"؟ اي ما هي طبيعة الانعكاس الي تحدثه العقوبة في نفس الانسان ، بحيث يمتنع عن الفعل المحدد؟.
 اعلم ان بعض القراء سيقولون في انفسهم: هذا كلام زائد لا خير فيه ، لاننا في نهاية المطاف نتحدث عن "امتناع الفرد عن فعل بعينه" وهذا ما يحدثه الاعلان عن عقوبة ما.
اني أدعو هؤلاء السادة للصبر قليلا. لأن فهم المسألة قد يفتح أذهاننا على بدائل العقاب ، بل بدائل الردع بشكل عام. من المعلوم ان الردع ينطوي - بالضرورة - على نوع من القسر الخشن ، وربما المذل. والانسان يكره المخاشنة والاذلال ، ويفضل عليها المحاسنة والملاينة.
أقول هذا تشجيعا للقاريء العزيز على النظر في الشرح التالي من هذه الزاوية ، اي امكانية العثور على وسائل لمنع الافعال الخاطئة بالتوجيه اللطيف بدل القسر المذل.
لقد كنت افكر في هذه النقطة حين التقطت أذني جانبا من حديث لمفكر معاصر ، يشير فيه الى الفارق الواسع بين المحاسبة accountability والمسؤولية responsibility. الانسان محاسب على افعاله ، كما انه مسؤول عنها.
ترتبط المحاسبة بعقلانية الانسان. الانسان كائن عاقل بمعنى انه يحسب العواقب المترتبة على افعاله ، فيختار الفعل الذي ينتهي الى عواقب حسنة ، ويتجنب الفعل الذي ينتهي الى عواقب سيئة. والافعال الحسنة والسيئة هنا ، هي ما تقبله المجتمع كفعل حسن ، وما رفضه كفعل قبيح. كما ان العقاب قد يكون جسديا او ماليا ، وقد يكون مقتصرا على القطيعة والانكار. تتمظهر العقلانية اذن حين يكون الانسان عضوا في مجتمع او مدينة ، والافعال المعنية هي تلك التي تؤثر على اعضاء آخرين او على املاك مشتركة لاعضاء المجتمع.
أما  المسؤولية فترتبط بحقيقة ان الانسان كائن اخلاقي. اخلاقي بمعنى انه يمتنع – من تلقاء نفسه – عن الافعال التي يراها ضارة بالغير ، او غير لائقة او مقبولة ، حتى لو لم تكن ضارة بشخص معين. ويقدم على الافعال التي تفيد الناس حتى لو لم يستفد منها هو ذاته.
دعني اقول كخلاصة: ان من يرى الشر طبعا اوليا للبشر ، ينظر للردع كمحرك لعقلانية الانسان. ومن يرى الخير طبعا أوليا للانسان فهو ينظر للردع كعامل استثارة لاخلاقية الانسان.
ولازال في الحديث بقية نعود اليها في وقت آخر ان شاء الله.
 الشرق الاوسط الأربعاء - 9 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 06 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14953]

30/10/2019

مجادلة اخرى حول الميول العنفية

||يميل معظمنا للاعتقاد بان الانسان أميل للفساد لولا الروادع القانونية. وأرى في هذا الاعتقاد جذرا لنزعة التشدد تجاه الغير||
ما كتبته وكتبه زملاء آخرون حول الميل للعنف في الشخصية العربية ، لا يستهدف إدانة الثقافة العربية ، بل تحليل ظاهرة ، من دون ادعاء انه منزه عن الخطأ. يهمني تأكيد هذه النقطة ، لأن بعض القراء الأعزاء بذل جهدا مضنيا في بيان ان البشر كلهم ميالون للعنف ، وان الأوروبيين فاقوا العرب في هذا ، وان عنف العربي كان في الغالب رد فعل على عدوان اعدائه.. الخ.
 واريد استثمار المناسبة للفت الانظار الى ما أظنه مشكلة عامة في التداول الثقافي ، تتجلى في الانزلاق السريع من المناقشة النقدية (وهي الطريق الطبيعي لتطور الثقافة) الى التبجيل او الاعتذار والتبرير. ولا ينفرد المجتمع العربي بهذا النهج ، فهو معروف في كل مكان تقريبا ، وقد أطلق عليه في الولايات المتحدة ، في وقت سابق ، اسم "الماذا-عنية Whataboutism". ويراد به التنديد بالناقدين الذين يغفلون سياق الموضوع ، ويركزون على مجادلة شخص الكاتب ، او اثارة نقاط غير ذات صلة. وأحتمل ان التسمية تستبطن نوعا من السخرية. وقد استعملت ايضا في سياق الانكار على السياسيين والكتاب الذين يخدمون اجندات سياسية. ولعل الرئيس الامريكي ترامب هو أحدث من قيل انه “Whataboutist” أي انه يتبنى نهج "الماذا-عنية" كما يظهر في نقاشاته وخطبه ، سيما حين يدافع عن نفسه او سياساته. وبعض الموارد المتصلة بهذا مذكور في موقع ويكيبديا المعروف.
زبدة القول انه ليس من الفطنة تحوير النقاش ، باثارة نقاط غير ذات صلة بجوهر الموضوع ، فهذا النهج قد يشير الى ان صاحبه لم يستوعب الفكرة ، او أنه – لو اسأنا الظن – يحاول تشتيتها باثارة قضايا غير ذات صلة ، لأنه عاجز عن النقاش الحسن.
بعد هذا الاستطراد اعود الى مسألتنا الاولى ، اعني الغرض الذي لأجله نتحدث عن علاقة العنف بالثقافة او رسوخه في التراث العربي. ان الغرض من هذا هو توجيه المربين ، سواء كانوا آباء او معلمين او غيرهم ، الى الجذور الثقافية لنزعة العنف والتشدد. وبعض هذه الجذور خفية لا يراها غير قليل من أهل النظر. ومن ذلك مثلا الرؤية القائلة بان الشر هو الطبع الأولي في البشر ، وأن الخير لا يأتي الا بالتعليم والارشاد ومعه السيطرة والردع. وقد كتبت عن هذا الأمر مرارا ، وأشرت الى انك لو سألت الناس عن الغاية من وضع القوانين واقامة الحكومات مثلا ، لأجابك معظمهم بان الغاية هي ردع الأشرار. ولعل القليل منهم يستذكر ان غرض القانون والحكومة هو إعانة ذوي الحقوق في نيل مستحقاتهم ، ونيل الحقوق ليس بالضرورة من موارد النزاع ، بل قد يأتي في سياق التوزيع العادل للموارد المتوافرة في المجال العام (مثل توزيع الاراضي للسكن والاستثمار). او تنظيم صرف الثروة المشتركة في الخدمات المفيدة للجميع.
اقول ان غالبية الناس يتخيلون ان الردع هو علة قيام الحكومة والقانون. لأنهم في الاساس يعتقدون ان البشر أميل للفساد لولا وجود الرادع. وهذا راي ارسطو الذي تبعه غالب الفقهاء والمتكلمين المسلمين منذ اقدم العصور وحتى الان. ولذا فهو الاتجاه الغالب على الثقافة المتداولة في الاطار العربي والاسلامي.
في رايي ان هذا الاعتقاد (الذي اجزم بانه خاطيء) هو احد الجذور المولدة لنزعة التشدد تجاه الغير ، والتي تستدرج – بطبيعة الحال – ميلا للطرق العنيفة في التعامل مع الآخرين. ولعلنا نعود للموضوع في وقت آخر.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 30 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14946]

مقالات ذات علاقة

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...