اذا صدقت توقعات العراقيين المتفائلة ، فان مدينة الموصل ستعود الى
أهلها قبل نهاية العام الجاري. ثمة من يعتقد ان الامريكيين يسعون لالحاق هزيمة
مدوية بتنظيم داعش قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الثامن من نوفمبر ، مما
يعزز حظوظ المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وفقا لهذا الرأي ، ستجري المعركة
الفاصلة خلال الاسبوعين القادمين. لكن معطيات الميدان لا تدعم هذا الاحتمال.
المؤكد وفقا لمجريات الاحداث منذ تطهير مدينة الرمادي في نهاية العام
الماضي ، ان العراقيين استجمعوا اسباب القوة ، وهم مصممون على الخلاص من داعش. في
ذلك اليوم كان التنظيم يسيطر على نصف مساحة العراق تقريبا ، وكانت قواته على بعد ثلاثين
ميلا فحسب من العاصمة بغداد. اما اليوم فهو بعيد جدا ومحاصر في مدينة واحدة ، وعاجزا
عن تهديد اي مدينة أخرى. نتحدث اذن عن اقتراب نهاية داعش كقوة مسيطرة على الارض ،
مما يؤذن بمشهد سياسي جديد في العراق والمنطقة ككل.
منذ ظهوره في ابريل 2013 شكل داعش تحديا مرهقا للمجتمعات العربية ، بكافة
مكوناتها وأطيافها وحكوماتها. أساليب عمله الخارجة تماما عن الاعراف السائدة ،
مكنته من النفاذ الى قلوب وعقول الشرائح المهمشة والغاضبة مما يعتبر عجزا عن
مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع ، جراء التحولات الداخلية او نفوذ الخارج.
والحقيقة ان نجاحاته الأولى قد أغرت جمهورا أوسع بأن حلم الخلافة قد
يكون أقرب الى التحقيق مما كانوا يظنون ، وأن الخلاص النهائي للعالم الاسلامي ، قد
يأتي على أيدي هولاء الشباب الذين لا تقف دون ارادتهم سدود ولاحدود. هذا يفسر
الدعم الشعبي الكبير الذي حظي به "داعش" بين منتصف 2013 حتى نهاية 2014
في محافظات وسط العراق وشرق سوريا. وهو يفسر أيضا انضمام الالاف من الشبان اليه في
مختلف انحاء العالم الاسلامي ، بمن فيهم مناصرون وأعضاء في تنظيم القاعدة الذي ولد
في رحمه داعش.
سر قوة داعش تكمن إذن في تفكيره وعمله "خارج الصندوق" الذي
يمثله العرف الاجتماعي والديني والسياسي السائد في المنطقة. والواضح انه تبنى هذا
الاتجاه لانه لا يراهن ابدا على القوى والشرائح التي حددت اتجاهها سلفا ، بل ولا
يهتم بها ولا يسعى لرضاها. حوادث مثل حرق الطيار الاردني معاذ الكساسبة حيا ، والابادة
الجماعية للجنود في قاعدة سبايكر العراقية ، وسبي النساء الايزيديات في سنجار ، ومثل
تفجير المساجد والاضرحة والآثار ، وتصوير كل هذه الحوادث وبثها على الانترنت ، مع
التركيز على الجوانب الأكثر إرعابا ، هو بالتحديد الجانب الذي اهتم داعش بتسويق
نفسه من خلاله ، اي كونه مختلفا عن اي قوة سياسية سبق ان عرفها الناس ، وانه لا
يتحفظ ولا يتردد ولا يبالي ولا ينهزم.
هذه السمات التي منحت داعش قوة استثنائية ، هي ذاتها نقطة ضعفه
الكبرى. فمثل هذا التنظيم قادر على اشعال الحلم وأخذه الى اقصى الحدود ، لكنه عاجز
عن تحويله الى واقع قائم ومستمر على الأرض. فهو – مثل أي جماعة سياسية أخرى –
محكوم بتوازنات القوى ومصادر القوة المادية على الأرض. وحين يخسر المبادرة والقدرة
على فرض الواقع الذي يريده ، فانه يخسر ايضا مبررات وجوده ومشروعيته. ولهذا نستطيع
القول ان هزيمة داعش في الموصل ستنعكس ليس في العراق فحسب ، بل في كل مجتمع نظر
الى داعش كتحد أو مصدر للقلق.
الشرق الاوسط 26 اكتوبر 2016 http://aawsat.com/node/769386
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق