"الشقيقات السبع: شركات البترول الكبرى والعالم الذي
صنعته" لم يكن ابرز مانشره الصحفي والكاتب البريطاني انتوني سامبسون. لكنه
بالتاكيد الكتاب الذي عرف العالم عليه. كان سامبسون قد نشر قبله "تشريح
بريطانيا" الذي احتل قائمة الكتب الاكثر رواجا في حينه. ويقال ان سبب رواجه
هو تحليله العميق والموثق لدور الشركات الكبرى في صناعة السياسة البريطانية.
انتوني سامبسون |
اتخذ سامبسون اتجاها مماثلا حين أصدر "الشقيقات السبع" في
1974. وخلاصته ان شركات البترول الدولية الكبرى تخوض منافسة شرسة فيما بينها ، لكن
سياساتها جميعا تمهد الطريق الى هدف واحد ، هو الغاء الحدود والعوائق السيادية
للدول ، وصولا الى جعل العالم كله سوقا مفتوحا لعملياتها. ويعتقد سامبسون ان تلك
الشركات الهائلة القوة ، قد نجحت في تغيير سياسات العديد من دول العالم ، بل
وتدخلت في صراعات سياسية أثمرت عن تغيير الحكومات التي لم تستجب لحاجاتها ، في
الدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
لم يكن مفهوم "العولمة" قد ظهر يومذاك كمصطلح قياسي. لكن
كتاب سامبسون فتح الباب أمام عشرات من المقالات والكتب الاخرى ، التي تتحدث عن
"عالم جديد" أبرز سماته زوال الحدود المعيقة لحركة رأس المال وقوة العمل
والتكنولوجيا ، اي التمظهر الرئيس لما يعرف اليوم بالعولمة. وفي العقدين الاخيرين
من القرن العشرين اصبح هذا المفهوم من اكثر المفاهيم تداولا في النقاشات الخاصة
بالعلاقات الدولية. وفي العام 2000 اقترح صندوق النقد الدولي اربعة مجالات تندرج في اطار هذا المفهوم هي
التجارة ، حركة راس المال والاستثمارات ، هجرة اليد العاملة ، وتدفق المعلومات
والتقنية.
كان تيار اليسار ابرز
المعارضين للاقتصاد المعولم. وينسب لهذا التيار الفضل في انتاج أهم الادبيات
المتعلقة بتغول راس المال العالمي والشركات التي تديره. وهو موقف غريب بعض الشيء.
فاليسار يدعو لعالم واحد يبرز قيمة العاملين وصناع التغيير. لكنه في مواجهة عالم
راس المال ، اختار منهجا انكماشيا يركز على قيمة الحدود القومية. ويدعو لتوسيع
تدخل الحكومة في الاقتصاد ، على نحو يضمن للطبقات الدنيا فرصا أفضل للعيش الكريم.
نعلم بطبيعة الحال ان اليمين كان يدعو لنموذج مضاد ، اي دولة لا
تتدخل مطلقا في حياة الناس ولا السوق ، دولة نموذجها الاعلى "الحارس
الليلي".
ها نحن اليوم امام انقلاب جديد. الرئيس الامريكي المنتخب دونالد
ترامب ، الآتي من أقصى اليمين ، نجح في استنهاض الشرائح الاكثر تضررا من عولمة
الاقتصاد ، أي عمال المصانع التي نقلت اعمالها خارج الحدود. الاستفتاء على خروج
بريطانيا من الاتحاد الاوربي كشف عن تنامي نفس الاتجاه اليميني الذي يدعو للانكماش
على الذات والتركيز على مصالح الطبقات الدنيا. ويبدو ان نمو هذا التيار في فرنسا
التي تستعد لانتخابات رئاسية يتحرك بنفس الدوافع.
ثمة مفارقة في هذه الحوادث كلها ، فالصراع لا يدور بين الطبقات
العليا والدنيا كما جرت العادة ، بل بين شريحتين متصارعتين في الطبقات الدنيا
نفسها: شريحة ذات ميول يسارية كانت تخشى العولمة فباتت اليوم متعاطفة معها ،
وشريحة ذات ميول يمينية تعاطفت أولا مع العولمة ثم جنت شوكها.
هل هذا نموذج لما سيكون عليه العالم خلال العشرين عاما القادمة؟. هل
سنشهد تراجعا عن مبدأ العالم الواحد والاقتصاد المعولم؟. هل سيلحق العالم الثالث
بهذا القطار ام يرى مصلحته في عالم بلا حدود؟.