20/10/2009

العبء الطائفي

اجمل ما في الديمقراطية ، هو انها تتيح الفرصة للناس العاديين كي يشتركوا في تحديد طبيعة الدولة التي يريدونها. ومع ان تجربة العالم العربي في المشاركة السياسية لا تزال غير ناضجة تماما ، الا ان الانتخابات العامة الدورية ، تتيح على اي حال فرصة للتعبير عن المزاج الشعبي ، وتحويله كليا او جزئيا من مطلب او طموح الى سياسة قابلة للتنفيذ ، من خلال مؤسسات الدولة.

مناسبة هذا الكلام ، هو بدء العد العكسي للانتخابات العامة في العراق ، المقررة في يناير 2010. حيث تكشف تصريحات السياسيين من مختلف الاتجاهات ، عن اجماع على تجاوز الانقسام الطائفي الذي برز في انتخابات العام 2005. هذا الاجماع هو انعكاس لفعل شعبي ، ظهر بجلاء في الانتخابات المحلية التي اجريت مطلع العام الجاري ، والتي كشفت عن تراجع التاييد الجماهيري للاحزاب التقليدية واحزاب الطوائف ، بشكل ملفت حتى في المدن التي تعتبر قواعد مضمونة لها. وقد ظهر تاثير هذا التحول حتى في كردستان ، التي تعتبر محجوزة للحزبين الكرديين الكبيرين ، فقد نجح عدد من التنظيمات الصغيرة والجديدة ، في تحقيق اختراقات ملفتة. وفي وسط وجنوب العراق حصل على النصيب الاعلى ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي ، والذي خاض الانتخابات بشعارات "دولتية" اذا صح التعبير ، شعارات تتحدث عن حكومة قوية وسيادة القانون والمساواة بين العراقيين ، وجعل المواطنة معيارا وحيدا للعلاقة بين المجتمع والدولة.

يعتقد كثير من المراقبين ان تلك الشعارات اعطت املا لعامة العراقيين ، بان الطبقة السياسية تستطيع – اذا ارادت -  اقامة دولة تعبر الحواجز الطائفية وتمثل الجميع. في الحقيقة فان اكبر هموم العراقيين هو انهيار هيبة القانون ، وانكماش سلطة الدولة وظهور قوى اهلية مسلحة او شبه مسلحة ، تتحدى سلطة الدولة بل وحتى وجودها.  التاثير الواسع لتلك الشعارات التي طرقت على وتر حساس في نفوس المواطنين ، حمل بقية القوى السياسية على مراجعة برامجها الدعائية باتجاه التركيز على الجانب الايجابي ، اي البرامج والسياسات التي سوف تتبناها او تسعى لتطبيقها اذا نجحت في الانتخابات. خلافا للعادة التي جرت خلال السنوات الخمس الماضية ، حين كانت تلك القوى تخصص النسبة الكبرى من اعلامها اليومي ، لامتداح رجالاتها والتنديد بسياسات واعمال الحكومة .

كانت المحاصصة الطائفية وسيلة وحيدة للخروج من ظرف التقاتل والاستقطاب الشديد ، الذي اعقب سقوط النظام السابق. لكن هذه الوسيلة التي بدت ضرورية في ذلك الوقت ، فقدت اليوم مبرراتها ، بعدما سار قطار السياسة على السكة ، وفشل الرهان على الحرب الاهلية  ، او تصاعد طواحين العنف. اصبحت الطائفية اليوم صندوق الزبالة الذي يرمي فيه الناس والسياسيون اوساخ السياسة ومبررات الفشل . ولهذا فان الطائفيين او المراهنين على النزاع الطائفي ، قد خسروا واحدة من اهم اوراق اللعب التي كانت بايديهم حتى وقت قريب. ومع انه من المبكر القول ان الشعار الطائفي قد ذهب الى غير رجعة ، الا ان ميل الجميع تقريبا الى نبذ التقسيم الطائفي ومبرراته ، ونبذ الداعين اليه والمشجعين له ، وكذلك رموزه هو امر يبعث الامل .

لم تكن الطائفية مطلبا لاي من القوى السياسية الرئيسية في العراق ، لكن انعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية ، والقلق من الاستبداد ، والاستئثار وغموض طبيعة النظام السياسي الذي يراد اعادة بنائه في هذا البلد ، جعلت المحافظة على حصة الطوائف في النظام السياسي ، مطلبا ملحا لجميع القوى السياسية . هذا الهم لم يكن مقصورا على الاحزاب او زعماء السياسة ، بل كان هما شعبيا في المقام الاول ، ولهذا فشلت المجموعات التي تعتبر محايدة طائفيا في انتخابات 2005 وفازت المجموعات التي تتحدث صراحة عن موقف طائفي ، او تتبنى حقوق الطائفة. وهذا هو الذي اوصل العراق الى ما عرف لاحقا بالمحاصصة الطائفية.

لن تزول الطائفية في العراق لمجرد انتصار فريق غير طائفي او قبول الجميع بعبور الاطارات الطائفية . يحتاج الامر الى تعديلات جذرية في الثقافة والتنظيم الاجتماعي والمؤسسة السياسية وتوزيع الموارد العامة. واظن ان على السياسيين ان يتحملوا مسؤوليتهم في هذا الصدد لان الدور الاكبر في علاج المشكل الطائفي يقع على عاتق المؤسسات السياسية ، الحكومة والمعارضة . ويظهر لي من بحوث سابقة ان ضعف المؤسسات السياسية خارج الدولة ، اي الاحزاب والمنظمات التي تؤطر المطالب الشعبية قد ادى الى تلبس هذه المطالب بعباءة الاوصاف التقليدية كالطائفة والعشيرة والمنطقة الخ ، وهو الامر الذي ادى في احيان كثيرة الى تزييف الوعي السياسي وتفريغ المطالب من مضمونها المدني او اضعاف الجانب المدني من المطالب الشعبية واعادة انتاجها في اطار طائفي او قبلي او عشائري.

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

اتجاهات في تحليل التطرف

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعادة بناء الاجماع الوطني

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

انهيار الاجماع القديم

تجارة الخوف

تجريم الكراهية

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

ثقافة الكراهية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

خديعة الثقافة وحفلات الموت

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

العبء الطائفي

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

المسالة الطائفية في المملكة :دعونا نتجاوز الفشل

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم



12/10/2009

شغب الشباب في اليوم الوطني


الشغب واعمال التخريب التي شهدتها مدينة الخبر يوم الاحتفال بالعيد الوطني ، بحسب المعلومات التي اوردتها الصحافة المحلية ، تؤكد الحاجة الى معالجة لا تقتصر على التعامل الامني الميداني. لا يمكن القطع بان اعمال الشغب تلك هي نتيجة لعمل منظم ومخطط له بشكل مسبق ، رغم اننا لا نستبعد هذا الاحتمال . لكن بعيدا عن الجدل في هذا الاحتمال او ذاك، فان تلك الحوادث تستدعي تاملا عميقا في الدواعي والظروف التي تحمل عددا كبيرا نسبيا من الشباب على اتباع سلوك من هذا النوع ، مع علمهم بالنتائج السلبية التي يمكن ان تترتب عليه ، ومن بينها الاعتقال او الفصل من العمل .
يمكن ان نناقش المسألة في اطار "تنامي الميل للمنازعة عند الشباب" وهي ظاهرة اجتماعية معروفة. او يمكن مناقشتها كواحد من انعكاسات الجدل النفسي الداخلي الذي يرافق اعادة تشكل الهوية الشخصية ، ولا سيما في ظرف التفكك غير المخطط للهويات التقليدية ومنظومات القيم لصالح اخرى متوائمة مع الظرف الثقافي والاقتصادي الفعلي الاقرب لظرف الحداثة . واخيرا قد يمكن فهمه كتعبير عن رغبة عارمة في تاكيد الذات والحصول على دور في الحياة العامة . هذه الاحتمالات كلها هي مخرجات وانعكاسات لظواهر اجتماعية طبيعية تشهدها المملكة في سياق تطورها الاجتماعي والسياسي ، وهي تحدث في كل مجتمع يعيش ظرف نمو احادي او غير متوازن.

وحتى لو اخذنا بفرضية كون تلك الاعمال منظمة ومخططة من قبل جهة ما ، وهو امر غير مستبعد كما سلف ، فانه لا يمكن القطع بان استعداد الشباب للانخراط فيها هو نتيجة لالتزام ايديولوجي عميق . لكن يمكن القطع بان التخطيط ما كان لينجح لولا وجود قابلية في نفوس هؤلاء الشباب ، سببها الرئيس هو احد الاحتمالات الثلاثة المذكورة. بعبارة اخرى فان الذين يمارسون الشحن الايديولوجي ، ويشجعون الشباب على التمرد ويبررون تخريب املاك الاخرين وايذاءهم ، يستثمرون استعدادا قائما في نفوس الشباب وقابلية متوفرة سلفا ، هي نتيجة للشعور بالاحباط او الاغتراب او انعدام التوازن او التضاد الثقافي او الاقتصادي.

 واذا اردنا اتقاء تكرار هذه الحالة في المستقبل او توسعها ، فاننا بحاجة الى اسراتيجية موسعة تشبه ما يسمى في دول اخرى بشبكة الامان الاجتماعي . شبكة الامان هي نوع من المبادرات التي تستهدف تقليل الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي غير المتوازن على الشرائح الاكثر عرضة للضرر. صحيح ان معظم الدول التي طبقت هذه الفكرة ركزت على الجانب الاقتصادي ، الا ان الفكرة بذاتها ترمي الى تعويض الفئات الاضعف ، التي لا تستطيع مواكبة التغيير في السوق او في الثقافة او في النظام الاجتماعي.

استراتيجية كهذه ينبغي ان تكون استثنائية ، اي غير ملتزمة بحدود القوانين والاطارات القائمة فعليا ، لانها قامت في الاساس بسبب الاعتقاد بعدم قابلية تلك الاطارات لاستيعاب كافة مخرجات النمو ولا سيما احتواء الحالة المراد علاجها. خلال السنوات الاخيرة شهدنا ظهور مبادرات عديدة تهتم – كما هو معلن – بالشباب . لكن يؤسفني القول ان معظمها مصاب بضيق الافق ، فقد تعامل مع الموضوع كحلقة منفصلة ، لا كجزء من ظاهرة اجتماعية اوسع. بعض هذه المبادرات ركز على توفير الوظائف وبعضها اهتم بما يشبه النشاطات الكشفية واخرى اهتمت بالرياضة . وهذه كلها علاجات لجوانب من المسألة  ، لكنها تفتقر الى الشمولية المطلوبة كما تفتقر الى قاعدة نظرية تفسر جوهر المشكلة وتداعياتها وتمظهراتها المختلفة .

واعتقد ان المدخل الاوسع لمعالجة قضايا الشباب هو تمكين المجتمع المدني من تنظيم نفسه واطلاق مبادراته الخاصة. ولهذا فقد يكون من الضروري التعجيل باصدار نظام الجمعيات الاهلية الذي اقره مجلس الشورى منذ زمن طويل نسبيا . هذا النظام هو الاطار القانوني الذي يمكن ان يستوعب المبادرات الاجتماعية وينظمها في الاتجاه المطلوب.
اما على مستوى الحدث نفسه ، فان توقيته يكشف عن تفارق بين مفهوم الوطن والاحتفال به بين المستويين السياسي الديني . ولا اظن ان مبعث هذا التفارق هو اجتهادت او اراء فقهية مجردة عن الانعطاف السياسي . لكن هذا بحث يطول ، و ربما يكون موضوعا لمقالات تالية .
عكاظ 12 / 10 / 2009

مقالات ذات علاقة

·         تجارة الخوف
·         تجريم الكراهية
·         طريق التقاليد
·         فلان المتشدد


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...