26/10/2009

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

في احد مقالاته الساخنة جادل المفكر الكويتي د. محمد الرميحي بان انتشار التعليم ووسائل الاتصال قد لا يؤدي بالضرورة الى محو التعصبات القبلية والطائفية والعرقية في العالم العربي ، بل ربما يزيدها تعقيدا. كلام الرميحي يتعارض مع مسلمة معروفة في نظرية التنمية الكلاسيكية ، لكنه يستند الى حصيلة تجربة فعلية يعيشها العالم منذ اوائل العقد الماضي وحتى اليوم.


من قرأ كتاب "موت المجتمع التقليدي" للمفكر الامريكي دانييل ليرنر فسوف يتذكر بالتاكيد المثل العربي القديم "المرء عدو ما جهل" ، فهو يعود دائما الى التباعد الثقافي كسبب للتطرف والانقطاع الاجتماعي وعسر العلاقة بين الاطياف الاجتماعية ، او ما يسميه اجمالا بالعجز عن التكيف. ويعتقد بناء عليه ان توسع الحواضر وانتقال انماط المعيشة المدينية الى الارياف سوف يوفر فرصا جديدة للتواصل والتفاهم بين المختلفين ، وصولا الى تراجع تاثير الهويات الصغرى لصالح الهوية الوطنية الجامعة.

في دراسة سابقة حول مشكلات التحديث في الشرق الاوسط ، جادلت بان نظرية التنمية تلك تقوم على فرضية ميكانيكية نوعا ما ، فهي تتعامل مع الانقسامات الاجتماعية كحالات مستقرة او ساكنة ، وتعالج عملية التغيير كما لو كانت تبديلا موضعيا لعناصر مادية. لكن التجربة تدل على ان الانتقال من حال الانقسام الى الاندماج لا يشبه ابدا تبديل قطع الغيار في سيارة عاطلة. بل هو اشبه بالعلاج النفسي الذي ينبغي ان يأخذ بعين الاعتبار مختلف الظروف المحيطة بالمريض ، من نظامه الغذائي الى ثقافته الى مستواه المعيشي فضلا عن علاقته مع المحيطين به في البيت والعمل.

يعيب هذه النظرية ايضا افتراضها حياد المؤسسة السياسية والقوى الاجتماعية المؤثرة. حيث تكشف تجربة دول الشرق الاوسط ان السياسات الرسمية لعبت في معظم الاحيان دورا معيقا للاندماج الوطني ، لان رجالها كانوا في الغالب منحازين ضد الاقليات والشرائح الاجتماعية المهمشة. في جنوب تركيا على سبيل المثال استمر الصراع بين الاقلية الكردية والحكومة نحو ثلاثين عاما.

 وقد فشلت جميع محاولات الحل بسبب ارتياب وزارة الداخلية في ولاء المجتمع الكردي. ونتيجة لذلك بقيت المناطق الكردية مهمشة تنمويا كما حرم الاكراد من الوصول الى وظائف رفيعة او الحصول على فرص متساوية في المجال الاقتصادي، بل كانوا يواجهون مشكلات حتى في علاج مرضاهم ودفن موتاهم وفي شراء مساكن واملاك خارج مناطقهم.

استمر الوضع المتازم في الجنوب التركي حتى اوائل العقد الجاري حين قررت حكومة حزب العدالة والتنمية سحب القضية من وزارة الداخلية وقيادة الجيش وايكالها الى مكتب رئيس الوزراء. كانت اول خطوة فعلية هي الاستجابة لمطلب قديم للاكراد بالسماح لهم بتدريس ثقافتهم الخاصة في مدارسهم وانشاء اذاعة ناطقة بلغتهم واصدار قانون يجرم التمييز ضدهم في الوظائف ويلغي المراقبة الامنية على نشاطهم التجاري.

 منذ الاسابيع الاولى لاعلان هذه الاصلاحات ظهر اثرها الايجابي فقد تراجع العنف السياسي بشكل ملموس، وتحول الجنوب التركي المتازم الى منطقة جاذبة للاستثمار والتجارة ، كما ان سمعة تركيا في  العالم قد تحسنت. الارتياح العام الذي ساد تركيا بعد حل الازمة الكردية في الجنوب ادى ايضا الى تعزيز شعبية الحزب الحاكم ونجاحه دورة ثالثة في الانتخابات العامة ، وهو انجاز لم يسبق ان حققه اي حزب سياسي في تركيا.

كشفت التجربة التركية عن الدور المحوري للمؤسسة السياسية في ادارة مشكلات الانقسام. لقد فشلت جميع الحكومات السابقة لانها عالجت الازمة الكردية من زاوية امنية ، ولانها اوكلت الامر الى اشخاص غير محايدين. لكن الحكومة الحالية حققت نجاحا باهرا حين استبعدت المنظورالامني الذي طابعه الارتياب ، وانطلقت من ايمان بالمساواة بين الاكراد وبقية المواطنين .

من المؤكد ان تركيا واكرادها بحاجة الى سنوات اخرى لتصفية بقايا المشكلات السابقة ، لكن ما تحقق فعلا هو نجاح كبير. التجربة التركية مثال واضح على الحاجة لاستبعاد المنطق الامني من العلاقة بين الدولة والاقليات التي تعاني من التهميش او التمييز. لم ينجح المنطق الامني في أي مكان في العالم ، بل ان الاصرار عليه كلف الحكومات اثمانا باهضة ، ولم يات بالاستقرار ولم يعزز الوحدة . في المقابل فان العلاجات التي اعتمدت الوسائل السياسية والاقرار بالحقوق الاولية للاقليات نجحت تماما او نسبيا في تخليص البلاد من معضلات مزمنة.

عكاظ 26 اكتوبر 2009

20/10/2009

العبء الطائفي

اجمل ما في الديمقراطية ، هو انها تتيح الفرصة للناس العاديين كي يشتركوا في تحديد طبيعة الدولة التي يريدونها. ومع ان تجربة العالم العربي في المشاركة السياسية لا تزال غير ناضجة تماما ، الا ان الانتخابات العامة الدورية ، تتيح على اي حال فرصة للتعبير عن المزاج الشعبي ، وتحويله كليا او جزئيا من مطلب او طموح الى سياسة قابلة للتنفيذ ، من خلال مؤسسات الدولة.

مناسبة هذا الكلام ، هو بدء العد العكسي للانتخابات العامة في العراق ، المقررة في يناير 2010. حيث تكشف تصريحات السياسيين من مختلف الاتجاهات ، عن اجماع على تجاوز الانقسام الطائفي الذي برز في انتخابات العام 2005. هذا الاجماع هو انعكاس لفعل شعبي ، ظهر بجلاء في الانتخابات المحلية التي اجريت مطلع العام الجاري ، والتي كشفت عن تراجع التاييد الجماهيري للاحزاب التقليدية واحزاب الطوائف ، بشكل ملفت حتى في المدن التي تعتبر قواعد مضمونة لها. وقد ظهر تاثير هذا التحول حتى في كردستان ، التي تعتبر محجوزة للحزبين الكرديين الكبيرين ، فقد نجح عدد من التنظيمات الصغيرة والجديدة ، في تحقيق اختراقات ملفتة. وفي وسط وجنوب العراق حصل على النصيب الاعلى ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي ، والذي خاض الانتخابات بشعارات "دولتية" اذا صح التعبير ، شعارات تتحدث عن حكومة قوية وسيادة القانون والمساواة بين العراقيين ، وجعل المواطنة معيارا وحيدا للعلاقة بين المجتمع والدولة.

يعتقد كثير من المراقبين ان تلك الشعارات اعطت املا لعامة العراقيين ، بان الطبقة السياسية تستطيع – اذا ارادت -  اقامة دولة تعبر الحواجز الطائفية وتمثل الجميع. في الحقيقة فان اكبر هموم العراقيين هو انهيار هيبة القانون ، وانكماش سلطة الدولة وظهور قوى اهلية مسلحة او شبه مسلحة ، تتحدى سلطة الدولة بل وحتى وجودها.  التاثير الواسع لتلك الشعارات التي طرقت على وتر حساس في نفوس المواطنين ، حمل بقية القوى السياسية على مراجعة برامجها الدعائية باتجاه التركيز على الجانب الايجابي ، اي البرامج والسياسات التي سوف تتبناها او تسعى لتطبيقها اذا نجحت في الانتخابات. خلافا للعادة التي جرت خلال السنوات الخمس الماضية ، حين كانت تلك القوى تخصص النسبة الكبرى من اعلامها اليومي ، لامتداح رجالاتها والتنديد بسياسات واعمال الحكومة .

كانت المحاصصة الطائفية وسيلة وحيدة للخروج من ظرف التقاتل والاستقطاب الشديد ، الذي اعقب سقوط النظام السابق. لكن هذه الوسيلة التي بدت ضرورية في ذلك الوقت ، فقدت اليوم مبرراتها ، بعدما سار قطار السياسة على السكة ، وفشل الرهان على الحرب الاهلية  ، او تصاعد طواحين العنف. اصبحت الطائفية اليوم صندوق الزبالة الذي يرمي فيه الناس والسياسيون اوساخ السياسة ومبررات الفشل . ولهذا فان الطائفيين او المراهنين على النزاع الطائفي ، قد خسروا واحدة من اهم اوراق اللعب التي كانت بايديهم حتى وقت قريب. ومع انه من المبكر القول ان الشعار الطائفي قد ذهب الى غير رجعة ، الا ان ميل الجميع تقريبا الى نبذ التقسيم الطائفي ومبرراته ، ونبذ الداعين اليه والمشجعين له ، وكذلك رموزه هو امر يبعث الامل .

لم تكن الطائفية مطلبا لاي من القوى السياسية الرئيسية في العراق ، لكن انعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية ، والقلق من الاستبداد ، والاستئثار وغموض طبيعة النظام السياسي الذي يراد اعادة بنائه في هذا البلد ، جعلت المحافظة على حصة الطوائف في النظام السياسي ، مطلبا ملحا لجميع القوى السياسية . هذا الهم لم يكن مقصورا على الاحزاب او زعماء السياسة ، بل كان هما شعبيا في المقام الاول ، ولهذا فشلت المجموعات التي تعتبر محايدة طائفيا في انتخابات 2005 وفازت المجموعات التي تتحدث صراحة عن موقف طائفي ، او تتبنى حقوق الطائفة. وهذا هو الذي اوصل العراق الى ما عرف لاحقا بالمحاصصة الطائفية.

لن تزول الطائفية في العراق لمجرد انتصار فريق غير طائفي او قبول الجميع بعبور الاطارات الطائفية . يحتاج الامر الى تعديلات جذرية في الثقافة والتنظيم الاجتماعي والمؤسسة السياسية وتوزيع الموارد العامة. واظن ان على السياسيين ان يتحملوا مسؤوليتهم في هذا الصدد لان الدور الاكبر في علاج المشكل الطائفي يقع على عاتق المؤسسات السياسية ، الحكومة والمعارضة . ويظهر لي من بحوث سابقة ان ضعف المؤسسات السياسية خارج الدولة ، اي الاحزاب والمنظمات التي تؤطر المطالب الشعبية قد ادى الى تلبس هذه المطالب بعباءة الاوصاف التقليدية كالطائفة والعشيرة والمنطقة الخ ، وهو الامر الذي ادى في احيان كثيرة الى تزييف الوعي السياسي وتفريغ المطالب من مضمونها المدني او اضعاف الجانب المدني من المطالب الشعبية واعادة انتاجها في اطار طائفي او قبلي او عشائري.

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

اتجاهات في تحليل التطرف

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعادة بناء الاجماع الوطني

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

انهيار الاجماع القديم

تجارة الخوف

تجريم الكراهية

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

ثقافة الكراهية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

خديعة الثقافة وحفلات الموت

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

العبء الطائفي

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

المسالة الطائفية في المملكة :دعونا نتجاوز الفشل

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...